منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي Empty الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي

    مُساهمة   الأربعاء سبتمبر 22, 2010 8:14 am

    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي Bahthakad
    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحديث ـــ مازن بن عوض الوعر

    ناشر الموضوع : الشريف




    الأبعاد الشعريّة واللغويّة والفلسفيّة لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحديث ـــ مازن بن عوض الوعر


    1-مدخل:


    الشعر واللغة والفلسفةموضوع قديم قدم الشعر واللغة والفلسفة فقد عرفت كل أمة من الأمم شيئاً منهاتيك الضروب.. كما عرفت بعض النظريات التي حاولت أن تفسر العملية الشعريةواللغوية والفلسفية.


    وكما هو معروف فإن أية نظرية علمية أو إنسانية تحاول أن تلتقط الواقع الإنساني وتفسره إنما هي عرضة للإثبات والتفنيد.


    وربما هو هذا الصراعالدائر بين الإنسان وواقعه ذلك الذي يفند النظرية العلمية أو يثبتها فيبعض الأحايين. وهكذا فإنه مهما كانت النظرية دقيقة فإنها عرضة للتغيروالتبدل ما دام الواقع الإنساني نفسه عرضة للتبدل والتغير.


    والحقيقة أن هذا الصراعالدائر بين الإنسان وواقعه إنما هو مطلوب في بناء الحضارات البشرية عبرالتاريخ وذلك لأن الصراع إنما هو في جوهره عملية تطورية.


    هذه العملية التطورية يمكن أن تكون صاعدة نحو الأحسن والأفضل والأنجع ويمكن أن تكون منحدرة نحو الانحطاط والتقهقر الحضاري.


    ولكن على الرغم من هذاالصعود والانحدار الحضاري فإن الصراع موجود وباق عبر المسيرة الإنسانيةوفي هذا العالم الفيزيائي العرضي على حد تعبير أرسطو.


    إن الهدف من هذا البحث هورصد هذا الصراع ومعرفة طبيعته وذلك من خلال عمل فلسفي كان أبو العلاءالمعري قد صاغه منذ عشرة قرون من الزمن ثم معرفة طبيعة هذا الصراع وذلك منخلال أبعاده الشعرية واللغوية والفلسفية، التي يمكن أن تحلل في ضوء علماللسان الحديث Linguistics


    2-رسالة الغفران: طبيعتها وأسبابها:


    أملى أبو العلاء المعريهذه الرسالة سنة 424 هـ وذلك رداً على رسالة تلقاها من ابن القارح، علي بنمنصور، الأديب الحلبي، وقد أملى هذه الرسالة وهو في سن التشاؤم والانهزاممن الحياة.. والواقع أن العالم النفسي لأبي العلاء في رسالته هذه إنما كانمتأثراً بموقفه من المجتمع الذي كان يعيش فيه من هنا فقد كان تصوير أبيالعلاء لشخصيات الرسالة تصويراً ناطقاً ولا سيما ذلك الوصف الذي تناول بهبشار بن برد الذي حرم بصره في الدنيا ثم أعيد إليه بصره لا ليسير به، بلليبصر أنواع العذاب ومذاقها. وقد كانت شخصيات رسالة الغفران شخصياتاصطفاها أبو العلاء من عالم الشعراء واللغويين والمغنين وذلك لتشكيل وحدةمسرحية ناطقة معبرة لما كان يجري في عالم أبي العلاء النفسي والخيالي.


    وترى بنت الشاطئ أن طبيعةرسالة الغفران تشبه طبيعة العمل المسرحي والفني وهكذا فإن رسالة الغفرانعلى حد رأيها إنما هي مسرحية تتألف من فصول ثلاثة هي الجنة، والجحيم ثمالعودة إلى الجنة(1).


    تبدأ الرسالة بنهوض ابنالقارح من القبر تلبية لنافخ الصور كما لبى سكان القبور. وهكذا فإن بداياتالرسالة إنما هي محاولة ابن القارح الولوج إلى الجنة بعد الشفاعةوالمغفرة، وفي الجنة يجتمع إلى أهلها وبعض سكانها ثم يعرج على النارفيتحدث إلى من تشملهم المغفرة.


    3-البنية التركيبية لرسالة الغفران:


    تمثل رسالة الغفران وحدةبنوية كاملة ذات بعد شعري ولغوي وفلسفي وهذا ما دفعني بالفعل إلى النظر فيهذه الرسالة نظرة كلية معتبراً إياها عملاً منسجماً ومتناسقاً في وحداتهوعناصره التي تمثل تلك الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية.


    والواقع أن النظريةالبنوية (البنيوية) بعد أن تنظر إلى النص نظرة كلية تحاول تفتيت ذلك الكلإلى وحدات وعناصر صغرى وذلك لمعرفة تركيباتها وبنائها ولمعرفة المهاد(الخلفية) الذي مكن الكاتب من صياغة ذلك الكل الفني أو الفكري.


    فرسالة الغفران تتركب منعدة وحدات بنوية كالنار والجنات المختلفة في طبيعتها وأماكنها كجنة الأنسوجنة العفاريت وجنة الحيوانات والجنة اليانعة المزهرة المثمرة والجنةالذابلة القاحطة التي تكاد تشرف على النار وربما يتبين التركيب البنويلهذه الأماكن من خلال هذه الصورة(2):


    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي 1


    4-وحدات البنية التركيبية:


    إن الوحدات الحركية لبنيةالرسالة إنما هي في طبيعتها وحدات شعرية ولغوية وغنائية وخيالية ورمزيةوأخلاقية وفلسفية وقد حاول أبو العلاء تركيب كل هذه الوحدات من خلالالعملية الوصفية التي تبناها في شعره ونثره.


    والواقع أن هذه العمليةالوصفية التي هي في طبيعتها وصف شعري ولغوي وغنائي ورمزي وأخلاقي وفلسفيإنما هي وصف لحياة أبي العلاء تلك الحياة التي لا تطمئن النفس إليها والتيلم يرض بها أبو العلاء وذلك لفساد ما فيها من سياسة وخلق. هذه الحياةالواقعية الخارجية أثرت على حياة أبي العلاء النفسية والفكرية وصبغتهابألوان من المصائب وعثور الجد والارتحال وهكذا فإذا بالعالم الخارجي يتآلفمع العالم النفسي الداخلي ليشكل بنية فنية رائعة أراد أبو العلاء لها أنتكون منسجمة ومتناسقة كما يتمثل ذلك من خلال هذه الصورة:


    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي 2


    وهكذا فإن البنية الفنيةالعلائية إنما هي حصيلة الجهد الحياتي الواقعي الذي تفاعل مع الفكر والنفسوالخيال ليشكل بنية تتجلى وحداتها في الشعر واللغة والغناء والخيال والرمزوالأخلاق.


