منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    شعرية الغفران قراءة في الشعري والسردي

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    شعرية الغفران  قراءة في الشعري والسردي Empty شعرية الغفران قراءة في الشعري والسردي

    مُساهمة   الثلاثاء مارس 01, 2011 11:49 am




    شعرية الغفران


    قراءة
    في الشعري والسردي



    إلى أستاذي محمد مشبال حبا " "


    عماد الورداني - كاتب من المغرب


    إن
    التراث السردي العربي القديم لم يعش لحظته الإبداعية بقدر ما ظل سؤال الإبداع فيه
    مؤجلا، لتصبح الإجابة عنه وكشف أسراره
    الجمالية شرطا من شروط همومنا النهضوية، ولقد حاولت أجيال من الباحثين منذ أن علا نشيد الأصالة والحداثة
    الإجابة عن هذا السؤال، لكنها كانت تصطدم بسؤال منهجي أكبر يفقدها التحمس
    والاندفاع، فيدفعها إلى الارتكان إلى إحدى القوالب الجاهزة –مثل البنيوية-، وأحيانا
    أخرى إلى استقراء تاريخي يظلل حقيقة الإبداع، وأحيانا ثالثة إلى استكناه مادة
    نقدية قد تبدو غامضة حينما تجرد من امتدادها السردي .



    كان هذا السؤال الذي حرك
    دواليب هذا الحماس: كيف سنتعامل مع تراثنا السردي؟ وأي منهج سيسعفنا للدخول إلى
    عوالمه الجمالية المفترضة؟



    إن مغامرة الانسلال إلى
    النصوص السردية القديمة مليئة بالعقبات الذاتية والموضوعية، وقد اصطدمت شخصيا بهذه
    العقبات حينما حاولت الانسلال إلى نص معتق هو نص رسالة الغفران.



    حاولت أثناء هذا السفر
    الجميل أن أستشرف معالم النص الإبداعي عبر سؤال عريض راودني طيلة الرحلة: أين يكمن
    سر الإبداع في الرسالة؟ أو بلغة ياكبسون ما الذي يجعل من رسالة لفظية أثرا فنيا،
    وأنا أنغمس في رحابة هذا النص تقاطرت علي مجموعة من المفهومات تتقاسمها اتجاهات
    عدة لكنها جميعا تصبو إلى رسم كون جمالي مفترض.



    سأحاول في هذه الدراسة
    استجلاء حدود الشعري والسردي في رسالة الغفران، أي كيف يحضر إشكال الشعر في امتداد
    سردي؟ هل يحضر بسلطته –كونه ديوان العرب-؟ أم خضع لمنطق الحكي وأصبح مجرد مكون من
    مكوناته؟



    وظائف الشعر:


    1 – 1 الشعر والسرد
    "سؤال التكوين":



    لقد شيد المعري لحظته
    السردية عبر استدعائه لتاريخ الشعرية العربية برموزها وخلافاتها ومواقفها، حيث استغل
    طاقة الشعر ووضعه الاعتباري ليساهم في توظيفه لصالح الامتداد السردي عبر تحبيك
    أحداث الرسالة، هكذا نجد الشعر قد اضطلع بوظائف متعددة أثرت في البناء السردي
    نجملها في مجموعة من المستويات المتداخلة:



    ·
    مستوى يتولد فيه السرد من رحم الشعر.



    ·
    مستوى تتحقق فيه القصيدة الشعرية سردا.



    ·
    مستوى يتحقق فيه الحلم الشعري سردا.



    1–
    1 – 1 – إنتاج السرد:



    تقوم الشخصية المحورية
    في الرسالة – وهي شخصية ابن القارح – بإنشاد مقاطع شعرية، تكون سببا في المناداة
    على قائلها كي يشارك سكان الجنة نعيمهم، ويمتثل للدور الذي حدده لها صاحب الرسالة،
    ومن ثم الدخول في لعبة السرد، وإذ يقوم الشعر باستدعاء قائله، فإنه يكون في الآن
    نفسه دعوة لاسترسال المادية السردية.



