– المشكل النظري الذي تثيره دراسة بلاغة الخطاب عند حازم
إن علم البلاغة عند حازم يعني علوم النقد مجتمعة، فعلم البلاغة هو كل ما يلزم معرفته لإتقان صناعة الشعر وحذقهبلاغة الخطاب عند حازم
[1].
ومن ثم فإن علم البلاغة في تصوره علم شامل، في حين أنه يقابله عند النقاد
والبلاغيين العرب علم البلاغة الجزئي في مفهومه المدرسي، والمتمثل في
ثلاثية السكاكي المشهورة: البيان والمعاني والبديع.
وإذا كان علم
البلاغة التقليدي في مفهومه الكلاسيكي المدرسي الصرف، يرتبط بمفهوم الصواب
كهدف يضعه نصب عينيه[2]، والمقصود هنا الصواب الأدبي أي ما يحسن أن يقال،
قلت إذا كان علم البلاغة يحكمه هذا التوجه المعياري فإن علم البلاغة عند
حازم يتجاوز هذا الإطار الأخلاقي ذا الأبعاد المعيارية، وهو إطار يحاصر
فيه رجل البلاغة التقليدي نفسه بإعداد وصفات جاهزة لتحسين الكلام وتنسيقه،
ليعانق مفهوما أكثر شمولية وانفتاحا من جهة، وتشعبا وعمقا نظريا من جهة
أخرى.
فالبلاغة عند حازم، من هذا المنظور تهتم بدراسة مهمة العمل
الأدبي ثقافيا واجتماعيا، وتنكب على دراسة هذا العمل، ودراسة الأدوات
التعبيرية التي يتم توظيفها لبناء الماهية ولتحقيق المهمة.
ودراسة
وسائل التعبير هذه لا تتم بعيدا عن الجانبين السابقين (دراسة المهمة
والماهية)، بل تراعيهما، وتعتد بالنتائج المتوصل إليها في حقليهما. وهذا
الربط الجدلي بين جوانب العملية الأدبية يؤكد على مدى تحدد بعضها انطلاقا
من علاقته بالآخر. ونحن في موضوع بلاغة الخطاب الأدبي، من البديهي أن ينصب
اهتمامنا في الأساس على الأداة دون الماهية أو المهمة. غير أن الترابط
الجدلي الحميم المومأ إليه آنفا، يجعل تحديد هذه الأداة عسيرا عندما
نفصلها عن الماهية والمهمة.
انطلاقا من هذا الاعتبار، واستجلاء
لحقيقة الأداة، في علاقتها بالمهمة والماهية، نشير بإيجاز إلى طبيعة تصور
حازم حول هذه المهمة والماهية، في سبيل البلوغ إلى فهم واضح وموضوعي
للأداة في الإطار الجدلي السابق. وباختزال آراء حازم في هذه الموضوعات
الثلاثة يمكن عرض ما هو جوهري منها على الشكل الآتي:
إن ماهية
العمل الأدبي هي ماهية خفية، ولا يحس بها إلا من يكابد ويعاني عناصر
الإبداع، فالماهية هنا تتحقق على مستوى ذات المبدع متى توفر له طبع سوي
وكانت قوى طبعه العشرة كما يحددها حازم مسعفة له في قول الشعر. فمن حاز
هذه الشروط، فهو الشاعر المبرز، ومن فقدها، وهي حوافز الإبداع الطبيعية،
فمن المحال أن تتحقق في نظمه وإنتاجه الفني عامة، ماهية العمل الأدبي أي
الأدب وأساسه الخفي ومغزاه اللطيف. أما مهمة العمل الأدبي، فهي تكمن في
تأثيره في المتلقي، وحازم يركز كثيرا على هذه الوظيفة التأثيرية القائمة
على غرز قيمة في المتلقي، أو إقناعه بقضية أو حمله على اتخاذ موقف الخ.
المهمة توجيهية بالأساس، وتتأسس على مفهومي التعليم والتلقين المرتبطين
بثنائية الأمر والنهي. وموضوع التأثير عند حازم هو الفرد طورا، والمجتمع
طورا آخرا، ويعكس تأرجح حازم بين هذين الحدين: الفرد والمجتمع، الطابع
الإصلاحي لفكره الأدبي المتأثر لا محالة بالنزعة الفقهية والأصولية
الدينية.
أما موضوع الأداة، فهو اللغة بوصفها حروفا تركب كلمات
وكلمات تخلق سياقا، واللغة هي معضلة الأديب الكبرى وفي إطارها يعمل، وعليه
أن يصوغها أشكالا ومضامين، موظفا في ذلك علوم اللسان الجزئية من نحو
وتركيب ودلالة ومعجم، صياغة تضفي عليها الأدبية La littérarité متى صادفت
طبعا أصيلا لدى الأديب / الشاعر –عند حازم- وقدرة طبيعية في الإبداع.
هكذا
يتضح لنا مدى اتساع وشمولية البلاغة عند حازم، وأمام الاتساع والتشعب
الناشئين عن احتواء علم البلاغة لكثير من العلوم اللغوية والمقارنات
الأدبية – ومخافة التيه في هذا الخضم من الموضوعات غير المتجانسة من جهة،
وبغية تحديد مجال دراسي واضح الأبعاد والمساحة من جهة أخرى، ارتأيت أن
أستخلص عناصر النظرة الحازمية لمفهوم بلاغة الخطاب الأدبي لا بمفهومها
المدرسي السكاكي، الذي تتفصل فيه الخانات المعروفة –البيان والمعاني
والبديع- وإنما بمحاولة دمج هذه المباحث لتشكل ما يمكن تسميته: بلاغة
علاقة اللفظ بالمعنى. ذلك أنني أشجب بعده ذلك الفصل التعسفي الذي يدرس
بلاغة اللفظ في عزلة عن المعنى. هذا من جهة الاختيار الذاتي الذي أتيناه
في هذه الدراسة. أما من جهة الضرورة الموضوعية التي تفسر هذا الموقف أو ما
يشاكله، فإنها ضرورة واضحة تتمثل في استحالة دراسة مباحث اللفظ والمعنى
على الطريق التقليدية، عند حازم، نظرا لعوائق موضوعية ملموسة سرعان ما تقف
عائقا في وجه المقاربة التقليدية لمفهوم البلاغة عنده، وتتمثل العوائق
الموضوعية والمنهجية في:
أ ـ إن مبحث اللفظ قسم يرجح أنه ضاع من
كتاب[3]، ومن ثم تفتقد المقاربة التقليدية، سندا من كلام حازم لدراسة مبحث
اللفظ عنده. هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى فقد استقل مبحث اللفظ أو
الدليل في الدراسات اللغوية اليوم بمجال خاص هو علم الدليل[4] أو نظرية
الدليل.
ب ـ إن قسم المعاني من كتاب حازم، وإن كان جله ماثلا بين
أيدينا، لا يمكن الاعتماد عليه لاستخلاص نظرة حازم في موضوع المعاني من
المنظور البلاغي الذي نتوخاه من دراستنا، ذلك أن حازما لا يدرس قضايا
المعنى في هذا القسم من كتابه بأسلوب البلاغيين ولا حتى النقاد، وإنما
تحتوي دراسته للمعاني على تعرض للمشكلات الفلسفية الكبرى التي يثيرها
موضوع المعنى من حيث علاقة المعنى بالشخص وكيفية تكونه في الذهن، ودور
الإحساس في خلق المعنى وغير ذلك من المباحث التي نقتنع مبدئيا أنها تخرج
عن طوق البلاغة والنقد، وتلتقي بمجالات الفلسفة والتحليل النفسي وسوف
ندرسها في القسم الثاني من هذه الرسالة.
ج ـ إن مبحث الأسلوب بدوره
ليس خاصا بالأسلوب وحده، بل إنه ينطوي على موضوعات غير متجانسة. ففيه ما
يتعلق بأنماط الأساليب الأدبية وما يتصل بفلسفة الأسلوب، ويتخلل ذلك مباحث
عروضية وأخرى تدرس شكل القصيدة وخصائص تركيبتها الفنية، وهي كلها موضوعات
تطغى عليها صفة التداخل والتشابه مما يولد إحساسا بالارتباك عند مقاربتها،
إذ لا يكاد الدارس يتبين أنه واقف فوق أرضية نقدية أدبية أم على أرضية
فلسفية، ومرجع ذلك الإحساس الإطار المنطقي والروح الفلسفية التي تكاد تلف
سائر هذه المباحث.
وأمام العوائق الموضوعية والمنهجية السالفة،
والتي لا تسعف في تقديم دراسة المفاهيم البلاغية عند حازم من خلال المباحث
السابقة ارتأيت البحث عن ضالتي –الأساس البلاغي في النقد الأدبي عند حازم-
من طريق آخر التجأت إليه بمحض اختيار شخصي، يقوم هذا الاختيار على ترصد
هذا الأساس البلاغي في عمل حازم، من خلال دراسة مباحث بلاغية، يلتقي فيها
اللفظ والمعنى في علاقة جمالية بلاغية تدل على بلاغة اللفظ في تضافرها مع
بلاغة المعنى في الخطاب الأدبي. وقد حفزني على اتخاذ هذا الموقف عدم
اقتناعي مبدئيا بإمكان دراسة بلاغة اللفظ منعزلة عن المعنى، ولا دراسة
بلاغة المعنى بمعزل عن اللفظ. ذلك أن مثل هذه الدراسة الأحادية لبلاغة أحد
العنصرين، في غياب الآخر، شيء تأباه طبيعة الأدب. فالأدب لا يشكله اللفظ
لوحده ولا المعنى بمفرده، وإنما اللفظ والمعنى في المجال الأدبي وجهان
لعملية واحدة. وكل محاولة لدراسة الأدب لا تأخذ بعين الاعتبار ثنائية
اللفظ والمعنى في إطار تلاحم العنصرين وتضامنهما لن تفي بمضمون الأدب
ومغزاه.
وعندي أن التخصص الحديث والنزوع إلى التصنيف وتحديد أنواع
العلم والمعارف، أفاد الدراسات الأدبية في هذه الجهة، وإذ صار النقد يدرس
النص الأدبي بلفظه ومعناه واستقلت دراسة اللفظ بشعبه عن البحث اللساني[5]
وانفردت مباحث المعنى والدلالة بشعبة أخرى[6].
وهكذا فالعلاقة بين
اللفظ والمعنى فيما أرى تحل الإشكال النظري القائم على مستوى نظرية الأدب،
هذا المشكل الذي ولد ردود فعل منها من زعم أن الأدب لفظ وشكل ومن زعم أن
الأدب معنى ومغزى، واعتبر فريق ثالث الأدب حصيلة اجتماع العنصرين معا
(اللفظ والمعنى – الشكل والمضمون) في إطار من العلاقات.
وعندي أن الاختيار الأخير أصوب وأسلم، وبناء عليه أطور منهجي في دراسة الأساس البلاغي في النقد الأدبي عند حازم.
II – الغاية من دراسة علم البلاغة عند حازم
كان حازم مدفوعا إلى دراسة علم البلاغة وتوظيفه في مجال النقد بعوامل شتى أهمها:
أ ـ وضع مزر للشعر يحتاج إلى تصحيح ومعالجة
ب ـ فما هو موقف حازم إزاء هذا الوضع؟
هذا ما سنتبينه من خلال أقوال حازم التالية والتي تصور أزمة الشعر والشاعر في ذلك العهد:
1
ـ يقول حازم بصدد الوضع الشعري العام في عصره، ويبرر توجهه الإصلاحي في
ممارسته النقدية: "وإنما احتجت إلى هذا (العلم) لأن الطباع منذ اختلت
والأفكار منذ قصرت، والعناية بهذه الصناعة منذ قلت، وتحسين كل من المدعين
صناعة الشعر ظنه بطبعه وظنه أنه لا يحتاج في الشعر إلى أكثر من الطبع
وبنيته على أن كل كلام مقفى وموزون شعر، جهالة منه أن الطباع قد داخلها من
الاختلال والفساد أضعاف ما تداخل الألسنة من اللحن، فهي تستجيد الغث
وتستغث الجيد من الكلام، ما لم تقمع بردها إلى اعتبار الكلام بالقوانين
البلاغية فيعلم بذلك ما يحسن وما لا يحسن"[7]. فهنا يشير حازم إلى رداءة
وضع الشعر في عصره. وأرجع أسباب ذلك إلى اختلال مفهوم الشعر لدى الشعراء،
وظهور مفهوم مغلوط لعلم البلاغة، والأدهى من ذلك، ظهور طائفة من المدعين
للشعر، ولا حظ لهم من صناعته.
2 ـ ويشير حازم إلى أن الشعر في
زمانه صار مصدر نقص وسفاهة بدل أن يكون مصدر جمال وحكمة. وقال: "أما
الاستعداد الذي يكون بأن يعتقد فضل قول الشاعر وصدعه بالحكمة فيما يقوله:
فإنه معدوم بالجملة في هذا الزمان، بل كثير من أنذال العالم –وما أكثرهم-
يعتقد أن الشعر نقص وسفاهة"[8]. وهكذا يسم حازم شعراء زمانه بالأنذال لأن
الشعر فقد على ألسنهم وظيفته الاجتماعية والأدبية الحقة، وتحول إلى كلام
ممجوج، ونظم ينبو عنه السمع.
3 ـ ويرد حازم على من اعتبر العطب
واقعا في الشعر لا في الشعراء، وبين (حازم) أن الضعف من الشاعر أساسا
فيقول: "وإنما هان الشعر على الناس، هذا الهون لعجمة في ألسنتهم واختلال
طباعهم، فغابت عنهم أسرار الكلام وبدائعه المحركة جملة، فصرفوا النقص إلى
الصناعة والنقص بالحقيقة راجع إليهم وموجود فيهم"[9].
4 ـ ويؤاخذ
الشعراء بإغراقهم في المديح أو ما يسميه حازم شعر الاسترفاد. وأشار أيضا
إلى اختلاط الأمر على الناس، فلم يعودوا يميزون بين الشاعر المجيد والآخر
المسف الذي يجعل شعره وسيلة استرفاد فيقول: "ولكثرة القائلين المغالطين في
دعوى النظم، وقلة العارفين بصحة دعواهم من بطلانها، لم يفرق الناس بين
المسيء المسف إلى الاسترفاد بما يحدثه، وبين المحسن المتوقع عن الاسترفاد
بالشعر، فجعلوا قيمتهما متساوية، بل ربما نسبوا إلى المسيء إحسان المحسن
وإلى المحسن إساءة المسيء"[10]. وهكذا تنقلب المقاييس وتختلط في ذهن
الناس، فينظر إلى المسيء على أنه محسن وإلى المحسن على أنه مسيء.
