ناشر الموضوع : خادم العلم
نشـــــأة الدراسة الدلالية العربية وتطورها.ـــ د. أحمد عزوز
لمتنتظر الأمم نهاية القرن التاسع عشر لتدرس الدلالة وتوليها اهتمامها، بلشغلت ذهن المفكرين على مرّ التاريخ، فقد بحث جوانبها المختلفة الفلاسفةوالمناطقة واللغويون وغيرهم.
ويعدّفلاسفة اليونان من الذين استرعت الدلالة نظرهم إذ "راحوا يتساءلون عنأسرارها، ويعجبون لتلك المجموعات الصوتية التي ينطق بها المرء، فتعبّرعمّا يدور في خلده، وتحقّق له غرضاً دنيوياً نافعاً، بل وتصله ببني جنسهصلة وثيقة تجعل منهم مجتمعاً إنسانياً متعاوناً متفاهماً"(1).
ومنالقضايا الأساسية التي حظيت لديهم بقسط وافر من الاهتمام والجدل والمناقشةنشأة اللغة التي عالجوا من خلالها العلاقة بين الكلمة ومعناها، أي العلاقةبين الدال والمدلول أو الصوت والمعنى، وحاولوا معرفة هذه العلاقة فيماكانت طبيعية أم اصطلاحاً.
كماحدّدوا أقسام الكلام، وبنى أرسطو أنواعه على أساس دلالي، ورأى أنّ الاسمله دلالة مجرّدة من الزمن، على حين أنّ الفعل له دلالة على الحدث والزمن،أمّا الحرف فليس له في نفسه أي معنى(2).
وميّز أيضاً بين ثلاث قضايا هي:
أ-المحسوسات: أي الأشياء في العالم الخارجي.
ب- التصورات الذهنية: أي المعاني.
جـ- الأصوات: الكلمات.
ولا شك في أنّ هذا التمييز كان أساس النظريات الدلالية في العصور الوسطى والحديثة(3).
واهتمبرقلس PROKLOS في القرن الخامس الميلادي بالتغيّر الدلالي الذي ربطهبالتطور الحضاري، ولاحظ أنَّه يتّخذ أشكالاً متعدّدة منها الجاز وتوسيعالمعنى وتخصيصه(4).
وعالجالهنود كثيراً من المسائل الدلالية، وبخاصة بانيني (PANINI) حين وضعالقواعد النحوية والصوتية والصرفية والدلالية لكتابهم المقدس "الفيدا"،وتعرّضوا إلى اللفظ والمعنى وأنواع الدلالات للكلمة، وأهمية السياق فيإيضاح المعنى، والترادف، والمشترك اللفظي، والقياس ودور المجاز في تغييرالمعنى(1).
كما وضعوا المعاجم ومن أشهرها "الأماركاكا" (AMARAKAKA) الذي ألّف في القرن الخامس الميلادي، وبوّبوا مادته بحسب معاني الكلمات(2).
ولاشك في أنّ الأمّة العربية لا يقل اهتمامها بالقضايا الدلالية عن غيرها منالأمم، فبلغوا في بحث مشكلاتها وقضاياها ما لم يبلغه علماء اللغات الأخرىفي العصور المتعاقبة(3)، بل إنَّ جهودهم تنمّ عن تفوّقهم في هذا الميدان،ولا ينكر أحد ما قدّموه من آراء وأفكار رائدة تؤكّد اجتهاداتهم الواضحةوخصوصيتهم المتميزة، على الرغم ممّا لقيته من إجحاف الدراسات الغربية، كماالتي أهملت العلوم العربية الأخرى، وما أسهمت به في بناء الحضارةالإنسانية، فلم تأت على ذكرها في سلسلة تطور الدرس الدلالي القديم.
ويمكنالقول إنّ العناية بالدلالة في التفكير اللغوي العربي القديم حقيقة ثابتة،والجهود كبيرة وعميقة لا مجال لإنكارها، وفضل سبق علمائها راسخ، بل إنَّهمأوّل من وضع أسس علم الدلالة الذي يعدّ أصيلاً في التراث العربي، أغنىبسعته وعمقه ودقته علم الدلالة الحديث إثراءً عظيماً، وهو نضج أسّس منخلاله الدارسون أصول هذا العلم، على الرّغم من أنّنا لا نعثر على مصدرمستقل خاص يحمل عنوان "علم الدلالة"، ولكن الأعمال المبكرة تشهد عليه، وإنكانت السمة الرئيسية للبحث الدلالي هي التشعب وعدم الانتظام في نسق معرفيواحد، وهي متناثرة في أكثر من مصدر، ومبثوثة في أكثر من مجال معرفيمحدّد.
وبعدفحص المعاجم اللغوية لا نلفي ذكراً للمصطلح كما يفهم اليوم أو كما يحاولاقتباسه من الغرب، فلسان العرب يذكر مثلاً: "الدليل: ما يستدل به،والدليل: الدال، وقد دلّه على الطريق يدله دلالة، ودلالة دلولة، والدال:الغنج والشكل، وقد دلّت امرأة تدلّ"(4)، وهي مصطلحات تدل على معرفتهمبالمسائل الدلالية.
والمتمعنفي التراث اللغوي العربي يلاحظ أنّ البحث الدلالي لم يقتصر على اللغويينفحسب بل تعدّى ذلك إلى الفقهاء وأهل الشرع وعلماء الكلام، والفلاسفةوالمناطقة وغيرهم من دارسي الإعجاز والبلاغة والنقد والشرح الأدبي والفني،وأغنوا مؤلفاتهم بالبحوث الدلالية التي لا يجهلها دارس العربية.
وأوّلما ألّف في العربية، فيما يتعلق بالدلالة، تلك الرسائل التي جمع فيها رواةاللغة ألفاظاً ذات موضوعات دلالية شبيهة بالحقول الدلالية المعروفة فياللسانيات الحديثة، كرسائل الإبل والخيل والشجر والنبات والأنواء، وليسهذا العمل إلاّ تصنيفاً للغة، كان نضجاً مبكراً وبداية انتهت بالتأليفالمعجمي الشامل وصلته بالأصوات والاشتقاق إلى المعاجم الكبرى التي رتبتعلى أساس معاني الألفاظ مثل "الألفاظ الكتابية" للهمذاني (ت 398هـ)(1)، و"متخيّر الألفاظ"(2)، و "مقاييس اللغة" لأحمد ابن فارس (ت 395هـ) وفقهاللغة وأسرار العربية" للثعالبي (ت 430هـ) و "المخصّص" لابن سيده (ت485هـ) ومعاجم الألفاظ كالصّحاح للجوهري (ت 395هـ)، و "تهذيب اللغة"للأزهري (ت 370هـ).
ولاحظاللغويون العرب القدامى اختلاف لهجات القبائل المؤدي إلى الاختلاف اللفظيوما يتبعه من اختلاف معنوي، فممّن ألف في لغات القبائل يونس بن حبيب (ت182هـ)، وأبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني (ت 206هـ)، والفرّاء (ت 207هـ)،وميّزوا الصحيح من الدخيل أو المعرّب، وكان ممن ألف فيه الجواليقي(ت540هـ) والخفاجي (1069هـ)(3)، ودرسوا مسائل الترادف والأضداد والمشترك،وألفوا فيها كتباً، وعالجوا العلاقة بين الدال والمدلول، والحقيقة والمجازوالمهمل والمستعمل والعام والخاص(4).
وكتبواعن المجاز في القرآن، ومعاني الغريب فيه، وألّفوا في الوجوه والنظائر فيالقرآن، وغير ذلك من الأمثلة التي تنتمي إلى المباحث الدلالية وتعتبرجميعها بدايات للتأليف المعجمي عند العرب.
وسارت العناية باللغة على سبيلين متوازيين:
-أوّلهما اهتمّ بتركيب الجملة أي بوضع الكلمة في الجمل، وكان ذلك من اهتمام النحويين.
-وثانيهمااهتم بالكلمة في حدّ ذاتها، ففهموا أنَّ العناية باللغة تعني البحث فيالكلمة ودلالتها، ويتّضح هذا الفهم ممّا قاله أبو الطيب اللغوي في تصنيفهلبعض علماء اللغة من حيث درجة الاجتهاد: "كان أبو زيد أحفظ الناس للغة،وكان الأصمعي يجيب في ثلث اللغة، وكان أبو عبيدة يجيب في نصفها، وكان أبومالك يجيب في كلها"(5).
وأوضحالقدماء أنّ بين الأصوات وما تعبّر عنه مناسبة دلالية فيما أسماه. ابن جنيبـ "باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني" حيث قال: "قال الخليل: كأنهمتوهّموا في صوت الجندب استطالة ومدّاً، فقالوا: صرّ، وتوهّموا في صوتالبازي تقطيعاً، فقالوا: صرصر"(1).
ورأواأنَّ معاني الأصوات القويّة تنتظم للتعبير عما يناسبها من دلالات،والأصوات الضعيفة لما يتفق معها "من ذلك قولهم: "الوسيلة" و "الوصيلة"،والصاد -كما ترى- أقوى صوتاً من السين، لما فيها من استعلاء، والوصيلةأقوى معنى من الوسيلة، وذلك أنَّ التوسل ليست عصمة الوصل والصلة، بل الصلةأصلها من اتصال الشيء بالشيء، ومماسته له، وكونه في أكثر الأحوال بعضاً لهكاتصال الأعضاء بالإنسان، وهي أبعاضه، ونحو ذلك، والتوسل معنى يضعف ويصغرأن يكون المتوسل جزءاً كالجزء من المتوسل إليه، وهذا واضح، فجعلوا الصادلقوّتها، للمعنى الأقوى والسين لضعفها للمعنى الأضعف"(2).
وكذلك"صَعِيد" و "سَعِيد"، والدليل على أن "الصاد" أقوى هو تعبيرها على الصعود،وهذا الفعل هو ما يرى بالعين، و "سعيد" هو ما تحسه النفس بدون رؤيته(3).
واستشهدوا"بالقَضْم" و "الخَضْم"، "فالقَضْم" لليابس لصلابته واختاروا "الخَضْم"للأكل الرطب، وذلك لرخاوة "الخاء" وفي الخبر "قَدْ يُدْرَكُ الخَضْمُبالقَضْم" أي قد يدرك الرخاء بالشدة واللين بالشظف(4).