    "يخرج ابن
    القارح في نزهة إلى حدائق الجنان ممتطيا



    نجيبا من نجب
    الجنة، خلق من ياقوت وذر، في سجسج



    من الحر والقر، ومعه إناء فيهج، فيسير في الجنة
    على غير
    منهـج، ومعه شيء من طعام الخلود، دخر لوالد أسعد



    أومولود، فإذا رأى نجيبه يلمع بين كتبان العنبر،
    وضيمران



    وصل بصعبر، رفع
    صوته متمثلا قول البكري:



    ليت شعري متى تخب
    بنا النا قة نحو
    العذيب فالصيبون



    محقبا زكرة وخبز
    رقــــــــــاق وحباقا،
    وقطعة من نــــــــون



    ..فيقول الهاتف أنا
    ذلك الرجل من الله علي بعدمـــــــــا



    صرت من جهنم على
    شفير، ويئست من المغفرة والتكفير،



    فيلتفت إليه هشا
    بشا مرتاحــــــــا، فإذا هو شاب غرانيــــق،



    غبر في النعيم
    المفانق(1)[i]
    .


    امتد السرد في بداية هذا
    المشهد بإيقاع متوتر، وبلغة تقريرية مباشرة، وإن كانت جميع أحداث الرسالة متخيلة
    وبعيدة عن التصور المعتاد، فالبطل خرج للتنزه في حدائق الجنة، وكنت الوسيلة التي
    اعتمد عليها في التنقل عبر عرصاتها الحدائق نجيبا من نجب الجنة، إلا أن هذا الأخير
    يختلف عن النجب الدنيوية، لأنه خلف من ياقوت وذر. وقد خرج البطل مزودا بطعام
    الخلود وشرابه، حتى إذا رأى نجيبه تلمع بين كتبان العنبر، صاح متمثلا قول الأعشى؛
    هذا القول الشعري الذي امتد ليستدعي قائله للانخراط في الأحداث السردية؛ إذ سيصبح
    الأعشى انطلاقا من هذه اللحظة شخصية من شخصيات الجنان لها مكانتها في منادمات
    اللهو والأدب، بل الأكثر من هذا سنجدها شخصية محورية تقوم عليها مشاهد بأكملها.



    تمكن الشعر من بعث
    الأعشى، فيصادفه ابن القارح صورة منزاحة عن الصورة التي رسمتها أشعاره وأخبار
    الرواة، وقبل هذا يبدأ اللقاء بالحوار النمطي الذي استخدمه البطل/ ابن القارح مع
    جميع قاطني الجنان، كان هذا السؤال "بما غفر لك"، لتعود
    المادة السردية إلى الاسترسال والامتداد حتى تقف على مقربة من أبيات شعرية كانت
    سببا في دخول الأعشى إلى الجنان.



    هكذا أصبح الشعر مسؤولا
    عن ولادة الأحداث السردية؛ وذلك
    بكشف الستار عن شخصيات محورية في الرسالة، لكن وإن كان الشعر قد استدعى قائله، فإن
    استدعاءه كان من أجل الاطمئنان على مصيره الأخروي وذكر تفاصيل نجاته؛ إذ ستتم
    المناداة عليه مرة ثانية كي يتمثل السرد، ويساهم في بناء الحدث الحكائي :



    فإن من قول شيخنا
    العبادي:



    أيها القلب تعلل
    بددن إن همي
    سمـاع وأذن



    وشرا خسرواني
    إذا ذاقه
    الشيخ تغنى وارجحن



    وقال:


    وسماع يأذن الشيخ
    له وحديثا ماثل ماذي
    مشار



    فكيف لنا بأبي
    بصير؟ فلا تتم الكلمة إلا وأبــــــــــو



    بصير قد خمسهم،
    فيسبحون الله ويقدســــــــــــونه



    ويحمدونه على أن
    جمع بينهم(2)[ii].



    إن أبيات الأعشى صورت
    حالة نفسية عاشها الشاعر وتمثل بلاغتها التجسيدية شعرا؛ فهو ينادي على قلبه – وهو
    نداء مجازي يفيد التحسر – طالبا منه الامتثال لداعي اللهو والأدب، أما إذا لم
    يستجب لهذا البديل الدنيوي اختار له قافية مقيدة كي تعبر عن الإيقاع المتوتر
    للتجربة الشعرية، فالحل مقارعة صهباء راووقها خدل تساهم في نسيان نائبات الدهر؛
    فالشيخ إذا شربها غاب عن وعيه وتناسى مشاكله، وتغنى بشبابه الآني وارجحن.



    إن الصورة التي رسم
    حدودها وتشكلاتها النوعية الأعشى تنطبق على ابن القارح وهو ينادم شخصيات الجنان،
    فكانت هذه الأبيات نداء استخدمه السارد كي يولد الأحداث السردية، ووسيلة من
    الوسائل التي اضطلع بها جنس الشعر لفائدة الامتداد السردي، فالشعر قام باستخدام
    بلاغته قصد كشف الستار عن ولادة سرد كان الأعشى بطلا لها، وتذكرنا هذه الولادة
    بولادة أخرى في نص التوابع والزوابع؛ إذ سيطلب تابعة ابن شهيد إنشاد أبيات معينة
    إذا أراد استحضاره(3)[iii].



