استثمار اللسانيات في قراءة النص الشعري(تحليل قصيدة السياب المطر) د. محمد كراكبي- الجزائر
عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ ،
أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ .
عَيْنَاكِ حِينَ تَبْسُمَانِ تُورِقُ الكُرُومْ
وَتَرْقُصُ الأَضْوَاءُ ...كَالأَقْمَارِ في نَهَرْ
يَرُجُّهُ المِجْدَافُ وَهْنَاً سَاعَةَ السَّحَرْ
كَأَنَّمَا تَنْبُضُ في غَوْرَيْهِمَا، النُّجُومْ ...
وَتَغْرَقَانِ في ضَبَابٍ مِنْ أَسَىً شَفِيفْ
كَالبَحْرِ سَرَّحَ اليَدَيْنِ فَوْقَـهُ المَسَاء ،
دِفءُ الشِّتَاءِ فِيـهِ وَارْتِعَاشَةُ الخَرِيف،
وَالمَوْتُ، وَالميلادُ، والظلامُ، وَالضِّيَاء؛
فَتَسْتَفِيق مِلء رُوحِي ، رَعْشَةُ البُكَاء
ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء
كنشوةِ الطفلِ إذا خَافَ مِنَ القَمَر !
كَأَنَّ أَقْوَاسَ السَّحَابِ تَشْرَبُ الغُيُومْ
وَقَطْرَةً فَقَطْرَةً تَذُوبُ في المَطَر ...
وَكَرْكَرَ الأَطْفَالُ في عَرَائِشِ الكُرُوم ،
وَدَغْدَغَتْ صَمْتَ العَصَافِيرِ عَلَى الشَّجَر
أُنْشُودَةُ المَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر...
مَطَر...
تَثَاءَبَ الْمَسَاءُ ، وَالغُيُومُ مَا تَزَال
تَسِحُّ مَا تَسِحّ من دُمُوعِهَا الثِّقَالْ .
كَأَنَّ طِفَلاً بَاتَ يَهْذِي قَبْلَ أنْ يَنَام :
بِأنَّ أمَّـهُ - التي أَفَاقَ مُنْذُ عَامْ
فَلَمْ يَجِدْهَا ، ثُمَّ حِينَ لَجَّ في السُّؤَال
قَالوا لَهُ : " بَعْدَ غَدٍ تَعُودْ .. " -
لا بدَّ أنْ تَعُودْ
وَإنْ تَهَامَسَ الرِّفَاقُ أنَّـها هُنَاكْ
في جَانِبِ التَّلِّ تَنَامُ نَوْمَةَ اللُّحُودْ
تَسفُّ مِنْ تُرَابِـهَا وَتَشْرَبُ المَطَر ؛
كَأنَّ صَيَّادَاً حَزِينَاً يَجْمَعُ الشِّبَاك
ويلعن المياه والقَدَر
وَيَنْثُرُ الغِنَاءَ حَيْثُ يَأْفلُ القَمَرْ.
مَطَر ...
مَطَر ...
أتعلمينَ أيَّ حُزْنٍ يبعثُ المَطَر ؟
وَكَيْفَ تَنْشج المزاريبُ إذا انْهَمَر ؟
وكيفَ يَشْعُرُ الوَحِيدُ فِيهِ بِالضّيَاعِ ؟
بِلا انْتِهَاءٍ - كَالدَّمِ الْمُرَاقِ ، كَالْجِياع ،
كَالْحُبِّ ، كَالأطْفَالِ ، كَالْمَوْتَى - هُوَ الْمَطَر !
وَمُقْلَتَاكِ بِي تُطِيفَانِ مَعِ الْمَطَر
وَعَبْرَ أَمْوَاجِ الخَلِيج تَمْسَحُ البُرُوقْ
سَوَاحِلَ العِرَاقِ بِالنُّجُومِ وَالْمَحَار ،
كَأَنَّهَا تَهمُّ بِالشُّرُوق
فَيَسْحَب الليلُ عليها مِنْ دَمٍ دِثَارْ .
أصيح بالخليج : " يا خليجْ
يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! "
فيرجعُ الصَّدَى
كأنَّـه النشيجْ :
" يَا خَلِيجْ
يَا وَاهِبَ المَحَارِ وَالرَّدَى ... "
أَكَادُ أَسْمَعُ العِرَاقَ يذْخرُ الرعودْ
ويخزن البروق في السهولِ والجبالْ ،
حتى إذا ما فَضَّ عنها ختمَها الرِّجالْ
لم تترك الرياحُ من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ .
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
وأسمع القرى تَئِنُّ ، والمهاجرين
يُصَارِعُون بِالمجاذيف وبالقُلُوع ،
عَوَاصِفَ الخليج ، والرُّعُودَ ، منشدين :
" مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
وفي العِرَاقِ جُوعْ
وينثر الغلالَ فيه مَوْسِمُ الحصادْ
لتشبعَ الغِرْبَان والجراد
وتطحن الشّوان والحَجَر
رِحَىً تَدُورُ في الحقول … حولها بَشَرْ
مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
وَكَمْ ذَرَفْنَا لَيْلَةَ الرَّحِيلِ ، مِنْ دُمُوعْ
ثُمَّ اعْتَلَلْنَا - خَوْفَ أَنْ نُلامَ – بِالمَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
وَمُنْذُ أَنْ كُنَّا صِغَارَاً ، كَانَتِ السَّمَاء
تَغِيمُ في الشِّتَاء
وَيَهْطُل المَطَر ،
وَكُلَّ عَامٍ - حِينَ يُعْشُب الثَّرَى- نَجُوعْ
مَا مَرَّ عَامٌ وَالعِرَاقُ لَيْسَ فِيهِ جُوعْ .
مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
في كُلِّ قَطْرَةٍ مِنَ المَطَر
حَمْرَاءُ أَوْ صَفْرَاءُ مِنْ أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ .
وَكُلّ دَمْعَةٍ مِنَ الجيَاعِ وَالعُرَاة
وَكُلّ قَطْرَةٍ تُرَاقُ مِنْ دَمِ العَبِيدْ
فَهيَ ابْتِسَامٌ في انْتِظَارِ مَبْسَمٍ جَدِيد
أوْ حُلْمَةٌ تَوَرَّدَتْ عَلَى فَمِ الوَلِيــدْ
في عَالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، وَاهِب الحَيَاة !
مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
سيُعْشِبُ العِرَاقُ بِالمَطَر ... "
أصِيحُ بالخليج : " يا خَلِيجْ ...
يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! "
فيرجعُ الصَّدَى
كأنَّـهُ النشيجْ :
" يا خليجْ
يا واهبَ المحارِ والردى . "
وينثر الخليجُ من هِبَاتِـهِ الكِثَارْ ،
عَلَى الرِّمَالِ ، : رغوه الأُجَاجَ ، والمحار
وما تبقَّى من عظام بائسٍ غريق
من المهاجرين ظلّ يشرب الردى
من لُجَّـة الخليج والقرار ،
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيقْ
من زهرة يربُّها الرفاتُ بالندى .
وأسمعُ الصَّدَى
يرنُّ في الخليج
" مطر .
مطر ..
مطر ...
في كلِّ قطرةٍ من المطرْ
حمراءُ أو صفراءُ من أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ .
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد
أو حُلْمَةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ
في عالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، واهب الحياة . "
وَيَهْطُلُ المَطَرْ ..
قرة العين
أنشودة المطر
بدر شاكر السيّاب
بدر شاكر السيّاب
عَيْنَاكِ غَابَتَا نَخِيلٍ سَاعَةَ السَّحَرْ ،
أو شُرْفَتَانِ رَاحَ يَنْأَى عَنْهُمَا القَمَرْ .
عَيْنَاكِ حِينَ تَبْسُمَانِ تُورِقُ الكُرُومْ
وَتَرْقُصُ الأَضْوَاءُ ...كَالأَقْمَارِ في نَهَرْ
يَرُجُّهُ المِجْدَافُ وَهْنَاً سَاعَةَ السَّحَرْ
كَأَنَّمَا تَنْبُضُ في غَوْرَيْهِمَا، النُّجُومْ ...
وَتَغْرَقَانِ في ضَبَابٍ مِنْ أَسَىً شَفِيفْ
كَالبَحْرِ سَرَّحَ اليَدَيْنِ فَوْقَـهُ المَسَاء ،
دِفءُ الشِّتَاءِ فِيـهِ وَارْتِعَاشَةُ الخَرِيف،
وَالمَوْتُ، وَالميلادُ، والظلامُ، وَالضِّيَاء؛
فَتَسْتَفِيق مِلء رُوحِي ، رَعْشَةُ البُكَاء
ونشوةٌ وحشيَّةٌ تعانق السماء
كنشوةِ الطفلِ إذا خَافَ مِنَ القَمَر !
كَأَنَّ أَقْوَاسَ السَّحَابِ تَشْرَبُ الغُيُومْ
وَقَطْرَةً فَقَطْرَةً تَذُوبُ في المَطَر ...
وَكَرْكَرَ الأَطْفَالُ في عَرَائِشِ الكُرُوم ،
وَدَغْدَغَتْ صَمْتَ العَصَافِيرِ عَلَى الشَّجَر
أُنْشُودَةُ المَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر...
مَطَر...
تَثَاءَبَ الْمَسَاءُ ، وَالغُيُومُ مَا تَزَال
تَسِحُّ مَا تَسِحّ من دُمُوعِهَا الثِّقَالْ .
كَأَنَّ طِفَلاً بَاتَ يَهْذِي قَبْلَ أنْ يَنَام :
بِأنَّ أمَّـهُ - التي أَفَاقَ مُنْذُ عَامْ
فَلَمْ يَجِدْهَا ، ثُمَّ حِينَ لَجَّ في السُّؤَال
قَالوا لَهُ : " بَعْدَ غَدٍ تَعُودْ .. " -
لا بدَّ أنْ تَعُودْ
وَإنْ تَهَامَسَ الرِّفَاقُ أنَّـها هُنَاكْ
في جَانِبِ التَّلِّ تَنَامُ نَوْمَةَ اللُّحُودْ
تَسفُّ مِنْ تُرَابِـهَا وَتَشْرَبُ المَطَر ؛
كَأنَّ صَيَّادَاً حَزِينَاً يَجْمَعُ الشِّبَاك
ويلعن المياه والقَدَر
وَيَنْثُرُ الغِنَاءَ حَيْثُ يَأْفلُ القَمَرْ.
مَطَر ...
مَطَر ...
أتعلمينَ أيَّ حُزْنٍ يبعثُ المَطَر ؟
وَكَيْفَ تَنْشج المزاريبُ إذا انْهَمَر ؟
وكيفَ يَشْعُرُ الوَحِيدُ فِيهِ بِالضّيَاعِ ؟
بِلا انْتِهَاءٍ - كَالدَّمِ الْمُرَاقِ ، كَالْجِياع ،
كَالْحُبِّ ، كَالأطْفَالِ ، كَالْمَوْتَى - هُوَ الْمَطَر !
وَمُقْلَتَاكِ بِي تُطِيفَانِ مَعِ الْمَطَر
وَعَبْرَ أَمْوَاجِ الخَلِيج تَمْسَحُ البُرُوقْ
سَوَاحِلَ العِرَاقِ بِالنُّجُومِ وَالْمَحَار ،
كَأَنَّهَا تَهمُّ بِالشُّرُوق
فَيَسْحَب الليلُ عليها مِنْ دَمٍ دِثَارْ .
أصيح بالخليج : " يا خليجْ
يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! "
فيرجعُ الصَّدَى
كأنَّـه النشيجْ :
" يَا خَلِيجْ
يَا وَاهِبَ المَحَارِ وَالرَّدَى ... "
أَكَادُ أَسْمَعُ العِرَاقَ يذْخرُ الرعودْ
ويخزن البروق في السهولِ والجبالْ ،
حتى إذا ما فَضَّ عنها ختمَها الرِّجالْ
لم تترك الرياحُ من ثمودْ
في الوادِ من أثرْ .