ويرتبطتغيّر المعنى بالحركة وحدها في الكلمة الواحدة، إذا تغيّرت إحدى الحركاتفي فائها دلّت على معاني مختلفة مثل "العِسل -بكسر العين- ما عسل بهالرأس، والعُسل -بضم العين- المادة التي يغتسل بها، والذِلّ -بكسر الذال-ضد الصعوبة، والذُّلّ -بضمّ الذال- ضد العزّ، والغِلّ -بكسر الغين- الغشّوالعداوة، والغُلّ -بضم الغين- العطش، وهو الغُلّة، والبُرّ -بضم الباء-القمح، والبِرّ -بكسر الباء- الإحسان، والبَرّ -بفتح الباء- اليابسة، إلىغير ذلك من الأمثلة، وهي كلها ملاحظات وآراء ذات صلة وثقى بالمباحثالدلالية.
وتفطناللغويون العرب إلى أثر الصيغة في توليد الدّلالة، ووضعوا قاعدة لذلكمفادها أنَّ الزيادة في المبنى تلحقها بالضرورة زيادة في المعنى، ومن ذلكقولهم: خَشِن، اخْشْوشَنَ، فمعنى خشن دون معنى اخْشَوْشَنَ لما فيه منتكرير العين، وزيادة الواو، وكذلك قولهم أعشب المكان إذا نبت فيه العشب،أما إذا كثر فيه العشب فقد قالوا اعشوشب، وصيغة افعوعل تفيد المبالغة(5).
واكتشفواأنّ التكرار الواقع في الفعل يعود إلى تكرار معناه مثل قطّع، وكسّر،وفتّح، وغلّق، كما أنَّ المصادر التي تأتي على وزن فَعَلان تدل علىالاضطراب والحركة مثل الغَلَيَان والغَثَيَان(6).
وفيباب "فَعْلاَن" ومصدره وفعله يقول سيبويه: "أما ما كان من الجوع والعطش،فإنَّه أكثر ما يبنى في الأسماء على فَعْلان، ويكون المصدر الفعل، ويكونالفعل على فعل يفعل، وذلك نحو ظَمِئ يَظْمَأ، وهو ظَمْآن، وعَطِش يَعْطَشعَطَشاً وهو عَطْشَان"(1). وهي أدلة وشواهد توضح علاقة الصرف بالدلالة.
وركّزتالدراسات الصوتية العربية على القيمة التعبيرية للأصوات وأهميتها فيالإيقاع والموسيقى لأنَّ الحروف العربية ذات وقع موسيقي مختلف من حرف إلىآخر ومن تركيب إلى آخر، وعند نظم هذه الحروف داخل الكلمة، ثم الكلمات فيتركيب لغوي معيّن، تنشأ عنها القيمة التعبيرية للغرض بأكمله.
وتتلوّنالأصوات بتلوّن الأغراض الدلالية، ففي غرض الوصف تكثر الكلمات الخفيفةوالأصوات المعبّرة عن ذلك، وفي موضع الذكرى والتألم تكثر أصوات المدّالمعبرة عن الأنين والتألم.
فعلى سبيل المثال قصيدة ابن زيدون النونية التي مطلعها:
أَضْحَى التّنَائِي بَدِيلاً مِنْ تَدَانِينَا وَنَابَ عَنْ طِيبِ لُقيَانَا تَجَافِينَا
قدطغى عليها المدّ وصوت النون، ويلاحظ أنَّ هذا الصوت أنفي، يصدر أثناءالبكاء من شدة الولع والفراق، فلا شك في أنَّ المرء يصدر من أنفه صوتاًشبيهاً به، فكأن صوت النون تعبير بصفته ومخرجه عن هذا الحزن الذي يحملهالشاعر بين جوانحه.
والملاحظأن "المستوى الصوتي لا يقوم منفرداً، وإنّما تتشكل كلّ المستويات ضمن هالةمتكاملة لإعطاء الأسلوب الغرض الدلالي الذي يقصده المبدع"(2).
فقدتكون تقارب الأصوات لتقارب المعاني، من ذلك قوله تعالى: أَلَمْ تَرَأَنَّا أَرْسَلنَا الشّيَاطِينَ على الكَافِرِينَ تَؤُزّهُم أزّاً"(3)، أيتزعجهم وتقلقهم، فهذا في معنى تهزهم هزّاً، والهمزة أخت الهاء، فتقارباللفظين لتقارب المعنيين، وكأنهم خصّوا هذا المعنى بالهمزة لأنّها أقوى منالهاء، وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهزّ، لأنَّك قد تهزّ ما لا بالله، كالجذع وساق الشجرة ونحو ذلك"(4).
أمّاالنحو العربي فقد وضع في الأصل لتقنين اللغة، وحفظ اللسان من الزللوالخطأ، وله دور أساسي في فهم النص، إلاَّ أنَّه لا ينفى العنصر الدلاليعنه، فهو موجود باستمرار واهتمّ بالمعنى منذ نشأته.
"فالترابطبين الوظيفة النحوية والدلالة المعجمية حقيقة ثابتة ودائمة ومستمرة فيالتجربة اللسانية العربية، فالجملة هي غاية كل نظام نحوي يعمل على كشفتركيبها، ويحاول الربط بين الصورة الصوتية والمعنى المراد منها من خلالالنظام العقلي الذي يحكمها، فهو إذن يمدّ الجملة بمعناها الأساسي الذييكفل له الصحة ويحدّد له عنصر هذا المعنى(1).
فاهتمامالنحو العربي بالظواهر الدلالية ثابت، وإن كان لا يرقى إلى نظرية دلاليةنحوية واضحة المعالم كما هي متداولة اليوم، ولكن أسسها لا يمكن جهلها أوإغفالها، فالعلاقة بين قوانين المعنى النحوي وقوانين دلالات المفردات فيالنظام النحوي قائمة، وهو ما يمكن أن يطلق عليه بالمعنى النحويالدلالي(2).
والقصةالتي تروي نشأة النحو العربي حين قالت البنت لأبيها أبي الأسود الدؤلي (ت69هـ) "ما أجملُ السماء" (برفع أجمل) وكأنها تستفهم، وهي تريد أن تتعجب،من جمال السماء، تبيّن أنَّ اللحن في الحركة الإعرابية نتج عنه لبس فيالمعنى، وتصحيح أبي الأسود خطأ ابنته بقوله: "ما أجمل السماء (بفتح همزةالسماء) أدّى غرض التواصل والفهم.
وكذلكقصة الأعرابي الذي قرأ خطأ الآية الكريمة "أَنَّ اللهَ بَرِيئٌ مِنَالمُشْرِكينَ وَرَسُولَه"(3) (بكسر لام الرسول)، غيّر من مدلول الآيةومقصودها، فكان الخطأ دلالياً فأتبع بتصحيح الحركة الإعرابية، ممّا أدّىإلى سلامة دلالة الآية الكريمة.
إنلفتة سيبويه في باب الاستقامة من الكلام والإحالة يدعم فكرة اهتمام النحوالعربي بالظواهر الدلالية، فهو يقول: "فمنه (الكلام) مستقيم حسن، ومحال،ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب.
- فالمستقيم الحسن: هو الترتيب أو التعبير المألوف في اللغة نحو: "أتيتك أمس، سآتيك غداً".
- المحال: وهو المتناقض في الاستعمال أو نقض أوّل الكلام بآخر، نحو: أتيتك غداً، سآتيك أمس.
- المستقيم الكذب، وهو تركيب مستقيم من حيث النحو وغير ممكن الوقوع في نحو: حملت الجبل وشربت ماء البحر.
- المستقيم القبيح: وهو وضع اللفظ في غير موضعه على الرغم من استقامته نحو: وكي زيد يأتيك، وقد زيداً رأيت.
- المحال الكذب: وهو ما لا يتوافق مع الواقع، والخروج عن منطق اللغة نحو: سوف أشرب ماء البحر أمس(4).
إناستقامة الجملة في جميع عناصرها عند سيبويه لا تختلف عما يسمّيه المحدثونبأصولية الجملة ومقبوليتها في نظرية النحو التوليدي التحويلي الذي رائدهنوام شومسكي، وعدم استقامة الجملة معناه أنَّها صحيحة قواعدياً ونحوياًولكنها غير صحيحة دلالياً.
والمتأملفي المصادر العربية يلفيها تؤكد الاهتمام المبكر بجوانب المسائل الدلاليةالمختلفة مثل ابن خلدون حين يتحدّث عن الملكة اللسانية، فهو يفترض فيالمتكلم أن يكون مزوّداً بمجموعة من القواعد النحوية والاختياريةوالدلالية حتى تكون لديه الكفاية اللغوية، وهو يكتسبها بحفظه للقرآنالكريم والحديث النبوي الشريف وكلام العرب من شعر ونثر وأمثال وحكم،فتساعده جميعها على إنجاز التركيب الصحيح والمفيد للجمل؛ وابن خلدون فيفكرته لا يختلف عن شومسكي حين عالج الكفاية اللغوية والأداء الكلامي.
ودرساللغويون مسائل دلالية مختلفة كالحديث عن نشأة اللغة، ودلالة ألفاظها،والمشترك والترادف والفروق، والسياق والمقام ومن هؤلاء الجاحظ وابن جنيوعبد القاهر الجرجاني وابن فارس، وإذا كان ابن جني قد عرف اللغة "بأنهاأصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم"(1)، فلا ريب في أنّ هذا التحديد لاينفي الدلالة عن اللغة.
وإذاما ألقى الدارس نظرة متفحصة على كتاب "المزهر في علوم اللغة" للسيوطيفإنَّه يجده ألمّ بأهم المسائل المتعددة والمختلفة التي طرقها علماءالعربية قبله، منها دلالة الألفاظ التي كانت تنصرف إلى درس خصائص العربيةوتاريخها وفقهها، فـ "المزهر في علم اللغة"(2)، احتوى على ثلاثة عشر باباًفي بحث اللغة من حيث المعنى، إضافة إلى ما احتوته الأبواب الأخرى من آراءدلالية متعددة.
وممّاتناولوه -أيضاً- نشأة اللغة وعلاقة ألفاظها بمعانيها، وانقسموا في ذلك إلىفريقين، ودخلت هذه المسألة ضمن الخلاف بين الفئات الدينية والفكرية،وأغلبهم لا يأخذ بالرأي القائل بالصلة الطبيعية الذاتية، ويعدّ عباد بنسليمان الصيمري- أحد المعتزلة- من أشهر العلماء الذين عرفوا به حيث يقول:"إنّ بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضع، وإلاّ كانتخصيص الاسم المعيّن ترجيحاً من غير مرجّح(3).
ويمكن تلخيص المسائل الدلالية التي تداولها الدارسون وفقهاء اللغة كما أوردها السيوطي في أربعة آراء وهي:
1- تدلّ الألفاظ على المعاني بذواتها، وصاحب هذا الرأي هو عباد بن سليمان الصيمري.