    إن الوظيفة البنائية
    التي شغلها الشعر في الرسالة الشعر عبر قيامه بتوليد السرد داخل المشاهد التي قام
    عليها نص الغفران، تؤكد الأهمية التي احتلها جنس الشعر وبلاغته في النصوص السردية،
    لأن الشعر ديوان العرب تودع فيه أمجادها ومفاخرها وغابر أيامها، ولكن وإن كان
    السرد قد عالج قضايا الشعر إلا أنه حد من سلطته، وذلك عبر التحكم في حضوره
    البنائي، وعوض أن يلعب الشعر وظيفته التي اضطلع بها، ويشغل مكانته المتعالية
    بالنسبة للذوق العربي؛ أصبح الآن مجرد وسيلة من وسائل السرد، أي أن مساهمته تتمثل
    في خلق السرد.



    نخلص إذن إلى النتائج
    التالية:



    1-
    ساهم الشعر في بناء النص السردي
    انطلاقا من استخدامه في تحفيز الأحداث.



    2-
    لقد تمت ولادة بعض الأحداث
    السردية من خلال استخدام تقنية التداعي.



    3-
    لقد تم إنشاد مقاطع شعرية أعلن
    بواسطتها عن ظهور شخصيات جديدة كي تستلم وظيفتها التمثيلية.



    4-
    لم يتمكن الشعر من فرض سلطته
    بقدر ما ظل متواريا، واكتفى بوظائف بنائية أثرت في الامتداد السردي.



    إذا
    كان الشعر استطاع أن ينتج الأحداث السردية، فإن السرد قام بتسريد الصورة الشعرية؛
    أي بنقلها من مستواها التخييلي إلى مستواها التجسيدي، فكيف استطاع السرد أن يتمثل
    نصا شعريا؟



    - 1 -1-2 – تسريد الأحلام الشعرية:


    لقد تسبب الشعر في تحريك
    السرد بواسطة استدعاء الشعراء إلى مشاهد الرسالة؛ ومن تم تمكن (الشعر) من تدخله في
    بناء النص السردي. وإذا كان قد اضطلع بهذه الوظيفة البنائية فإنه مافتئ يساهم في
    تشكيل المشاهد السردية في نص لغفران؛ إذ سيتم تحويل صوره "أي الشعر"
    البديعية والمختزلة تخييليا في ما يسمى بلاغة الإيجاز، إلى صورة سردية تجسيدية
    اتخذت الامتداد السردي وسيلة لإيصال بلاغتها "الصورة السردية"؛ فالشاعر
    يصوغ صورا شعرية في دار الفناء فتنمو وتكتمل سردا في دار البقاء
    يقول لندمائه "ابن القارح" ألا تسمعون قول السعدي:



    وتقول عاذلتي، وليس
    لها بغد،
    ولا ما بعده علــــــــــــم



    إن الثراء هو
    الخلود وإن
    م المرء يكرب يومه العدم



    ولئن بنيت المشرقي
    في
    عنقاء تقصر دونها العصـــــم



    لتنقبن المنية عني
    إن م الله
    ليس حكمه حكــــم(4) [iv]



    إن هذه الأبيات الحوارية
    التي دارت بين البحتري وعاذلته الجاهلة بمصيرها الدنيوي، التي لا تعلم إن كانت
    ستعيش حتى الغد، هذه العاذلة تدعي أن الغنى خلود الإنسان، لكنه وإن أقام الحصون
    وشيد القلاع، فإن المنية ستلاحقه أينما حل وارتحل، لأن حكم الله ليس كحكمه شيء. إن الموت
    سمة وجودية، شكلت خاتمة لمسيرة الإنسان، وحدا فاصلا لاستمراره؛ لهذا بادر الشعراء
    إلى معالجتها وصياغتها في قوالب حوارية، وتذكرنا هذه المقطوعة بمعلقة طرفة بن
    العبد التي يقول فيها:



    ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي


    فإن كنت لا تستطيع
    دفع منيتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي(5)[v]



    إن الإحساس بالموت سيزول
    بمجرد شرب نخبة الخلود أي بمجرد الإعلان عن السرد:



    إنه لمسكين، قال هذه
    الأبيات وبنو آدم في دار



    المحن والبلاء يقبضون
    الشدائد على الســـــــلاء،



    والوالدة تخاف المنية
    على الولد، ولا يزال رعبها



    في الخلد، والفقر يرهب
    ويتقى (...) الحمد لله الذي



    أذهب عنا الحزن، إن
    ربنا لغفور شكور(6)[vi].