أكاد أسمع النخيل يشربُ المطر
وأسمع القرى تَئِنُّ ، والمهاجرين
يُصَارِعُون بِالمجاذيف وبالقُلُوع ،
عَوَاصِفَ الخليج ، والرُّعُودَ ، منشدين :
" مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
وفي العِرَاقِ جُوعْ
وينثر الغلالَ فيه مَوْسِمُ الحصادْ
لتشبعَ الغِرْبَان والجراد
وتطحن الشّوان والحَجَر
رِحَىً تَدُورُ في الحقول … حولها بَشَرْ
مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
وَكَمْ ذَرَفْنَا لَيْلَةَ الرَّحِيلِ ، مِنْ دُمُوعْ
ثُمَّ اعْتَلَلْنَا - خَوْفَ أَنْ نُلامَ – بِالمَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
وَمُنْذُ أَنْ كُنَّا صِغَارَاً ، كَانَتِ السَّمَاء
تَغِيمُ في الشِّتَاء
وَيَهْطُل المَطَر ،
وَكُلَّ عَامٍ - حِينَ يُعْشُب الثَّرَى- نَجُوعْ
مَا مَرَّ عَامٌ وَالعِرَاقُ لَيْسَ فِيهِ جُوعْ .
مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
في كُلِّ قَطْرَةٍ مِنَ المَطَر
حَمْرَاءُ أَوْ صَفْرَاءُ مِنْ أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ .
وَكُلّ دَمْعَةٍ مِنَ الجيَاعِ وَالعُرَاة
وَكُلّ قَطْرَةٍ تُرَاقُ مِنْ دَمِ العَبِيدْ
فَهيَ ابْتِسَامٌ في انْتِظَارِ مَبْسَمٍ جَدِيد
أوْ حُلْمَةٌ تَوَرَّدَتْ عَلَى فَمِ الوَلِيــدْ
في عَالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، وَاهِب الحَيَاة !
مَطَر ...
مَطَر ...
مَطَر ...
سيُعْشِبُ العِرَاقُ بِالمَطَر ... "
أصِيحُ بالخليج : " يا خَلِيجْ ...
يا واهبَ اللؤلؤ ، والمحار ، والردى ! "
فيرجعُ الصَّدَى
كأنَّـهُ النشيجْ :
" يا خليجْ
يا واهبَ المحارِ والردى . "
وينثر الخليجُ من هِبَاتِـهِ الكِثَارْ ،
عَلَى الرِّمَالِ ، : رغوه الأُجَاجَ ، والمحار
وما تبقَّى من عظام بائسٍ غريق
من المهاجرين ظلّ يشرب الردى
من لُجَّـة الخليج والقرار ،
وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيقْ
من زهرة يربُّها الرفاتُ بالندى .
وأسمعُ الصَّدَى
يرنُّ في الخليج
" مطر .
مطر ..
مطر ...
في كلِّ قطرةٍ من المطرْ
حمراءُ أو صفراءُ من أَجِنَّـةِ الزَّهَـرْ .
وكلّ دمعة من الجياع والعراة
وكلّ قطرة تراق من دم العبيدْ
فهي ابتسامٌ في انتظارِ مبسمٍ جديد
أو حُلْمَةٌ تورَّدتْ على فمِ الوليدْ
في عالَمِ الغَدِ الفَتِيِّ ، واهب الحياة . "
وَيَهْطُلُ المَطَرْ ..
قد
يكون من المفيد أن نشير بدءاً إلى تحديد المصطلحات؛ لأن ذلك يفرضه التمدن،
ويستجيب للمولدات الفكرية المستحدثة، والغاية استبعاد العبث في التناول،
والتضليل في الدلالة(1). فحسن، إذاً، أن نبين حدود بعض المصطلحات
المتداولة.
يشيع في النقد المعاصر مصطلحات عدة تنتمي إلى حقل دلالي عام
وهي النص، والخطاب، والقول الشعري، واللغة الشعرية وغيرها. وتعدد هذه
المصطلحات مرجعه إلى تنوع مناهل النقد الأدبي، وسعة المجالات الثقافية، فلا
عجب أن نجد تنوعاً في المصطلحات النقدية، والمقام لا يتسع لذكر جميع الرؤى
المنهجية، والعلمية التي تناولت هذه المصطلحات وغيرها. غير أني ألفت نظر
المتلقي إلى أن مصطلح (النص الشعري) يرتبط بالجانب المادي المرئي لجنس معين
من الإبداع الأدبي، وبإمكان النقاد ملامسة الحدود السطحية، فيقوم بإبراز
ما يبوح به التشكل العلامي غير أن الوقوف على مرجعياته العميقة لا يكون إلا
بطول التأني، والممارسة. ومما يستشف من كتابات النقاد أن النص الأدبي يمثل
المنطلق الأساس للمسائل النظرية، والتطبيقية. غير أن ضبط حدوده عسير
المطلب لتعدد مداخله، ومنطلقاته، وأشكاله، ومواقعه، وغاياته(2)، فـ"...أي
عمل فني ليس حقاً "مغلقاً"، وإن كل واحد بمفرده يتضمن، بصرف النظر عن أي
تحديد ظاهري، لا نهائية من "القراءات" الممكنة" (3)، ويزداد النص عمقاً سمو
الكلمة الأدبية، وأشار إلى ذلك أحد الدارسين قائلاً(4): "وتقوى في النص
هذه القابلية بقدر ما تسمو فيه الكلمة من مستوى أدوات التعبير إلى مستوى
مقومات التعبير والتفكير معاً وتتحول فيه علاقتها من علاقة عمودية... ترتبط
فيها بواقع خارج النص إلى علاقة أفقية ترتبط فيها بغيرها من الكلمات في
نطاق النص ذاته...". ويتردد في ألسنة النقاد مصطلح (النسيج) ولا يبتعد
كثيراً عن مصطلح النص، "فالنص نسيج من الكلمات يترابط بعضها ببعض"(5). أما
مصطلح الخطاب الأدبي، فيمثل بؤرة الدرس النقدي المعاصر(6)، والمتتبع لمادة
(خ ط ب) في النصوص القرآنية يدرك تنوعها الصيغي. ولها فيما استقرينا ثلاث
صيغ (فعل، وفاعل، وفعال). والجدول التالي يبين استعمالاتها:
الصيغة الآية
فعل 1 ـ قال فما خطبك يا سامري(7)
2 ـ قال فما خطبكم أيها المرسلون(
3 ـ قال ما خطبكما قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء(9)
4 ـ قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه(10)
فعال 1 ـ وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب(11)
2 ـ فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب(12)
3 ـ رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً(13)
فاعل 1 ـ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً(14)
2 ـ ولا تخاطبني في الذين ظلموا (15)
يتبين
من الجدول أن صيغة (فعل) أكثر الصيغ وروداً، تليها (فعال)، فـ(فاعل)، ولعل
تواتر الأولى راجع إلى الشأن والأمر، قال الراغب الأصفهاني(19) "...