2- أو بوضع الله إياها، والقائل به أبو الحسن الأشعري وتلاميذه، وعليه جمهرة كبيرة من اللغويين.
3- أو بوضع الناس، وهو رأي المعتزلة المستند إلى مفاهيم حول الذات الإلهية ونفي الجارحة عن الله عز وجلّ.
4-أو يكون بعضها من وضع الله، والباقي من وضع الناس وعليه علماء فقه الأصولالذين اختلفوا حول البداية، أهي من الله والتتمة من الناس أو العكس(1).
وفسّرابن فارس المعنى بالقصد والمراد حيث قال: "يقال عنيت بالكلام كذا، أي قصدتوعمدت، وقال قوم: اشتقاق المعنى من الإظهار، يقال: عنت القربة إذا لم تحفظالماء بل أظهرته، وقال آخر: المعنى مشتق من قول العرب: عنت الأرض بنباتحسن إذا نبتت نباتاً حسناً... لم تعن هذه الأرض أي لم تفد(2).
ويتضمنهذا التفسير ثلاثة عناصر أساسية ترتبط بالدلالة وهي: القصد والإظهاروالإفادة، فاللفظ عند إيراده يقصد به معنى معيّناً للإفادة بوساطته تكونالإفادة التامّة(3).
ولا شك في أنّ هذه العناصر متعلقة بالتأويل الذي يوصل إلى باطن اللفظ وتوضيح رؤيته الدلالية في الأسلوب أو الاستعمال الموظف فيه.
ويظهرالاهتمام بالعناصر المتحكّمة في إنتاج الخطاب ودلالته بجدّية ووضوح فيالمؤلفات البلاغية على العموم، وعند عبد القاهر الجرجاني، خاصة في كتابه"دلائل الإعجاز"(4) حول مفاهيم (الغرض، والنظم، واللفظ)، ولدى السكاكي-أيضاً- في كتابه "مفتاح العلوم"(5) حيث تطرّق إلى مفاهيم (المعنى والسياقوالاستعمال).
وإذاما أكّدنا أنّ السكاكي لم يتجاوز حدود التهذيب والتحسين، لما أنجزهالجرجاني علمنا أن كثيراً من المحدثين يعتبرون اتّجاه الجرجاني قمة الجهودالبلاغية العربية في ميدان البحث الدلالي، فدراسته للنظم وما يتصل به تقفبشموخ أمام النظريات اللغوية في الغرب، بل تفوق معظمها في مجال فهمالتركيب اللغوي، مع الفارق الزمني الواسع الذي يعد ميزة يختلف بها عبدالقاهر عن غيره ويعود إليه فضل السبق(6)، واعترف له علماء كثيرون بآرائهالذكية وبخاصّة في الجزء الذي يتناول المعنى النحوي والدلالي من كتابه"دلائل الإعجاز".
ويمكناستخلاص الملامح الرئيسة لنظرية عبد القاهر الجرجاني الدلالية من النصالآتي: "وإذا قد عرفت أنَّ مدار أمر النظم على معاني النحو، وعلى الوجوهوالفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أنَّ الفروق والوجوه كثيرة ليسلها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها ازدياداً بعدها، ثم اعلم أن ليسالمزية بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسببالمعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعضواستعمال بعضها مع بعض"(1).
يوضّح هذا النص نظرة عبد القاهر الجرجاني للدلالة، ويحدّد عناصرها الثلاثة التي تعدّ أساسية في مناقشة دلالة اللفظ والمعنى، وهي:
الغرض الذي يوضع له الكلام.
النظم الذي ينظم مواقع الكلمات.
اللفظ الذي يحدّد كيفية استعمال الكلمات بعضها مع بعض، وبمعنى آخر، (المعنى والغرض)، و(النظم) ثمّ (الشكل السطحي).
ولاريب في أنَّ مثل هذا العمل يعدّ كافياً للتدليل على مساهمة البلاغةالعربية واهتمامها بالظواهر الدلالية، وهي حقيقة ينبغي الاعتراف بهاوالانطلاق منها في كلّ دراسة منصفة وجادّة(2).
وكانتدراسة عبد القاهر للنظم وما يتّصل به من تعليق وبناء وترتيب من أكبرالجهود التي بذلتها الثقافة العربية في سبيل إيضاح المعنى الوظيفي فيالسياق والتركيب.
وقدّمت البلاغة العربية فكرتين من أنبل ما وصل إليه علم اللّغة الحديث في بحثه عن المعنى الاجتماعي الدلالي، وهما:
1-المقال
2-والمقام.
ونجد علماء البلاغة ربطوا بين هاتين الفكرتين بعبارتين شهيرتين أصبحتا شعاراً يهتف به كلّ ناظر في المعنى:
-العبارة الأولى "لكلّ مقال مقام".
-والثانية "لكلّ كلمة مع صاحبتها مقام".
وتعتبر هاتان العبارتان من نتائج المغامرات الفكرية في دراسة اللغة في الغرب المعاصر"(3).
وتناولالبلاغيون العرب العلاقة بين اللفظ والمعنى حين تعرّضهم لمسألة الفصاحةوالبيان، فأبرزوا قضية الاختلاف والائتلاف بين الحروف في التعبير عنالمعاني، وتجاور الأصوات وما له من دور في فصاحة اللفظ وتحسين المعنىوإيصاله إلى المتلقّي وأهميّتها في إنتاج الخطاب الإقناعي.
وكما يقول القزويني: "دلالة اللفظ إمّا على ما وضع له، أو على غيره.
والثانيإمّا داخل في الأوّل دخول السقف في مفهوم البيت، أو الحيوان أو خارج عنهخروج الحائط عن مفهوم السقف، أو الضاحك عن مفهوم الإنسان، وتسمّى الأولىدلالة وضعية، وكل واحدة من الأخيرتين دلالة عقلية، وتختصّ الأولى بدلالةالمطابقة والثانية بالتضمن والثالثة بدلالة الالتزام"(1).
وشهدالتأليف في أصول الفقه والدين جهوداً دلالية واضحة، وإليه يعود الفضل فيإثارة الكثير من المسائل والقضايا الدلالية التي غدت علوماً مستقلة، ومنذلك مبحث "الألفاظ الإسلامية" وهي مجموعة من المفردات غيّر دلالتهاالإسلام، فأصبحت تحمل معاني غير تلك التي كانت معروفة بها في العصرالجاهلي.
وعنىالمؤلفون في أصول الفقه ببحث معاني الألفاظ عناية خاصة، وأفردوا لهافصولاً في كتبهم، لأنَّ دلالة الألفاظ من أهمّ موضوعات علم الأصول(2).
وبرزالاهتمام بالمسائل الدلالية واضحاً في تضاعيف التفاسير التي بدأت لغويةكالغريب ومعاني البيان القرآني وسحره وما إلى ذلك، فابن عباس (ض) يصرّحبأنَّه لم يكن يدري المراد من كلمة "فَاطِر"(3)، وأيضاً "وحَنَاناً مِنْلدُنَّا"(4)، وفي رواية أنّ ابن عباس (ض) قال: كل القرآن أعلمه إلاّأربعاً: "حَنانَاً"، "غِسْلِين"(5)، "أَوّاه"(6) و "الرَّقيم"(7).
وهيالبوادر الأولى التي انتهت بالتأليف في غريب القرآن الكريم، والحديثالنبوي الشريف، فكانت نتائجها معاجم لغوية ألّفت لخدمتهما، ويذكر منها علىسبيل المثال: "المفردات في غريب القرآن" للراغب الأصفهاني (ت 502هـ)، و"الفائق في غريب الحديث" للزمخشري (ت 538هـ).
وممّايؤسف له أنَّ معظمها ضاع، ولم يبق منها إلاّ كتاب "الغريب المصنف" لأبيعبيد القاسم بن سلام (ت224هـ)، وكتاب ابن قتيبة (ت 276هـ) في غريب القرآن،والذي أخلط فيه بين منهجي كتب اللغة وكتب التفسير، كما ألف أبو عبيد أحمدبن محمد الهروي (ت 401هـ) كتاباً في الغريبين، "غريب القرآن وغريبالحديث"(1).
والطريفأنَّ أبا حاتم أحمد حمدان الرازي (ت 322هـ) ألّف كتاباً في تطور معانيالألفاظ جمع فيه عدداً من الألفاظ الإسلامية، ودرسها دراسة تطوريةتاريخية، وتتبع معانيها من العصر الجاهلي إلى العصر الإسلامي، وقد سماه"الزينة في الكلمات الإسلامية"(2)، وهو لا يختلف في بنائه عن معاجم الحقولالدلالية(3).
أمّاالسيد الجرجاني (ت 810هـ) فإنَّه يورد في "تعريفاته" كلاماً جامعاً عنالدلالة في الثقافة الأصولية، قائلاً: "الدلالة هي كون الشيء بحالة يلزممن العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأوّل هو الدال، والثاني هو المدلول.وكيفية دلالة اللفظ على المعنى باصطلاح علماء الأصول محصورة في عبارةالنص، وإشارة النص، ودلالة النصّ واقتضاء النص"(4).
ولماكان لعلم الفقه اصطلاحاته فقد ألِفّت معاجم لهذا الغرض، وممن ألفوا فيهالأزهري: أبو منصور محمد بن أحمد (0370-)، وله كتاب "الزاهر في غرائبألفاظ الإمام الشافعي "(ت 210هـ)، ثمّ "المطريزي (ت 610هـ): أبو الفتحناصر عبد السيّد"، وله كتاب "المغرب في ترتيب المغرب"، وكانت هذه المعاجمهي الأخرى خاصة بغريب القرآن وغريب الحديث(5).
يذكرابن خلدون في مقدمته أصول الفقه، وما يتعلق به من "الجدل والخلافيات"،وينصّ على صلة الفقه بالدلالة في مستوياتها المتعدّدة قائلاً: "... يتعينالنظر في دلالات الألفاظ، وذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق من تراكيبالكلام على الإطلاق، يتوقف على معرفة الدلالة الوضعية مفردة ومركبة،والقوانين اللسانية في ذلك هي علوم النحو والتصريف والبيان...
ولايكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق، بل لا بدّ من معرفة أمورأخرى تتوقف عليها تلك الدلالات الخاصة، وبها يستفاد الأحكام بحسب ما أصّلأهل الشرع وجهابذة العلم من ذلك.