    (1)الوحدات الشعرية:


    الوحدة الشعرية تركيب هام جداً في رسالة أبي العلاء وتأتي أهميته من الوظيفة الفنية والتاريخية التي شغلها في الرسالة.


    فقد كانت مهمة الوظيفةالفنية هي نقل الأحاسيس والمشاعر والتأملات التي يمكن للشعراء أن يتغنوابها معبرين أحياناً عن شيء واقعي وفي أحايين أخرى عن شيء خيالي تجريدي.


    أما الوظيفة التاريخية فهيتنبئ القارئ بالأحداث التاريخية التي حدثت في فترة معينة من التاريخ..وهكذا فإن الوظيفة التاريخية ستحدد المكان والزمان والحدث الذي أبدع تلكالتأملات والمشاعر.


    وكان أبو العلاء يطبق ماكان قد أكده أرسطو عندما اعتبر الشعر أكثر فلسفة في التاريخ، ذلك لأنالتاريخ يخبرنا عما حدث ولكن الشعر يخبرنا عما حدث وما سوف يحدث.


    وهكذا فقد حاول أبو العلاءفي رسالته أن يفلسف الماضي والمستقبل وذلك من خلال تركيزه على الوحدةالشعرية التي كان لها دور فعال في الرسالة. والواقع يمكننا تقسيم الوحدةإلى عنصرين فرعيين...


    العنصر الشعري الذي تدورأحداثه ووقائعه في الجنة والعنصر الشعري الذي تدور أحداثه ووقائعه فيالنار أما العنصر الشعري الأول فإنه يتصف بصفات فلسفية تتوافق إلى حد مامع المبادئ الفلسفية التي أرادها أبو العلاء لسكان جنته... وهكذا فمهماكان مدح علي بن منصور لخازن الجنة (رضوان+ زفر) ذلك الذي أراد أن يطبقالمبادئ الفلسفية على سكان تلك الجنة فإنه لم يشفع له بالدخول وذلك لأنالمبادئ الفلسفية والأخلاقية لذلك المكان لم تنسجم مع ما جاء به علي بنمنصور الشاعر من الأحاسيس والمشاعر العشوائية التي كان يقرظ بها (رضوانوزفر) خازني الجنة.


    وهكذا فإننا نرى عليا يستبدل بهذه القيم الشعرية الحسية والعرضية قيماً أخرى تلك التي اصطلح عليها بـ "صك التوبة".


    لقد فهم أبو العلاء المعادلة الفلسفية فهماً بنوياً مترابطاً ومنسجماً يتمثل في هذه الصورة:


    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي 3


    عنصر شعري + عنصر أخلاقي+ عنصر فلسفي= جنة مثالية.


    وهكذا فإن أي شاعر يمكن أنيحقق هذه المعادلة سيكون بلا شك في جنة أبي العلاء... من هنا فقد اختارأبو العلاء عدة شعراء جاهليين وإسلاميين وأمويين كانوا قد حققوا المعادلةالتي أرادها أبو العلاء في العملية الشعرية...


    إن البنية التركيبية لجنة أبي العلاء إنما تتبين من خلال هذه الصورة:


    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي 4


    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي 5


    أما العنصر الشعري الثانيفهو عنصر شعري تدور أحداثه ووقائعه في النار. إن المبادئ الأخلاقيةوالفلسفية لهذا العنصر الشعري إنما تتعارض مع المبادئ التي أرادها أبوالعلاء لسكان جنته.


    إن الوظيفة الوحيدة لهذاالعنصر الشعري هي وظيفة حسية غير أخلاقية أو ملتزمة بمبدأ فلسفي. لذلك فإنالمكان الوحيد لإحداث هذا العنصر الشعري إنما هو النار التي وقودها الشعرالخارج عن الأخلاق وعن الفلسفة العلائية.


    والواقع لقد فهم أبو العلاء المعري العلاقة البنوية للعنصر الشعري الفرعي فهما يتمثل في هذه المعادلة.


    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي 6


    إن أي شاعر يضع الشعر فيهذه المعادلة سيكون في نار أبي العلاء لذلك فإننا نرى أبا العلاء قد اختارعدة شعراء جاهليين وأمويين وعباسيين وكانوا قد حققوا في أشعارهم معادلتهالفلسفية:


    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي 7


    (2)الوحدات اللغوية:


    إن الوحدة اللغوية تشكلبنية تركيبية أخرى في رسالة أبي العلاء والواقع لقد أعطى أبو العلاء هذهالوحدة اللغوية وظيفة الحكم العادل الذي يمكن له أن يعدل بين الوحداتالشعرية ولكن أبا العلاء لم يكن واثقاً كل الثقة من وظيفة ذلك الحكمالعادل ذلك لأن الوحدة اللغوية يمكن أن تخل في وظيفتها هذه.


    من هنا فإن أبا العلاءيريد فكر اللغوي وعلمه لا عواطفه وأحاسيسه ذلك لأنه لا مكانة للعاطفة فيالعمل اللغوي لذلك نرى أبا العلاء يعرض الشواذ اللغوية التي يمكن لها أنتحدث في أعمال اللغويين.


    إن مهمة اللغة في رسالةأبي العلاء هي مهمة التزامية هدفية بحيث يمكن لها أن تحكم على العمليةالشعرية حكماً عادلاً وصائباً وذلك من خلال اكتشاف الخلل الذي يمكن أن يتمفي الوحدات الشعرية.


    وهكذا فإن وظيفة اللغة هي وظيفة المراقب الراشد والناضج الذي يستخدم عقله وفكره لا أحاسيسه وعواطفه.