    تصبح سمة الموت ملغاة في
    الجنان؛ بل إنها صارت ذكريات، ويصبح السرد مسؤولا عن تخليد الإنسان، والعبث بالأطياف
    الشعرية؛ فبعدما كان الموت ضرورة آمن بها الإنسان وعالجها، أمست الآن مجرد ذكرى في
    أبيات شعرية.



    إن أمنية صاحبة البحتري
    تحققت لشخصيات الرسالة في قالب سردي؛ فالصورة الشعرية "إن الثراء هو
    الخلود" تحولت من سياقها الجنسي "أي الشعر" إلى سياق جنسي مخالف
    "أي الرسالة"، بل يمكن أن نميز بين رحابة الصورة السردية التي انتهت إلى
    تخليد الإنسان، وبين اختناق الصورة الشعرية لأنها لم تتجاوز مبادئ العمود وظلت في
    أغلبها وفية لقضاياه " القرب من الحقيقة"؛ فإذا كان الشعر لم يستطع
    تخليد الإنسان واكتفى بحفظ قيمه وأخلاقه وعاداته، فإن السرد خلده ومنحه الديمومة.



    وها هو ابن القارح
    يلتقي برجل يحتلب ناقة في إناء من ذهب، وبعد مراسيم التعارف، يستغرب لسان المعري
    وصاحبه عدي من العيش الزهيد الذي يحياه حالب الناقة في الجنة "أتحتلب مع
    أنهار لبن؟ كأن ذلك من الغبن فيقول لا بأس إنما خطر لي ذلك مثلمـــــــا



    خطر لكما القنيص(7)[vii].


    إن الصورة الحسية التي
    تقمصتها شخصية الهذلي تنبئ عن حياة بسيطة تعيشها هذه الشخصية؛ فهي شخصية اكتفت
    بممارسة عاداتها الدنيوية المتمثلة في حلب الناقة رغم وجود ما ينسخ مثل هذه
    العادات لأن في الجنة أنهار من لبن مصفى، إلا أن صاحب هذه الشخصية "أي
    الهذلي" ظل متشبتا بصورة شعرية كان قد نظمها في دار الفناء، وحولها من إطارها
    الشعري المقنن إلى صورة سردية رحبة:



    وإن حديثا منك، لو
    تعلمينه جنى
    النحل في ألبان عوذ مطافل



    مطافل أبكار حديث
    نتاجها
    تشاب بماء مثل ماء المفاصــل




    فقيض الله بقــدرته لي هذه الناقة عائـــــــــذا مطفلا، وكان بالنعــــم
    متكفلا، فقمت أحتلب على العادة، ,اريد أن أشرب ذلك بضـــــرب نحل (..) فإذا امتلأ إناؤه من
    الرســـــــل، كون الباري خلية مــــــــن
    الجوهر، رتع تبولها في الزهر(Cool[viii]
    .



    تحدثنا الصورة الشعرية
    عن عادة كان يمارسها الشاعر؛ إذ احتلب الهذلي ناقة حديثة الولادة، وبعد أن احتلبها
    مزج حليبها بالعسل الجني، وقد شبه صورة الحليب المختلط بالماء " وهي صفة
    تمتاز بها حليب ناقة عائذ" بماء المفاصل، وقد أراد من هذا التشبيه إعطاء صورة
    مقربة لهذا الحليب.



    كانت هذه الصورة
    الواقعية التي صاغها الهذلي عبارة عن حالة رمزية عاشها الشاعر أثناء مقامه في دار
    الفناء، فتذكرها وعمل على تحقيقها بصورة مخالفة، إذ تم نقل هذه الصورة من السياق
    الشعري إلى السياق السردي بما جعلها تتميز بلاغيا على الصورة الشعرية؛ فدعا
    العناية الإلهية كي تقوم بتحقيق متمنياته وأحلامه الدنيوية، لكن العناية الإلهية
    بالغت في تمثل هذه الصورة الشعرية فأضفت إلى المشهد الشعري أشياء جديدة، كان تكوين
    خلية من الجوهر إحدى هذه السمات الجزئية التي أضافها السارد إلى صورته.



    إن اكتمال مراسم تجسيد
    الصور الشعرية التي نظمها الشعراء، ألقت على عاتق السرد ليجسد تحولاتها.