والخطب الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب" ورأى ابن منظور (17)"أنه الأمر
الذي تقع فيه المخاطبة...". ينتج، إذاً، عن لفظ (خطب) دائرة كلامية منجزة
من طرفين: يدعى أحدهما المخاطب، والثاني المخاطب، والتفاعل اللغوي بينهما
آيل إلى إنشاء (الخطاب) فالمخاطب عنصر يمثل بؤرة الدرس النقدي، وانتماء
المخاطب إلى المخاطب مرجعه إلى أن الأسلوب عد "ضغطاً على المتقبل بحيث لا
يلقى الخطاب إلا وقد تهيأ فيه من العناصر الضاغطة ما يزيل عن المتقبل حرية
ردود الفعل"(18)، ونعته، هنا بلفظ (الشعري)(19) يدل إما على جنس أدبي معين
هو (الشعر) الذي يرتكز على ركنين أساسين هما: الوزن، والقافية، وإما على كل
ما يثير انفعالاً، أو إحساساً جمالياً، وسواء أكان شعراً أم نثراً أم
رسماً... وقد قصدنا، في هذا المقام، المعنى الأول.
إن الإطلاع على نصوص
الشعر الجاهلي(20)، وأقوال الرسول () والخلفاء، والصحابة ينبئ عن إحساس
العرب المبكر بقيمة الشعر، وقدرته على مسايرة الواقع، وبكونه كلاماً فنياً
متميزاً في بعض مخاطباتهم، ومحاوراتهم، ويزداد وضوحاً بمجيء الأصمعي، وابن
سلام الجمحي، والجاحظ، وابن قتيبة، والفارابي، وابن سينا، وابن طباطبا،
وقدامة بن جعفر، وحازم القرطاجني. فهذه المحاولات الجادة تدل على سعي
النقاد إلى وضع أسس وقواعد لفهم الشعر، ويبدو أن الرؤية النقدية الشعرية قد
اكتملت بظهور حازم القرطاجني في القرن السابع الهجري. وقوام الشعر عنده
أربعة عناصر: المبدع، ويشترط فيه أن يكون صحيح الطبع ملماً بصناعة الشعر،
وحسن تآلف، وتوافق عناصر البنية اللغوية الشعرية من جهة اللفظ، والأسلوب،
والمعنى، والوزن والقافية، والاعتناء بالمستوى الجمالي، والإبداعي، ويختلف
باختلاف قوة نظم الكلام، وضعفه، وجودته، ورداءته، وسعة التصوير، وضيقه،
والاهتمام بعنصر التأثير في المتلقي، ويتوقف ذلك على ما يتضمنه النص من
عناصر فنية، تشحذ ذهن المتلقي، وتثير انفعاله فيستجيب لها.
وأما مصطلح
(القول الشعري)(21)، فيرتبط أكثر بصاحب النص الإبداعي الذي يمنح النص
الشعري فاعلية مميزة تنصهر فيها النوازع الذاتية، وما يرتبط بها من أبعاد
زمانية، ومكانية، وانتماءات ثقافية، بل أحياناً إيديولوجية، وينتج عن ذلك
كله صيغ، وتعابير متفاوتة في درجات الإيحاء، فكلما كان المنتج عميق الرؤيا،
كانت كلماته، وعباراته بعيدة المرجع، ولا يدرك إلا من أوتي قوة في المنهج،
ودقة في التحليل، وبعد النظر. وأما (مصطلح اللغة الشعرية)، فالغرض منه
الوقوف على الخصائص التي اصطبغت بالنمط الشعري، فمنها ما هو عام كالإيقاع،
والتكرار، والتوازي، والانزياح، والتصوير، وغيرها، ومنها ما هو خاص كالذي
يلتاط بشاعر دون آخر، في عصر واحد، أو في عصور متفرقة. وأما لفظ (القراءة)،
فمصطلح نقدي مسلط على نص ما، ويختلف باختلاف المدونات أولاً، والأشخاص
ثانياً.
فلابد، إذا، من إعادة النظر في المقروء، وقراءته بأدوات فاعلة
تعمل على جمع شتات الرؤى العربية في شتى المجالات، فيها نحقق ذاتنا،
وإسهاماتنا في الفكر الإنساني، وإلا أصبنا بالقطيعة، والشطط فنصبح أداة
طيعة في أيدي الآخرين.
وأما لفظ (المنهج)، فسبيل يصطنعه الناقد في الكشف
عن ملابسات النص، والوقوف على كوامنه، ومرجعياته، ويختلف باختلاف الحاجات
العلمية، والغايات التي يريد الناقد تحقيقها. ويزخر النقد المعاصر بمناهج
عدة أدبية، ولغوية(22) ولا يمكن في هذا المقام بسطها. غير أنه من الضروري
هضم الأرضية التي نبت فيها المنهج؛ لأن له علاقة ما بالمدونة المقدمة
للدرس، والتحليل، والعمل على الملاءمة بين المنهج المصطنع، وعناصر التحليل
لئلا تفقد الممارسة النقدية قيمتها، وغايتها. وتجدر الإشارة إلى أن كثيراً
من الممارسات النقدية لم تبن على رؤية منهجية واضحة، والرأي الذي نميل إليه
عدم التكلف في اصطناع المنهج، فينبغي لنا تحديد الفرضية العلمية التي يريد
الناقد الوصول إليها، ومن ثمة يتم اختيار المنهج.