    لذلك نرى أن أبا العلاء يختار عدة علماء في اللغة ليحكموا على العملية الشعرية:


    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي 8


    (3)الوحدات الغنائية:


    لقد أعطى أبو العلاء هذهالوحدات وظيفة ترفيهية تريد أن ترفه عن سكان جنته.. وقد ربط أبو العلاءهذه الوحدات الغنائية بالوحدات الشعرية واللغوية وذلك لأن العمليةالغنائية يجب أن تستلهم موادها من العملية الشعرية البسيطة فالمغنونسيغنون تلك الأشعار الخفيفة والمستحبة والملائمة لألحانهم وحناجرهم. هذهالأشعار الخفيفة والمستحسنة والبسيطة إنما صيغت في بناء لغوي مهذب ومشذب.وهكذا فإن الدفق الشعري والغنائي ينبغي أن يؤطر في قالب لغوي شعبي ترتاحله الأذن ويطرب له السامعون.


    من هنا كان على علماءاللغة أن يصيغوا قوالب لغوية بسيطة شعبية وواقعية يمكن للشعراء أنيستخدموها للتعبير عن عواطفهم وأحاسيسهم ومن ثم يمكن للمغنين أن يستسيغواهذه القوالب اللغوية البسيطة ليغنوها حسب ألحانهم وموسيقاهم.


    وهكذا فإن جميع هذه العناصر تتألف لتشكل وحدة غنائية رفيعة أرادها أبو العلاء أن تكون متفاعلة ومنفعلة في الوقت نفسه.


    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي 9


    إن الخليط تصدع


    فطر بدائك أو ق ع

    لولا جوار حسان


    مثل الجآذر أو ب ع

    أم الرباب وأسما


    ع والبغوم وبو ز ع

    لقلت للظاعن أظعن


    إذا بدا لك أو د ع



    وهكذا نرى أبا العلاء يذكرعلى لسان علي بن منصور الأبيات التي تنسب إلى الخليل بن أحمد الشاعراللغوي، "والخليل يومئذ في الجماعة وأن هذه الأبيات تصلح لأن يرقص عليها.فينشئ الله القادر بلطف حكمته، شجرة من عفر فتونع لوقتها ثم تنفض عدداً لايحصيه إلا الله سبحانه وتنشق كل واحدة منه عن أربع جوار يرقن الرائين، ممنقرب والنائين يرقصن على الأبيات المنسوبة إلى الخليل فتهتز أرجاء الجنةطرباً".


    ويقول الشيخ علي بن منصور:لمن هذه الأبيات يا أبا عبد الرحمن؟ فيقول الخليل لا أعلم. فيقول: إنا كنافي الدار العاجلة نروي هذه الأبيات لك. فيقول الخليل: لا أذكر شيئاً منذلك ويجوز أن يكون ما قيل حقاً فيقول: أفنسيت يا أبا عبد الرحمن وأنت أذكرالعرب في عصرك؟ فيقول الخليل:


    إن عبور السراط ينفض الخلد مما استودع(3)


    وقد ذكر أبو العلاء عدةمغنين وملحنين في رسالته كانوا عمدة الغناء في تاريخ الغناء العربي ولاسيما هؤلاء الذين عاشوا في عصر الدولة العباسية.. ويمكن لنا معرفة الوحداتالغنائية في جنة أبي العلاء من خلال هذه الصورة:


    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي 10


    (4)الوحدات الخيالية:


    أعطى أبو العلاء المعريالوحدات الخيالية في رسالته وظيفة تلوينية مقارنة، فهذه الوحدات الخياليةلها الوظيفة نفسها التي تتمتع بها الوحدات الشعرية ولكن بالإضافة إلى ذلكهناك وظائف أخرى ليست متوفرة في الوحدات الشعرية. فأبو هدرش الخيتعوريستطيع أن ينظم من القصيد والرجز ما لا يمكن أن تسعه صحف الدنيا كلها،وهكذا فقد أعطى أبو العلاء هذه الوحدات الخيالية قوة توليدية قادرة علىالخلق الشعري اللا متناهي وكأن أبا العلاء في هذا يشبه عالم اللسانالأمريكي نوم تشومسكي الذي أعطى اللغة بعداً توليدياً لا نهاية لهفالإنسان يمكن أن يولد ما شاء الله له من الجمل اللغوية الجديدة والمتنوعةوذلك من خلال قوانين نحوية دقيقة قادرة على التمييز بين ما هو نحوي وما هوليس بنحوي. هذه القوانين النحوية إنما هي قادرة على توليد أبنية لغويةيمكن لها أن تستخدم لشتى الأغراض اللغوية(4).


    وبما أن الشعر والعمليةالشعرية إنما هي جزء من العملية اللغوية فإن الخيتعور أبا هدرش يمكن أنيولد ما شاء الله له من الشعر والرجز وذلك لأنه يملك تلك القوة السحريةوالتوليدية القادرة على خلق الشعر في اللغات البشرية كافة.


    وربما فعل أبو العلاء هذالأنه أدرك أن الخيتعور الجني يمكن أن يتكلم جميع اللغات البشرية بالإضافة إلى لغة خاصة به لا يعرفها أهل الأنس. وبهذا يكون الخيتعور قد عرف كلالقوانين النحوية العالمية التي هي أساس قوي في نظرية عالم اللسانالأمريكي نوم تشومسكي.


    فإذا كان لأبي هدرشالخيتعور القدرة عل تكلم اللغات البشرية كلها فإنه من البدهي أن يعرفالتركيبات البنوية للعملية الشعرية في كل تلك اللغات البشرية.


    ثم إن الخيتعور وأمثاله همأول الخلق ذلك لأنهم سكنوا الأرض قبل أن يسكنها آدم وقبل أن تسكنهاالشياطين أو بنو الشيصبان على حد تعبير أبي العلاء.


    إن البنية التركيبية للوحدات الخيالية إنما تتمثل في هذه الصورة:


    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي 11


    (5)الوحدات الرمزية:


    استطاع أبو العلاء أن يخلععلى الوحدات الرمزية الحيوانية صفة الإنسان القادر على تكلم اللغةومعرفتها من جميع المستويات الصوتية والنحوية والدلالية.


    فحية ذات الصفا على سبيلالمثال كانت قادرة على التكلم باللغة العربية ثم هي قادرة على التمييز بينقراءات قرآنية ثلاث وذلك من الناحية الصوتية والنحوية والدلالية لأنهاسكنت في دار الحسن البصري وكانت تسمعه يتلو القرآن حتى إذا مات ذهبت إلىدار حمزة بن حبيب لتسمعه يتلو القرآن فإذا مات حمزة رحلت إلى دار أبي عمروبن العلاء لتسمع قراءته القرآنية.