وجعلوهقوانين لهذه الاستفادة مثل: "إنَّ اللغة لا تثبت قياساً، والمشترك لا يرادبه معنيان معاً، والواو لا تقتضي الترتيب، والعام إذا أخرجت أفراد الخاصمنه، هل يبقى حجة فيما عداه؟ والأمر للوجوب أو الندب وللفور أو التراخي،والنهي يقتضي الفساد، أو الصحة، والمطلق هل يحمل على المقيّد؟ النص علىالعلّة كاف في التعدّد أم لا؟ وأمثال هذه، فكانت كلها من قواعد هذا الفن،ولكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية"(6).
وقسّمالفارابي الدلالة إلى: دلالة مطابقة ودلالة تضمن ودلالة التزام، فهو يقول"إنّ اللفظ الدال بالوضع يدل على تمام ما وضع له بالمطابقة وعلى جزئهبالتضمن، وعلى ما يلازمه في الذهن بالالتزام كالإنسان، فإنَّه يدل علىتمام الحيوان الناطقة بالمطابقة وعلى جزئه بالتضمن وعلى قابلية التعلمبالالتزام"(1).
وكانتغاية علماء الأصول من دراسة المعنى هو الوصول إلى الحكم الشرعي، كدلالةلفظ القرء على الحيض وهو ما أخذ به الحنفية، وعلى الطهر وهو مذهب غيرهم،وذلك من قوله تعالى: "والمُطَلَّقَاتُ يَتَربَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّثَلاثة قُرُوءٍ"(2) لأنّ لفظ القرء يحمل المعنيين معاً(3).
وتناول علم أصول الفقه الألفاظ باعتبارات متعدّدة.
- الدلالة الحقيقية، وهي ما يقصده المتكلم بظاهر ألفاظه.
- الدلالة الإضافية (النسبية) وهي ما يفهمه السامع من رسالة المتكلم.
- وباعتبار كمال المعنى الموضوع له اللفظ هناك دلالة المطابقة والتضمّن والالتزام.
- وباعتبار شمول اللفظ لأفراده محصورين أو غير محصورين هناك العام والخاص والمشترك، ويشمل الخاص المطلق والمقّيد والأمر والنهي.
- وباعتبار الاستعمال وشيوعه وتغيّر المعنى من زمن إلى زمن ومن بيئة إلى أخرى هناك الحقيقة والمجاز.
-ومن حيث الوضوح والغموض في المعنى تقسّم الألفاظ إلى الواضح والغامض،ويقسّم هذا الأخير إلى المتشابه والمشكل والمجمل والخفي، وينقسم الواضحإلى ظاهر ونص ومفسر ومحكم.
- ومن حيث طرق الدلالة هناك دلالة باعتبار النص ودلالة بإشارته وأخرى بفحواه والأخير باقتضائه(4).
ولماكان الجانب الفلسفي قد احتلّ حيزاً ضخماً في التراث اللغوي العربي، فنجدهتعرّض بإسهاب إلى البحث الدلالي، بل ارتبط علم الدلالة بالفلسفة والمنطقأكثر من أي علم آخر حتى قال بعضهم: "إنّك لا تستطيع أن تقول متى تبدأالفلسفة وينتهي السيمانتيك، وما إذا كان يجب اعتبار الفلسفة داخلالسيمانتيك، أو السيمانتيك داخل الفلسفة"(5).
ويعدّ"ابن سينا" من الفلاسفة الذين بحثوا في الدلالة، فوجدها عبارة عن صوتين،الأول منطوق والمتمثل في الصوت، والآخر ذهني أو متصوّر، وهو ما عبّر عنهقائلاً:
"فمعنىدلالة الألفاظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم ارتسم في النفسمعنى، فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم، فكلما أورده الحس علىالنفس التفتت إلى معناه"(1).
وتعرضالغزالي إلى العلامة فقال: " لا متكلم إلاَّ وهو محتاج إلى نصب علامةلتعريف ما في ضميره"(2)، وأورد -أيضاً-: "إنّ للشيء وجوداً في الأعيان،ثمّ في الأذهان، ثمّ في الألفاظ، ثمّ في الكتابة، فالكتابة دالّة علىاللفظ، واللفظ دالّ على المعنى الذي في النفس، والذي في النفس هو مثالالوجود في الأعيان"(3).
وهويشير في نصّه إلى العلاقة المتبادلة بين الألفاظ ومدلولاتها مع تركيزه علىأنّ المعاني أساسها الذهن وليس اللفظ في حدّ ذاته، كما يقول أيضاً: "فاعلمأن كل من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك، ومن قرر المعاني أولاً في عقلهثمّ أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى(4).
فهويؤكّد على أهمية استعمال الألفاظ في التركيب الذي به تفهم الدلالات أمّاتلك الخارجة عنه فتحمل المعاني في نفسها، أو يمكن تكون معانيها في درجاتالصفر.
ومنالدارسين الذين تعرضوا للمسائل الدلالية في التراث العربي شرّاح الشعر،والنقاد وعلماء الإعجاز، فاهتمّوا بقضّية اللّفظ والمعنى، والحقيقةوالمجاز، وعرضوا للاستعارة، والغريب والمأنوس والوحشي والفروق والمشتركوالأضداد والترادف.
فمنعلماء الإعجاز الباقلاني والرماني، ومن النقاد الجاحظ وابن رشيق الذي يرىأن "اللفظ جسم وروحه المعنى، وارتباطه كارتباط الروح بالجسم، يضعف بضعفويقوى بقوته"(5)، و هو لا يخرج عن البحث في أهمية اختيار اللفظ في التركيبلما يناسبه من معنى، وانتظامه مع الوحدات الأخرى للتعبير عن فصاحة الكاتبأو إيصال الغرض وإفادة المخاطب -بفتح الطاء-.
ويتضحمما سبق اهتمام العرب المبكر بالظواهر الدلالية ومسائلها، وعلى الرغم منكل هذه البحوث المتناثرة في مصادر متعدّدة ومتنوّعة، فإنّ ذلك لم يصلبطبيعة الحال إلى ما يمكن أن تطلق عليه نظرية دلالية أو علم الدلالة كمايتناوله البحث اللغوي الحديث.
ولكنما ينبغي التأكيد عليه هو أن هذه البحوث تعدّ من صميم علم الدلالة ولايمكن إغفالها حين التأريخ له، أو التعرّض إلى مراحل تطوره سواء عند العربأو عند غيرهم من الأمم.
فهرس المصادر والمراجع كما وردت في البحث.
(1) إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، مكتبة الأنجلو المصرية، ط: 3، سنة 1972.
(2) أحمد محمد قدور، مبادئ اللسانيات، دار الفكر، دمشق، ط: 1، سنة 1996.
(3) أحمد مختار عمر، علم الدلالة، عالم الكتب، القاهرة، 1988.
(4) عبد الستار لبيب، الحضارات، دار المشرق، ط: 8، بيروت، 1990.
(5)محمد المبارك، فقه اللغة وخصائص العربية- دراسة تحليلية مقارنة وعرض لمنهجالعربية الأصيل في التجديد والتوليد-، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع،ط: 7، سنة 1971.
(6)ابنمنظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، المؤسسة المصريةالعامة للتأليف والأنباء والنشر، الدار المصرية للتأليف والترجمة، دونسنة.
(7)الهمذاني، عبد الرحمن بن عيسى الكاتب، الألفاظ الكتابية، دار الكتابالعربي، راجعه وقدم له الدكتور السيد الجميلي، ط: 2، 1998م، بيروت لبنان.
( ابن فارس، أبو الحسن أحمد بن زكريا، متخيّر الألفاظ، تحقيق هلال ناجي، مطبعة المعارف، القاهرة، سنة 1970.
(9) أبو طالب زيان، المعاجم اللغوية بين ماضيها وحاضرها، مجلة المجمع العلمي العربي، سواري، يناير 1965.
(10)عز الدين إسماعيل، المصادر الأدبية واللغوية عند العرب إلى نهاية القرنالثالث الهجري، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، ط: 1، 1980.
(11) ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار الهدى للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، دون سنة.
(12)نور الهدى لوشن، إلياذة الجزائر لمفدي زكريا -دراسة دلالية- دكتوراه دولة،بمعهد اللغة العربية وآدابها، جامعة الجزائر، الجزائر، سنة 1990 (مخطوط).
(13)سيبويه،أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، الكتاب، تحقيق وشرح عبد السلام هارون،الناشر مكتبة الخانجي للطباعة والنشر، ط: 3، القاهرة، سنة 1998.
(14) القرآن الكريم، رواية الإمام ورش، دار المصحف، شركة مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد، القاهرة، مصر.
(15)شلواي عمار، درعيات أبي العلاء، دراسة دلالية، الألفاظ الخاصة بالإنسانوحياته الاجتماعية والاقتصادية، رسالة ماجستير، بمعهد اللغة العربيةوآدابها، جامعة قسنطينة، الجزائر، سنة 1995 (مخطوطة).
(16)السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، المزهر في علوم اللغة، شرح وتصحيح وعنوانوتعليق محمد أحمد جاد المولى، وآخران، دار إحياء الكتب العربية، مطبعةعيسى البابي وشركاه بمصر.
(17) أحمد بن فارس، الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، تحقيق مصطفى الشويهي، المكتبة العربية، بيروت، 1964.
(18) الجرجاني عبد القاهر، دلائل الإعجاز في علم المعاني، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنا، 1983.
(19) الخطيب القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة، شرح وتعليق محمد عبد المنعم خفاجي، مكتبة الكليات الأزهرية، ط: 2 القاهرة.
(20) تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها، الشركة الجديدة، دار الثقافة، الدار البيضاء، المملكة المغربية، دون سنة.
(21)أحمد طاهر حسنين، نظرية الاكتمال اللغوي -منهج شامل لتعليم اللغة العربية(الأصوات، الصرف، المعاجم، النحو- دار الفكر العربي، القاهرة، ط:1، مصر،سنة 1987.
(22) أبو حاتم الرازي، الزينة في الكلمات الإسلامية، تحقيق حسنين الهمذاني، ط:2، القاهرة،
[b]سنة 1957. [
نشـــــأة الدراسة الدلالية العربية وتطورها.ـــ د. أحمد عزوز
لمتنتظر الأمم نهاية القرن التاسع عشر لتدرس الدلالة وتوليها اهتمامها، بلشغلت ذهن المفكرين على مرّ التاريخ، فقد بحث جوانبها المختلفة الفلاسفةوالمناطقة واللغويون وغيرهم.
ويعدّفلاسفة اليونان من الذين استرعت الدلالة نظرهم إذ "راحوا يتساءلون عنأسرارها، ويعجبون لتلك المجموعات الصوتية التي ينطق بها المرء، فتعبّرعمّا يدور في خلده، وتحقّق له غرضاً دنيوياً نافعاً، بل وتصله ببني جنسهصلة وثيقة تجعل منهم مجتمعاً إنسانياً متعاوناً متفاهماً"(1).