أما دعامة المنهج
الذي ارتأيناه، فتنطلق من أن الخطاب الشعري لم يحظ باتفاق بين
الدارسين(23). وأهم مواطن الخلاف ما اتصلت بنشأته، وطبيعته، ووظيفته.
والبحث في نشأته، يعني تجلية العلاقة بين المبدع، وإبداعه، وفي طبيعته،
يتركز على تبين الخصائص المتميزة العامة للعمل الشعري، وفي وظيفته، يقوم
على إبراز أثر النتاج الشعري في المتلقين. كما أنه لم يحظ بنظرية شاملة
لتحليله، وما نجده سوى آراء تسعى إضاءة بعض جوانبه دون بعضه الآخر.
ومن أهم الرؤى النقدية:
الأولى: تهتم بالباث، أو الشاعر، فيدرسون سيرة حياته، وعصره، ويحللون نفسيته.
الثانية:
ترى أن الخطاب كفيل بأن يمدنا بمعرفة واسعة عن الشاعر، ومؤثراته
الاجتماعية، والثقافية، والحضارية، فلغة الخطاب حسية تدل على نفسها بهذا
يصبح الخطاب معزولاً عن المؤلف، وعصره.
الثالثة: تعتمد السياق، وهو أفضل وسيلة لمعرفة الشاعر، وشعره.
الرابعة:
تعتمد مفهوم الوظيفة الشعرية أي كل ما يجعل العمل الشعري عملاً فنياً
وموضوعها الرئيس تمايز الفن اللغوي، واختلافه عن غيره من الفنون الأخرى،
والبحث عما يحقق الأثر الفني في العمل الشعري؛ لأنها تعنى بدارسة العناصر
الظاهرة، وإحضار العناصر الغائبة، وذلك بسبر دلالاته الخفية.
وتتعدد
قراءات الخطاب الشعري بتعدد الرؤى، وتنوع الثقافات، ويعني ذلك أن الخطاب
الشعري يتجدد، وينبعث من خلال كل قراءة؛ لأن القراءة سبيل إلى تعدد وجهات
النظر. فالقارئ يستقبل الخطاب بما يملكه من قدرات فكرية، ولغوية، وثقافية،
وهذه العناصر درجات متفاوتة بين القراء كل يعمل على إثرائه بهذه المعطيات
الشخصية، ويرجع ذلك كله إلى أن الخطاب بنية لغوية فنية منغلقة بالنظر إلى
الشكل المجسد للعناصر اللغوية، ومنفتحة بحسب قدرات التأويل، فلا يمكن، إذا،
فهمه إلا بمعرفة دلالاته السطحية، والباطنية، وتفهم المقام الذي تنزل فيه،
والظروف الاجتماعية المحيطة بالمبدع، والعمل الإبداعي، فإذا استطعنا أن
نلم بهذه الأمور، أدركنا قيمته اللغوية، والإبداعية، والجمالية غير أن
الخطاب الشعري عالم معقد تنغرس فيه شتى النوازع، فيصعب على القارئ الولوج
فيه، ودراسة جميع جوانبه، فيضطر إلى تحديد وجهة ما في الدراسة لإيضاح جانب
معين من الخطاب.
ولعل أخصب المناهج، وأنسبها، وأشدها تعلقاً بالخطاب
الشعري المنهج اللساني، ومرجع ذلك إلى ما حققه من نتائج علمية في دراسة
الظاهرة اللغوية، "فيغدو تفاعلاً قاراً بين تفكيك الظاهرة إلى مركباتها
والبحث عما يجمع الأجزاء من روابط مؤلفة فهو منهج يعتمد الاستقراء
والاستنتاج معاً بحيث يتعاضد التجريد والتصنيف فيكون مسار البحث من الكل
إلى الأجزاء ومن الأجزاء إلى الكل حسبما تمليه الضرورة النوعية"(24)،
فاقتراب اللسانيات من الأدب يوسع نظرياتها، ومناهجها، ويزيدها تطوراً،
وإتقاناً، ودقة، وموضوعية(25)، وقد يستعين التحليل اللساني بالمعطى
الأسلوبي الذي يقف على الاختبارات التي تحقق قيماً جمالية مؤثرة، ويساعد
على تبين وسائل الاستخدام اللغوي، وطرق الاتساع التي يوفرها السياق(26)،
ويكون المعطى الأسلوبي محوجاً إلى دعامة تحليلية أخرى تعينه على تفسير بعض
العلامات غير اللغوية، في الخطاب، كالتلوين، والبياض والنقاط، وغيرها،
وتعرف بالدعامة السيوسيولوجية(27).
إن توفر هذه الدعامات المنهجية في الخطاب الواحد مدل بفائدتين:
الأولى:
إن العمل الإبداعي مستقل عن منشئه، ويعني ذلك أن المبدع يفقد ملكيته لعمله
بمجرد تجسيده في الواقع، وهذا المفهوم يسترضيه النقاد المعاصرون.
الثانية:
العمل الشعري مجال فسيح للتأويل، ويتوقف ذلك على ثقافة القارئ، ودربته،
"وهكذا نجد عطاء النص الأدبي متجدداً أزلياً لا ينفد أبداً: فكلما استعطاه
قارئ أعطاه"(28)، ولن يتأتى ذلك إلا بأدوات منهجية فاعلة، ومؤهلات علمية
عالية، ونسج أدبية سامية.