    والواقع لقد أعطى أبوالعلاء المعري هذه الوحدات الحيوانية وظيفة رمزية تنطوي على أبعاد أخلاقيةوفلسفية، وذلك تأكيداً على المبادئ الأخلاقية والفلسفية التي أرادها أبوالعلاء لسكان جنته.. فهذا هو أسد القاصرة يلهم التكلم باللغة العربيةليناقش ويحاور الشيخ علي بن منصور قائلاً:


    "أنا أسد القاصرة التي كانت في طريق "مصر" فلما سافر عتبة بن أبي لهب يريد تلك الجهة، وقال النبي r: اللهم سلط عليه كلباً من كلابك"، ألهمت أن أتجوع له أياماً وجئت وهونائم بين الرفقة فتخللت الجماعة إليه وأدخلت الجنة بما فعلت"(5).


    وتبدو الوحدات الرمزية الحيوانية في رسالة أبي العلاء من خلال هذه الصورة:


    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي 12


    (6)الوحدات الأخلاقية:


    لقد أراد أبو العلاءللوحدات الأخلاقية أن تظهر بشكل مباشر في رسالته على الرغم من أنه كان قداستخدم هذه الوحدات الأخلاقية في كل الوحدات التي تشكل الرسالة.


    ويبدو وكان أبا العلاءأراد أن يؤكد الوظيفة الأخلاقية مستشهداً بوحدات أكثر حساً وواقعية لتدلعلى ما كان يموج في نفسه من حسرة وألم تجاه القيم الاجتماعية التي سادتعصره. فهو لا يستطيع أن يثور على المجتمع ويخاطبه شارحاً قيمه الجديدةالتي آمن بها، فإذا فعل ذلك فإن المجتمع لن يتقبل هذه القيم التي هي قيمفردية بجنة أنها قيم أبي العلاء وحده.


    فالأعمى هو أبو العلاء نفسه وليس المجتمع.


    والمريض بالجدري هو أبو العلاء نفسه وليس المجتمع.


    والصائم أمد الدهر هو أبو العلاء نفسه وليس المجتمع.


    والآكل الخبز طعاماًوالتين حلواً هو أبو العلاء نفسه وليس المجتمع. وأخيراً فإن الذي لا يحبأن يجني على أحد إنما هو أبو العلاء نفسه على الرغم من أن أباه كان قد جنىعليه وليس المجتمع.


    من هنا فقد تجنب أبوالعلاء كل هذه الاحتمالات لذلك نراه يلجأ إلى "حمدونة" وإلى "توفيقالسوداء" ليجعلهما تعبران عما يعتلج في نفسه من قيم أخلاقية وفلسفيةأرادها لسكان جنته بعد أن فشل في تطبيقها على مجتمعه.


    تقول حمدونة: "أتدري منأنا يا علي بن منصور؟ فيقول: أنت من حور الجنان اللواتي خلقكن الله جزاءللمتقين، وقال أنا كذلك بإنعام الله العظيم، على أني كنت في الدار العاجلةأعرف بـ "حمدونة" وأسكن في "باب العراق بحلب" وأبي صاحب رحى وتزوجني رجليبيع السقط فطلقني لرائحة كرهها في فيّ وكنت من أقبح نساء "حلب" فلما عرفتذلك زهدت في الدنيا الغرارة وتوفرت على العبادة وأكلت من مغزلي ومردنيفصيرني ذلك إلى ما ترى".


    وتقول توفيق السوداء:"أتدري من أنا يا علي بن منصور؟ أنا "توفيق السوداء" التي كانت تخدم في"دار العلم ببغداد" على زمان أبي منصور محمد بن علي الخازن وكنت أخرجالكتب إلى النساخ. فيقول: لا إله إلا الله، لقد كنت سوداء فصرت أنصع منالكافور وإن شئت القافور فتقول:


    أتعجب من هذا والشاعر يقول لبعض المخلوقين:


    لو أن من نوره مثقال خردلة


    في السود كلهم لابيضت السود(6)



    7-الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية بين جمهورية أفلاطون ورسالة أبي العلاء:


    كثيرة هي الآراء الشعرية واللغوية والفلسفية المتشابهة عند أفلاطون الفيلسوف اليوناني وأبي العلاء الفيلسوف العربي.


    وربما تتجلى هذه الآراء فيجمهورية أفلاطون المثالية والتي أراد لقيمه وفلسفته أن تدور في فلكهاوتتجلى أيضاً في رسالة أبي العلاء الذي أراد لقيمه وفلسفته أن تحقق منخلال هذه المحاورات والمناقشات التي جرت بين الشعراء واللغويين والمغنينفي جنته.


    فإذا كان أبو العلاء قدأوضح رأيه في اللغة على لسان علماء اللسان العرب فإن أفلاطون لم يتطرق إلىالموضوع اللغوي في جمهوريته بل إننا نراه يتحدث عن اللغة في موضع آخر منكتبه وتآليفه ولا سيما في


    Theatetus و Sophists


    (1)البعد الشعري والفلسفي عند أفلاطون


    الصراع بين الشعر والفلسفةصراع قديم. فالباحث المتأمل يمكن أن يجد ذلك الصراع في الحضارة اليونانية.فأفلاطون في جمهوريته الفاضلة –الفصل العاشر(7) تحدث عن الصراع الذي داربين فلسفته المثالية التي أرادها لجمهوريته وبين الشعر والشعراء الذينطردهم أفلاطون من جمهوريته.


    لقد كان همّ أفلاطون هوإرساء قواعد الفلسفة المثالية عن طريق الحوار الذي عقده في جمهوريته. وقدكانت المعركة بين البعد الشعري والبعد الفلسفي معركة مهمة ذلك لأن الشعركان له مكانة مرموقة في المجتمع اليوناني وقتذاك.. فعلى الرغم من أنأفلاطون قد احترم الشاعر الذي حفظ له أشعاراً كثيرة وعلى الرغم من أنه كانيردد أشعاره في سن الطفولة إلا أن ذلك لا يمنعه من قول الحقيقة التي هيفوق العاطفة والأحاسيس والمشاعر. فإذا كان أفلاطون بحسه وعاطفته مع شاعرهالمحبب هوميروس فإنه ليس كذلك عندما يتكلم عن الحقيقة. يقول في جمهوريته.


    “Imust be uttered, I answered, though a certain love and reverence forHomer which I have had from my childhood would forbid my speaking. Forsurely of all those nable tragic poets he is the master and the leader.Still I must not honour a man more than I honour truth, but must utterwhat I have to say”(Cool.