ومنالقضايا الأساسية التي حظيت لديهم بقسط وافر من الاهتمام والجدل والمناقشةنشأة اللغة التي عالجوا من خلالها العلاقة بين الكلمة ومعناها، أي العلاقةبين الدال والمدلول أو الصوت والمعنى، وحاولوا معرفة هذه العلاقة فيماكانت طبيعية أم اصطلاحاً.
كماحدّدوا أقسام الكلام، وبنى أرسطو أنواعه على أساس دلالي، ورأى أنّ الاسمله دلالة مجرّدة من الزمن، على حين أنّ الفعل له دلالة على الحدث والزمن،أمّا الحرف فليس له في نفسه أي معنى(2).
وميّز أيضاً بين ثلاث قضايا هي:
أ-المحسوسات: أي الأشياء في العالم الخارجي.
ب- التصورات الذهنية: أي المعاني.
جـ- الأصوات: الكلمات.
ولا شك في أنّ هذا التمييز كان أساس النظريات الدلالية في العصور الوسطى والحديثة(3).
واهتمبرقلس PROKLOS في القرن الخامس الميلادي بالتغيّر الدلالي الذي ربطهبالتطور الحضاري، ولاحظ أنَّه يتّخذ أشكالاً متعدّدة منها الجاز وتوسيعالمعنى وتخصيصه(4).
وعالجالهنود كثيراً من المسائل الدلالية، وبخاصة بانيني (PANINI) حين وضعالقواعد النحوية والصوتية والصرفية والدلالية لكتابهم المقدس "الفيدا"،وتعرّضوا إلى اللفظ والمعنى وأنواع الدلالات للكلمة، وأهمية السياق فيإيضاح المعنى، والترادف، والمشترك اللفظي، والقياس ودور المجاز في تغييرالمعنى(1).
كما وضعوا المعاجم ومن أشهرها "الأماركاكا" (AMARAKAKA) الذي ألّف في القرن الخامس الميلادي، وبوّبوا مادته بحسب معاني الكلمات(2).
ولاشك في أنّ الأمّة العربية لا يقل اهتمامها بالقضايا الدلالية عن غيرها منالأمم، فبلغوا في بحث مشكلاتها وقضاياها ما لم يبلغه علماء اللغات الأخرىفي العصور المتعاقبة(3)، بل إنَّ جهودهم تنمّ عن تفوّقهم في هذا الميدان،ولا ينكر أحد ما قدّموه من آراء وأفكار رائدة تؤكّد اجتهاداتهم الواضحةوخصوصيتهم المتميزة، على الرغم ممّا لقيته من إجحاف الدراسات الغربية، كماالتي أهملت العلوم العربية الأخرى، وما أسهمت به في بناء الحضارةالإنسانية، فلم تأت على ذكرها في سلسلة تطور الدرس الدلالي القديم.
ويمكنالقول إنّ العناية بالدلالة في التفكير اللغوي العربي القديم حقيقة ثابتة،والجهود كبيرة وعميقة لا مجال لإنكارها، وفضل سبق علمائها راسخ، بل إنَّهمأوّل من وضع أسس علم الدلالة الذي يعدّ أصيلاً في التراث العربي، أغنىبسعته وعمقه ودقته علم الدلالة الحديث إثراءً عظيماً، وهو نضج أسّس منخلاله الدارسون أصول هذا العلم، على الرّغم من أنّنا لا نعثر على مصدرمستقل خاص يحمل عنوان "علم الدلالة"، ولكن الأعمال المبكرة تشهد عليه، وإنكانت السمة الرئيسية للبحث الدلالي هي التشعب وعدم الانتظام في نسق معرفيواحد، وهي متناثرة في أكثر من مصدر، ومبثوثة في أكثر من مجال معرفيمحدّد.
وبعدفحص المعاجم اللغوية لا نلفي ذكراً للمصطلح كما يفهم اليوم أو كما يحاولاقتباسه من الغرب، فلسان العرب يذكر مثلاً: "الدليل: ما يستدل به،والدليل: الدال، وقد دلّه على الطريق يدله دلالة، ودلالة دلولة، والدال:الغنج والشكل، وقد دلّت امرأة تدلّ"(4)، وهي مصطلحات تدل على معرفتهمبالمسائل الدلالية.
والمتمعنفي التراث اللغوي العربي يلاحظ أنّ البحث الدلالي لم يقتصر على اللغويينفحسب بل تعدّى ذلك إلى الفقهاء وأهل الشرع وعلماء الكلام، والفلاسفةوالمناطقة وغيرهم من دارسي الإعجاز والبلاغة والنقد والشرح الأدبي والفني،وأغنوا مؤلفاتهم بالبحوث الدلالية التي لا يجهلها دارس العربية.
وأوّلما ألّف في العربية، فيما يتعلق بالدلالة، تلك الرسائل التي جمع فيها رواةاللغة ألفاظاً ذات موضوعات دلالية شبيهة بالحقول الدلالية المعروفة فياللسانيات الحديثة، كرسائل الإبل والخيل والشجر والنبات والأنواء، وليسهذا العمل إلاّ تصنيفاً للغة، كان نضجاً مبكراً وبداية انتهت بالتأليفالمعجمي الشامل وصلته بالأصوات والاشتقاق إلى المعاجم الكبرى التي رتبتعلى أساس معاني الألفاظ مثل "الألفاظ الكتابية" للهمذاني (ت 398هـ)(1)، و"متخيّر الألفاظ"(2)، و "مقاييس اللغة" لأحمد ابن فارس (ت 395هـ) وفقهاللغة وأسرار العربية" للثعالبي (ت 430هـ) و "المخصّص" لابن سيده (ت485هـ) ومعاجم الألفاظ كالصّحاح للجوهري (ت 395هـ)، و "تهذيب اللغة"للأزهري (ت 370هـ).
ولاحظاللغويون العرب القدامى اختلاف لهجات القبائل المؤدي إلى الاختلاف اللفظيوما يتبعه من اختلاف معنوي، فممّن ألف في لغات القبائل يونس بن حبيب (ت182هـ)، وأبو عمرو إسحاق بن مرار الشيباني (ت 206هـ)، والفرّاء (ت 207هـ)،وميّزوا الصحيح من الدخيل أو المعرّب، وكان ممن ألف فيه الجواليقي(ت540هـ) والخفاجي (1069هـ)(3)، ودرسوا مسائل الترادف والأضداد والمشترك،وألفوا فيها كتباً، وعالجوا العلاقة بين الدال والمدلول، والحقيقة والمجازوالمهمل والمستعمل والعام والخاص(4).
وكتبواعن المجاز في القرآن، ومعاني الغريب فيه، وألّفوا في الوجوه والنظائر فيالقرآن، وغير ذلك من الأمثلة التي تنتمي إلى المباحث الدلالية وتعتبرجميعها بدايات للتأليف المعجمي عند العرب.
وسارت العناية باللغة على سبيلين متوازيين:
-أوّلهما اهتمّ بتركيب الجملة أي بوضع الكلمة في الجمل، وكان ذلك من اهتمام النحويين.
-وثانيهمااهتم بالكلمة في حدّ ذاتها، ففهموا أنَّ العناية باللغة تعني البحث فيالكلمة ودلالتها، ويتّضح هذا الفهم ممّا قاله أبو الطيب اللغوي في تصنيفهلبعض علماء اللغة من حيث درجة الاجتهاد: "كان أبو زيد أحفظ الناس للغة،وكان الأصمعي يجيب في ثلث اللغة، وكان أبو عبيدة يجيب في نصفها، وكان أبومالك يجيب في كلها"(5).
وأوضحالقدماء أنّ بين الأصوات وما تعبّر عنه مناسبة دلالية فيما أسماه. ابن جنيبـ "باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني" حيث قال: "قال الخليل: كأنهمتوهّموا في صوت الجندب استطالة ومدّاً، فقالوا: صرّ، وتوهّموا في صوتالبازي تقطيعاً، فقالوا: صرصر"(1).
ورأواأنَّ معاني الأصوات القويّة تنتظم للتعبير عما يناسبها من دلالات،والأصوات الضعيفة لما يتفق معها "من ذلك قولهم: "الوسيلة" و "الوصيلة"،والصاد -كما ترى- أقوى صوتاً من السين، لما فيها من استعلاء، والوصيلةأقوى معنى من الوسيلة، وذلك أنَّ التوسل ليست عصمة الوصل والصلة، بل الصلةأصلها من اتصال الشيء بالشيء، ومماسته له، وكونه في أكثر الأحوال بعضاً لهكاتصال الأعضاء بالإنسان، وهي أبعاضه، ونحو ذلك، والتوسل معنى يضعف ويصغرأن يكون المتوسل جزءاً كالجزء من المتوسل إليه، وهذا واضح، فجعلوا الصادلقوّتها، للمعنى الأقوى والسين لضعفها للمعنى الأضعف"(2).
وكذلك"صَعِيد" و "سَعِيد"، والدليل على أن "الصاد" أقوى هو تعبيرها على الصعود،وهذا الفعل هو ما يرى بالعين، و "سعيد" هو ما تحسه النفس بدون رؤيته(3).
واستشهدوا"بالقَضْم" و "الخَضْم"، "فالقَضْم" لليابس لصلابته واختاروا "الخَضْم"للأكل الرطب، وذلك لرخاوة "الخاء" وفي الخبر "قَدْ يُدْرَكُ الخَضْمُبالقَضْم" أي قد يدرك الرخاء بالشدة واللين بالشظف(4).
ويرتبطتغيّر المعنى بالحركة وحدها في الكلمة الواحدة، إذا تغيّرت إحدى الحركاتفي فائها دلّت على معاني مختلفة مثل "العِسل -بكسر العين- ما عسل بهالرأس، والعُسل -بضم العين- المادة التي يغتسل بها، والذِلّ -بكسر الذال-ضد الصعوبة، والذُّلّ -بضمّ الذال- ضد العزّ، والغِلّ -بكسر الغين- الغشّوالعداوة، والغُلّ -بضم الغين- العطش، وهو الغُلّة، والبُرّ -بضم الباء-القمح، والبِرّ -بكسر الباء- الإحسان، والبَرّ -بفتح الباء- اليابسة، إلىغير ذلك من الأمثلة، وهي كلها ملاحظات وآراء ذات صلة وثقى بالمباحثالدلالية.