الثالثة: عدم وجود قواعد عام للتحليل، وهذه
نظرة صائبة يدعمها النقد المعاصر؛ لأن العمل الإبداعي ذو أبعاد عدة: نفسية،
واجتماعية، وثقافية، وحضارية، فيصعب على الدرس إيضاح هذه الجوانب كلها.
وعلى
الرغم من هذا الاستشكال المنهجي فإننا نسعى إلى دارسة نماذج شعرية معتمدين
المنهج اللساني، وهذه الممارسة التطبيقية ما هي إلا تجربة نقدية ذاتية، قد
تحظى بالقبول لدى المتلقي، فإن لم يكن، فلا عجب؛ لأن المقاييس المعتمدة
مختلفة، متباينة، والأذواق متفاوتة، والاحساسات متماوجة.
ولهذا السبب
سعيت، في هذا البحث، إلى اعتماد المنهج الدلالي، في دراسة أبيات شعرية من
قصيدة "أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب التي مطلعها:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
والغاية
من هذا العمل تبين الأثر التطبيقي للمنهج في القصيدة، ولما كان هذا المنهج
يثير إشكالاً لغوياً، كان لزاماً علينا أن نتعرض لبعض مسائله. فالمنهج
الدلالي، إذا، يهدف إلى دراسة البنية اللغوية باعتماد جانب دلالي في
التحليل، والفصل بين المستويات اللغوية في دراسة الظاهرة الأدبية ما هو إلا
ضرورة منهجية؛ لأن فروع علم اللغة مثل منظمة أو جهاز يعمل بمختلف فروعه في
تعاون على أداء وظيفة ما، هي هنا بيان المعاني اللغوية على مستويات
مختلفة(29)، ونركز في تعريفه على ثلاثة تعريفات أثارت انتباهنا؛ فالأول يرى
فيه علماء اللغة أن علم الدلالة "يدرس المعنى سواء على مستوى الكلمة
المفردة أم التركيب، وتنتهي هذه الدراسة غالباً بوضع نظريات في دراسة
المعنى تختلف من مدرسة لغوية إلى أخرى"(30). وأما الثاني، فيشير إلى أنه
"يدرس العلاقة بين الرمز ودلالته أو دلالاته، كما يدرس معاني الألفاظ من
الناحية التاريخية بما في ذلك تأثير المجاز اللغوي من كناية
واستعارة...الخ(31)، أما الثالث، فيقول فيه أحد الدارسين العرب" وإذا
أوغلنا في تفحص مسائله، نجده يخصص الجزء الأكبر منها لمتابعة تطورات
الدلالات وتغيرها، ورصد المفردات بين المعجم والحالة التي يكون عليها في
النصوص المختلفة، في المقامات المتعددة بحسب التجارب اليومية المعاشة"(32).
تجمع
هذه التعريفات على أن علم الدلالة يبحث في التطور العام لألفاظ اللغة،
وتفترق في الإشارة إلى أفكار متباينة. ففي التعريف الأول، نجد علم الدلالة
يصل في الأخير إلى وضع نظريات في دراسة المعنى، تختلف بحسب الرؤى المنهجية
والعلمية. أما التعريف الثاني، فيركز على إبراز العلاقة اللغوية بين الرمز
ودلالته، وتبين الأثر المجازي في الاستعمالات المختلفة لألفاظ اللغة. وأما
التعريف الثالث، فيضيف مبحثاً من مباحث علم الدلالة، وهو وضع المفردات
باعتماد المقام، والظروف الاجتماعية المختلفة المحيطة بهذه الألفاظ.
يكون من المفيد أن نشير بدءاً إلى تحديد المصطلحات؛ لأن ذلك يفرضه التمدن،
ويستجيب للمولدات الفكرية المستحدثة، والغاية استبعاد العبث في التناول،
والتضليل في الدلالة(1). فحسن، إذاً، أن نبين حدود بعض المصطلحات
المتداولة.
يشيع في النقد المعاصر مصطلحات عدة تنتمي إلى حقل دلالي عام
وهي النص، والخطاب، والقول الشعري، واللغة الشعرية وغيرها. وتعدد هذه
المصطلحات مرجعه إلى تنوع مناهل النقد الأدبي، وسعة المجالات الثقافية، فلا
عجب أن نجد تنوعاً في المصطلحات النقدية، والمقام لا يتسع لذكر جميع الرؤى
المنهجية، والعلمية التي تناولت هذه المصطلحات وغيرها. غير أني ألفت نظر
المتلقي إلى أن مصطلح (النص الشعري) يرتبط بالجانب المادي المرئي لجنس معين
من الإبداع الأدبي، وبإمكان النقاد ملامسة الحدود السطحية، فيقوم بإبراز
ما يبوح به التشكل العلامي غير أن الوقوف على مرجعياته العميقة لا يكون إلا
بطول التأني، والممارسة. ومما يستشف من كتابات النقاد أن النص الأدبي يمثل
المنطلق الأساس للمسائل النظرية، والتطبيقية. غير أن ضبط حدوده عسير
المطلب لتعدد مداخله، ومنطلقاته، وأشكاله، ومواقعه، وغاياته(2)، فـ"...أي
عمل فني ليس حقاً "مغلقاً"، وإن كل واحد بمفرده يتضمن، بصرف النظر عن أي
تحديد ظاهري، لا نهائية من "القراءات" الممكنة" (3)، ويزداد النص عمقاً سمو
الكلمة الأدبية، وأشار إلى ذلك أحد الدارسين قائلاً(4): "وتقوى في النص
هذه القابلية بقدر ما تسمو فيه الكلمة من مستوى أدوات التعبير إلى مستوى
مقومات التعبير والتفكير معاً وتتحول فيه علاقتها من علاقة عمودية... ترتبط
فيها بواقع خارج النص إلى علاقة أفقية ترتبط فيها بغيرها من الكلمات في
نطاق النص ذاته...". ويتردد في ألسنة النقاد مصطلح (النسيج) ولا يبتعد
كثيراً عن مصطلح النص، "فالنص نسيج من الكلمات يترابط بعضها ببعض"(5). أما
مصطلح الخطاب الأدبي، فيمثل بؤرة الدرس النقدي المعاصر(6)، والمتتبع لمادة
(خ ط ب) في النصوص القرآنية يدرك تنوعها الصيغي. ولها فيما استقرينا ثلاث
صيغ (فعل، وفاعل، وفعال). والجدول التالي يبين استعمالاتها:
الصيغة الآية
فعل 1 ـ قال فما خطبك يا سامري(7)
2 ـ قال فما خطبكم أيها المرسلون(
3 ـ قال ما خطبكما قالتا لا نسقى حتى يصدر الرعاء(9)
4 ـ قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه(10)
فعال 1 ـ وشددنا ملكه وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب(11)
2 ـ فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب(12)
3 ـ رب السماوات والأرض وما بينهما الرحمن لا يملكون منه خطاباً(13)
فاعل 1 ـ وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً(14)
2 ـ ولا تخاطبني في الذين ظلموا (15)
يتبين
من الجدول أن صيغة (فعل) أكثر الصيغ وروداً، تليها (فعال)، فـ(فاعل)، ولعل
تواتر الأولى راجع إلى الشأن والأمر، قال الراغب الأصفهاني(19) "...