5
ـ أمام انقلاب المقاييس واختلاطها نجد طائفة من الشعراء المحسنين تشفق على
نفسها من أن تقول شعرا في مثل هذه الظروف التي لن تلقى فيها ما تستحقه من
تقدير، ولهذا السبب أعرضت هذه الطائفة عن قول الشعر. يقول حازم في أصحاب
هذا الفريق: "فصارت نفوس العارفين بهذه الصنعة بعض المعرفة أيضا تستقذر
التحلي بهذه الصناعة إذ نجسها أولئك الأخساء واشتبه على الناس أمرهم وأمر
أضدادهم، فأجروهم مجرى واحدا من الاستهانة بهم، فالمعرفة لا شك منسحبة على
الرفيع في هذه الصنعة بسبب الوضيع، فلذلك هجرها الناس وحقها أن تهجر"[11].
إذن فالرأي العام لا يفرق في الحكم على الشعراء بين الوضيع والمحسن. بل
يسلبهم جميعا الحسن في القول لأنهم ليسوا أهلا لتعاطي الصناعة القولية.
وقد أدى وقوف الناس من الشعر هذا الموقف إلى أعراض العارفين بالشعر عن
النظم خوفا من أن يعد إحسانهم إسفافا.
6 ـ يعقد حازم مقارنة بين
وضع الشعر في زمانه وعهود الشعر العربي الزاهرة. فأكد على الفروق النوعية
التي طبعت المرحلتين، سواء على مستوى مفهوم الشعر أو منزلة الشاعر في
المجتمع أم على مستوى أهمية المعرفة المتأتية من المصدر الشعري، فيقول:
"وكان القدماء من تعظيم صناعة الشعر واعتقادهم فيها، ضد ما أعتقده هؤلاء
الزعانفة، على حال قد نبه عليها ابن سينا فقال: "كان الشاعر في القديم
ينزل منزلة النبي فيعتقد قوله ويصدق حكمه ويؤمن بكهانته". فانظر إلى تفاوت
ما بين الحالين حال كان ينزل فيها منزلة أشرف العالم وأفضلهم، وحال صار
ينزل فيها منزلة أخس العالم وأنقصهم"([12]). وهكذا فالشعر قديما كان مصدر
معرفة موثوقة والشاعر بمثابة النبي المرشد الذي يتبع في أقواله وأحكامه…
أما في عهد حازم، فقد تحول الشعر إلى مصدر نكاية لصاحبه، وعلامة على نقصه
وسفاهته. ولعل اختلاف الحالة الشعرية في المرحلتين، يظهر جليا في اختلاف
منزلة الشاعر فيها.
7 ـ لقد عاتب حازم شعراء زمانه على عدم فهمهم
"للشعرية"، التي هي أساس الشعر، وبتحققها يتحقق مغزاه العميق، ويأخذ عليهم
ظنهم "أن الشعرية في الشعر هي نظم أي لفظ اتفق نظمه، وتضمينه أي غرض كيف
اتفق، على أي صفة اتفق، لا يعتبر عنده في ذلك قانون ولا رسم موضوع. وإنما
المعتبر عنده إجراء الكلام على الوزن والنفاذ به إلى قافية، فلا يزيد بما
يصنعه من ذلك على أن يبدي عن عواره، ويعرب عن قبح مذاهبه في الكلام وسوء
اختياره"[13]. إن ورود مصطلح الشعرية في كلام حازم يستوقفنا، حتى نتبين
معناه عنده خاصة وأن نقاشا نقديا حامي الوطيس قد دار وما زال يدور حول هذا
المصطلح الذي اكتسى في العصر الحديث بعدا نقديا واضحا صار يمثل الوريث
الشرعي لسائر التطورات النقدية المتراكمة في تاريخ النقد الطويل كما أنه
يطمح إلى تجاوزها أيضا في سبيل طرح جدول جديد لمفهوم النقد الأدبي. إن
الشعرية في العصر الحديث صارت علامة على وثبة حاسمة أنجزها النقد في سياق
التحولات التي اعترته في مرحلته الانتقالية الراهنة[14].
وعرفت
الكلمة في اللغات الغربية باستعمالاتها المتنوعة، وترجماتها المختلفة،
وأهم ترجمة وقع عليها الإجماع لدى الدارسين كلهم تقريبا مصطلح
Poétique[15] وإن كان البعض يترجمها بمصطلح Littérarité[16] أي ما يرادف:
"الأدبية". هذا عن بعض الاستعمالات المعاصرة للشعرية في ساحة الدراسات
النقدية، أما تطور مفهومها عبر التاريخ القديم فشيء يضيق عنه المجال في
هذا المكان[17].
في ذروة الصخب النقدي القائم حول مصطلح الشعرية،
ودلالاتها المتعددة، ووظائفها المتنوعة، يمكن أن نقول: إن هذا المصطلح
الذي أثار الضجة النقدية الحديثة بين نقاد العالم وأدبائه، كان للنقد
العربي القديم دور بارز في إثارة الاهتمام النقدي نحو هذا المفهوم خاصة مع
صاحبنا حازم القرطاجني، قبل مئات السنين، التي تفصله عن العصر الحديث.
ولعل أصالة الطرح النقدي لمفهوم الشعرية تتمثل فيما سبق ذكره، من أن غياب
الشعرية يرتبط بتردي الشروط الموضوعية للواقع الشعري والأدبي بل والحضاري
عامة في زمانه. فالشعرية ليست عنده -كما مر بنا في قولته السابقة– اقتدار
على نظم الكلام في قوالب من الوزن والقافية، كما قر في أوهام زعانفة
زمانه، وإنما الشعرية هي التي تحقق للأدب والشعر خاصة ماهيته، وتجعله
يستحق هذا الاسم. فالشعرية بهذا المعنى الذي يقرره حازم هي المعرفة
بقوانين صناعة البلاغة التي هي أساس صناعة الشعر على ما يتبين من أقواله
السابقة.
8 ـ لم يعتبر حازم الشعر سليقة لدى الشاعر العربي شأن بعض
النقاد، وإنما أعطى ضرورة التعلم والدراسة لإتقان صناعة الشعر فيقول:
"وأنت لا تجد شاعرا مجيدا منهم (القدماء) إلا وقد لزم شاعرا آخر المدة
الطويلة، وتعلم منه قوانين النظم، واستفاد عنه الدراسة في أنحاء التصاريف
البلاغية"[18]. ويطمح حازم من خلال هذا الكلام إلى لفت النظر إلى عيب من
عيوب الشعراء في عصره، وهو قلة مصاحبتهم للشعراء المجيدين وعدم تعاطيهم
الشعر عن طريق الدراسة وطول الملازمة والرواية – ويؤكد أيضا أن نهج
القدماء في تعلم الشعر لم يشذ عن ذلك. ويستنتج حازم مما سبق، أنه إذا كانت
حال الشعراء القدامى على ما ذكر من التعلم والدراسة والرواية، -وهم أقرب
عهدا بالسليقة والفصاحة منا- فإن شعراء هذا الزمان (عصر حازم) أحوج[19]
إلى ملازمة فطاحل الشعراء، وأخذ أصول الصناعة عنهم، ثم ترسم خطاهم على درب
الشعر، ريثما تستوي أداة المبتدئ، وتلين قناته ويسلس له الشعر القياد.
9
ـ يعترف حازم بأن محاولته في التنظير النقدي والبلاغي، لا تعتبر فريدة في
النقد العربي، بل لها محاولات سابقة ورائدة لتحديد قوانين الشعر وما ينبغي
أن يكون عليه. "وقد نقل الرواة من ذلك الشيء الكثير لكنه مفرق في الكتب لو
تتبعه متتبع متمكن من الكتب الواقع فيها ذلك، لاستخرج منه علما كثيرا
موافقا للقوانين التي وضعها البلغاء في هذه الصناعة"[20]. فقد لاحظ حازم
أن عمل الرواة كان منصبا على جمع الشعر، وتدوين الآراء التي قيلت فيه من
جهة، ولاحظ من جهة أخرى أن ما جمعه الرواة شكل مصدرا أساسيا للبلاغيين
الذين جاءوا بعد، ووضحوا قوانين الصناعة البلاغية وأصلوا قواعد الشعر
أيضا. ولا يستبعد أن يكون حازم قد استفاد من حصاد هؤلاء وأولئك في وضع
أصول الصناعة البلاغية، والتنظير للعملية الشعرية.
10 ـ يؤكد حازم
أنه لم يقصد من لهجته العاتبة، التوبيخ أو التقريع اللاذع لشعراء زمانه،
وإنما قصد الإصلاح ما استطاع، يقول: "وإنما احتجت إلى الفرق بين المواد
المستحسنة في الشعر والمستقبحة، وترديد القول وإيضاح الجهات التي تقبح،
وإلى ذكر غلط أكثر الناس في هذه الصناعة، لأرشد من لعل كلامي يحل منه محل
القبول من الناظرين في هذه الصناعة، إلى اقتباس القوانين الصحيحة في هذه
الصناعة وأزع كل ذي حجر عما يتعب به فكره ويصم شعره"[21]). فحازم يقرر
غاية دراسة علم البلاغة، وتحديد أصول العملية الشعرية في وضوح كبير، وهي
غاية الإرشاد، وتصحيح نظرة الشعراء المريضة في زمانه. وعلى كل، فإنني أرى
أن لهجة حازم الإصلاحية لا تحمل أي دلالة على التعالي على شعراء عصره، ولا
ترميهم بالعقم الفني كما قد يتبادر إلى الذهن. كما أنه لم يتوخ غير تمييز
الخبيث من الطيب حتى يكون الشعراء على بينة من أمرهم، وموقفه هذا في جوهره
موقف فقيه مصلح إزاء نازلة أدبية.
III – بلاغة حازم في الميزان
نلقي
الأضواء على آراء النقاد في حازم وهي على قلتها بالقياس إلى ما قيل في
النقاد غيره، تعطينا صورة على الجهود المبذولة والضئيلة التي حاولت إخراج
هذا الناقد من الخفاء، وفيما يأتي عرض موجز لهذه الآراء:
1 ـ لعل
صاحب الفضل في إخراج عمل حازم النقدي والبلاغي إلى النور هو الدكتور محمد
الحبيب بن الخوجة، محقق المنهاج. وقد اتسم موقفه بالتنويه بالشخصية
وبالكتاب. فاعتبر حازما ناقدا ملما بالتراث العربي، محيطا بشذرات من النقد
اليوناني، مما جعل عمله النقدي آية في النظر النقدي السديد[22]).
2
ـ يذهب الدكتور أمجد الطرابلسي إلى اعتبار حازم القرطاجني أول النقاد
المغاربة الذين لقحوا الدرس البلاغي بالمعطى اليوناني في النقد والبلاغة
تلقيحا ينم عن فهم ووعي يستحقان التقدير والإعجاب[23].
3 ـ لا يشذ
الأستاذ علال الغازي محقق المنزع في هذا الرأي الذي خرج به الدكتور
الطرابلسي، ويؤكد المحقق أن حازما هو رائد الاتجاه اليوناني في النقد
المغربي، ويعتبره صاحب الفضل في إدخال نظريات أرسطو البلاغية في مضمار
النقد المغربي[24].
4 ـ أما الدكتور إحسان عباس فله رأيان حول
حازم، الأول يتعلق بجانب النقد عنده، والثاني بجانب الأثر اليوناني في
عمله النقدي والبلاغي.
أ ـ فهو ينوه بشمولية النقد عنده، وهي ميزة جعلته ينفرد عمن جاء قبله من النقاد على حد تعبيره[25].
ب
ـ ويؤكد هذا الدارس في مكان آخر على الأثر اليوناني لدى حازم في كتابه:
المنهاج مشيرا إلى ارتباطه بالنظرة اليونانية في تصوراته بشكل أو بآخر[26]
دون أن يخضع لتلك النظرة بحذافرها.
5 ـ تعرض الدكتور محمد رضوان
الداية إلى كتاب حازم، وعرض لمختلف موضوعاته في إيجاز شديد، واعتبره في
النهاية أول كتاب عربي متكامل في النقد الأدبي وهو يتجاوز به مرحلة أعلى
منه[27].
6 ـ من الغريب أن يتصدى الأستاذ عثمان الكعاك، محقق ديوان
حازم، إلى تحقيق شعر هذا الناقد، دون التنويه بمكانته الشعرية أو النقدية.
فإننا نجده في مقدمته المقتضبة التي أحاط فيها بجوانب من حياة وأعمال حازم
الشعرية والبلاغية لا يكاد يعبر عن موقف واضح وإزاء حازم: فقصارى ما عمله
يتلخص في سرد آراء القدماء خصوصا من الذين نوهوا بمنزلة حازم النقدية
والشعرية. فربما كان لسان حال الدارس (عثمان الكعاك) يقول: يكفي للتنويه
بمنزلة حازم في مجالي الشعر والبلاغة ما قاله القدماء عنه[28].
7 ـ
تطرق الدكتور عبد الرحمان بدوي إلى إثارة علاقة حازم بالأثر اليوناني في
بلاغته ونقده، وأكد الدارس على ذلك الأثر الأرسطي. وعندي أن محاولة الدارس
طريفة ومحدودة الأفق في الآن نفسه.
أ ـ تؤول طرافتها إلى أنها أثارت الاهتمام النقدي إلى قضية الأثر اليوناني عند حازم، وموطن ظهوره في نظرياته البلاغية.
ب
ـ وهي محدودة الأفق لأنها لا تتعدى سطرين من نهاية الصفحة وصفحتان ونصف،
من مقال ذيله الدارس بمقتطفات طويلة من عمل حازم في المنهاج، فعنوان
المقال يوهمنا بأن الدارس يحيط بجوانب الأثر اليوناني في كتاب المنهاج،
غير أننا لا نلبث أن نقف على هزال المادة المتضمنة في الصفحات المخصصة
لدراسة هذا الأثر، وأهم ما في سطور المقال ما يفرق فيه الدارس بين مفهوم
الشعر والخطابة عند حازم. أما القضايا الأخرى من التقسيم اليوناني للشعر
وإضافة حازم إليه أشياء أخرى، وتعليقه على آراء أرسطو وتأثيره بالفلاسفة
العرب… فهي أشياء يلمح إليها الدارس تلميحا خفيفا كما لو أنه لم يكن معنيا
بها في مقال يشير عنوانه إلى دراستها وتفصيل القول فيها[29].