وتفطناللغويون العرب إلى أثر الصيغة في توليد الدّلالة، ووضعوا قاعدة لذلكمفادها أنَّ الزيادة في المبنى تلحقها بالضرورة زيادة في المعنى، ومن ذلكقولهم: خَشِن، اخْشْوشَنَ، فمعنى خشن دون معنى اخْشَوْشَنَ لما فيه منتكرير العين، وزيادة الواو، وكذلك قولهم أعشب المكان إذا نبت فيه العشب،أما إذا كثر فيه العشب فقد قالوا اعشوشب، وصيغة افعوعل تفيد المبالغة(5).
واكتشفواأنّ التكرار الواقع في الفعل يعود إلى تكرار معناه مثل قطّع، وكسّر،وفتّح، وغلّق، كما أنَّ المصادر التي تأتي على وزن فَعَلان تدل علىالاضطراب والحركة مثل الغَلَيَان والغَثَيَان(6).
وفيباب "فَعْلاَن" ومصدره وفعله يقول سيبويه: "أما ما كان من الجوع والعطش،فإنَّه أكثر ما يبنى في الأسماء على فَعْلان، ويكون المصدر الفعل، ويكونالفعل على فعل يفعل، وذلك نحو ظَمِئ يَظْمَأ، وهو ظَمْآن، وعَطِش يَعْطَشعَطَشاً وهو عَطْشَان"(1). وهي أدلة وشواهد توضح علاقة الصرف بالدلالة.
وركّزتالدراسات الصوتية العربية على القيمة التعبيرية للأصوات وأهميتها فيالإيقاع والموسيقى لأنَّ الحروف العربية ذات وقع موسيقي مختلف من حرف إلىآخر ومن تركيب إلى آخر، وعند نظم هذه الحروف داخل الكلمة، ثم الكلمات فيتركيب لغوي معيّن، تنشأ عنها القيمة التعبيرية للغرض بأكمله.
وتتلوّنالأصوات بتلوّن الأغراض الدلالية، ففي غرض الوصف تكثر الكلمات الخفيفةوالأصوات المعبّرة عن ذلك، وفي موضع الذكرى والتألم تكثر أصوات المدّالمعبرة عن الأنين والتألم.
فعلى سبيل المثال قصيدة ابن زيدون النونية التي مطلعها:
أَضْحَى التّنَائِي بَدِيلاً مِنْ تَدَانِينَا وَنَابَ عَنْ طِيبِ لُقيَانَا تَجَافِينَا
قدطغى عليها المدّ وصوت النون، ويلاحظ أنَّ هذا الصوت أنفي، يصدر أثناءالبكاء من شدة الولع والفراق، فلا شك في أنَّ المرء يصدر من أنفه صوتاًشبيهاً به، فكأن صوت النون تعبير بصفته ومخرجه عن هذا الحزن الذي يحملهالشاعر بين جوانحه.
والملاحظأن "المستوى الصوتي لا يقوم منفرداً، وإنّما تتشكل كلّ المستويات ضمن هالةمتكاملة لإعطاء الأسلوب الغرض الدلالي الذي يقصده المبدع"(2).
فقدتكون تقارب الأصوات لتقارب المعاني، من ذلك قوله تعالى: أَلَمْ تَرَأَنَّا أَرْسَلنَا الشّيَاطِينَ على الكَافِرِينَ تَؤُزّهُم أزّاً"(3)، أيتزعجهم وتقلقهم، فهذا في معنى تهزهم هزّاً، والهمزة أخت الهاء، فتقارباللفظين لتقارب المعنيين، وكأنهم خصّوا هذا المعنى بالهمزة لأنّها أقوى منالهاء، وهذا المعنى أعظم في النفوس من الهزّ، لأنَّك قد تهزّ ما لا بالله، كالجذع وساق الشجرة ونحو ذلك"(4).
أمّاالنحو العربي فقد وضع في الأصل لتقنين اللغة، وحفظ اللسان من الزللوالخطأ، وله دور أساسي في فهم النص، إلاَّ أنَّه لا ينفى العنصر الدلاليعنه، فهو موجود باستمرار واهتمّ بالمعنى منذ نشأته.
"فالترابطبين الوظيفة النحوية والدلالة المعجمية حقيقة ثابتة ودائمة ومستمرة فيالتجربة اللسانية العربية، فالجملة هي غاية كل نظام نحوي يعمل على كشفتركيبها، ويحاول الربط بين الصورة الصوتية والمعنى المراد منها من خلالالنظام العقلي الذي يحكمها، فهو إذن يمدّ الجملة بمعناها الأساسي الذييكفل له الصحة ويحدّد له عنصر هذا المعنى(1).
فاهتمامالنحو العربي بالظواهر الدلالية ثابت، وإن كان لا يرقى إلى نظرية دلاليةنحوية واضحة المعالم كما هي متداولة اليوم، ولكن أسسها لا يمكن جهلها أوإغفالها، فالعلاقة بين قوانين المعنى النحوي وقوانين دلالات المفردات فيالنظام النحوي قائمة، وهو ما يمكن أن يطلق عليه بالمعنى النحويالدلالي(2).
والقصةالتي تروي نشأة النحو العربي حين قالت البنت لأبيها أبي الأسود الدؤلي (ت69هـ) "ما أجملُ السماء" (برفع أجمل) وكأنها تستفهم، وهي تريد أن تتعجب،من جمال السماء، تبيّن أنَّ اللحن في الحركة الإعرابية نتج عنه لبس فيالمعنى، وتصحيح أبي الأسود خطأ ابنته بقوله: "ما أجمل السماء (بفتح همزةالسماء) أدّى غرض التواصل والفهم.
وكذلكقصة الأعرابي الذي قرأ خطأ الآية الكريمة "أَنَّ اللهَ بَرِيئٌ مِنَالمُشْرِكينَ وَرَسُولَه"(3) (بكسر لام الرسول)، غيّر من مدلول الآيةومقصودها، فكان الخطأ دلالياً فأتبع بتصحيح الحركة الإعرابية، ممّا أدّىإلى سلامة دلالة الآية الكريمة.
إنلفتة سيبويه في باب الاستقامة من الكلام والإحالة يدعم فكرة اهتمام النحوالعربي بالظواهر الدلالية، فهو يقول: "فمنه (الكلام) مستقيم حسن، ومحال،ومستقيم كذب، ومستقيم قبيح، وما هو محال كذب.
- فالمستقيم الحسن: هو الترتيب أو التعبير المألوف في اللغة نحو: "أتيتك أمس، سآتيك غداً".
- المحال: وهو المتناقض في الاستعمال أو نقض أوّل الكلام بآخر، نحو: أتيتك غداً، سآتيك أمس.
- المستقيم الكذب، وهو تركيب مستقيم من حيث النحو وغير ممكن الوقوع في نحو: حملت الجبل وشربت ماء البحر.
- المستقيم القبيح: وهو وضع اللفظ في غير موضعه على الرغم من استقامته نحو: وكي زيد يأتيك، وقد زيداً رأيت.
- المحال الكذب: وهو ما لا يتوافق مع الواقع، والخروج عن منطق اللغة نحو: سوف أشرب ماء البحر أمس(4).
إناستقامة الجملة في جميع عناصرها عند سيبويه لا تختلف عما يسمّيه المحدثونبأصولية الجملة ومقبوليتها في نظرية النحو التوليدي التحويلي الذي رائدهنوام شومسكي، وعدم استقامة الجملة معناه أنَّها صحيحة قواعدياً ونحوياًولكنها غير صحيحة دلالياً.
والمتأملفي المصادر العربية يلفيها تؤكد الاهتمام المبكر بجوانب المسائل الدلاليةالمختلفة مثل ابن خلدون حين يتحدّث عن الملكة اللسانية، فهو يفترض فيالمتكلم أن يكون مزوّداً بمجموعة من القواعد النحوية والاختياريةوالدلالية حتى تكون لديه الكفاية اللغوية، وهو يكتسبها بحفظه للقرآنالكريم والحديث النبوي الشريف وكلام العرب من شعر ونثر وأمثال وحكم،فتساعده جميعها على إنجاز التركيب الصحيح والمفيد للجمل؛ وابن خلدون فيفكرته لا يختلف عن شومسكي حين عالج الكفاية اللغوية والأداء الكلامي.
ودرساللغويون مسائل دلالية مختلفة كالحديث عن نشأة اللغة، ودلالة ألفاظها،والمشترك والترادف والفروق، والسياق والمقام ومن هؤلاء الجاحظ وابن جنيوعبد القاهر الجرجاني وابن فارس، وإذا كان ابن جني قد عرف اللغة "بأنهاأصوات يعبّر بها كل قوم عن أغراضهم"(1)، فلا ريب في أنّ هذا التحديد لاينفي الدلالة عن اللغة.
وإذاما ألقى الدارس نظرة متفحصة على كتاب "المزهر في علوم اللغة" للسيوطيفإنَّه يجده ألمّ بأهم المسائل المتعددة والمختلفة التي طرقها علماءالعربية قبله، منها دلالة الألفاظ التي كانت تنصرف إلى درس خصائص العربيةوتاريخها وفقهها، فـ "المزهر في علم اللغة"(2)، احتوى على ثلاثة عشر باباًفي بحث اللغة من حيث المعنى، إضافة إلى ما احتوته الأبواب الأخرى من آراءدلالية متعددة.
وممّاتناولوه -أيضاً- نشأة اللغة وعلاقة ألفاظها بمعانيها، وانقسموا في ذلك إلىفريقين، ودخلت هذه المسألة ضمن الخلاف بين الفئات الدينية والفكرية،وأغلبهم لا يأخذ بالرأي القائل بالصلة الطبيعية الذاتية، ويعدّ عباد بنسليمان الصيمري- أحد المعتزلة- من أشهر العلماء الذين عرفوا به حيث يقول:"إنّ بين اللفظ ومدلوله مناسبة طبيعية حاملة للواضع على أن يضع، وإلاّ كانتخصيص الاسم المعيّن ترجيحاً من غير مرجّح(3).
ويمكن تلخيص المسائل الدلالية التي تداولها الدارسون وفقهاء اللغة كما أوردها السيوطي في أربعة آراء وهي:
1- تدلّ الألفاظ على المعاني بذواتها، وصاحب هذا الرأي هو عباد بن سليمان الصيمري.
2- أو بوضع الله إياها، والقائل به أبو الحسن الأشعري وتلاميذه، وعليه جمهرة كبيرة من اللغويين.
3- أو بوضع الناس، وهو رأي المعتزلة المستند إلى مفاهيم حول الذات الإلهية ونفي الجارحة عن الله عز وجلّ.