والخطب الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب" ورأى ابن منظور (17)"أنه الأمر
الذي تقع فيه المخاطبة...". ينتج، إذاً، عن لفظ (خطب) دائرة كلامية منجزة
من طرفين: يدعى أحدهما المخاطب، والثاني المخاطب، والتفاعل اللغوي بينهما
آيل إلى إنشاء (الخطاب) فالمخاطب عنصر يمثل بؤرة الدرس النقدي، وانتماء
المخاطب إلى المخاطب مرجعه إلى أن الأسلوب عد "ضغطاً على المتقبل بحيث لا
يلقى الخطاب إلا وقد تهيأ فيه من العناصر الضاغطة ما يزيل عن المتقبل حرية
ردود الفعل"(18)، ونعته، هنا بلفظ (الشعري)(19) يدل إما على جنس أدبي معين
هو (الشعر) الذي يرتكز على ركنين أساسين هما: الوزن، والقافية، وإما على كل
ما يثير انفعالاً، أو إحساساً جمالياً، وسواء أكان شعراً أم نثراً أم
رسماً... وقد قصدنا، في هذا المقام، المعنى الأول.
إن الإطلاع على نصوص
الشعر الجاهلي(20)، وأقوال الرسول () والخلفاء، والصحابة ينبئ عن إحساس
العرب المبكر بقيمة الشعر، وقدرته على مسايرة الواقع، وبكونه كلاماً فنياً
متميزاً في بعض مخاطباتهم، ومحاوراتهم، ويزداد وضوحاً بمجيء الأصمعي، وابن
سلام الجمحي، والجاحظ، وابن قتيبة، والفارابي، وابن سينا، وابن طباطبا،
وقدامة بن جعفر، وحازم القرطاجني. فهذه المحاولات الجادة تدل على سعي
النقاد إلى وضع أسس وقواعد لفهم الشعر، ويبدو أن الرؤية النقدية الشعرية قد
اكتملت بظهور حازم القرطاجني في القرن السابع الهجري. وقوام الشعر عنده
أربعة عناصر: المبدع، ويشترط فيه أن يكون صحيح الطبع ملماً بصناعة الشعر،
وحسن تآلف، وتوافق عناصر البنية اللغوية الشعرية من جهة اللفظ، والأسلوب،
والمعنى، والوزن والقافية، والاعتناء بالمستوى الجمالي، والإبداعي، ويختلف
باختلاف قوة نظم الكلام، وضعفه، وجودته، ورداءته، وسعة التصوير، وضيقه،
والاهتمام بعنصر التأثير في المتلقي، ويتوقف ذلك على ما يتضمنه النص من
عناصر فنية، تشحذ ذهن المتلقي، وتثير انفعاله فيستجيب لها.
وأما مصطلح
(القول الشعري)(21)، فيرتبط أكثر بصاحب النص الإبداعي الذي يمنح النص
الشعري فاعلية مميزة تنصهر فيها النوازع الذاتية، وما يرتبط بها من أبعاد
زمانية، ومكانية، وانتماءات ثقافية، بل أحياناً إيديولوجية، وينتج عن ذلك
كله صيغ، وتعابير متفاوتة في درجات الإيحاء، فكلما كان المنتج عميق الرؤيا،
كانت كلماته، وعباراته بعيدة المرجع، ولا يدرك إلا من أوتي قوة في المنهج،
ودقة في التحليل، وبعد النظر. وأما (مصطلح اللغة الشعرية)، فالغرض منه
الوقوف على الخصائص التي اصطبغت بالنمط الشعري، فمنها ما هو عام كالإيقاع،
والتكرار، والتوازي، والانزياح، والتصوير، وغيرها، ومنها ما هو خاص كالذي
يلتاط بشاعر دون آخر، في عصر واحد، أو في عصور متفرقة. وأما لفظ (القراءة)،
فمصطلح نقدي مسلط على نص ما، ويختلف باختلاف المدونات أولاً، والأشخاص
ثانياً.
فلابد، إذا، من إعادة النظر في المقروء، وقراءته بأدوات فاعلة
تعمل على جمع شتات الرؤى العربية في شتى المجالات، فيها نحقق ذاتنا،
وإسهاماتنا في الفكر الإنساني، وإلا أصبنا بالقطيعة، والشطط فنصبح أداة
طيعة في أيدي الآخرين.
وأما لفظ (المنهج)، فسبيل يصطنعه الناقد في الكشف
عن ملابسات النص، والوقوف على كوامنه، ومرجعياته، ويختلف باختلاف الحاجات
العلمية، والغايات التي يريد الناقد تحقيقها. ويزخر النقد المعاصر بمناهج
عدة أدبية، ولغوية(22) ولا يمكن في هذا المقام بسطها. غير أنه من الضروري
هضم الأرضية التي نبت فيها المنهج؛ لأن له علاقة ما بالمدونة المقدمة
للدرس، والتحليل، والعمل على الملاءمة بين المنهج المصطنع، وعناصر التحليل
لئلا تفقد الممارسة النقدية قيمتها، وغايتها. وتجدر الإشارة إلى أن كثيراً
من الممارسات النقدية لم تبن على رؤية منهجية واضحة، والرأي الذي نميل إليه
عدم التكلف في اصطناع المنهج، فينبغي لنا تحديد الفرضية العلمية التي يريد
الناقد الوصول إليها، ومن ثمة يتم اختيار المنهج.