    نخلص إذن إلى النتائج التالية:


    1- قام السرد بتسريد الصورة الشعرية، وتحويل الصورة المقننة "
    الشعرية" إلى صورة رحبة "سردية".



    2- إن أغلب الصور
    الشعرية التي تحولت إلى السرد كانت ناقصة تخييليا، فأضفى عليها السرد بعدا كماليا.



    3-
    لقد أصبحت الأشعار
    مجرد ذكريات عابرة حملت هموما إنسانية عاشها الإنسان وبادر إلى معالجتها.



    4- تم تحويل الصورة الشعرية من سياقها الجنسي إلى سياق جنسي آخر مختلف،
    مما أكسبها بلاغة نوعية جديدة.



    5 - لعب الشعر وظيفة بنائية تمثلت في تدخله في المشاهد التي قام
    عليها نص الغفران



    1– 1 – 3 – تسريد
    الصور الشعرية: صورة السحابة أنموذجا



    إذا كان السرد قام
    بتسريد الصورة الشعرية، واستطاع أن يحول الأحلام الشعرية "الخلود مثلا"
    إلى حقائق سردية، فإنه أضفى على الصورة الشعرية شكلا من أشكال الاكتمال.



    وسيقوم السرد بعملية
    مشابهة للعملية الأولى، غير أنه إذا كانت الصور الشعرية السابقة أحلاما شعرية
    "الخلود، حلب الناقة" تكلف السارد بمعالجتها وتحقيقها، فإنه كذلك "
    أي السرد" حول الصورة الشعرية التي تقترب إلى الحقيقة أو هي مشهد طبيعي
    "مثل مشهد السحابة كما سنرى" من سياقها النصي الشعري إلى سياق السرد،
    فهل نجح المعري –تخييليا- في تقمص بلاغة النص الشعري؟



    إن الخطاب السردي الذي
    بنيت عليه رسالة الغفران خطاب شعري، فالشخصيات التي تم استدعاؤها كي تقوم بتشخيص
    مشاهد الرسالة هي شخصيات شعرية، وحتى إن لم تكن شخصيات شعرية فإن لها اهتمامات
    مباشرة بحقل الشعر وروايته (ابن القارح، سيبويه، ابن دريد، إبليس..) وأغلب
    المواضيع التي تمت معالجتها هي مواضيع أدبية تتصل بالعروض والصرف والنحو، ولنقل
    تتصل بنظرية الشعر. وفائدة هذا الكلام أن القصيدة الشعرية ستصبح مفتاح النص السردي
    لاستكناه بلاغته، فهي مسؤولة عن توليد السرد وتشكيل المشاهد السردية، فابن القارح
    يحن إلى قصائد القدماء من خلال تمثل بلاغتها ذهنيا، حيث استطاع في النهاية –من
    خلال هذا الحنين – أن ينتج نموذجا متعاليا للقصيدة العربية؛ فأغلب القصائد الشعرية
    التي افتتح بها مشاهده كانت تعود إلى الفترة الجاهلية أو الإسلام، ماعدا بعض نصوص
    بشار بن برد الذي أعطاه دورا في الجحيم، وكأنه يوهمنا بأنه أول المحدثين وآخر
    القدماء، هذا النموذج الشعري الذي عالجه ابن القارح في مشاهد الرسالة، وتمثله
    ذهنيا، سوف تصبح له شرعية حسية بمجرد تحوله من الشعر إلى السرد ؛ إذ ستنتقل بعض
    الصور الشعرية من سياقها الجنسي أي الوصف الشعري لحالة شعورية تقمصها الشاعر وحاول
    صياغة تشكلاتها النوعية في قالب شعري، إلى صورة سردية حاولت أن تستوعب نظيرتها
    الشعرية، وأن تتجاوزها بلاغيا"فإذا كانت أهمية الصورة الفنية
    "الشعرية" في الطريقة التي تفرض بها علينا نوعا من الانتباه للمعنى الذي
    تعرضه"(9)[ix].
    فإن الصورة السردية تمثلت الموضوع الشعري –تصويريا -، وأصبح التنبيه إلى المعنى
    الذي تعرضه أمرا نسبيا، ونسبيته تكمن في أن الإطار الذي عرضت فيه الأحداث إطار
    متحول ، وأن الصورة السردية لا تتقيد بمعايير محددة تضبط تشكلاتها النوعية كما هو
    الحال في الشعر، ولا تجعل المعنى المجرد يستوي في الذهن قل أن تشمله الصورة، بخلاف
    الصورة الشعرية فإن "المعنى المجرد يكتمل في غيبة من الصورة ثم تأتي
    الصورة فتحتوي ذلك المعنى أو تدل عليه"(10)[x]،
    فكيف استطاع السرد أن يستعير صورة السحاب من سياق جنسي مخالف؟ وما هو البعد الرمزي
    الذي تشكله سحابة التشكيل السردي؟ وهل استطاعت سحابة السرد أن تتميز تخييليا على
    سحابة الشعر؟