    والواقعلقد جسد أفلاطون هذا الصراع عن طريق الأسلوب التعليمي الرشيق الذي أراد أنيعلمه لطلبته. على أية حال لقد رفض أفلاطون الشعر والشعراء من جمهوريتهلأسباب ثلاثة:


    السبب الأخلاقي: فقد اعتبرأفلاطون الشعر اليوناني نوعاً من الرياء والكذب تجاه الآلهة والناس معاًوذلك لأن جوهره لم يكن أخلاقياً. إن الشعر حسب رأيه إنما هو دفق عشوائيلعاطفة عشوائية تحرض على اللا أخلاقية واللا مسؤولية واللا جدية. وبهذافإن العملية الشعرية هي ثرثرة كاذبة لشعور كاذب وينجر على ذلك أن الناسالذين ينقادون لذلك الشعر إنما هم أناس غير أخلاقيين.


    فإذا عرفنا أن العنصرالأخلاقي المثالي هو عنصر مهم في بناء الفلسفة الأفلاطونية التي أرادأفلاطون أن يطبقها على جمهوريته فإنه ليس من المستبعد أن يطرد أفلاطونالشعراء من تلك الجمهورية.


    السبب النفسي: العمليةالشعرية في نظر أفلاطون نوع من العاطفة الجارفة والجامحة التي تفقد المرءالسيطرة على نفسه وعلى عقله. لقد اعتبر أفلاطون الشعر غذاء فعالاً للعواطفالتي يمكن لها أن تتغلب على العقل وبهذا سيكون الإنسان كالمركبة التييجرها حصان شرس لا يعرف طريقه.


    من هنا فقد رفض أفلاطونالشعر مركزاً على العقل المدبر والحكيم. إن الأولوية –حسب رأي أفلاطون-يجب أن تعطى للحقيقة الناتجة عن العقل الواعي الذي يخطط بشكل فلسفي معقول.وذلك أن المحسوسات والعواطف الشعرية إنما هي عرض زائل يمكن أن يتغير تغيرالواقع والتاريخ ولكن المعقولات الفلسفية هي جوهر باق في كل زمان ومكان.وهكذا فإن معقولة عقلية مثل (2+2=4) إنما هي معقولة جوهرية لا تتغير. أماالمشاعر والأحاسيس فهي محسوسة عرضية متغيرة ومتبدلة حسب تبدل المجتمعات.


    السبب الماورائي (الميتافيزيقي):


    يتصف الشعر –حسب رأيأفلاطون بالماورائية أو الميتافيزيقية. وقد عنى أفلاطون بذلك أن الشعر غيرواقعي وإنما هو شيء يمثل تخيلات ما ورائية لا تمت إلى الواقع الحقيقيللإنسان. وفي الوقت نفسه فإن الفلسفة الأفلاطونية كانت تسعى إلى تفسيرالعالم الفيزيائي للإنسان باحثة عن الحقائق المحيطة به تلك الحقائقالمتصفة بالثبوتية وعدم التحول والتغير.


    وهكذا فإنه ينبغي أن يكونفي الجمهورية الفاضلة مجتمع يسعى وراء الحقيقة. وقد أراد أفلاطون لذلكالمجتمع ملكاً فيلسوفاً عادلاً يدير شؤون الجمهورية. وقد وضع أفلاطونبرنامجاً ثقافياً مكثفاً لكل ملك يمكن أن يحكم الجمهورية.


    إن هدف هذا البرنامج هوتوجيه الملك العادل توجيهاً صحيحاً بحيث لا يمكن لهذا الملك أو الحاكم أنيخدع بالعرض الزائل والمتحول تاركاً الجوهر والثابت. إن على هذا الفيلسوفالحاكم أن يسعى وراء الحقيقة وحدها مبتعداً عن العاطفة العرضية الزائلةالتي يمكن أن تتولد من العملية الشعرية التي هي مدح وتقريظ وكذب ورياءوتقليد.


    يقول أفلاطون:


    “Thenmay we lay down that, beginning with Homer, all the poets are imitatorsof Images of Virdue and of all the other subjects on which they write,and do not lay hold of truth”(9)


    (2)البعد الشعري والفلسفي عند أبي العلاء:


    تختلف طبيعة الصراع بينالشعر والفلسفة في الحضارة اليونانية عنها في الحضارة العربية الإسلاميةعلى الرغم من أن الموضوع واحد هو الشعر والفلسفة.


    إن الفلسفة العربيةالإسلامية لم ترفض الشعر والشعراء رفضاً أيديولوجياً بحتاً بحيث تستبعدهموتطردهم من "الأمة" التي أرادت الفلسفة العربية الإسلامية أن تبنيها وتنهضبها. فقد أدركت الفلسفة العربية الإسلامية أن الفن هو جزء لا يتجزأ منالنفس الإنسانية الحساسة والمتأملة وقد أدركت أيضاً أن الفن هو دفق عاطفيانفعالي جبل عليه الإنسان ليكون جزءاً منه. وقد أدركت الفلسفة العربيةالإسلامية الأساس الأيديولوجي المادي والأساس الأيديولوجي الروحي اللذينهما فرعان لأصل واحد هو الإنسان.


    وهكذا فإن المفهوم الفلسفيالعربي الإسلامي إنما هو مفهوم ذو بعدين أيديولوجيين: بعد مادي وبعد روحيمن هنا فإن الفلسفة العربية الإسلامية لم ترفض الشعر والشعراء أو تطردهممن "الأمة" كما طردهم أفلاطون من (الجمهورية) لكن لقصة الفلسفة العربيةالإسلامية وموقفها من الشعر والشعراء في عصر صدر الإسلام بعداً آخر ينبغيأن يفهم من خلال الظروف التاريخية والاجتماعية والنفسية لتلك الحقبة منالتاريخ.


    إنه ينبغي علينا أن نفهم الوثيقة التاريخية المهمة التي جاءت في القرآن في سورة الشعراء فهماً علمياً عادلاً.


    فالقرآن عندما قال في سورة الشعراء:


    "والشعراء يتبعهم الغاوون.ألم تر انهم في كل واد يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون، إلا الذينآمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً، وانتصروا من بعدما ظلمواوسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون"(10)


    إنما أرسى المفهوم الفلسفيالعربي الإسلامي للعملية الفنية بشكل عام وللعملية الشعرية بشكل خاص. فإذاكان الإسلام قد رفض الشعر والشعراء من "الأمة" في عصر صدر الإسلام فذلكلأن الوظيفة الفنية والمجتمعية الملقاة على عاتقهم لم تكن وظيفة أخلاقيةحقة تنهض بـ "الأمة" وإلا لو لم يكن ذلك كذلك فإننا لن نجد أن القرآن نفسهقد تحدى الشعراء تحدياً فنياً ولغوياً وحضارياً.