8 ـ
لا يكاد يخفي الدكتور محمد شكري عياد تقريظه لكتاب المنهاج بل إنه يعتبره
قمة من قمم النقد الأدبي في اللغة العربية، ونوه الدارس بهضم صاحب المنهاج
لثمار النقد العربي قبله، فظهر ذلك واضحا في تمثله آراء الأسلاف وفي
مناقشتها وشرحها وبسط وجوه الخلاف بينها وبينه في قوة بيان واقتدار
حقه[30].
ويعتبر الدارس جهد حازم في النقد آخر الجهود النقدية التي
رفعت النقد العربي إلى مستوى اللقاء المثمر بين التيارين العربي واليوناني
في النقد[31].
9 ـ ويذهب الدكتور بدوي طبانة إلى أن حازما كان في
منهاجه بالغ التأثير بحكمة اليونان وفلسفتهم ومنطقهم، بحيث عكس هذا الأثر
النقدي المنهاج بوضوح التأثير اليوناني في الثقافة العربية أكثر من كتابات
غير حازم من المشارقة والمغاربة ممن عرفوا الأدب وأصلوا قواعده[32].
10
ـ ينوه الدكتور جابر عصفور بتكامل المفهوم النقدي عند حازم، ويعتبره
التركيب لمختلف المحاولات النقدية السابقة، في إطار نظرة شمولية تستوعب
سائر المعطيات النقدية الموروثة، ولا تبقي سوى على إيجابياتها ساعية إلى
تجاوز سلبياتها في سبيل خلق مفهوم نقدي متكامل، يتسم بالتماسك القوي،
والثراء والتنوع على مستوى المفاهيم أو الأدوات الإجرائية في الوقت
نفسه[33].
وفي نهاية هذا العرض، أود أن أدلي برأي حول حازم ومكانته
كدارس نقدي بلاغي، وهو رأي أعتبر فيه الجانب البلاغي عند حازم دون سائر
الجوانب الأخرى.
إن حازما كان النموذج الفذ في تاريخ البلاغة العربية، وذلك لجملة أسباب أوجزها فيما يلي:
أ ـ استيعابه للموروث البلاغي عند العرب، وهضمه لهذا التراث.
ب ـ استفادته من التراث الأرسطي وتجاوزه له.
ج ـ تقديم دراسة عن مفهوم البلاغة ومباحثها، تنم عن أصالة في أسلوب التناول والتنظير.
أما
كتاب عصام قصبحي فهو لم يتناول حازما بجميع جوانبه النقدية والبلاغية
وإنما نفى عنه الإبداع في قوله بالمحاكاة، وحاول في كل لحظة في حديثه عن
حازم أن يجعله لاحقا في آرائه وتخريجاته لأرسطو أو الفلاسفة العرب خاصة
منهم ابن سينا[34]:
وخلاصة القول أن قصبحي لم يعتد بفهم حازم
المحاكاة بأنها تشبيه، وجعله عالة في آرائه في هذا الموضوع على غيره، ثم
انتقل إلى الجانب التطبيقي، فأبرز مدى الهوة الفاصلة بين النظرية والتطبيق
عند حازم.
IV – فلسفة البلاغة عند حازم بين الماضي والحاضر
إن
الشائع في التصور العربي لمفهوم البلاغة، أنه يقرنها ببعد معياري واضح جدا
يتمثل في الوصول إلى التعبير بصيغة جميلة ورفيعة. وهذا البعد المعياري
الواضح، يظهر أيضا على مستوى التعريف اللغوي لمصطلح –البلاغة- فهي لغة
تنطوي على دلالة الوصول والانتهاء كما هو مقرر في كل الكتب البلاغية التي
تعرضت لمدلول اللفظ "بلاغة"، من زاوية الوضع اللغوي. ويمكن رصد البعد
المعياري المشار إليه آنفا في البلاغة العربية، في مظهرين:
الأول:
ويتمثل في كون عمل البليغ يتلخص أساسا في إرشاد الأديب، ورسم السبيل
القويم لأجل الرقي بتعبيره الأدبي إلى مستوى من الفصاحة والبيان والسمو
الفني، الذي تطمح إليه البلاغة على مستوى النص الأدبي.
الثاني:
يختص بثنائية الأمر والنهي، التي تشكل البنية العميقة للتفكير البلاغي
العربي، إذ يستبد هذان المفهومان بالمجال البلاغي عند العرب، ويظهران على
مستوى الممارسة البلاغية في تقعيد قواعد، ووضع قوانين، ينبغي تطبيقها
واحترامها أثناء الكتابة الأدبية، وتتخذ هذه القوانين صيغة "اعمل كذا" من
جهة، و"لا تعمل كذا" من جهة أخرى. والجانب الأول يشكل خانة الأمر، في حين
أن الجانب الثاني يشكل خانة النهي، وكلا الجانبين يمثل الاتجاه المعياري
المسيطر على التصور العربي لمفهوم أو موضوع البلاغة[35].
وهذه
المعيارية في المجال البلاغي، لا تخلو من شكل السيطرة والعنف الذي تمارسه
علوم البلاغة على الأديب. ويكمن مرجع هذا البعد المعياري في البلاغة
العربية، في ارتباط التصور البلاغي العربي بالتصور الديني الأخلاقي عند
العرب. فالبلاغة قد نشأت في ركاب الدراسات الدينية وتمت مساوقة للبحوث
القرآنية التي كانت ربيبتها من حيث الاهتمام بالنص القرآني. وإذا اعتبرنا
كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة نواة للدراسات البلاغية، فإنه يتوجب علينا
التسليم مبدئيا بأن الدرس البلاغي والبحث البياني ظهر في كنف البحوث
اللغوية ذات التوجه الديني الواضح جدا.
واستمرت البلاغة العربية
تستمد مقومات وجودها وتطورها من معين الدين إلى غاية القرنين الثالث
والرابع الهجريين حيث انشطر البحث البلاغي إلى شقين:
ـ شق اعتمد
أصحابه التصور الديني الذي كانت ترفدهم به الدراسات القرآنية والبحوث
الإعجازية التي شهدت نهضة واسعة طوال الفترة المومأ إليها آنفا، ومن ممثلي
هذا الاتجاه أو التيار المحافظ على الأصول في ميدان البلاغة رائدا النقد
المنهجي في الثقافة العربية: وهما: الآمدي (ت 371هـ) والقاضي الجرجاني (ت
392هـ).
ـ شق تأثر في بحوثه البلاغية بمظاهر النزعة العقلانية التي
فشت في الثقافة العربية في تلك الآونة. ولقد تصاعد هذا النزوع العقلاني في
الفكر البلاغي، على إثر اطلاع النقاد العرب على آثار الفكر الهليني
القديم، هذا الفكر الذي طبع المعرفة العربية لدى جماعة من المثقفين بطابع
عقلي واضح، تمثل في الميل إلى اصطناع الجدل والمملكات الكلامية، وسوق
البراهين والحجج العقلية لتزكية رأي، أو تعضيد موقف، أو تفنيد دعوى..
وإذا
كان الفكر الديني قد اصطلى هذه العقلانية الوافدة على مستوى علم الكلام،
فإن دعوى هذا التصور العقلاني تسربت أيضا إلى البحث البلاغي، وآتت هذه
النزعة أكلها لدى بلاغيين ينتميان إلى القرن الثالث الهجري هما: ابن
المعتز (ت 296هـ) وقدامة بن جعفر (ت 337هـ)، ولقد تمثل لديهما الأثر
العقلي في مظهرين:
ـ كثرة التحديدات ذات الطابع المنطقي.
ـ
الولع بالتفريع والتصنيف بشكل مبالغ فيه، خاصة عند قدامة، في حين أن ابن
المعتزل أقل بكثير من قدامة في هذا الصدد. غير أن علاقة ابن المعتز بأرسطو
مهما قلنا عنها تظل علاقة المبتدئ بالأستاذ البالغ نهاية الشوط. ومظهر
التباعد بينهما مثلا أن أرسطو يعلل ويفسر في حين أن تلميذه ابن المعتز يقف
عند حد التصنيف والوصف[36]. ويصدق ما استنتجه البهبتي آنفا بصدد ابن
المعتز على قدامة نفسه إذ يفصله عن أرسطو ما يفصل الواصف للظواهر عن
المعلن لها.
وما أن نصل إلى القرن الخامس الهجري حتى نجد أمامنا
علما كبيرا من أعلام البلاغة، يفتق منهاجا جديدا في هذا المجال المعرفي،
ويؤسس لنظرة طريفة في الدرس البلاغي على عهده. والعلم المقصود هنا هو عبد
القاهر الجرجاني الذي ستنحو الدراسة البلاغية معه منحى عقليا واضحا في نظر
بعض الدارسين الذين يعتبرون الجرجاني من أصحاب التوفيق بين البيان العربي
واليوناني، ومن رواد الفكر البلاغي العربي الذين لم ينبهروا بالأثر
الإغريقي. ذلك أن عبد القاهر الجرجاني صاحب محاولة رائدة في البلاغة
العربية، وهي محاولة تنظر إلى المعطى العربي واليوناني نظرة فيها كثير من
المرونة، نظرة تطمح إلى التوفيق بين التصور العربي المحافظ، والتصور
الإغريقي المتفتح والعقلاني، المتطور على ما يذهب إليه طه حسين في دراسته
للنظرة البلاغية عند عبد القاهر[37]. غير أننا لا نشاطر الدارس المذكور
هذا الرأي، إيمانا منا بأنه رأي ينبعث عن نزعة قديمة لدى أساتذته
المستشرقين الذين ما إن يقفوا على معلم من معالم أصالة الفكر العربي حتى
تجدهم يبحثون له عن مصدر غير عربي، وغالبا ما يردونه إلى انفتاح الذهن
العربي على تراث الفكر العقلاني لدى الإغريق.
وإذا رفضنا رأي طه
حسين السابق بدعوى أنه يصدر عن النزعة الاستشراقية التي لا تنصف الذهن
العربي ولا تحترم أصالته حتى في ميادين البيان التي كان يصول فيها ويجول،
فإننا نقرر أن عبد القاهر الجرجاني ما جرفه التيار العقلي قط في دراسته
البلاغية، وخير دليل على ذلك كونه فسح حيزا كبيرا للذوق في عمله البلاغي،
واعتمد الحس العربي السليم والفطرة البيانية عند العرب، -إذا جاز التعبير-
لاستكناه مواطن الجمال في النص القرآني والخطاب الشعري[38].
ويرى
بعض الدارسين أن عبد القاهر ما اهتم في نظريته البلاغية باللفظ قط، وإنما
مناط البلاغة النظم أي التركيب بين اللفظ والمعنى[39]، وهو في دعوته إلى
النظم الذي يتساوى فيه طرفا المعادلة: اللفظ والمعنى، إنما يتجاوز نظرية
الجاحظ البيانية التي تعتد باللفظ والصيانة قبل المعنى. ومما يؤكد هذا
الاتجاه اللفظي في البلاغة عند الجاحظ تأكيده على الإعجاز اللفظي البياني
للقرآن الكريم[40]، يقول عنه مفضلا اللفظ على المعنى، مظهرا مزية الأول
على الثاني: و"متى كان اللفظ أيضا كريما في نفسه، متخيرا في جنسه، وكان
سليما من الفضول وبريئا من التعقيد حبب إلى النفوس واتصل بالأذهان، والتحم
بالعقول، وخف على ألسنة الرواة (…) وعظم في الناس خطره، وصار ذلك مادة
للعالم الرئيس ورياضة للمتعلم الريض)[41].
في تقديري أن تحليل موقف
عبد القاهر إزاء موقف الجاحظ يمكننا ولا شك من وضع نظرية عبد القاهر
البلاغية في سياقها التاريخي السياسي والفكري والأدبي، كما أنه يمكننا من
إنزال الجاحظ منزلته الفكرية ذات الأبعاد السياسية أيضا، وفيما يلي تحليل
لكل الموقفين في تاريخ الفكر البلاغي عند العرب.
أما الجاحظ فهو من
أنصار اللفظ، الذين يجعلون مدار الجودة في العمل الأدبي على اللفظ دون
المعنى. ولهذا الموقف النقدي البلاغي ظاهريا دلالة سياسية في العمق[42]
تتمثل في صدوره عن حس عربي أصيل، يقصر البلاغة والبيان على الجنس العربي.
وعندي أن الجاحظ هنا يرتبط بالتصور الديني لمفهوم اللفظ، فاللفظ العربي
معجزة وصياغته في قوالب شكلية معجزة أيضا. وبالتالي فلا أحد بقادر على صوغ
اللفظ والتلاعب به سوى الشعب العربي الذي فطر على هذه الألفاظ، وتوغلت طرق
صياغتها وضروب تأليفها في حسه ووجدانه[43]. وهذا الموقف من الجاحظ وليد
إحساس بامتهان الكرامة العربية المستهدفة من قبل الزحف الشعوبي. فالجاحظ
ممن توقدت فيهم الحمية العربية، فساهم في دحض تخرجات الشعوبيين الباطلة،
ولم يدخر وسعا في التنويه بمكانة العنصر العربي. والجاحظ لا ينفك يؤكد أن
كل شيء للعرب (…) إنما هو بديهة وارتجال[44]. أما إذا سولت لغير العربي
نفسه صياغة الألفاظ العربية فإنه لن يفلح في ذلك مهما عانت نفسه في سبيل
ذلك.
وهكذا فإذا كان الجاحظ ينصب نفسه متحدثا بلسان حال العربية،
والمتعصبين لها، فإن موقف عبد القاهر الذي قرر المساواة بين اللفظ
والمعنى، حري بأن يعتبر رد فعل إزاء تعصب الجاحظ وتحيزه للفظ. ويجوز القول
إن عبد القاهر صاغ نظرية النظم في سبيل نسف نظرة الجاحظ المتعصبة للعنصر
العربي، من جهة، كما صاغها احتجاجا على قصر المزية على اللفظ، إذ يرد
الاعتبار لعنصر المعنى في البلاغة عند عبد القاهر، فصار من المتاح لغير
الجنس العربي أن يتعلم اللغة العربية، وأن يتضلع في بيانها وأدبها، ما
دامت العبرة بائتلاف اللفظ والمعنى، وليس باللفظ وحده.
ويتمثل
التحول الفكري في النظرة البلاغية، عند عبد القاهر الجرجاني في صياغة نظرة
بلاغية تتجذر في أرضية الفكر الشعوري الذي عرفه زمنه. هذا من جهة، أما من
جهة أخرى فإن عبد القاهر لم يؤثر عليه الأسلوب اليوناني، كما أنه لم يرضخ
لعنف الخطاب التقليدي المحافظ للبلاغة العربية، وذلك لمراوحته في دراسته
بين مقومات الذوق العربي والتصورات العقلية التي أصبحت في زمنه وجها جديدا
للفكر البلاغي العربي.