    "ويعرض له أدام الله بقاءه، الشوق إلى نظر سحاب


    كالسحاب
    الذي وصفه قائل هذه القصيدة في قوله:



    إني أرقت ولم تأرق
    معي صاح لمستكف
    بعيد النوم لمـــــــــاح



    قد نمت عني وبات
    البرق يسهرني كما استضاء
    يهودي بمصباح



    تهذي الجنوب بأولاه
    وناء بـــه أعجاز مزن يسوق المــــاء لاح



    كأن ريقه لما علا
    شطبـــــا أقراب أبلق
    ينفي الخيل رمــاح



    كأن فيه عشا راجلة
    شرفـــــــا
    عوذا مطافيل قد همت بإرشاح



    دان مسف فويق الأرض
    هيدبه يكاد يدفعه من قام بالـــــــــراح



    فمن بنجوته، كمن
    بعقوتــــــــــه
    والمستكن كمن يمشي بقرواح



    وأصبح الأرض
    والقيعان ممرعة ما بين منفتق منه ومنصاح(9)[xi]



    لقد تحدث الشاعر عن ألم
    الصبابة الذي جعله لا يذوق طعم السعادة؛ إذ جفا النوم عن مقلتيه وجعله يشاكه
    الأرق، فحبيبته غطت في النوم وتركته يقاسي عذاب الوحدة وفرط الصبابة، فهي لم تبعث
    بطيفها لينير عتمة التي تظلل عاطفة الشاعر، وقد ظل في هذه اللحظة يساهر البرق وهو
    يلمع بين الفينة والأخرى، ويشبه حالته مع لمعان البرق وخفوته بصورة الراهب المتعبد
    الذي يستضيء بنور المصباح.



    بعد تقديم صورة البرق،
    سينتقل إلى وصف المشهد الموالي وهو مشهد السحاب المثقل بحباب الماء الذي ترشد أوله
    رياح الجنوب، فيتمايل ويتحول جانبه لشدة ثقل حبابه، ويشبه أوله في حالة نزوله على
    الشطب بالخيل الذي يختلط بياضه بسواده، ثم يأتي بتشبيه تمثيلي آخؤ، يتمثل في وصف
    صورة السحاب الممتلئة بحباب الماء الذي عجزت السحابة عن حمله بصورة حامل أتى حملها
    على عشرة شهور ولم تلد، وقد بلغت من الكبر عتيا، أو بناقة عائد مطفل تذر لبنها
    الكثيف والخفيف، لأن الناقة حينما تلد يكثر لبنها ويتدفق. وقد شبه هذه الصورة
    البليغة بصورة السحاب وهو يهطل، وكان وجه الشبه بين هذه الصور غزارة السائل؛ هذا
    المطر تراه يدنو من الأرض ويتدلى عليها، فقد ملأ الأماكن المرتفعة والمنبسطة، حتى
    أصبح الروض ممرعا ما بين منفرج ومنشق.



    فالحنين إلى تجسيد هذه
    القصيدة الشعرية بتصويراتها البليغة ظل يراود القدماء من أمثال المعري، ونعلم
    مسبقا أن هذه الصورة ظلت خالدة، وقد نسج معظم الشعراء على منوالها؛ فالأخطل واحد
    من أولئك الذين أجادوا وصف المطر وله سبع قصائد كلها في وصف المطر، وقد حصل تجسيد
    هذه الصورة في مستواها الذهني، لكن في مستواها الحسي – التمثيلي – يبقى للشاعر
    وحده أصلة الملاحظة، ومن ثم أثالة التجسيد.



    فابن القارح بمجرد
    تشوقه لرؤية السحابة بتشكلاتها النوعية حتى بادرات العناية الإلهية إلى تسريد
    حلمه:



    "فينشئ اللله –
    تعالى آلاؤه – سحابة كأحسن ما يكون من السحاب من نظر إليها شهد أنه لم ير قط شيءا
    أحسن منها، محلاة بالبرق في وسطها وأطرافها، تمطر بماء ورد الجنة من طل وطش، وتنشر
    حصى الكافور كأنه صغار البرد، فعز إلاهنا القديم الذي لا يعاجزه تصوير الأماني
    وتكوين الهواجس منن الظنون"[xii]



    فالسحابة التي أنشأتها
    العناية الإلهية لم يرها بشر من قبل لأنه مزركشة بالبرق في وسطها وأطرافها، تسقط
    ماء من ماء الجنة، وتنشر بردا مكونا من حصى الكافور تنبعث منه روائح الجنة، قد
    كونها الله لعباده المخلصين لمجرد حضورها في هواجسهم.