    وبهذا فإن القرآن بحد ذاتههو إعجاز لغوي وفني ذو وظيفة لغوية وفنية واجتماعية وحضارية يمكن أن تكونأساساً أيديولوجياً مهما في مفهوم "الأمة الإسلامية".


    من هنا فإن رفض الفلسفةالعربية الإسلامية للشعر والشعراء في عصر صدر الإسلام إنما هو رفض للوظيفةاللغوية والفنية والاجتماعية للشعر الجاهلي تلك الوظيفة التي هي في أساسهاالأيديولوجي وظيفة جاهلية تحض على تفتيت "الأمة".


    من هنا فإن طبيعة الصراعبين الفلسفة الأفلاطونية والشعر من ناحية وبين الفلسفة العربية الإسلاميةوالشعر من ناحية أخرى إنما هي طبيعة مختلفة في الجوهر.


    إن الرفض الفلسفيالأفلاطوني للشعر والشعراء إنما هو رفض للأخلاق والنفس والعالم الما ورائيالميتافيزيقي أنه رفض للتأمل الشعر الذي ظن أفلاطون أنه خطر على"جمهوريته" لذلك فإنه طرد الشعراء من تلك "الجمهورية" دون وضع نظريةأيديولوجية يمكن من خلالها استيعاب العملية الفنية والشعرية وفهمها فيإطار النفس الإنسانية.


    إن هدف أفلاطون هو تحويل الشعر ليكون فلسفة خالصة تسعى وراء الحقيقة وحدها.


    ولكن الرفض الفلسفي العربيالإسلامي للشعر والشعراء إنما هو رفض للوظيفة الأخلاقية والنفسية التييمكن أن تتولد من الشعر والتي يمكن لها أن تفتت وتشتت أفراد "الأمة". إنالفلسفة العربية الإسلامية أرادت من الشعر أن يكون ذا بعد فلسفي عربيإسلامي ينهض بأفراد "الأمة" نهوضاً مادياً وروحياً وفنياً، ليشكل بعد ذلكوحدة حضارية كاملة.


    وربما هذا ما أدركه أبوالعلاء المعري في "رسالته" عندما أراد من الشعر أن يكون ذا بعد فلسفي نفعييهدف إلى تطوير الأخلاق التي أرادها أبو العلاء لسكان "جنته" وهذا ما سوفنلاحظه بعد قليل.


    لقد أرادت الفلسفة العربيةالإسلامية للشاعر المسلم أن يكون شيطانه الشعري ملكاً أو وحياً أو روح قدسوذلك لكي تكون المعادلة الشعرية "معادلة موضوعية" كما يحب الباحث حسامالخطيب أن يسميها*معادلة موضوعية بحيث يمكن للوحي أو روح القدس أن يلهم الشاعر المسلم بحيثيستطيع أن ينظم معادلة شعرية موضوعية تمثل كل نبضة شاعرية فنية لأفراد"الأمة" كلها وليس لذلك الشاعر وحده.


    لقد ركزت الفلسفة العربية الإسلامية على الفردية الشاعرية شريطة أن تكون تلك الفردية الشاعرية ضمن إطار مفهوم "الأمة".


    وربما يتضح مفهوم الفلسفة العربية الإسلامية للفن بشكل عام وللشعر بشكل خاص من خلال هذه الصورة.


    الأبعاد الشعرية واللغوية والفلسفية لرسالة الغفران دراسة تحليلية في ضوء علم اللسان الحدي 13


    والواقع أن الفلسفةالعربية الإسلامية هي أول فلسفة استطاعت أن تأتي بمفهوم الالتزام الشعريالقائم على أسس أيديولوجية مضبوطة وواقعية وذلك لأن هذه الفلسفة أرادت منالشعر أن يكون التزاماً فردياً وجماعياً في الوقت نفسه بحيث يستطيع الفردأن يعبر عن آماله وأحزانه وأحاسيسه ووجدانه من خلال ذلك المفهوم الذياصطلحت عليه الفلسفة العربية الإسلامية بـ "الأمة".


    وهذا ما يخالف جميعالفلسفات الأخرى المتطرفة التي تنظر إلى العاطفة الشعرية عند الفرد نظرةشوفينية غلوائية أو نظرة إلهية وجمالية لا يمكن لأي قوة أن تكبح جماحها.


    والحق يقال، لقد فهم أبو العلاء في رسالة الغفران المعادلة الموضوعية للعملية الشعرية في الفلسفة العربية الإسلامية.


    ويبدو لي أن صرخة أبيالعلاء في رسالة الغفران إنما هي صرخة العودة والرجعة إلى تلك المعادلةالتي أرادها الإسلام أن تكون بين أفراد "الأمة" يحتذى بها ويعمل من أجلها.


    لقد أدرك أبو العلاءالمعري أن "الأمة" التي كان يعيش بها ليست الأمة التي أرادتها الفلسفةالعربية الإسلامية وذلك لأن شعراءها كانوا يلجؤون إلى المدح الزائفوالتقريظ الكاذب الذي يغطي الحقيقة التي لم يرها حتى أفلاطون لجماهيره في"جمهوريته" وذلك لأنه أدرك أن الشعر يمكن أن يؤجج العاطفة ويحرف الناس عنالحقيقة.


    لقد أدرك أبو العلاء أنوظيفة الشعر والفن في عصره إنما هي وظيفة غير أخلاقية وذلك لأن الشعراءطالما كذبو ونافقوا وذلك من أجل التقرب من السلطان والحاكم والمسؤول.(الكذب هنا يختلف عن مقولة: أعذب الشعر أكذبه).


    ولقد فهم أبو العلاء أيضاً أن وظيفة الشعر في عصره إنما هي وظيفة انفعالية لا فاعلة تغلب العاطفة على الفكر والحقيقة.


    وقد فهم أبو العلاء أيضاًأن وظيفة الشعر في عصره إنما هي وظيفة تهتم بالعرض والمحسوس مبتعدة عنالجوهر الفلسفي الذي يفسر العالم الفيزيائي حوله.