ـ ففي دلائل الإعجاز مثلا، نجد مباحث كثيرة تهتم بالقضايا الإعجازية، وجلها مقاربات حكم فيها الذوق أساسا[45].
ـ
أما أسرار البلاغة فقد استرشد فيه عبد القاهر بمفاهيم العقل، وتصوراته،
ويتضح طغيان العنصر العقلي في تناول القضايا البلاغية في هذا الكتاب
كالمجاز والاستعارة مثلا[46].
وقد يتساءل البعض عن مصدر هذا المعطى
العقلي في البلاغة عند عبد القاهر، فنجيب مقررين أن التصور العقلي للكون
والإنسان واللغة سينضج في دائرة المتكلمين عند علماء المعتزلة الذين كانت
أغلب محاوراتهم الفلسفية والدينية لا تبعد عن الإطار العلمي. ولما كان
الاهتمام بالجدل عند المعتزلة قد شمل نواحي الفكر البلاغي، فقد صار من
الطبيعي أن تزخر البلاغة على عهد عبد القاهر بالامتدادات الأدبية واللغوية
لهذا التصور العقلي.
وما نصل إلى القرن السابع الهجري، حتى نجد
صاحبنا حازما القرطاجني يدفع بالبلاغة العربية إلى الأمام، وذلك بتقديم
تصور جديد لمفهوم البلاغة يختلف بصفة جذرية عن كامل التصورات التي سبقته
في تاريخ الفكر البلاغي عند العرب. وهذا التصور عند حازم القرطاجني محكوم
بنظرة فلسفية عميقة يمكن إبراز أهم ملامحها في الحديث التالي، وينبغي
اعتبار هذا التفسير وجهة نظر شخصية حول المشروع البلاغي عند حازم تسعى إلى
سبر أغواره الفكرية، وإجلاء عمقه النظري، ودلالته الفكرية في تاريخ
البلاغة بصفة عامة. لقد لاحظ حازم ما آلت إليه البلاغة العربية من عقم
فكري، ناشئ عن الاجترار، ففكر في طريق ينقذ بها مجال البلاغة عن التردي
المحقق.
لاحظ حازم أن البلاغة صارت عائقا دون الشعراء والفن
الأصيل، فقد أضحت تكلفهم عنتا ومشقة بدل أن تذلل السبل لهم وتروضها. تأمل
حازم وضع الشعر في عصره خاصة، فألقاه قد بلغ من الانحطاط منزلة كبيرة، ومن
الإسفاف الدرجة العظيمة، على ألسنة شعراء لم ينالوا قسطا من التكوين
البلاغي. لاحظ حازم أن نظرة البلاغة القديمة إلى الشعر كانت جزئية، تنظر
للفظ وحده، وللمعنى بعزلة عن اللفظ، وتفصل دراسة العروض عن مباحث اللفظ
والمعنى. وتلافيا لمثل هذه النظرة التجزيئية دمج حازم هذه المباحث فيما
بينها، فاستقام له منها جميعا علم البلاغة وعدها أساسا لقوانين الصناعة
الشعرية.
نظرا لخلو الساحة النقدية والبلاغية من نموذج التصور الذي
يطمح إليه حازم، عقد هذا الأخير العزم على وضع نظرية جديدة لأصول العملية
الشعرية ضبطا لمعطيات العمل الشعري على كافة مستوياته الشكلية والمضمونية.
ويبدو لي أن معرفة حازم بأصول المنطق قد أسعفته وقربت إليه النموذج النظري
الذي طالما بحث عنه. فأنا أرجح أن يكون حازم الذي يبحث عن تصور نظري شامل،
يستوعب العملية الشعرية بكافة أطرافها، ويحيطها بسياج نظري من المفاهيم
والمصطلحات، قد عثر على هذا النموذج النظري الشامل في علم المنطق، فهو علم
يستجيب لطموحات حازم ونزوعه نحو النظرة الجامعة المانعة.
لقد سعى
حازم إلى الاقتداء بالأسلوب المنطقي في العرض النظري والتحديد التطبيقي،
والتحديد المفهومي والمصطلحي، في إطار وضعه لنظرية شاملة جامعة مانعة
لأصول العملية الشعرية تضاهي في أحكامها ودقتها وطاقتها الشمولية النظرة
المنطقية. كما سعى حازم إلى اقتناء أدوات المنطق واستعارة تصوراته
الفلسفية بغية توظيفها على الصعيد المنهجي، في سبيل إيجاد علم "منطق
للأدب"، ينظم العملية الشعرية خاصة وفق أصول ومقررات سافرة الأبعاد
المنطقية.
هذا المنطق الأدبي، الذي توصل حازم إلى صياغته على هدى
من المنطق الفلسفي، هو علم البلاغة أو علم النقد الأدبي.ويلفتنا لفظ (علم)
الذي قرنه حازم بالبلاغة في إطار مركب إضافي تصير البلاغة بموجبه علما،
تتحقق فيه صفة العملية التي تميزها في نظره عن البلاغة القديمة. فحازم
فيما أرى قد شعر بأن إحاطة البلاغة بسياج منطقي خليق بأن يرقى بالبلاغة
إلى مستوى العلم، وأن يقصيها عن دائرة البحوث اللغوية والنقدية الهجينة
غير المحددة تحديدا منطقيا صارما كما هي الحال بخصوص البلاغة عند حازم.
فالعلم عنده هو الوعي النظري بالصفات الثابتة في موضوع معين محدد الأطراف،
والمختص بمنهجية مرسومة المعالم. والبلاغة عند حازم هي علم لأنها علم لسان
كلي على حد تعبيره، (منشأ على أصول منطقية وآراء فلسفية)[47]. ولو بحثنا
عن المؤثرات الفكرية العامة التي هدت حازما إلى هذا التصور الشمولي لعلم
البلاغة لوجدنا بعضها ماثلا في خصوبة الفكر الفلسفي على عهد حازم في
المدرسة المغربية التي كانت تتخصص في الفلسفة اليونانية التي استغرقت جل
شروحها وتلخيصاتها[48]. وقد استقطب المنطق اليوناني اهتمام مثقفي عصر حازم
بشكل ملحوظ جدا، وكان من الطبيعي أن نلقى أثر ذلك في تصور حازم لموضوع
البلاغة، إذ صيرها علما منطقيا للأدب.
ونلفي هذا الأثر أيضا لدى
ناقد بلاغي عرفته تلك الفترة، هو أبو محمد القاسم السجلماسي الذي كان كما
يقول عنه محقق كتابه: المنزع البديع شخصية ذات عقلية فلسفية ومنطقية
واضحة[49]. ولدى السجلماسي ستظهر النزعة المنطقية الموغلة في التفريع
والاستقصاء الجامع والتحديد المانع، وذلك من خلال مباحث كتابه المنزع وهو
كتاب استفاد من التجربة الفلسفية أيما استفادة غير أن المنزع ظل دون شأن
المنهاج مع ذلك. ففي الوقت الذي كان المنهاج محاولة رائدة للتوفيق بين
المعطى اليوناني والعربي في أفق وضع نظرية متكاملة في النقد الأدبي
والبلاغة، كان كتاب المنزع في منحاه التصنيفي يكرس واقع الجمود والاجترار
الذي كانت تعرفه البلاغة قبل منهاج حازم. ومما زاد الطين بلة، أن
السجلماسي لم يعتدل في صبه مباحث البلاغة في الإطار المنطقي، فقد بدا على
عملية التأطير المنطقية تلك، غير قليل من العسف والشطط في تطويع المعطى
الأدبي لقوانين المنطق الصارمة. إن إطلالة خفيفة على فهرس مباحث كتاب
المنزع لقمنية بأن تؤكد هذه الحقيقة. أما لو تجاوزنا ذلك إلى قراءة بعض
التحديدات الواردة فيه لمجموعة من الموضوعات والمباحث فإننا لا محالة
سنقتنع بمصداقية الاتهام السابق الملصق بالسجلماسي.
هكذا نلاحظ كيف
بنى حازم للبلاغة مجدها في إطار نظرة شمولية لا تفصلها عن كافة مظاهر
العملية الشعرية، غير أن هذا المجد البلاغي لن يدوم طويلا إذ سرعان ما عكر
صفوه ما عرفته البلاغة على يد السجلماسي من انتكاس وتراجع إلى وضعيتها
السالفة من عقم وصياغة منطقية، ضيقة مفتقرة إلى المرونة الذوقية –التي هي
من متطلبات العمل الأدبي- وقاصرة على استيعاب أطراف العمل الأدبي وجمع
سائر أفكاره في إطار نظرة متكاملة متماسكة على نحو ما وجد عند حازم مثلا.
ذلك
هو موضع حازم ومشروعه البلاغي بين القدامى. وقد حاولنا إجلاءه نسبيا مع
العلم أنه موضوع شائك لا يخلو من المخاطر. فما هي مكانته في عصرنا، بل
أيمكن وضع حازم في إطار البحث البلاغي الحديث والمعاصر؟ أعتقد أن هذا
التساؤل مشروع، بل ينبغي إثارته، هذا علاوة على التفكير الجدي في الإجابة
عنه. أقول مبدئيا وكفرض بنظري سأعمد إلى تحقيقه في الحديث الآتي:
إن لحازم منزلة في العصر الحديث بل في اللحظة المعاصرة، في مجال البحث البلاغي، وذلك لجملة أسباب أوجزها في الإشارات التالية:
1
ـ إن حازما قد سبق زمنه كما يقولون في المثل، وهذا دليل عبقريته ومناط
تفرده، فهو يتفق مع الدراسات البلاغية المعاصرة في أوربا[50]. فهو يتفق مع
هذه الدراسات في تصوره العام حول علم البلاغة وطموحات هذا العلم وطاقته
الاستيعابية. فالتصور البلاغي الحديث يدرج مباحث البلاغة ضمن علوم اللسان،
ويحاول بشتى الأساليب ربط الصلة بين البلاغة واللسانيات، وتوثيق الوشائج
بينهما، ويلتقي حازم مع هذا التصور الحديث إذ يعتبر البلاغة علم اللسان
الكلي الذي تندرج تحته علوم اللسان الجزئية.
وفي هذا الصدد، أي
علاقة اللسانيات بالبلاغة في التصور الحديث، تلاحظ جماعة مو البلجيكية أن
البلاغة المعاصرة تستمد مشروعية وجودها من البحوث اللسانية سواء ما يتعلق
بالمجال الدلائلي العام وما يتعلق بمبحث المعنى. وترى هذه الجماعة كذلك أن
البلاغة الحديثة تلتقي مع البحث الدلائلي على مستوى المنهج والمادة (أو
الموضوع) المدروسة، فكلا الدلائلية والبلاغة يقوم منهجه على دراسة الدلائل
Les signifiants. والفرق بين المجالين يتحدد في كون الدلائلية تدرس الدليل
في إطار وظيفته الاجتماعية في حين أن البلاغة إنما تقارب الدليل اللغوي في
إطار استعماله الأدبي ووظيفته الفنية. والبلاغة بهذا المفهوم هي دراسة
استتيقية الدليل اللغوي داخل سياق أدبي[51]. وذلك بغية التخلص من التصور
البلاغي القديم الذي ظل وما يزال عالقا بالأذهان. وقد سعت جماعة مو، وهي
جماعة من البلاغيين الجدد، إلى رسم الخطوط العامة لنظرية بلاغية –لسانية
جديدة- تمتح في تأسيس منطلقاتها الرئيسية من التطور اللساني الحديث،
وتسترشد بأدوات التحليل في هذا المجال. وتقوم هذه البلاغة الجديدة في تصور
جماعة البلاغيين الجدد على أسس نظرية تتضمن:
أ ـ نظرية في المعنى تتخذ تكوين المعنى موضوعا لها.
ب ـ نظرية في المرجع La théorie du référent
ج ـ نظرية الفعل اللغوي L’acte de langage
د ـ نظرية حول حوادث المقام أو السياق Contexte ou situation
هـ ـ موسوعة اجتماعية ثقافية تعرف بمجتمع ومعتقدات الأدباء المدروس أدبهم[52].
وتوضح
جماعة البلاغيين الجدد محددة الوظيفة التي أسندت للبلاغة المعاصرة، وهي
وظيفة تنحصر في كشف وإبراز معطى الشعرية في النص الأدبي، فيقول أحد
أعضائها: "إن بلاغتنا تصدر عن نظرية الأدب باعتبارها (أن البلاغة) تهتم
بما أسميناه، الوظيفة الشعرية للغة onction poétique du langage[53]. وهذه
الوظيفة الشعرية هي التي تتمثل في الفرق بين الكلام العادي والكلام
الأدبي، فمناط الشعرية إذن هو ذلك الفرق". فالنص الأدبي الحامل للشعرية
يتميز عن النص العادي بهذا الفرق. وتوضيحا لهذه المعضلة يقول أحد النقاد
المعاصرين وهو بيير كوينتز Pierre Kuentz: "الفرق بين النص وما ليس نصا(…)
وبين اللغة الشعرية واللغة العادية معطى أساسي. ينبغي اعتبار النص كفرق
(وينبغي موقعته) داخل الفرق نفسه"[54]. هذا هو التصور المعاصر للبلاغة،
ولقد عمدنا إلى رصده عبر عمل مجموعة مو البلجيكية، وهي جماعة رائدة في
مجال التجديد البلاغي وإغنائه بمكتسبات العلوم اللسانية.
ولقد
لاحظنا أن حازما يتفق مع التصور العام للبلاغة عند هذه الجماعة، وهو
التصور القائم على ضرورة تقريب البلاغة من علوم اللسان لاستثمار مناهجه
وأدواته التحليلية في الحقل البلاغي. وإذا كانت جماعة البلاغيين الجدد
تقيم أسس بلاغتها الجديدة على نظرية في المعنى وغير ذلك مما سبقت الإشارة
إليه؛ فإن حازما قد أدخل في صلب علم البلاغة عنده نظرية المعنى ونظرية
الأسلوب، وأشار إلى ضرورة أخذ النواحي الاجتماعية والتأثيرية النفسية بعين
الاعتبار عند القيام بتحليل بلاغي نقدي. وعلى كل فإن حازما قد دعا إلى
إقامة علم للبلاغة يضم الجوانب التي أشارت إليها جماعة مو Mu في حدود ما
كان متأتيا في عصره، فهو لم يقف عند مستوى الدعوة المجردة، بل اقتحم
الغمار وصاغ نموذجا فذا في النظرية البلاغية تتكامل جوانبه طيلة أقسام أو
موضوعات كتابه المنهاج.