    إن سحابة التصوير السردي
    تميزت تخييليا على سحابة التصوير الشعري، فبعد أن استعار المعري الصورة الشعرية
    للسحابة قام باضافة تشكيلات نوعية قصد تزيين صورة السحابة، مما جعلها تتميز على
    نظيرتها الشعرية.



    إن الصورة الشعرية
    "النموذج" الذي مثلته قصيدة عبيد بن الابرص تدخلت في تشييد البناء
    السردي عبر قيام السرد باستعارة هذه الصورة، وتمثل بلاغتها التصويرية سرديا، بل إن
    الصورة التي استعارها المعري من جنس الشعر صورة متحررة من بلاغة الشعر وضوابطه.



    إن صورة عبيد تحولت من
    سياقها الجنسي إلى سياق سردي تجسدت فيه تحولات الصورة، ففي حين اتخذت صورة الاسرد
    طابع الاكتمال لأن الظاهرة الشعرية تجسدت وأضفت عليها مكونات السرد سمات جزئية
    جعلتها تتميز تخسيييليا على الصؤروة الشعرية، كانت الصورة الشعرية تعاني من
    الضوابط التي كبلت بلاغتها وكادت أن تفقدها تميزها النوعي.



    نخلص إذن إلى النتائج
    التالية:



    1- لقد استعار السارد مكونات الصورة الشعرية الموضوعية، وأضفى عليها بلاغة
    رحبة مما أكسبها تميزا نوعيا جعلها تتميز نوعيا على الصورة الأصلية.



    2- إن بناء النص الحكائي على مادة شعرية جعلها تتحرك لتساهم في صنع الحدث
    الحكائي، فكانت استعارة الصورة الشعرية وتحويلها لفضاء السرد إحدى هذه الوظائف
    البنائية.



    3- إذا كان المعنى المجرد في الشعر يكتمل في غيبة عن الصورة، فإن السرد
    ينمو ويكتمل في أحضان الصورة.



    لقد
    تمكن الشعر من توليد السرد عبر القيام بإنشاد مقاطع شعرية بواسطتها أعلن عن ظهور
    شخصيات جديدة كي تستلم وظيفتها التمثيلية. وقد قا مالسرد بتسريد الصورة الشعررية
    وتمثل بلاغتها سردا، حيث بادر السارد إلى معالجة الهموم الشعرية "الموت
    مثلار" وإعطاء حلول سحرية "الخلودج" ساهمت في تشكيل المشاكل
    المتحركة، فكانت فيصلا بين عالمين: عالم البقاء، وعالم الفناء، وبين ثقلفتين:
    ثقافة الشعر، وثقافة السرد.



    إن
    الشعر ديوان العرب ....



    تكفي هذه المقولة الشهيرة
    لتحيط بظلالها على الحظوة التي شغلها جنس الشعر في الثقافة العربية.



    إن الشعر ديوان العربي
    الذي أودع فيه أمجاده وبطولاته وأنسابه ورجالاته، إنه تاريخه ورمز استمراريته.
    فإذا ضاع المكان والزمان، وفنيت العادات والرموز ظل الشعر يحفظ حضارة هذا الأخير
    من الاندثار والضياع ليبقى الحدث وتلويناته تتقاذفه الأجيال والثقافات، يتجدد
    وتنفجر دلالاته ومعانيه كلما انفجرت الذكرى والمواقف. لان الشعر هوية
    العربي ورمز وجوده .



    فلم
    يكن هذا الأخير مستعدا ليتنازل عن هويته، أويفسح المجال لفنون القول الأخرى كي
    تناوش ذوقه المتعالي، الذي بدا كأنه لا يسمع سوى إيقاعات القصيدة، كان وراء هذا
    التحيز –أو ساهم في تعميقه- جمهرة من النقاد حاولوا جاهدين رسم جغرافية الإبداع
    وتقنينها في حدود ما ورثوه عن أجدادهم، وأي انزياح عن هذه الأعراف والتقاليد سيعرض
    أصحاب البدعة إلى نزع بطاقة الهوية، بل إن الخروج عن هذا الإ{ث داخل جنس الشعر
    يفقد صاحبه صفة الشعرية، ويطرد خارج الزمن الشعري واللحظة الشعرية، ونتذكر جيدا ما
    مارسه النقد القديم على انزياحات أبي تمام.