    من هنا فإننا نرى في رسالةالغفران أن علي بن منصور الأديب الشاعر مهما أتى من الأشعار الجياد التيتمدح رضوان وزفر خازني الجنة فإن ذلك لن يجدي فتيلاً ولن يؤثر علىمسمعيهما وعاطفتهما وذلك لأن "رضوان" أو "زفر" فرد يمثل الفلسفة العربيةالإسلامية التي أرادها أبو العلاء لسكان "جنته". إن "رضوان" و "زفر"وغيرهما من حراس الجنة لا يريدون أن يغلبوا عواطفهم على عقولهم ولا يريدونأن يهتموا بالعرض دون الجوهر... حتى أن "رضوان" لم يعرف ماذا تعني كلمةشعر وكأنه يريد أن يستبعد هذا الضرب من الفن عن سكان "جنة" أبي العلاء.لقد أهمل "رضوان" و "زفر" كل هذه الأشعار التي مدحتهم وقرظتهم في سبيلحقيقة ثابتة موجهة لنفع سكان "الجنة" تلك الحقيقة التي اصطلحت عليهاالفلسفة العربية الإسلامية بـ "التوبة" أي الرجعة إلى الحقيقة الفلسفيةالإسلامية.


    يقول أبو العلاء على لسان علي بن منصور:


    "لما نهضت من القبر، وحضرتعرصات القيامة... وأقمت في الموقف زهاء شهر أو شهرين وخفت من الفرق فيالعرق زينت لي النفس الكاذبة أن أنظم أبياتاً في "رضوان" خازن الجنانوعملتها في وزن:


    "قفا نبك من ذكرى حبيب وعرفان".


    ووسمتها برضوان، ثم ضانكت الناس حتى وقفت منه بحيث يسمع ويرى، فما حفل بي ولا أظنه أبه لما أقول.


    ثم عملت أبياتاً في وزن:


    بان الخليط ولو طوعت ما بانا


    وقطعوا من حبال الوصل أقرانا



    ووسمتها، فكأني أحركثبيراً أو ألتمس من الغضرم عبيراً فلم أزل أتتبع الأوزان التي يمكن أنيوسم بها "رضوان" حتى أفنيتها وأنا لا أجد عنده مغوثة ولا ظننته فهم ماأقول.


    فلما استقصيت الغرض فمانجحت، دعوت بأعلى صوتي يا رضوان يا أمين الجبار الأعظم على الفراديس، ألمتسمع ندائي بك واستغاثتي إليك؟ فقال: لقد سمعتك تذكر رضوان وما علمت مامقصدك فما الذي تطلب أيها المسكين؟


    فأقول: أنا رجل لا صبر لي،وقد استطلت مدة الحساب ومعي صك بالتوبة وهي للذنوب ماحية، وقد مدحتكبأشعار كثيرة ووسمتها باسمك. فقال: وما الأشعار؟


    فإني لم أسمع بهذه الكلمة إلا الساعة.


    فقلت: الأشعار جمع شعروالشعر كلام موزون تقبله الغريزة بشرائط إن زاد أو نقص أبانه الحس وكانأهل العاجلة يتقربون به إلى الملوك والسادات فجئت بشيء منه إليك لعلك تأذنلي بالدخول إلى الجنة..


    فقال: إنك لغبين الرأي، أتأمل أن آذن لك بغير إذن من رب العزة؟ هيهات هيهات.


    فتركته وانصرفت بأملي إلى خازن آخر يقال له "زفر" فعملت كلمة ووسمتها باسمه في وزن قول لبيد:


    تمنى ابنتاي أن يعيش أبوهما


    وهل أنا إلا من ربيعة أو مضر



    وقربت منه فأنشدتها، فكأنيإنما أخاطب ركوداً صماء لاستنزل أبودا عصماء ولم أترك وزناً مقيداً ولامطلقاً يجوز أن يوسم بزفر إلا وسمته به فما نجح ولا غير.


    فقلت: رحمك الله. كنا فيالدار الذاهبة نتقرب إلى الرئيس والملك بالبيتين أو الثلاثة فنجد عنده مانحب. وقد نظمت فيك ما لو جمع لكان ديواناً، وكأنك ما سمعت لي كلمة فقال:لا أشعر بالذي قصدت فما بغيتك؟


    فذكرت له ما أريد، فقال:والله ما أقدر لك على نفع ولا أملك لخلق من شفع فمن أي الأمم أنت؟ فقلت منأمة "محمد بن عبد الله بن عبد المطلب" فقال: صدقت ذلك نبي العرب، ومن تلكالجهة أتيتني بالقريظ (المدح) لأن إبليس اللعين نفثه في إقليم العربفتعلمه نساء ورجال وقد وجب علي نصحك فعليك بصاحبك لعله يتوصل إلى ماابتغيت. فيئست مما عنده"(11).


    وهكذا نجد أن تلك الأشعارالتي قالها علي بن منصور في مدح خازني الجنة "رضوان" و "زفر" لم تجد نفعاًوذلك لأنها تفقد الوظيفة الشعرية واللغوية التي أرادها أبو العلاء لسكان"جنته".


    وكأن أبا العلاء يجد أنه من العبث العمل بهذه الصنعة الشقية على حد تعبيره، ما لم تكن موجهة، لها وظيفة تخدم سكان "جنته".


    من هنا فقد حاول أبوالعلاء أن يعبر عن فلسفته بلسان أبي هدرش الخيتعور الجني المؤمن الذي فهمفلسفة أبي العلاء الشعرية فهماً صحيحاً ومن ثم أراد من علي بن منصورالشاعر الأديب أن يطبقها مبتعداً عن الضلالات العاطفية واللا أخلاقية التييمكن لهذه الصنعة الشقية أن تأتي بها. يقول أبو العلاء:


    "يركب علي بن منصور بعض دواب الجنة ويسير فإذا هو في جنة العفاريت الذين آمنوا بمحمد r فيقول:


    لأعدلن إلى هؤلاء فلن أخلو لديهم من أعجوبة.


    فيعرّج عليهم فإذا هو بشيخجالس على باب مغارة فيسلم عليه فيحسن الرد ويقول: ما جاء بك يا إنسي؟فيقول سمعت أنكم جن مؤمنون فجئت ألتمس عندكم أخبار الجنان وما لعله لديكممن أشعار المردة. فيقول: ذلك الشيخ... سل عما بدا لك. فيقول: ما اسمك أيهاالشيخ فيقول: أنا الخيتعور أحد بني الشيصبان ولسنا من ولد إبليس ولكنا منالجن الذين كانوا يسكنون الأرض قبل ولد آدم صلى الله عليه. فيقول: أخبرنيعن أشعار الجن... فيقول ذلك الشيخ... إن لنا لآلاف أوزان ما سمع بهاالإنس...