2 ـ ومن ملامح الشبه بين مشروع حازم البلاغي والتصور البلاغي الحديث، تلك
إن علم البلاغة عند حازم يعني علوم النقد مجتمعة، فعلم البلاغة هو كل ما يلزم معرفته لإتقان صناعة الشعر وحذقهبلاغة الخطاب عند حازم
[1].
ومن ثم فإن علم البلاغة في تصوره علم شامل، في حين أنه يقابله عند النقاد
والبلاغيين العرب علم البلاغة الجزئي في مفهومه المدرسي، والمتمثل في
ثلاثية السكاكي المشهورة: البيان والمعاني والبديع.
وإذا كان علم
البلاغة التقليدي في مفهومه الكلاسيكي المدرسي الصرف، يرتبط بمفهوم الصواب
كهدف يضعه نصب عينيه[2]، والمقصود هنا الصواب الأدبي أي ما يحسن أن يقال،
قلت إذا كان علم البلاغة يحكمه هذا التوجه المعياري فإن علم البلاغة عند
حازم يتجاوز هذا الإطار الأخلاقي ذا الأبعاد المعيارية، وهو إطار يحاصر
فيه رجل البلاغة التقليدي نفسه بإعداد وصفات جاهزة لتحسين الكلام وتنسيقه،
ليعانق مفهوما أكثر شمولية وانفتاحا من جهة، وتشعبا وعمقا نظريا من جهة
أخرى.
فالبلاغة عند حازم، من هذا المنظور تهتم بدراسة مهمة العمل
الأدبي ثقافيا واجتماعيا، وتنكب على دراسة هذا العمل، ودراسة الأدوات
التعبيرية التي يتم توظيفها لبناء الماهية ولتحقيق المهمة.
ودراسة
وسائل التعبير هذه لا تتم بعيدا عن الجانبين السابقين (دراسة المهمة
والماهية)، بل تراعيهما، وتعتد بالنتائج المتوصل إليها في حقليهما. وهذا
الربط الجدلي بين جوانب العملية الأدبية يؤكد على مدى تحدد بعضها انطلاقا
من علاقته بالآخر. ونحن في موضوع بلاغة الخطاب الأدبي، من البديهي أن ينصب
اهتمامنا في الأساس على الأداة دون الماهية أو المهمة. غير أن الترابط
الجدلي الحميم المومأ إليه آنفا، يجعل تحديد هذه الأداة عسيرا عندما
نفصلها عن الماهية والمهمة.
انطلاقا من هذا الاعتبار، واستجلاء
لحقيقة الأداة، في علاقتها بالمهمة والماهية، نشير بإيجاز إلى طبيعة تصور
حازم حول هذه المهمة والماهية، في سبيل البلوغ إلى فهم واضح وموضوعي
للأداة في الإطار الجدلي السابق. وباختزال آراء حازم في هذه الموضوعات
الثلاثة يمكن عرض ما هو جوهري منها على الشكل الآتي:
إن ماهية
العمل الأدبي هي ماهية خفية، ولا يحس بها إلا من يكابد ويعاني عناصر
الإبداع، فالماهية هنا تتحقق على مستوى ذات المبدع متى توفر له طبع سوي
وكانت قوى طبعه العشرة كما يحددها حازم مسعفة له في قول الشعر. فمن حاز
هذه الشروط، فهو الشاعر المبرز، ومن فقدها، وهي حوافز الإبداع الطبيعية،
فمن المحال أن تتحقق في نظمه وإنتاجه الفني عامة، ماهية العمل الأدبي أي
الأدب وأساسه الخفي ومغزاه اللطيف. أما مهمة العمل الأدبي، فهي تكمن في
تأثيره في المتلقي، وحازم يركز كثيرا على هذه الوظيفة التأثيرية القائمة
على غرز قيمة في المتلقي، أو إقناعه بقضية أو حمله على اتخاذ موقف الخ.
المهمة توجيهية بالأساس، وتتأسس على مفهومي التعليم والتلقين المرتبطين
بثنائية الأمر والنهي. وموضوع التأثير عند حازم هو الفرد طورا، والمجتمع
طورا آخرا، ويعكس تأرجح حازم بين هذين الحدين: الفرد والمجتمع، الطابع
الإصلاحي لفكره الأدبي المتأثر لا محالة بالنزعة الفقهية والأصولية
الدينية.
أما موضوع الأداة، فهو اللغة بوصفها حروفا تركب كلمات
وكلمات تخلق سياقا، واللغة هي معضلة الأديب الكبرى وفي إطارها يعمل، وعليه
أن يصوغها أشكالا ومضامين، موظفا في ذلك علوم اللسان الجزئية من نحو
وتركيب ودلالة ومعجم، صياغة تضفي عليها الأدبية La littérarité متى صادفت
طبعا أصيلا لدى الأديب / الشاعر –عند حازم- وقدرة طبيعية في الإبداع.
هكذا
يتضح لنا مدى اتساع وشمولية البلاغة عند حازم، وأمام الاتساع والتشعب
الناشئين عن احتواء علم البلاغة لكثير من العلوم اللغوية والمقارنات
الأدبية – ومخافة التيه في هذا الخضم من الموضوعات غير المتجانسة من جهة،
وبغية تحديد مجال دراسي واضح الأبعاد والمساحة من جهة أخرى، ارتأيت أن
أستخلص عناصر النظرة الحازمية لمفهوم بلاغة الخطاب الأدبي لا بمفهومها
المدرسي السكاكي، الذي تتفصل فيه الخانات المعروفة –البيان والمعاني
والبديع- وإنما بمحاولة دمج هذه المباحث لتشكل ما يمكن تسميته: بلاغة
علاقة اللفظ بالمعنى. ذلك أنني أشجب بعده ذلك الفصل التعسفي الذي يدرس
بلاغة اللفظ في عزلة عن المعنى. هذا من جهة الاختيار الذاتي الذي أتيناه
في هذه الدراسة. أما من جهة الضرورة الموضوعية التي تفسر هذا الموقف أو ما
يشاكله، فإنها ضرورة واضحة تتمثل في استحالة دراسة مباحث اللفظ والمعنى
على الطريق التقليدية، عند حازم، نظرا لعوائق موضوعية ملموسة سرعان ما تقف
عائقا في وجه المقاربة التقليدية لمفهوم البلاغة عنده، وتتمثل العوائق
الموضوعية والمنهجية في:
أ ـ إن مبحث اللفظ قسم يرجح أنه ضاع من
كتاب[3]، ومن ثم تفتقد المقاربة التقليدية، سندا من كلام حازم لدراسة مبحث
اللفظ عنده. هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى فقد استقل مبحث اللفظ أو
الدليل في الدراسات اللغوية اليوم بمجال خاص هو علم الدليل[4] أو نظرية
الدليل.
ب ـ إن قسم المعاني من كتاب حازم، وإن كان جله ماثلا بين
أيدينا، لا يمكن الاعتماد عليه لاستخلاص نظرة حازم في موضوع المعاني من
المنظور البلاغي الذي نتوخاه من دراستنا، ذلك أن حازما لا يدرس قضايا
المعنى في هذا القسم من كتابه بأسلوب البلاغيين ولا حتى النقاد، وإنما
تحتوي دراسته للمعاني على تعرض للمشكلات الفلسفية الكبرى التي يثيرها
موضوع المعنى من حيث علاقة المعنى بالشخص وكيفية تكونه في الذهن، ودور
الإحساس في خلق المعنى وغير ذلك من المباحث التي نقتنع مبدئيا أنها تخرج
عن طوق البلاغة والنقد، وتلتقي بمجالات الفلسفة والتحليل النفسي وسوف
ندرسها في القسم الثاني من هذه الرسالة.
ج ـ إن مبحث الأسلوب بدوره
ليس خاصا بالأسلوب وحده، بل إنه ينطوي على موضوعات غير متجانسة. ففيه ما
يتعلق بأنماط الأساليب الأدبية وما يتصل بفلسفة الأسلوب، ويتخلل ذلك مباحث
عروضية وأخرى تدرس شكل القصيدة وخصائص تركيبتها الفنية، وهي كلها موضوعات
تطغى عليها صفة التداخل والتشابه مما يولد إحساسا بالارتباك عند مقاربتها،
إذ لا يكاد الدارس يتبين أنه واقف فوق أرضية نقدية أدبية أم على أرضية
فلسفية، ومرجع ذلك الإحساس الإطار المنطقي والروح الفلسفية التي تكاد تلف
سائر هذه المباحث.
وأمام العوائق الموضوعية والمنهجية السالفة،
والتي لا تسعف في تقديم دراسة المفاهيم البلاغية عند حازم من خلال المباحث
السابقة ارتأيت البحث عن ضالتي –الأساس البلاغي في النقد الأدبي عند حازم-
من طريق آخر التجأت إليه بمحض اختيار شخصي، يقوم هذا الاختيار على ترصد
هذا الأساس البلاغي في عمل حازم، من خلال دراسة مباحث بلاغية، يلتقي فيها
اللفظ والمعنى في علاقة جمالية بلاغية تدل على بلاغة اللفظ في تضافرها مع
بلاغة المعنى في الخطاب الأدبي. وقد حفزني على اتخاذ هذا الموقف عدم
اقتناعي مبدئيا بإمكان دراسة بلاغة اللفظ منعزلة عن المعنى، ولا دراسة
بلاغة المعنى بمعزل عن اللفظ. ذلك أن مثل هذه الدراسة الأحادية لبلاغة أحد
العنصرين، في غياب الآخر، شيء تأباه طبيعة الأدب. فالأدب لا يشكله اللفظ
لوحده ولا المعنى بمفرده، وإنما اللفظ والمعنى في المجال الأدبي وجهان
لعملية واحدة. وكل محاولة لدراسة الأدب لا تأخذ بعين الاعتبار ثنائية
اللفظ والمعنى في إطار تلاحم العنصرين وتضامنهما لن تفي بمضمون الأدب
ومغزاه.
وعندي أن التخصص الحديث والنزوع إلى التصنيف وتحديد أنواع
العلم والمعارف، أفاد الدراسات الأدبية في هذه الجهة، وإذ صار النقد يدرس
النص الأدبي بلفظه ومعناه واستقلت دراسة اللفظ بشعبه عن البحث اللساني[5]
وانفردت مباحث المعنى والدلالة بشعبة أخرى[6].
وهكذا فالعلاقة بين
اللفظ والمعنى فيما أرى تحل الإشكال النظري القائم على مستوى نظرية الأدب،
هذا المشكل الذي ولد ردود فعل منها من زعم أن الأدب لفظ وشكل ومن زعم أن
الأدب معنى ومغزى، واعتبر فريق ثالث الأدب حصيلة اجتماع العنصرين معا
(اللفظ والمعنى – الشكل والمضمون) في إطار من العلاقات.
وعندي أن الاختيار الأخير أصوب وأسلم، وبناء عليه أطور منهجي في دراسة الأساس البلاغي في النقد الأدبي عند حازم.
II – الغاية من دراسة علم البلاغة عند حازم
كان حازم مدفوعا إلى دراسة علم البلاغة وتوظيفه في مجال النقد بعوامل شتى أهمها:
أ ـ وضع مزر للشعر يحتاج إلى تصحيح ومعالجة
ب ـ فما هو موقف حازم إزاء هذا الوضع؟
هذا ما سنتبينه من خلال أقوال حازم التالية والتي تصور أزمة الشعر والشاعر في ذلك العهد:
1
ـ يقول حازم بصدد الوضع الشعري العام في عصره، ويبرر توجهه الإصلاحي في
ممارسته النقدية: "وإنما احتجت إلى هذا (العلم) لأن الطباع منذ اختلت
والأفكار منذ قصرت، والعناية بهذه الصناعة منذ قلت، وتحسين كل من المدعين
صناعة الشعر ظنه بطبعه وظنه أنه لا يحتاج في الشعر إلى أكثر من الطبع
وبنيته على أن كل كلام مقفى وموزون شعر، جهالة منه أن الطباع قد داخلها من
الاختلال والفساد أضعاف ما تداخل الألسنة من اللحن، فهي تستجيد الغث
وتستغث الجيد من الكلام، ما لم تقمع بردها إلى اعتبار الكلام بالقوانين
البلاغية فيعلم بذلك ما يحسن وما لا يحسن"[7]. فهنا يشير حازم إلى رداءة
وضع الشعر في عصره. وأرجع أسباب ذلك إلى اختلال مفهوم الشعر لدى الشعراء،
وظهور مفهوم مغلوط لعلم البلاغة، والأدهى من ذلك، ظهور طائفة من المدعين
للشعر، ولا حظ لهم من صناعته.
2 ـ ويشير حازم إلى أن الشعر في
زمانه صار مصدر نقص وسفاهة بدل أن يكون مصدر جمال وحكمة. وقال: "أما
الاستعداد الذي يكون بأن يعتقد فضل قول الشاعر وصدعه بالحكمة فيما يقوله:
فإنه معدوم بالجملة في هذا الزمان، بل كثير من أنذال العالم –وما أكثرهم-
يعتقد أن الشعر نقص وسفاهة"[8]. وهكذا يسم حازم شعراء زمانه بالأنذال لأن
الشعر فقد على ألسنهم وظيفته الاجتماعية والأدبية الحقة، وتحول إلى كلام
ممجوج، ونظم ينبو عنه السمع.
3 ـ ويرد حازم على من اعتبر العطب
واقعا في الشعر لا في الشعراء، وبين (حازم) أن الضعف من الشاعر أساسا
فيقول: "وإنما هان الشعر على الناس، هذا الهون لعجمة في ألسنتهم واختلال
طباعهم، فغابت عنهم أسرار الكلام وبدائعه المحركة جملة، فصرفوا النقص إلى
الصناعة والنقص بالحقيقة راجع إليهم وموجود فيهم"[9].
4 ـ ويؤاخذ
الشعراء بإغراقهم في المديح أو ما يسميه حازم شعر الاسترفاد. وأشار أيضا
إلى اختلاط الأمر على الناس، فلم يعودوا يميزون بين الشاعر المجيد والآخر
المسف الذي يجعل شعره وسيلة استرفاد فيقول: "ولكثرة القائلين المغالطين في
دعوى النظم، وقلة العارفين بصحة دعواهم من بطلانها، لم يفرق الناس بين
المسيء المسف إلى الاسترفاد بما يحدثه، وبين المحسن المتوقع عن الاسترفاد
بالشعر، فجعلوا قيمتهما متساوية، بل ربما نسبوا إلى المسيء إحسان المحسن
وإلى المحسن إساءة المسيء"[10]. وهكذا تنقلب المقاييس وتختلط في ذهن
الناس، فينظر إلى المسيء على أنه محسن وإلى المحسن على أنه مسيء.