    على الرغم مما ميز
    الشعر، من فرض هيبته على المحيط الثقافي، وتحكمه في تشييد صرح البلاغة، فإن القصيدة
    لم تفلح في فرض أحاديتها، بل ظهرت ألوان من فنون القول تحتكم إلى صياغة جمالية
    تختلف عن الصياغة الجمالية لجنس الشعر. فإذا كانت المقامة قد ضمخت أسلوبها
    بالمساحيق البديعية، فأنتجت جنيا مهجنا يستمد قوته من طبيعة اللغة الشعرية، ومن ثم
    أنتج التداخل الجنسي بين النثر والشعر إلى إفراز نسيج يتخذ المنزع البديع أساسا
    لستر عريه، فإن الرسالة القصصية أحد الأجناس الأدبية التي رسمت حدود بلاغتها خارج
    دائرة الأبواب، خصوصا حينما استغنت عن وظيفتها الإبلاغية وأخذت تروم الوظيفة
    الجمالية.



    إن الراسلة القصصية بما
    هي فضاء نصي وابداعي استلهمت طبيعة الذوق العربي "الشعري" وناوشته، بل
    يمكن أن نقول إنها خيبت آماله وكشفت عجز أدواته الإجرائية عن استعاب النوع الترسلي
    القصصي. إن
    المعري أثناء صياغته لرسالة الغفران كان يعلم منذ البدء أن هذا النوع الترسلي
    يفتقد للمشروعية لأسباب كثيرة منها أن ثقافة السرد كانت تنمي إلى الأدب الشعبي
    (فهي كلام منثور فقط) من هنا انطلق المعري باحثا عن فضاء آخر غير فضاء القصيدة،
    يشكل فيه أزمة الشعر وأسئلته، ويستثمر فيه طاقاته الإبداعية. ولكي تحدث هذه
    الراسلة صداها في الوسط النقدي، عمل على إنشاء كتابة تستمد مقوماتها من نسيج شعري
    يحظى باعتراف الجميع.



    لقد لعب الشعر مجموعة من
    الوظائف يضيق المجال لذكر جميعها، غير أن الظائف التي لاعبها تختلف عن الوظائف
    الكلاسيكية التي ارتبطت بنظرية الأغراض ( نقصد هنا البعد التزييني والبعد
    الحجاجي)، وهكذا صادفنا الشعريساهم في توليد السرد أو تحبيك الحدث، أو حينما أصبح
    آلية جمالية لاذ بها السارد لتشخيص مشمولات العالم الآخر.



    إن رسالة الغفران تبرز
    عن تقاطع زمنين: زمن الشعر وزمن السرد؛ إذ بادر السارد إلى ترحيل مجموعة من الصور
    الجمالية من سياقها الشعري إلى سياق السرد، وقد صاحب هذا الانتقال تغيير على مستوى
    تجسيد الصورة، وعلى مستوى الأسلوب.



    الهوامش والمراجع:












    1- رسالة الغفران- المعري – ص 176/177/178.






    2 - نفسه –ص 202/204.






    3- رسالة التوابع
    والزوابع – ابن شهيد – ص 90.







    4 -
    رسالة الغفران- ص 225.







    5 - شرح المعلقات السبع –
    الزوزني – ص 86.







    6 - رسالة الغفران – ص 225/226.






    7 - نفسه – ص 199.






    8- نفسه – 199/200.






    9- الصورة الفنية – جابر عصفور – ص327/328






    10 - نفسه – ص 328.






    11 - الرسالة – ص 275/275.






    12 - نفسه - ص 276.


    1 – رسالة الغفران – أبو العلاء المعري – تحقيق عائشة
    عبد الرحمن – دار المعارف – القاهرة/ مصر – ط السابعة.



    2 – رسالة التوابع والزوابع – ابن شهيد الأندلسي – تحقيق
    بطرس البستاني – دار صادر – بيروت/لبنان.



    3- شرح المعلقات السبع – أحمد الزوزني – تحقيق عبد
    القادر الفاضلي – المكتبة العصرية – صيدا/بيروت – الطبعة الثاثلة.



    4 – الصورة الفنية في التراث النقدي والبلاغي عند العرب –
    المركز الثقافي العربي – الطبعة الثالثة – 1992.










    العودة الى الفهرست

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 11:58 pm