    فإذا شئت أمللتك ما لاتسعه الركاب ولا تسعه صحف دنياك. فيهم الشيخ... بأن يكتب منه ثم يقول: لقدشقيت في الدار العاجلة بجمع الأدب ولم أحظ منه بطائل وإنما كنت أتقرب بهإلى الرؤساء فأحتلب منهم درَّبكيء وأجهد أخلاف مصور"(12).


    ويقول أبو هدرش الخيتعور في موضع آخر من الرسالة:


    "... وأنا الذي أنذرت الجن(بالكتاب المنزل) أدلجت في رفقة من الخابل نريد "اليمن" فمررنا "بيثرب" فيزمان المعو –أي الرطب- "فسمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولننشرك بربنا أحداً".


    وعدت إلى قومي فذكرت لهم ذلك فتسرعت منهم طوائف إلى الإيمان"(13).


    إن الفكرة الأساسية التيهدف إليها أبو العلاء هي أنه حتى ذلك الجني المؤمن المسمى بالخيتعور والذييملك من الأشعار ما لا تستطيع صحف علي بن منصور أن تسعه، والذي يملك منالأوزان الشعرية أضعاف ما يملك بنو البشر فإنه آمن بالقرآن العجيب الذيسمعه والذي يهدي إلى الحقيقة والرشد من خلال معيار فني ولغوي وفلسفي مختلفعما اعتاد عليه هؤلاء الجن.


    إن المعيار الفني القرآنيهو المعيار الذي يمثل الأساس الأيديولوجي لفلسفة الفن العلائية في الوظيفةالأخلاقية. فأبو هدرش الخيتعور لم يسمع شعراً عادياً اعتاد الشعراء أنيقولوه معبرين من خلاله عن تجاربهم الكاذبة لكي يتقربوا به إلى الملوكوالرؤساء والحكام... لقد سمع أبو هدرش شيئاً آخر إنه سمع "قرآناً عجباً"،"يهدي إلى الرشد" فآمن به.


    إن هذا المفهوم القرآنيالعجيب إنما كان عبر عنه الشاعر لبيد بن ربيعة في قولته التاريخيةالمشهورة "أبدلني الله به (الشعر) سورة آل عمران والبقرة" وبهذا يكون قدعبر لبيد عما كان يجيش في نفسه وهو الشاعر المجرب الذي مارس الشعر طويلاً.ولكنه عندما قرأ القرآن وسحر به فإنه اكتشف أن ما كان يقوله إنما هو العرضالزائل المتغير والمتبدل. إنه الآن أمام فن آخر هو الجوهر الباقي والثابتالذي تحدى الشعراء على أن يأتوا بسورة من مثله.


    لقد جسد أبو العلاء الفلسفة العربية الإسلامية من خلال هذا الحوار.


    "فبينما هم كذلك، إذ مرشاب في يده محجن ياقوت ملكه بالحكم الموقوت فيسلم عليهم فيقولون: من أنت؟فيقول: أنا لبيد ابن ربيعة بن كلاب. فيقولون: أكرمت أكرمت، لو قلت: لبيدوسكت لشهرت باسمك وإن صمت فما بالك في مغفرة ربك؟ فيقول: أنا بحمد الله فيعيش قصر أن يصفه الواصفون، ولدي نواصف وناصفون لا هرم ولا برم... فيقولالشيخ: أنشدنا ميميتك المعلقة فيقول: هيهات إني تركت الشعر في الدارالخادعة ولن أعود إليه في الدار الآخرة وقد عُوِّضت ما هو خير وأبرّ"(41).


    وهكذا فقد حاول أبو العلاءأن يلخص دهشة الخيتعور وسمعه للقرآن العجيب وموقف لبيد من قول الشعرمندهشاً من تلك المعايير الفنية واللغوية والفلسفية الجديدة التي جاء بهاالقرآن من خلال هذه السطور. يقول أبو العلاء:


    "وأجمع ملحد ومهتد وناكب عن المحجة ومقتد أن هذا الكتاب الذي جاء به محمد rكتاب بهر بالإعجاز ولقى عدوّه بالارجاز وما حُذي على مثال ولا أشبه غريبالأمثال. ما هو من القصيد الموزون ولا الرجز من سهل وحزون ولا شاكل خطابةالعرب ولا سجع الكهنة ذوي الأرب وجاء كالشمس اللائحة نوراً للمسرةوالبائحة، لو فهمه الهضب الراكد لتصدع، أو الوعول المعصمة لراق الفادرةوالصدع... وإن الآية منه أو بعض الآية لتعترض في أفصح كلم يقدر عليهالمخلوقون فتكون كالشهاب المتلألئ في جنح غسق، والزهرة البادية في جدوبذات نسق فتبارك الله أحسن الخالقين"(15).


    لم يكتف أبو العلاء بتطبيقالمعيار الفلسفي العربي الإسلامي على الشعر الإسلامي فحسب بل أراد أنيطبقه على الشعر الجاهلي أيضاً ذلك الشعر الذي وافق فلسفته في بعضالأحايين وخالفها في أحايين أخرى. فما وافق فلسفته فسيكون في "جنته" وماخالفها فسيكون في "ناره".


    والحقيقة لم يرد أبوالعلاء لفلسفته أن تكون محدودة وضيقة بحيث ترفض كل الفلسفات الأخرى التيسبقتها. من هنا فإنه مستعد أن يقبل في "جنته" النصراني واليهودي ولكنشريطة أن تدل أشعارهم على الوظيفة الأخلاقية والفلسفية التي تخدم سكان"جنته.


    وهكذا فالأخطل التغلبيالشاعر النصراني إنما هو في "نار" أبي العلاء لا لأنه نصراني ولكن لأنهشاعر اتبع هواه ولذاته العرضية الفانية فكان أمره فرطاً. فقد استخدمالأخطل شاعريته ووجهها لتفتيت "الأمة" لا لبنائها.


    يتحدث أبو العلاء على لسان الشيخ علي بن منصور فيقول:


    "... وإذا هو بر

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 08, 2024 2:58 am