5
ـ أمام انقلاب المقاييس واختلاطها نجد طائفة من الشعراء المحسنين تشفق على
نفسها من أن تقول شعرا في مثل هذه الظروف التي لن تلقى فيها ما تستحقه من
تقدير، ولهذا السبب أعرضت هذه الطائفة عن قول الشعر. يقول حازم في أصحاب
هذا الفريق: "فصارت نفوس العارفين بهذه الصنعة بعض المعرفة أيضا تستقذر
التحلي بهذه الصناعة إذ نجسها أولئك الأخساء واشتبه على الناس أمرهم وأمر
أضدادهم، فأجروهم مجرى واحدا من الاستهانة بهم، فالمعرفة لا شك منسحبة على
الرفيع في هذه الصنعة بسبب الوضيع، فلذلك هجرها الناس وحقها أن تهجر"[11].
إذن فالرأي العام لا يفرق في الحكم على الشعراء بين الوضيع والمحسن. بل
يسلبهم جميعا الحسن في القول لأنهم ليسوا أهلا لتعاطي الصناعة القولية.
وقد أدى وقوف الناس من الشعر هذا الموقف إلى أعراض العارفين بالشعر عن
النظم خوفا من أن يعد إحسانهم إسفافا.
6 ـ يعقد حازم مقارنة بين
وضع الشعر في زمانه وعهود الشعر العربي الزاهرة. فأكد على الفروق النوعية
التي طبعت المرحلتين، سواء على مستوى مفهوم الشعر أو منزلة الشاعر في
المجتمع أم على مستوى أهمية المعرفة المتأتية من المصدر الشعري، فيقول:
"وكان القدماء من تعظيم صناعة الشعر واعتقادهم فيها، ضد ما أعتقده هؤلاء
الزعانفة، على حال قد نبه عليها ابن سينا فقال: "كان الشاعر في القديم
ينزل منزلة النبي فيعتقد قوله ويصدق حكمه ويؤمن بكهانته". فانظر إلى تفاوت
ما بين الحالين حال كان ينزل فيها منزلة أشرف العالم وأفضلهم، وحال صار
ينزل فيها منزلة أخس العالم وأنقصهم"([12]). وهكذا فالشعر قديما كان مصدر
معرفة موثوقة والشاعر بمثابة النبي المرشد الذي يتبع في أقواله وأحكامه…
أما في عهد حازم، فقد تحول الشعر إلى مصدر نكاية لصاحبه، وعلامة على نقصه
وسفاهته. ولعل اختلاف الحالة الشعرية في المرحلتين، يظهر جليا في اختلاف
منزلة الشاعر فيها.
7 ـ لقد عاتب حازم شعراء زمانه على عدم فهمهم
"للشعرية"، التي هي أساس الشعر، وبتحققها يتحقق مغزاه العميق، ويأخذ عليهم
ظنهم "أن الشعرية في الشعر هي نظم أي لفظ اتفق نظمه، وتضمينه أي غرض كيف
اتفق، على أي صفة اتفق، لا يعتبر عنده في ذلك قانون ولا رسم موضوع. وإنما
المعتبر عنده إجراء الكلام على الوزن والنفاذ به إلى قافية، فلا يزيد بما
يصنعه من ذلك على أن يبدي عن عواره، ويعرب عن قبح مذاهبه في الكلام وسوء
اختياره"[13]. إن ورود مصطلح الشعرية في كلام حازم يستوقفنا، حتى نتبين
معناه عنده خاصة وأن نقاشا نقديا حامي الوطيس قد دار وما زال يدور حول هذا
المصطلح الذي اكتسى في العصر الحديث بعدا نقديا واضحا صار يمثل الوريث
الشرعي لسائر التطورات النقدية المتراكمة في تاريخ النقد الطويل كما أنه
يطمح إلى تجاوزها أيضا في سبيل طرح جدول جديد لمفهوم النقد الأدبي. إن
الشعرية في العصر الحديث صارت علامة على وثبة حاسمة أنجزها النقد في سياق
التحولات التي اعترته في مرحلته الانتقالية الراهنة[14].
وعرفت
الكلمة في اللغات الغربية باستعمالاتها المتنوعة، وترجماتها المختلفة،
وأهم ترجمة وقع عليها الإجماع لدى الدارسين كلهم تقريبا مصطلح
Poétique[15] وإن كان البعض يترجمها بمصطلح Littérarité[16] أي ما يرادف:
"الأدبية". هذا عن بعض الاستعمالات المعاصرة للشعرية في ساحة الدراسات
النقدية، أما تطور مفهومها عبر التاريخ القديم فشيء يضيق عنه المجال في
هذا المكان[17].
في ذروة الصخب النقدي القائم حول مصطلح الشعرية،
ودلالاتها المتعددة، ووظائفها المتنوعة، يمكن أن نقول: إن هذا المصطلح
الذي أثار الضجة النقدية الحديثة بين نقاد العالم وأدبائه، كان للنقد
العربي القديم دور بارز في إثارة الاهتمام النقدي نحو هذا المفهوم خاصة مع
صاحبنا حازم القرطاجني، قبل مئات السنين، التي تفصله عن العصر الحديث.
ولعل أصالة الطرح النقدي لمفهوم الشعرية تتمثل فيما سبق ذكره، من أن غياب
الشعرية يرتبط بتردي الشروط الموضوعية للواقع الشعري والأدبي بل والحضاري
عامة في زمانه. فالشعرية ليست عنده -كما مر بنا في قولته السابقة– اقتدار
على نظم الكلام في قوالب من الوزن والقافية، كما قر في أوهام زعانفة
زمانه، وإنما الشعرية هي التي تحقق للأدب والشعر خاصة ماهيته، وتجعله
يستحق هذا الاسم. فالشعرية بهذا المعنى الذي يقرره حازم هي المعرفة
بقوانين صناعة البلاغة التي هي أساس صناعة الشعر على ما يتبين من أقواله
السابقة.
8 ـ لم يعتبر حازم الشعر سليقة لدى الشاعر العربي شأن بعض
النقاد، وإنما أعطى ضرورة التعلم والدراسة لإتقان صناعة الشعر فيقول:
"وأنت لا تجد شاعرا مجيدا منهم (القدماء) إلا وقد لزم شاعرا آخر المدة
الطويلة، وتعلم منه قوانين النظم، واستفاد عنه الدراسة في أنحاء التصاريف
البلاغية"[18]. ويطمح حازم من خلال هذا الكلام إلى لفت النظر إلى عيب من
عيوب الشعراء في عصره، وهو قلة مصاحبتهم للشعراء المجيدين وعدم تعاطيهم
الشعر عن طريق الدراسة وطول الملازمة والرواية – ويؤكد أيضا أن نهج
القدماء في تعلم الشعر لم يشذ عن ذلك. ويستنتج حازم مما سبق، أنه إذا كانت
حال الشعراء القدامى على ما ذكر من التعلم والدراسة والرواية، -وهم أقرب
عهدا بالسليقة والفصاحة منا- فإن شعراء هذا الزمان (عصر حازم) أحوج[19]
إلى ملازمة فطاحل الشعراء، وأخذ أصول الصناعة عنهم، ثم ترسم خطاهم على درب
الشعر، ريثما تستوي أداة المبتدئ، وتلين قناته ويسلس له الشعر القياد.
9
ـ يعترف حازم بأن محاولته في التنظير النقدي والبلاغي، لا تعتبر فريدة في
النقد العربي، بل لها محاولات سابقة ورائدة لتحديد قوانين الشعر وما ينبغي
أن يكون عليه. "وقد نقل الرواة من ذلك الشيء الكثير لكنه مفرق في الكتب لو
تتبعه متتبع متمكن من الكتب الواقع فيها ذلك، لاستخرج منه علما كثيرا
موافقا للقوانين التي وضعها البلغاء في هذه الصناعة"[20]. فقد لاحظ حازم
أن عمل الرواة كان منصبا على جمع الشعر، وتدوين الآراء التي قيلت فيه من
جهة، ولاحظ من جهة أخرى أن ما جمعه الرواة شكل مصدرا أساسيا للبلاغيين
الذين جاءوا بعد، ووضحوا قوانين الصناعة البلاغية وأصلوا قواعد الشعر
أيضا. ولا يستبعد أن يكون حازم قد استفاد من حصاد هؤلاء وأولئك في وضع
أصول الصناعة البلاغية، والتنظير للعملية الشعرية.
10 ـ يؤكد حازم
أنه لم يقصد من لهجته العاتبة، التوبيخ أو التقريع اللاذع لشعراء زمانه،
وإنما قصد الإصلاح ما استطاع، يقول: "وإنما احتجت إلى الفرق بين المواد
المستحسنة في الشعر والمستقبحة، وترديد القول وإيضاح الجهات التي تقبح،
وإلى ذكر غلط أكثر الناس في هذه الصناعة، لأرشد من لعل كلامي يحل منه محل
القبول من الناظرين في هذه الصناعة، إلى اقتباس القوانين الصحيحة في هذه
الصناعة وأزع كل ذي حجر عما يتعب به فكره ويصم شعره"[21]). فحازم يقرر
غاية دراسة علم البلاغة، وتحديد أصول العملية الشعرية في وضوح كبير، وهي
غاية الإرشاد، وتصحيح نظرة الشعراء المريضة في زمانه. وعلى كل، فإنني أرى
أن لهجة حازم الإصلاحية لا تحمل أي دلالة على التعالي على شعراء عصره، ولا
ترميهم بالعقم الفني كما قد يتبادر إلى الذهن. كما أنه لم يتوخ غير تمييز
الخبيث من الطيب حتى يكون الشعراء على بينة من أمرهم، وموقفه هذا في جوهره
موقف فقيه مصلح إزاء نازلة أدبية.
III – بلاغة حازم في الميزان
نلقي
الأضواء على آراء النقاد في حازم وهي على قلتها بالقياس إلى ما قيل في
النقاد غيره، تعطينا صورة على الجهود المبذولة والضئيلة التي حاولت إخراج
هذا الناقد من الخفاء، وفيما يأتي عرض موجز لهذه الآراء:
1 ـ لعل
صاحب الفضل في إخراج عمل حازم النقدي والبلاغي إلى النور هو الدكتور محمد
الحبيب بن الخوجة، محقق المنهاج. وقد اتسم موقفه بالتنويه بالشخصية
وبالكتاب. فاعتبر حازما ناقدا ملما بالتراث العربي، محيطا بشذرات من النقد
اليوناني، مما جعل عمله النقدي آية في النظر النقدي السديد[22]).
2
ـ يذهب الدكتور أمجد الطرابلسي إلى اعتبار حازم القرطاجني أول النقاد
المغاربة الذين لقحوا الدرس البلاغي بالمعطى اليوناني في النقد والبلاغة
تلقيحا ينم عن فهم ووعي يستحقان التقدير والإعجاب[23].
3 ـ لا يشذ
الأستاذ علال الغازي محقق المنزع في هذا الرأي الذي خرج به الدكتور
الطرابلسي، ويؤكد المحقق أن حازما هو رائد الاتجاه اليوناني في النقد
المغربي، ويعتبره صاحب الفضل في إدخال نظريات أرسطو البلاغية في مضمار
النقد المغربي[24].
4 ـ أما الدكتور إحسان عباس فله رأيان حول
حازم، الأول يتعلق بجانب النقد عنده، والثاني بجانب الأثر اليوناني في
عمله النقدي والبلاغي.
أ ـ فهو ينوه بشمولية النقد عنده، وهي ميزة جعلته ينفرد عمن جاء قبله من النقاد على حد تعبيره[25].
ب
ـ ويؤكد هذا الدارس في مكان آخر على الأثر اليوناني لدى حازم في كتابه:
المنهاج مشيرا إلى ارتباطه بالنظرة اليونانية في تصوراته بشكل أو بآخر[26]
دون أن يخضع لتلك النظرة بحذافرها.
5 ـ تعرض الدكتور محمد رضوان
الداية إلى كتاب حازم، وعرض لمختلف موضوعاته في إيجاز شديد، واعتبره في
النهاية أول كتاب عربي متكامل في النقد الأدبي وهو يتجاوز به مرحلة أعلى
منه[27].
6 ـ من الغريب أن يتصدى الأستاذ عثمان الكعاك، محقق ديوان
حازم، إلى تحقيق شعر هذا الناقد، دون التنويه بمكانته الشعرية أو النقدية.
فإننا نجده في مقدمته المقتضبة التي أحاط فيها بجوانب من حياة وأعمال حازم
الشعرية والبلاغية لا يكاد يعبر عن موقف واضح وإزاء حازم: فقصارى ما عمله
يتلخص في سرد آراء القدماء خصوصا من الذين نوهوا بمنزلة حازم النقدية
والشعرية. فربما كان لسان حال الدارس (عثمان الكعاك) يقول: يكفي للتنويه
بمنزلة حازم في مجالي الشعر والبلاغة ما قاله القدماء عنه[28].
7 ـ
تطرق الدكتور عبد الرحمان بدوي إلى إثارة علاقة حازم بالأثر اليوناني في
بلاغته ونقده، وأكد الدارس على ذلك الأثر الأرسطي. وعندي أن محاولة الدارس
طريفة ومحدودة الأفق في الآن نفسه.
أ ـ تؤول طرافتها إلى أنها أثارت الاهتمام النقدي إلى قضية الأثر اليوناني عند حازم، وموطن ظهوره في نظرياته البلاغية.
ب
ـ وهي محدودة الأفق لأنها لا تتعدى سطرين من نهاية الصفحة وصفحتان ونصف،
من مقال ذيله الدارس بمقتطفات طويلة من عمل حازم في المنهاج، فعنوان
المقال يوهمنا بأن الدارس يحيط بجوانب الأثر اليوناني في كتاب المنهاج،
غير أننا لا نلبث أن نقف على هزال المادة المتضمنة في الصفحات المخصصة
لدراسة هذا الأثر، وأهم ما في سطور المقال ما يفرق فيه الدارس بين مفهوم
الشعر والخطابة عند حازم. أما القضايا الأخرى من التقسيم اليوناني للشعر
وإضافة حازم إليه أشياء أخرى، وتعليقه على آراء أرسطو وتأثيره بالفلاسفة
العرب… فهي أشياء يلمح إليها الدارس تلميحا خفيفا كما لو أنه لم يكن معنيا
بها في مقال يشير عنوانه إلى دراستها وتفصيل القول فيها[29].