4-أو يكون بعضها من وضع الله، والباقي من وضع الناس وعليه علماء فقه الأصولالذين اختلفوا حول البداية، أهي من الله والتتمة من الناس أو العكس(1).
وفسّرابن فارس المعنى بالقصد والمراد حيث قال: "يقال عنيت بالكلام كذا، أي قصدتوعمدت، وقال قوم: اشتقاق المعنى من الإظهار، يقال: عنت القربة إذا لم تحفظالماء بل أظهرته، وقال آخر: المعنى مشتق من قول العرب: عنت الأرض بنباتحسن إذا نبتت نباتاً حسناً... لم تعن هذه الأرض أي لم تفد(2).
ويتضمنهذا التفسير ثلاثة عناصر أساسية ترتبط بالدلالة وهي: القصد والإظهاروالإفادة، فاللفظ عند إيراده يقصد به معنى معيّناً للإفادة بوساطته تكونالإفادة التامّة(3).
ولا شك في أنّ هذه العناصر متعلقة بالتأويل الذي يوصل إلى باطن اللفظ وتوضيح رؤيته الدلالية في الأسلوب أو الاستعمال الموظف فيه.
ويظهرالاهتمام بالعناصر المتحكّمة في إنتاج الخطاب ودلالته بجدّية ووضوح فيالمؤلفات البلاغية على العموم، وعند عبد القاهر الجرجاني، خاصة في كتابه"دلائل الإعجاز"(4) حول مفاهيم (الغرض، والنظم، واللفظ)، ولدى السكاكي-أيضاً- في كتابه "مفتاح العلوم"(5) حيث تطرّق إلى مفاهيم (المعنى والسياقوالاستعمال).
وإذاما أكّدنا أنّ السكاكي لم يتجاوز حدود التهذيب والتحسين، لما أنجزهالجرجاني علمنا أن كثيراً من المحدثين يعتبرون اتّجاه الجرجاني قمة الجهودالبلاغية العربية في ميدان البحث الدلالي، فدراسته للنظم وما يتصل به تقفبشموخ أمام النظريات اللغوية في الغرب، بل تفوق معظمها في مجال فهمالتركيب اللغوي، مع الفارق الزمني الواسع الذي يعد ميزة يختلف بها عبدالقاهر عن غيره ويعود إليه فضل السبق(6)، واعترف له علماء كثيرون بآرائهالذكية وبخاصّة في الجزء الذي يتناول المعنى النحوي والدلالي من كتابه"دلائل الإعجاز".
ويمكناستخلاص الملامح الرئيسة لنظرية عبد القاهر الجرجاني الدلالية من النصالآتي: "وإذا قد عرفت أنَّ مدار أمر النظم على معاني النحو، وعلى الوجوهوالفروق التي من شأنها أن تكون فيه، فاعلم أنَّ الفروق والوجوه كثيرة ليسلها غاية تقف عندها، ونهاية لا تجد لها ازدياداً بعدها، ثم اعلم أن ليسالمزية بواجبة لها في أنفسها ومن حيث هي على الإطلاق، ولكن تعرض بسببالمعاني والأغراض التي يوضع لها الكلام، ثم بحسب موقع بعضها من بعضواستعمال بعضها مع بعض"(1).
يوضّح هذا النص نظرة عبد القاهر الجرجاني للدلالة، ويحدّد عناصرها الثلاثة التي تعدّ أساسية في مناقشة دلالة اللفظ والمعنى، وهي:
الغرض الذي يوضع له الكلام.
النظم الذي ينظم مواقع الكلمات.
اللفظ الذي يحدّد كيفية استعمال الكلمات بعضها مع بعض، وبمعنى آخر، (المعنى والغرض)، و(النظم) ثمّ (الشكل السطحي).
ولاريب في أنَّ مثل هذا العمل يعدّ كافياً للتدليل على مساهمة البلاغةالعربية واهتمامها بالظواهر الدلالية، وهي حقيقة ينبغي الاعتراف بهاوالانطلاق منها في كلّ دراسة منصفة وجادّة(2).
وكانتدراسة عبد القاهر للنظم وما يتّصل به من تعليق وبناء وترتيب من أكبرالجهود التي بذلتها الثقافة العربية في سبيل إيضاح المعنى الوظيفي فيالسياق والتركيب.
وقدّمت البلاغة العربية فكرتين من أنبل ما وصل إليه علم اللّغة الحديث في بحثه عن المعنى الاجتماعي الدلالي، وهما:
1-المقال
2-والمقام.
ونجد علماء البلاغة ربطوا بين هاتين الفكرتين بعبارتين شهيرتين أصبحتا شعاراً يهتف به كلّ ناظر في المعنى:
-العبارة الأولى "لكلّ مقال مقام".
-والثانية "لكلّ كلمة مع صاحبتها مقام".
وتعتبر هاتان العبارتان من نتائج المغامرات الفكرية في دراسة اللغة في الغرب المعاصر"(3).
وتناولالبلاغيون العرب العلاقة بين اللفظ والمعنى حين تعرّضهم لمسألة الفصاحةوالبيان، فأبرزوا قضية الاختلاف والائتلاف بين الحروف في التعبير عنالمعاني، وتجاور الأصوات وما له من دور في فصاحة اللفظ وتحسين المعنىوإيصاله إلى المتلقّي وأهميّتها في إنتاج الخطاب الإقناعي.
وكما يقول القزويني: "دلالة اللفظ إمّا على ما وضع له، أو على غيره.
والثانيإمّا داخل في الأوّل دخول السقف في مفهوم البيت، أو الحيوان أو خارج عنهخروج الحائط عن مفهوم السقف، أو الضاحك عن مفهوم الإنسان، وتسمّى الأولىدلالة وضعية، وكل واحدة من الأخيرتين دلالة عقلية، وتختصّ الأولى بدلالةالمطابقة والثانية بالتضمن والثالثة بدلالة الالتزام"(1).
وشهدالتأليف في أصول الفقه والدين جهوداً دلالية واضحة، وإليه يعود الفضل فيإثارة الكثير من المسائل والقضايا الدلالية التي غدت علوماً مستقلة، ومنذلك مبحث "الألفاظ الإسلامية" وهي مجموعة من المفردات غيّر دلالتهاالإسلام، فأصبحت تحمل معاني غير تلك التي كانت معروفة بها في العصرالجاهلي.
وعنىالمؤلفون في أصول الفقه ببحث معاني الألفاظ عناية خاصة، وأفردوا لهافصولاً في كتبهم، لأنَّ دلالة الألفاظ من أهمّ موضوعات علم الأصول(2).
وبرزالاهتمام بالمسائل الدلالية واضحاً في تضاعيف التفاسير التي بدأت لغويةكالغريب ومعاني البيان القرآني وسحره وما إلى ذلك، فابن عباس (ض) يصرّحبأنَّه لم يكن يدري المراد من كلمة "فَاطِر"(3)، وأيضاً "وحَنَاناً مِنْلدُنَّا"(4)، وفي رواية أنّ ابن عباس (ض) قال: كل القرآن أعلمه إلاّأربعاً: "حَنانَاً"، "غِسْلِين"(5)، "أَوّاه"(6) و "الرَّقيم"(7).
وهيالبوادر الأولى التي انتهت بالتأليف في غريب القرآن الكريم، والحديثالنبوي الشريف، فكانت نتائجها معاجم لغوية ألّفت لخدمتهما، ويذكر منها علىسبيل المثال: "المفردات في غريب القرآن" للراغب الأصفهاني (ت 502هـ)، و"الفائق في غريب الحديث" للزمخشري (ت 538هـ).
وممّايؤسف له أنَّ معظمها ضاع، ولم يبق منها إلاّ كتاب "الغريب المصنف" لأبيعبيد القاسم بن سلام (ت224هـ)، وكتاب ابن قتيبة (ت 276هـ) في غريب القرآن،والذي أخلط فيه بين منهجي كتب اللغة وكتب التفسير، كما ألف أبو عبيد أحمدبن محمد الهروي (ت 401هـ) كتاباً في الغريبين، "غريب القرآن وغريبالحديث"(1).
والطريفأنَّ أبا حاتم أحمد حمدان الرازي (ت 322هـ) ألّف كتاباً في تطور معانيالألفاظ جمع فيه عدداً من الألفاظ الإسلامية، ودرسها دراسة تطوريةتاريخية، وتتبع معانيها من العصر الجاهلي إلى العصر الإسلامي، وقد سماه"الزينة في الكلمات الإسلامية"(2)، وهو لا يختلف في بنائه عن معاجم الحقولالدلالية(3).
أمّاالسيد الجرجاني (ت 810هـ) فإنَّه يورد في "تعريفاته" كلاماً جامعاً عنالدلالة في الثقافة الأصولية، قائلاً: "الدلالة هي كون الشيء بحالة يلزممن العلم به العلم بشيء آخر، والشيء الأوّل هو الدال، والثاني هو المدلول.وكيفية دلالة اللفظ على المعنى باصطلاح علماء الأصول محصورة في عبارةالنص، وإشارة النص، ودلالة النصّ واقتضاء النص"(4).
ولماكان لعلم الفقه اصطلاحاته فقد ألِفّت معاجم لهذا الغرض، وممن ألفوا فيهالأزهري: أبو منصور محمد بن أحمد (0370-)، وله كتاب "الزاهر في غرائبألفاظ الإمام الشافعي "(ت 210هـ)، ثمّ "المطريزي (ت 610هـ): أبو الفتحناصر عبد السيّد"، وله كتاب "المغرب في ترتيب المغرب"، وكانت هذه المعاجمهي الأخرى خاصة بغريب القرآن وغريب الحديث(5).
يذكرابن خلدون في مقدمته أصول الفقه، وما يتعلق به من "الجدل والخلافيات"،وينصّ على صلة الفقه بالدلالة في مستوياتها المتعدّدة قائلاً: "... يتعينالنظر في دلالات الألفاظ، وذلك أن استفادة المعاني على الإطلاق من تراكيبالكلام على الإطلاق، يتوقف على معرفة الدلالة الوضعية مفردة ومركبة،والقوانين اللسانية في ذلك هي علوم النحو والتصريف والبيان...
ولايكفي فيه معرفة الدلالات الوضعية على الإطلاق، بل لا بدّ من معرفة أمورأخرى تتوقف عليها تلك الدلالات الخاصة، وبها يستفاد الأحكام بحسب ما أصّلأهل الشرع وجهابذة العلم من ذلك.