8 ـ
لا يكاد يخفي الدكتور محمد شكري عياد تقريظه لكتاب المنهاج بل إنه يعتبره
قمة من قمم النقد الأدبي في اللغة العربية، ونوه الدارس بهضم صاحب المنهاج
لثمار النقد العربي قبله، فظهر ذلك واضحا في تمثله آراء الأسلاف وفي
مناقشتها وشرحها وبسط وجوه الخلاف بينها وبينه في قوة بيان واقتدار
حقه[30].
ويعتبر الدارس جهد حازم في النقد آخر الجهود النقدية التي
رفعت النقد العربي إلى مستوى اللقاء المثمر بين التيارين العربي واليوناني
في النقد[31].
9 ـ ويذهب الدكتور بدوي طبانة إلى أن حازما كان في
منهاجه بالغ التأثير بحكمة اليونان وفلسفتهم ومنطقهم، بحيث عكس هذا الأثر
النقدي المنهاج بوضوح التأثير اليوناني في الثقافة العربية أكثر من كتابات
غير حازم من المشارقة والمغاربة ممن عرفوا الأدب وأصلوا قواعده[32].
10
ـ ينوه الدكتور جابر عصفور بتكامل المفهوم النقدي عند حازم، ويعتبره
التركيب لمختلف المحاولات النقدية السابقة، في إطار نظرة شمولية تستوعب
سائر المعطيات النقدية الموروثة، ولا تبقي سوى على إيجابياتها ساعية إلى
تجاوز سلبياتها في سبيل خلق مفهوم نقدي متكامل، يتسم بالتماسك القوي،
والثراء والتنوع على مستوى المفاهيم أو الأدوات الإجرائية في الوقت
نفسه[33].
وفي نهاية هذا العرض، أود أن أدلي برأي حول حازم ومكانته
كدارس نقدي بلاغي، وهو رأي أعتبر فيه الجانب البلاغي عند حازم دون سائر
الجوانب الأخرى.
إن حازما كان النموذج الفذ في تاريخ البلاغة العربية، وذلك لجملة أسباب أوجزها فيما يلي:
أ ـ استيعابه للموروث البلاغي عند العرب، وهضمه لهذا التراث.
ب ـ استفادته من التراث الأرسطي وتجاوزه له.
ج ـ تقديم دراسة عن مفهوم البلاغة ومباحثها، تنم عن أصالة في أسلوب التناول والتنظير.
أما
كتاب عصام قصبحي فهو لم يتناول حازما بجميع جوانبه النقدية والبلاغية
وإنما نفى عنه الإبداع في قوله بالمحاكاة، وحاول في كل لحظة في حديثه عن
حازم أن يجعله لاحقا في آرائه وتخريجاته لأرسطو أو الفلاسفة العرب خاصة
منهم ابن سينا[34]:
وخلاصة القول أن قصبحي لم يعتد بفهم حازم
المحاكاة بأنها تشبيه، وجعله عالة في آرائه في هذا الموضوع على غيره، ثم
انتقل إلى الجانب التطبيقي، فأبرز مدى الهوة الفاصلة بين النظرية والتطبيق
عند حازم.
IV – فلسفة البلاغة عند حازم بين الماضي والحاضر
إن
الشائع في التصور العربي لمفهوم البلاغة، أنه يقرنها ببعد معياري واضح جدا
يتمثل في الوصول إلى التعبير بصيغة جميلة ورفيعة. وهذا البعد المعياري
الواضح، يظهر أيضا على مستوى التعريف اللغوي لمصطلح –البلاغة- فهي لغة
تنطوي على دلالة الوصول والانتهاء كما هو مقرر في كل الكتب البلاغية التي
تعرضت لمدلول اللفظ "بلاغة"، من زاوية الوضع اللغوي. ويمكن رصد البعد
المعياري المشار إليه آنفا في البلاغة العربية، في مظهرين:
الأول:
ويتمثل في كون عمل البليغ يتلخص أساسا في إرشاد الأديب، ورسم السبيل
القويم لأجل الرقي بتعبيره الأدبي إلى مستوى من الفصاحة والبيان والسمو
الفني، الذي تطمح إليه البلاغة على مستوى النص الأدبي.
الثاني:
يختص بثنائية الأمر والنهي، التي تشكل البنية العميقة للتفكير البلاغي
العربي، إذ يستبد هذان المفهومان بالمجال البلاغي عند العرب، ويظهران على
مستوى الممارسة البلاغية في تقعيد قواعد، ووضع قوانين، ينبغي تطبيقها
واحترامها أثناء الكتابة الأدبية، وتتخذ هذه القوانين صيغة "اعمل كذا" من
جهة، و"لا تعمل كذا" من جهة أخرى. والجانب الأول يشكل خانة الأمر، في حين
أن الجانب الثاني يشكل خانة النهي، وكلا الجانبين يمثل الاتجاه المعياري
المسيطر على التصور العربي لمفهوم أو موضوع البلاغة[35].
وهذه
المعيارية في المجال البلاغي، لا تخلو من شكل السيطرة والعنف الذي تمارسه
علوم البلاغة على الأديب. ويكمن مرجع هذا البعد المعياري في البلاغة
العربية، في ارتباط التصور البلاغي العربي بالتصور الديني الأخلاقي عند
العرب. فالبلاغة قد نشأت في ركاب الدراسات الدينية وتمت مساوقة للبحوث
القرآنية التي كانت ربيبتها من حيث الاهتمام بالنص القرآني. وإذا اعتبرنا
كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة نواة للدراسات البلاغية، فإنه يتوجب علينا
التسليم مبدئيا بأن الدرس البلاغي والبحث البياني ظهر في كنف البحوث
اللغوية ذات التوجه الديني الواضح جدا.
واستمرت البلاغة العربية
تستمد مقومات وجودها وتطورها من معين الدين إلى غاية القرنين الثالث
والرابع الهجريين حيث انشطر البحث البلاغي إلى شقين:
ـ شق اعتمد
أصحابه التصور الديني الذي كانت ترفدهم به الدراسات القرآنية والبحوث
الإعجازية التي شهدت نهضة واسعة طوال الفترة المومأ إليها آنفا، ومن ممثلي
هذا الاتجاه أو التيار المحافظ على الأصول في ميدان البلاغة رائدا النقد
المنهجي في الثقافة العربية: وهما: الآمدي (ت 371هـ) والقاضي الجرجاني (ت
392هـ).
ـ شق تأثر في بحوثه البلاغية بمظاهر النزعة العقلانية التي
فشت في الثقافة العربية في تلك الآونة. ولقد تصاعد هذا النزوع العقلاني في
الفكر البلاغي، على إثر اطلاع النقاد العرب على آثار الفكر الهليني
القديم، هذا الفكر الذي طبع المعرفة العربية لدى جماعة من المثقفين بطابع
عقلي واضح، تمثل في الميل إلى اصطناع الجدل والمملكات الكلامية، وسوق
البراهين والحجج العقلية لتزكية رأي، أو تعضيد موقف، أو تفنيد دعوى..
وإذا
كان الفكر الديني قد اصطلى هذه العقلانية الوافدة على مستوى علم الكلام،
فإن دعوى هذا التصور العقلاني تسربت أيضا إلى البحث البلاغي، وآتت هذه
النزعة أكلها لدى بلاغيين ينتميان إلى القرن الثالث الهجري هما: ابن
المعتز (ت 296هـ) وقدامة بن جعفر (ت 337هـ)، ولقد تمثل لديهما الأثر
العقلي في مظهرين:
ـ كثرة التحديدات ذات الطابع المنطقي.
ـ
الولع بالتفريع والتصنيف بشكل مبالغ فيه، خاصة عند قدامة، في حين أن ابن
المعتزل أقل بكثير من قدامة في هذا الصدد. غير أن علاقة ابن المعتز بأرسطو
مهما قلنا عنها تظل علاقة المبتدئ بالأستاذ البالغ نهاية الشوط. ومظهر
التباعد بينهما مثلا أن أرسطو يعلل ويفسر في حين أن تلميذه ابن المعتز يقف
عند حد التصنيف والوصف[36]. ويصدق ما استنتجه البهبتي آنفا بصدد ابن
المعتز على قدامة نفسه إذ يفصله عن أرسطو ما يفصل الواصف للظواهر عن
المعلن لها.
وما أن نصل إلى القرن الخامس الهجري حتى نجد أمامنا
علما كبيرا من أعلام البلاغة، يفتق منهاجا جديدا في هذا المجال المعرفي،
ويؤسس لنظرة طريفة في الدرس البلاغي على عهده. والعلم المقصود هنا هو عبد
القاهر الجرجاني الذي ستنحو الدراسة البلاغية معه منحى عقليا واضحا في نظر
بعض الدارسين الذين يعتبرون الجرجاني من أصحاب التوفيق بين البيان العربي
واليوناني، ومن رواد الفكر البلاغي العربي الذين لم ينبهروا بالأثر
الإغريقي. ذلك أن عبد القاهر الجرجاني صاحب محاولة رائدة في البلاغة
العربية، وهي محاولة تنظر إلى المعطى العربي واليوناني نظرة فيها كثير من
المرونة، نظرة تطمح إلى التوفيق بين التصور العربي المحافظ، والتصور
الإغريقي المتفتح والعقلاني، المتطور على ما يذهب إليه طه حسين في دراسته
للنظرة البلاغية عند عبد القاهر[37]. غير أننا لا نشاطر الدارس المذكور
هذا الرأي، إيمانا منا بأنه رأي ينبعث عن نزعة قديمة لدى أساتذته
المستشرقين الذين ما إن يقفوا على معلم من معالم أصالة الفكر العربي حتى
تجدهم يبحثون له عن مصدر غير عربي، وغالبا ما يردونه إلى انفتاح الذهن
العربي على تراث الفكر العقلاني لدى الإغريق.
وإذا رفضنا رأي طه
حسين السابق بدعوى أنه يصدر عن النزعة الاستشراقية التي لا تنصف الذهن
العربي ولا تحترم أصالته حتى في ميادين البيان التي كان يصول فيها ويجول،
فإننا نقرر أن عبد القاهر الجرجاني ما جرفه التيار العقلي قط في دراسته
البلاغية، وخير دليل على ذلك كونه فسح حيزا كبيرا للذوق في عمله البلاغي،
واعتمد الحس العربي السليم والفطرة البيانية عند العرب، -إذا جاز التعبير-
لاستكناه مواطن الجمال في النص القرآني والخطاب الشعري[38].
ويرى
بعض الدارسين أن عبد القاهر ما اهتم في نظريته البلاغية باللفظ قط، وإنما
مناط البلاغة النظم أي التركيب بين اللفظ والمعنى[39]، وهو في دعوته إلى
النظم الذي يتساوى فيه طرفا المعادلة: اللفظ والمعنى، إنما يتجاوز نظرية
الجاحظ البيانية التي تعتد باللفظ والصيانة قبل المعنى. ومما يؤكد هذا
الاتجاه اللفظي في البلاغة عند الجاحظ تأكيده على الإعجاز اللفظي البياني
للقرآن الكريم[40]، يقول عنه مفضلا اللفظ على المعنى، مظهرا مزية الأول
على الثاني: و"متى كان اللفظ أيضا كريما في نفسه، متخيرا في جنسه، وكان
سليما من الفضول وبريئا من التعقيد حبب إلى النفوس واتصل بالأذهان، والتحم
بالعقول، وخف على ألسنة الرواة (…) وعظم في الناس خطره، وصار ذلك مادة
للعالم الرئيس ورياضة للمتعلم الريض)[41].
في تقديري أن تحليل موقف
عبد القاهر إزاء موقف الجاحظ يمكننا ولا شك من وضع نظرية عبد القاهر
البلاغية في سياقها التاريخي السياسي والفكري والأدبي، كما أنه يمكننا من
إنزال الجاحظ منزلته الفكرية ذات الأبعاد السياسية أيضا، وفيما يلي تحليل
لكل الموقفين في تاريخ الفكر البلاغي عند العرب.
أما الجاحظ فهو من
أنصار اللفظ، الذين يجعلون مدار الجودة في العمل الأدبي على اللفظ دون
المعنى. ولهذا الموقف النقدي البلاغي ظاهريا دلالة سياسية في العمق[42]
تتمثل في صدوره عن حس عربي أصيل، يقصر البلاغة والبيان على الجنس العربي.
وعندي أن الجاحظ هنا يرتبط بالتصور الديني لمفهوم اللفظ، فاللفظ العربي
معجزة وصياغته في قوالب شكلية معجزة أيضا. وبالتالي فلا أحد بقادر على صوغ
اللفظ والتلاعب به سوى الشعب العربي الذي فطر على هذه الألفاظ، وتوغلت طرق
صياغتها وضروب تأليفها في حسه ووجدانه[43]. وهذا الموقف من الجاحظ وليد
إحساس بامتهان الكرامة العربية المستهدفة من قبل الزحف الشعوبي. فالجاحظ
ممن توقدت فيهم الحمية العربية، فساهم في دحض تخرجات الشعوبيين الباطلة،
ولم يدخر وسعا في التنويه بمكانة العنصر العربي. والجاحظ لا ينفك يؤكد أن
كل شيء للعرب (…) إنما هو بديهة وارتجال[44]. أما إذا سولت لغير العربي
نفسه صياغة الألفاظ العربية فإنه لن يفلح في ذلك مهما عانت نفسه في سبيل
ذلك.
وهكذا فإذا كان الجاحظ ينصب نفسه متحدثا بلسان حال العربية،
والمتعصبين لها، فإن موقف عبد القاهر الذي قرر المساواة بين اللفظ
والمعنى، حري بأن يعتبر رد فعل إزاء تعصب الجاحظ وتحيزه للفظ. ويجوز القول
إن عبد القاهر صاغ نظرية النظم في سبيل نسف نظرة الجاحظ المتعصبة للعنصر
العربي، من جهة، كما صاغها احتجاجا على قصر المزية على اللفظ، إذ يرد
الاعتبار لعنصر المعنى في البلاغة عند عبد القاهر، فصار من المتاح لغير
الجنس العربي أن يتعلم اللغة العربية، وأن يتضلع في بيانها وأدبها، ما
دامت العبرة بائتلاف اللفظ والمعنى، وليس باللفظ وحده.
ويتمثل
التحول الفكري في النظرة البلاغية، عند عبد القاهر الجرجاني في صياغة نظرة
بلاغية تتجذر في أرضية الفكر الشعوري الذي عرفه زمنه. هذا من جهة، أما من
جهة أخرى فإن عبد القاهر لم يؤثر عليه الأسلوب اليوناني، كما أنه لم يرضخ
لعنف الخطاب التقليدي المحافظ للبلاغة العربية، وذلك لمراوحته في دراسته
بين مقومات الذوق العربي والتصورات العقلية التي أصبحت في زمنه وجها جديدا
للفكر البلاغي العربي.