وجعلوهقوانين لهذه الاستفادة مثل: "إنَّ اللغة لا تثبت قياساً، والمشترك لا يرادبه معنيان معاً، والواو لا تقتضي الترتيب، والعام إذا أخرجت أفراد الخاصمنه، هل يبقى حجة فيما عداه؟ والأمر للوجوب أو الندب وللفور أو التراخي،والنهي يقتضي الفساد، أو الصحة، والمطلق هل يحمل على المقيّد؟ النص علىالعلّة كاف في التعدّد أم لا؟ وأمثال هذه، فكانت كلها من قواعد هذا الفن،ولكونها من مباحث الدلالة كانت لغوية"(6).
وقسّمالفارابي الدلالة إلى: دلالة مطابقة ودلالة تضمن ودلالة التزام، فهو يقول"إنّ اللفظ الدال بالوضع يدل على تمام ما وضع له بالمطابقة وعلى جزئهبالتضمن، وعلى ما يلازمه في الذهن بالالتزام كالإنسان، فإنَّه يدل علىتمام الحيوان الناطقة بالمطابقة وعلى جزئه بالتضمن وعلى قابلية التعلمبالالتزام"(1).
وكانتغاية علماء الأصول من دراسة المعنى هو الوصول إلى الحكم الشرعي، كدلالةلفظ القرء على الحيض وهو ما أخذ به الحنفية، وعلى الطهر وهو مذهب غيرهم،وذلك من قوله تعالى: "والمُطَلَّقَاتُ يَتَربَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّثَلاثة قُرُوءٍ"(2) لأنّ لفظ القرء يحمل المعنيين معاً(3).
وتناول علم أصول الفقه الألفاظ باعتبارات متعدّدة.
- الدلالة الحقيقية، وهي ما يقصده المتكلم بظاهر ألفاظه.
- الدلالة الإضافية (النسبية) وهي ما يفهمه السامع من رسالة المتكلم.
- وباعتبار كمال المعنى الموضوع له اللفظ هناك دلالة المطابقة والتضمّن والالتزام.
- وباعتبار شمول اللفظ لأفراده محصورين أو غير محصورين هناك العام والخاص والمشترك، ويشمل الخاص المطلق والمقّيد والأمر والنهي.
- وباعتبار الاستعمال وشيوعه وتغيّر المعنى من زمن إلى زمن ومن بيئة إلى أخرى هناك الحقيقة والمجاز.
-ومن حيث الوضوح والغموض في المعنى تقسّم الألفاظ إلى الواضح والغامض،ويقسّم هذا الأخير إلى المتشابه والمشكل والمجمل والخفي، وينقسم الواضحإلى ظاهر ونص ومفسر ومحكم.
- ومن حيث طرق الدلالة هناك دلالة باعتبار النص ودلالة بإشارته وأخرى بفحواه والأخير باقتضائه(4).
ولماكان الجانب الفلسفي قد احتلّ حيزاً ضخماً في التراث اللغوي العربي، فنجدهتعرّض بإسهاب إلى البحث الدلالي، بل ارتبط علم الدلالة بالفلسفة والمنطقأكثر من أي علم آخر حتى قال بعضهم: "إنّك لا تستطيع أن تقول متى تبدأالفلسفة وينتهي السيمانتيك، وما إذا كان يجب اعتبار الفلسفة داخلالسيمانتيك، أو السيمانتيك داخل الفلسفة"(5).
ويعدّ"ابن سينا" من الفلاسفة الذين بحثوا في الدلالة، فوجدها عبارة عن صوتين،الأول منطوق والمتمثل في الصوت، والآخر ذهني أو متصوّر، وهو ما عبّر عنهقائلاً:
"فمعنىدلالة الألفاظ أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم ارتسم في النفسمعنى، فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهوم، فكلما أورده الحس علىالنفس التفتت إلى معناه"(1).
وتعرضالغزالي إلى العلامة فقال: " لا متكلم إلاَّ وهو محتاج إلى نصب علامةلتعريف ما في ضميره"(2)، وأورد -أيضاً-: "إنّ للشيء وجوداً في الأعيان،ثمّ في الأذهان، ثمّ في الألفاظ، ثمّ في الكتابة، فالكتابة دالّة علىاللفظ، واللفظ دالّ على المعنى الذي في النفس، والذي في النفس هو مثالالوجود في الأعيان"(3).
وهويشير في نصّه إلى العلاقة المتبادلة بين الألفاظ ومدلولاتها مع تركيزه علىأنّ المعاني أساسها الذهن وليس اللفظ في حدّ ذاته، كما يقول أيضاً: "فاعلمأن كل من طلب المعاني من الألفاظ ضاع وهلك، ومن قرر المعاني أولاً في عقلهثمّ أتبع المعاني الألفاظ فقد اهتدى(4).
فهويؤكّد على أهمية استعمال الألفاظ في التركيب الذي به تفهم الدلالات أمّاتلك الخارجة عنه فتحمل المعاني في نفسها، أو يمكن تكون معانيها في درجاتالصفر.
ومنالدارسين الذين تعرضوا للمسائل الدلالية في التراث العربي شرّاح الشعر،والنقاد وعلماء الإعجاز، فاهتمّوا بقضّية اللّفظ والمعنى، والحقيقةوالمجاز، وعرضوا للاستعارة، والغريب والمأنوس والوحشي والفروق والمشتركوالأضداد والترادف.
فمنعلماء الإعجاز الباقلاني والرماني، ومن النقاد الجاحظ وابن رشيق الذي يرىأن "اللفظ جسم وروحه المعنى، وارتباطه كارتباط الروح بالجسم، يضعف بضعفويقوى بقوته"(5)، و هو لا يخرج عن البحث في أهمية اختيار اللفظ في التركيبلما يناسبه من معنى، وانتظامه مع الوحدات الأخرى للتعبير عن فصاحة الكاتبأو إيصال الغرض وإفادة المخاطب -بفتح الطاء-.
ويتضحمما سبق اهتمام العرب المبكر بالظواهر الدلالية ومسائلها، وعلى الرغم منكل هذه البحوث المتناثرة في مصادر متعدّدة ومتنوّعة، فإنّ ذلك لم يصلبطبيعة الحال إلى ما يمكن أن تطلق عليه نظرية دلالية أو علم الدلالة كمايتناوله البحث اللغوي الحديث.
ولكنما ينبغي التأكيد عليه هو أن هذه البحوث تعدّ من صميم علم الدلالة ولايمكن إغفالها حين التأريخ له، أو التعرّض إلى مراحل تطوره سواء عند العربأو عند غيرهم من الأمم.
فهرس المصادر والمراجع كما وردت في البحث.
(1) إبراهيم أنيس، دلالة الألفاظ، مكتبة الأنجلو المصرية، ط: 3، سنة 1972.
(2) أحمد محمد قدور، مبادئ اللسانيات، دار الفكر، دمشق، ط: 1، سنة 1996.
(3) أحمد مختار عمر، علم الدلالة، عالم الكتب، القاهرة، 1988.
(4) عبد الستار لبيب، الحضارات، دار المشرق، ط: 8، بيروت، 1990.
(5)محمد المبارك، فقه اللغة وخصائص العربية- دراسة تحليلية مقارنة وعرض لمنهجالعربية الأصيل في التجديد والتوليد-، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع،ط: 7، سنة 1971.
(6)ابنمنظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم، لسان العرب، المؤسسة المصريةالعامة للتأليف والأنباء والنشر، الدار المصرية للتأليف والترجمة، دونسنة.
(7)الهمذاني، عبد الرحمن بن عيسى الكاتب، الألفاظ الكتابية، دار الكتابالعربي، راجعه وقدم له الدكتور السيد الجميلي، ط: 2، 1998م، بيروت لبنان.
( ابن فارس، أبو الحسن أحمد بن زكريا، متخيّر الألفاظ، تحقيق هلال ناجي، مطبعة المعارف، القاهرة، سنة 1970.
(9) أبو طالب زيان، المعاجم اللغوية بين ماضيها وحاضرها، مجلة المجمع العلمي العربي، سواري، يناير 1965.
(10)عز الدين إسماعيل، المصادر الأدبية واللغوية عند العرب إلى نهاية القرنالثالث الهجري، منشورات دار مكتبة الحياة، بيروت، لبنان، ط: 1، 1980.
(11) ابن جني، أبو الفتح عثمان، الخصائص، تحقيق محمد علي النجار، دار الهدى للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، دون سنة.
(12)نور الهدى لوشن، إلياذة الجزائر لمفدي زكريا -دراسة دلالية- دكتوراه دولة،بمعهد اللغة العربية وآدابها، جامعة الجزائر، الجزائر، سنة 1990 (مخطوط).
(13)سيبويه،أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، الكتاب، تحقيق وشرح عبد السلام هارون،الناشر مكتبة الخانجي للطباعة والنشر، ط: 3، القاهرة، سنة 1998.
(14) القرآن الكريم، رواية الإمام ورش، دار المصحف، شركة مكتبة ومطبعة عبد الرحمن محمد، القاهرة، مصر.
(15)شلواي عمار، درعيات أبي العلاء، دراسة دلالية، الألفاظ الخاصة بالإنسانوحياته الاجتماعية والاقتصادية، رسالة ماجستير، بمعهد اللغة العربيةوآدابها، جامعة قسنطينة، الجزائر، سنة 1995 (مخطوطة).
(16)السيوطي، عبد الرحمن جلال الدين، المزهر في علوم اللغة، شرح وتصحيح وعنوانوتعليق محمد أحمد جاد المولى، وآخران، دار إحياء الكتب العربية، مطبعةعيسى البابي وشركاه بمصر.
(17) أحمد بن فارس، الصاحبي في فقه اللغة وسنن العرب في كلامها، تحقيق مصطفى الشويهي، المكتبة العربية، بيروت، 1964.
(18) الجرجاني عبد القاهر، دلائل الإعجاز في علم المعاني، دار المعرفة للطباعة والنشر، بيروت، لبنا، 1983.
(19) الخطيب القزويني، الإيضاح في علوم البلاغة، شرح وتعليق محمد عبد المنعم خفاجي، مكتبة الكليات الأزهرية، ط: 2 القاهرة.
(20) تمام حسان، اللغة العربية معناها ومبناها، الشركة الجديدة، دار الثقافة، الدار البيضاء، المملكة المغربية، دون سنة.
(21)أحمد طاهر حسنين، نظرية الاكتمال اللغوي -منهج شامل لتعليم اللغة العربية(الأصوات، الصرف، المعاجم، النحو- دار الفكر العربي، القاهرة، ط:1، مصر،سنة 1987.
(22) أبو حاتم الرازي، الزينة في الكلمات الإسلامية، تحقيق حسنين الهمذاني، ط:2، القاهرة،
[b]سنة 1957. [