ـ ففي دلائل الإعجاز مثلا، نجد مباحث كثيرة تهتم بالقضايا الإعجازية، وجلها مقاربات حكم فيها الذوق أساسا[45].
ـ
أما أسرار البلاغة فقد استرشد فيه عبد القاهر بمفاهيم العقل، وتصوراته،
ويتضح طغيان العنصر العقلي في تناول القضايا البلاغية في هذا الكتاب
كالمجاز والاستعارة مثلا[46].
وقد يتساءل البعض عن مصدر هذا المعطى
العقلي في البلاغة عند عبد القاهر، فنجيب مقررين أن التصور العقلي للكون
والإنسان واللغة سينضج في دائرة المتكلمين عند علماء المعتزلة الذين كانت
أغلب محاوراتهم الفلسفية والدينية لا تبعد عن الإطار العلمي. ولما كان
الاهتمام بالجدل عند المعتزلة قد شمل نواحي الفكر البلاغي، فقد صار من
الطبيعي أن تزخر البلاغة على عهد عبد القاهر بالامتدادات الأدبية واللغوية
لهذا التصور العقلي.
وما نصل إلى القرن السابع الهجري، حتى نجد
صاحبنا حازما القرطاجني يدفع بالبلاغة العربية إلى الأمام، وذلك بتقديم
تصور جديد لمفهوم البلاغة يختلف بصفة جذرية عن كامل التصورات التي سبقته
في تاريخ الفكر البلاغي عند العرب. وهذا التصور عند حازم القرطاجني محكوم
بنظرة فلسفية عميقة يمكن إبراز أهم ملامحها في الحديث التالي، وينبغي
اعتبار هذا التفسير وجهة نظر شخصية حول المشروع البلاغي عند حازم تسعى إلى
سبر أغواره الفكرية، وإجلاء عمقه النظري، ودلالته الفكرية في تاريخ
البلاغة بصفة عامة. لقد لاحظ حازم ما آلت إليه البلاغة العربية من عقم
فكري، ناشئ عن الاجترار، ففكر في طريق ينقذ بها مجال البلاغة عن التردي
المحقق.
لاحظ حازم أن البلاغة صارت عائقا دون الشعراء والفن
الأصيل، فقد أضحت تكلفهم عنتا ومشقة بدل أن تذلل السبل لهم وتروضها. تأمل
حازم وضع الشعر في عصره خاصة، فألقاه قد بلغ من الانحطاط منزلة كبيرة، ومن
الإسفاف الدرجة العظيمة، على ألسنة شعراء لم ينالوا قسطا من التكوين
البلاغي. لاحظ حازم أن نظرة البلاغة القديمة إلى الشعر كانت جزئية، تنظر
للفظ وحده، وللمعنى بعزلة عن اللفظ، وتفصل دراسة العروض عن مباحث اللفظ
والمعنى. وتلافيا لمثل هذه النظرة التجزيئية دمج حازم هذه المباحث فيما
بينها، فاستقام له منها جميعا علم البلاغة وعدها أساسا لقوانين الصناعة
الشعرية.
نظرا لخلو الساحة النقدية والبلاغية من نموذج التصور الذي
يطمح إليه حازم، عقد هذا الأخير العزم على وضع نظرية جديدة لأصول العملية
الشعرية ضبطا لمعطيات العمل الشعري على كافة مستوياته الشكلية والمضمونية.
ويبدو لي أن معرفة حازم بأصول المنطق قد أسعفته وقربت إليه النموذج النظري
الذي طالما بحث عنه. فأنا أرجح أن يكون حازم الذي يبحث عن تصور نظري شامل،
يستوعب العملية الشعرية بكافة أطرافها، ويحيطها بسياج نظري من المفاهيم
والمصطلحات، قد عثر على هذا النموذج النظري الشامل في علم المنطق، فهو علم
يستجيب لطموحات حازم ونزوعه نحو النظرة الجامعة المانعة.
لقد سعى
حازم إلى الاقتداء بالأسلوب المنطقي في العرض النظري والتحديد التطبيقي،
والتحديد المفهومي والمصطلحي، في إطار وضعه لنظرية شاملة جامعة مانعة
لأصول العملية الشعرية تضاهي في أحكامها ودقتها وطاقتها الشمولية النظرة
المنطقية. كما سعى حازم إلى اقتناء أدوات المنطق واستعارة تصوراته
الفلسفية بغية توظيفها على الصعيد المنهجي، في سبيل إيجاد علم "منطق
للأدب"، ينظم العملية الشعرية خاصة وفق أصول ومقررات سافرة الأبعاد
المنطقية.
هذا المنطق الأدبي، الذي توصل حازم إلى صياغته على هدى
من المنطق الفلسفي، هو علم البلاغة أو علم النقد الأدبي.ويلفتنا لفظ (علم)
الذي قرنه حازم بالبلاغة في إطار مركب إضافي تصير البلاغة بموجبه علما،
تتحقق فيه صفة العملية التي تميزها في نظره عن البلاغة القديمة. فحازم
فيما أرى قد شعر بأن إحاطة البلاغة بسياج منطقي خليق بأن يرقى بالبلاغة
إلى مستوى العلم، وأن يقصيها عن دائرة البحوث اللغوية والنقدية الهجينة
غير المحددة تحديدا منطقيا صارما كما هي الحال بخصوص البلاغة عند حازم.
فالعلم عنده هو الوعي النظري بالصفات الثابتة في موضوع معين محدد الأطراف،
والمختص بمنهجية مرسومة المعالم. والبلاغة عند حازم هي علم لأنها علم لسان
كلي على حد تعبيره، (منشأ على أصول منطقية وآراء فلسفية)[47]. ولو بحثنا
عن المؤثرات الفكرية العامة التي هدت حازما إلى هذا التصور الشمولي لعلم
البلاغة لوجدنا بعضها ماثلا في خصوبة الفكر الفلسفي على عهد حازم في
المدرسة المغربية التي كانت تتخصص في الفلسفة اليونانية التي استغرقت جل
شروحها وتلخيصاتها[48]. وقد استقطب المنطق اليوناني اهتمام مثقفي عصر حازم
بشكل ملحوظ جدا، وكان من الطبيعي أن نلقى أثر ذلك في تصور حازم لموضوع
البلاغة، إذ صيرها علما منطقيا للأدب.
ونلفي هذا الأثر أيضا لدى
ناقد بلاغي عرفته تلك الفترة، هو أبو محمد القاسم السجلماسي الذي كان كما
يقول عنه محقق كتابه: المنزع البديع شخصية ذات عقلية فلسفية ومنطقية
واضحة[49]. ولدى السجلماسي ستظهر النزعة المنطقية الموغلة في التفريع
والاستقصاء الجامع والتحديد المانع، وذلك من خلال مباحث كتابه المنزع وهو
كتاب استفاد من التجربة الفلسفية أيما استفادة غير أن المنزع ظل دون شأن
المنهاج مع ذلك. ففي الوقت الذي كان المنهاج محاولة رائدة للتوفيق بين
المعطى اليوناني والعربي في أفق وضع نظرية متكاملة في النقد الأدبي
والبلاغة، كان كتاب المنزع في منحاه التصنيفي يكرس واقع الجمود والاجترار
الذي كانت تعرفه البلاغة قبل منهاج حازم. ومما زاد الطين بلة، أن
السجلماسي لم يعتدل في صبه مباحث البلاغة في الإطار المنطقي، فقد بدا على
عملية التأطير المنطقية تلك، غير قليل من العسف والشطط في تطويع المعطى
الأدبي لقوانين المنطق الصارمة. إن إطلالة خفيفة على فهرس مباحث كتاب
المنزع لقمنية بأن تؤكد هذه الحقيقة. أما لو تجاوزنا ذلك إلى قراءة بعض
التحديدات الواردة فيه لمجموعة من الموضوعات والمباحث فإننا لا محالة
سنقتنع بمصداقية الاتهام السابق الملصق بالسجلماسي.
هكذا نلاحظ كيف
بنى حازم للبلاغة مجدها في إطار نظرة شمولية لا تفصلها عن كافة مظاهر
العملية الشعرية، غير أن هذا المجد البلاغي لن يدوم طويلا إذ سرعان ما عكر
صفوه ما عرفته البلاغة على يد السجلماسي من انتكاس وتراجع إلى وضعيتها
السالفة من عقم وصياغة منطقية، ضيقة مفتقرة إلى المرونة الذوقية –التي هي
من متطلبات العمل الأدبي- وقاصرة على استيعاب أطراف العمل الأدبي وجمع
سائر أفكاره في إطار نظرة متكاملة متماسكة على نحو ما وجد عند حازم مثلا.
ذلك
هو موضع حازم ومشروعه البلاغي بين القدامى. وقد حاولنا إجلاءه نسبيا مع
العلم أنه موضوع شائك لا يخلو من المخاطر. فما هي مكانته في عصرنا، بل
أيمكن وضع حازم في إطار البحث البلاغي الحديث والمعاصر؟ أعتقد أن هذا
التساؤل مشروع، بل ينبغي إثارته، هذا علاوة على التفكير الجدي في الإجابة
عنه. أقول مبدئيا وكفرض بنظري سأعمد إلى تحقيقه في الحديث الآتي:
إن لحازم منزلة في العصر الحديث بل في اللحظة المعاصرة، في مجال البحث البلاغي، وذلك لجملة أسباب أوجزها في الإشارات التالية:
1
ـ إن حازما قد سبق زمنه كما يقولون في المثل، وهذا دليل عبقريته ومناط
تفرده، فهو يتفق مع الدراسات البلاغية المعاصرة في أوربا[50]. فهو يتفق مع
هذه الدراسات في تصوره العام حول علم البلاغة وطموحات هذا العلم وطاقته
الاستيعابية. فالتصور البلاغي الحديث يدرج مباحث البلاغة ضمن علوم اللسان،
ويحاول بشتى الأساليب ربط الصلة بين البلاغة واللسانيات، وتوثيق الوشائج
بينهما، ويلتقي حازم مع هذا التصور الحديث إذ يعتبر البلاغة علم اللسان
الكلي الذي تندرج تحته علوم اللسان الجزئية.
وفي هذا الصدد، أي
علاقة اللسانيات بالبلاغة في التصور الحديث، تلاحظ جماعة مو البلجيكية أن
البلاغة المعاصرة تستمد مشروعية وجودها من البحوث اللسانية سواء ما يتعلق
بالمجال الدلائلي العام وما يتعلق بمبحث المعنى. وترى هذه الجماعة كذلك أن
البلاغة الحديثة تلتقي مع البحث الدلائلي على مستوى المنهج والمادة (أو
الموضوع) المدروسة، فكلا الدلائلية والبلاغة يقوم منهجه على دراسة الدلائل
Les signifiants. والفرق بين المجالين يتحدد في كون الدلائلية تدرس الدليل
في إطار وظيفته الاجتماعية في حين أن البلاغة إنما تقارب الدليل اللغوي في
إطار استعماله الأدبي ووظيفته الفنية. والبلاغة بهذا المفهوم هي دراسة
استتيقية الدليل اللغوي داخل سياق أدبي[51]. وذلك بغية التخلص من التصور
البلاغي القديم الذي ظل وما يزال عالقا بالأذهان. وقد سعت جماعة مو، وهي
جماعة من البلاغيين الجدد، إلى رسم الخطوط العامة لنظرية بلاغية –لسانية
جديدة- تمتح في تأسيس منطلقاتها الرئيسية من التطور اللساني الحديث،
وتسترشد بأدوات التحليل في هذا المجال. وتقوم هذه البلاغة الجديدة في تصور
جماعة البلاغيين الجدد على أسس نظرية تتضمن:
أ ـ نظرية في المعنى تتخذ تكوين المعنى موضوعا لها.
ب ـ نظرية في المرجع La théorie du référent
ج ـ نظرية الفعل اللغوي L’acte de langage
د ـ نظرية حول حوادث المقام أو السياق Contexte ou situation
هـ ـ موسوعة اجتماعية ثقافية تعرف بمجتمع ومعتقدات الأدباء المدروس أدبهم[52].
وتوضح
جماعة البلاغيين الجدد محددة الوظيفة التي أسندت للبلاغة المعاصرة، وهي
وظيفة تنحصر في كشف وإبراز معطى الشعرية في النص الأدبي، فيقول أحد
أعضائها: "إن بلاغتنا تصدر عن نظرية الأدب باعتبارها (أن البلاغة) تهتم
بما أسميناه، الوظيفة الشعرية للغة onction poétique du langage[53]. وهذه
الوظيفة الشعرية هي التي تتمثل في الفرق بين الكلام العادي والكلام
الأدبي، فمناط الشعرية إذن هو ذلك الفرق". فالنص الأدبي الحامل للشعرية
يتميز عن النص العادي بهذا الفرق. وتوضيحا لهذه المعضلة يقول أحد النقاد
المعاصرين وهو بيير كوينتز Pierre Kuentz: "الفرق بين النص وما ليس نصا(…)
وبين اللغة الشعرية واللغة العادية معطى أساسي. ينبغي اعتبار النص كفرق
(وينبغي موقعته) داخل الفرق نفسه"[54]. هذا هو التصور المعاصر للبلاغة،
ولقد عمدنا إلى رصده عبر عمل مجموعة مو البلجيكية، وهي جماعة رائدة في
مجال التجديد البلاغي وإغنائه بمكتسبات العلوم اللسانية.
ولقد
لاحظنا أن حازما يتفق مع التصور العام للبلاغة عند هذه الجماعة، وهو
التصور القائم على ضرورة تقريب البلاغة من علوم اللسان لاستثمار مناهجه
وأدواته التحليلية في الحقل البلاغي. وإذا كانت جماعة البلاغيين الجدد
تقيم أسس بلاغتها الجديدة على نظرية في المعنى وغير ذلك مما سبقت الإشارة
إليه؛ فإن حازما قد أدخل في صلب علم البلاغة عنده نظرية المعنى ونظرية
الأسلوب، وأشار إلى ضرورة أخذ النواحي الاجتماعية والتأثيرية النفسية بعين
الاعتبار عند القيام بتحليل بلاغي نقدي. وعلى كل فإن حازما قد دعا إلى
إقامة علم للبلاغة يضم الجوانب التي أشارت إليها جماعة مو Mu في حدود ما
كان متأتيا في عصره، فهو لم يقف عند مستوى الدعوة المجردة، بل اقتحم
الغمار وصاغ نموذجا فذا في النظرية البلاغية تتكامل جوانبه طيلة أقسام أو
موضوعات كتابه المنهاج.
2 ـ ومن ملامح الشبه بين مشروع حازم البلاغي والتصور البلاغي الحديث، تلك