أما دعامة المنهج
الذي ارتأيناه، فتنطلق من أن الخطاب الشعري لم يحظ باتفاق بين
الدارسين(23). وأهم مواطن الخلاف ما اتصلت بنشأته، وطبيعته، ووظيفته.
والبحث في نشأته، يعني تجلية العلاقة بين المبدع، وإبداعه، وفي طبيعته،
يتركز على تبين الخصائص المتميزة العامة للعمل الشعري، وفي وظيفته، يقوم
على إبراز أثر النتاج الشعري في المتلقين. كما أنه لم يحظ بنظرية شاملة
لتحليله، وما نجده سوى آراء تسعى إضاءة بعض جوانبه دون بعضه الآخر.
ومن أهم الرؤى النقدية:
الأولى: تهتم بالباث، أو الشاعر، فيدرسون سيرة حياته، وعصره، ويحللون نفسيته.
الثانية:
ترى أن الخطاب كفيل بأن يمدنا بمعرفة واسعة عن الشاعر، ومؤثراته
الاجتماعية، والثقافية، والحضارية، فلغة الخطاب حسية تدل على نفسها بهذا
يصبح الخطاب معزولاً عن المؤلف، وعصره.
الثالثة: تعتمد السياق، وهو أفضل وسيلة لمعرفة الشاعر، وشعره.
الرابعة:
تعتمد مفهوم الوظيفة الشعرية أي كل ما يجعل العمل الشعري عملاً فنياً
وموضوعها الرئيس تمايز الفن اللغوي، واختلافه عن غيره من الفنون الأخرى،
والبحث عما يحقق الأثر الفني في العمل الشعري؛ لأنها تعنى بدارسة العناصر
الظاهرة، وإحضار العناصر الغائبة، وذلك بسبر دلالاته الخفية.
وتتعدد
قراءات الخطاب الشعري بتعدد الرؤى، وتنوع الثقافات، ويعني ذلك أن الخطاب
الشعري يتجدد، وينبعث من خلال كل قراءة؛ لأن القراءة سبيل إلى تعدد وجهات
النظر. فالقارئ يستقبل الخطاب بما يملكه من قدرات فكرية، ولغوية، وثقافية،
وهذه العناصر درجات متفاوتة بين القراء كل يعمل على إثرائه بهذه المعطيات
الشخصية، ويرجع ذلك كله إلى أن الخطاب بنية لغوية فنية منغلقة بالنظر إلى
الشكل المجسد للعناصر اللغوية، ومنفتحة بحسب قدرات التأويل، فلا يمكن، إذا،
فهمه إلا بمعرفة دلالاته السطحية، والباطنية، وتفهم المقام الذي تنزل فيه،
والظروف الاجتماعية المحيطة بالمبدع، والعمل الإبداعي، فإذا استطعنا أن
نلم بهذه الأمور، أدركنا قيمته اللغوية، والإبداعية، والجمالية غير أن
الخطاب الشعري عالم معقد تنغرس فيه شتى النوازع، فيصعب على القارئ الولوج
فيه، ودراسة جميع جوانبه، فيضطر إلى تحديد وجهة ما في الدراسة لإيضاح جانب
معين من الخطاب.
ولعل أخصب المناهج، وأنسبها، وأشدها تعلقاً بالخطاب
الشعري المنهج اللساني، ومرجع ذلك إلى ما حققه من نتائج علمية في دراسة
الظاهرة اللغوية، "فيغدو تفاعلاً قاراً بين تفكيك الظاهرة إلى مركباتها
والبحث عما يجمع الأجزاء من روابط مؤلفة فهو منهج يعتمد الاستقراء
والاستنتاج معاً بحيث يتعاضد التجريد والتصنيف فيكون مسار البحث من الكل
إلى الأجزاء ومن الأجزاء إلى الكل حسبما تمليه الضرورة النوعية"(24)،
فاقتراب اللسانيات من الأدب يوسع نظرياتها، ومناهجها، ويزيدها تطوراً،
وإتقاناً، ودقة، وموضوعية(25)، وقد يستعين التحليل اللساني بالمعطى
الأسلوبي الذي يقف على الاختبارات التي تحقق قيماً جمالية مؤثرة، ويساعد
على تبين وسائل الاستخدام اللغوي، وطرق الاتساع التي يوفرها السياق(26)،
ويكون المعطى الأسلوبي محوجاً إلى دعامة تحليلية أخرى تعينه على تفسير بعض
العلامات غير اللغوية، في الخطاب، كالتلوين، والبياض والنقاط، وغيرها،
وتعرف بالدعامة السيوسيولوجية(27).
إن توفر هذه الدعامات المنهجية في الخطاب الواحد مدل بفائدتين:
الأولى:
إن العمل الإبداعي مستقل عن منشئه، ويعني ذلك أن المبدع يفقد ملكيته لعمله
بمجرد تجسيده في الواقع، وهذا المفهوم يسترضيه النقاد المعاصرون.
الثانية:
العمل الشعري مجال فسيح للتأويل، ويتوقف ذلك على ثقافة القارئ، ودربته،
"وهكذا نجد عطاء النص الأدبي متجدداً أزلياً لا ينفد أبداً: فكلما استعطاه
قارئ أعطاه"(28)، ولن يتأتى ذلك إلا بأدوات منهجية فاعلة، ومؤهلات علمية
عالية، ونسج أدبية سامية.
الثالثة: عدم وجود قواعد عام للتحليل، وهذه
نظرة صائبة يدعمها النقد المعاصر؛ لأن العمل الإبداعي ذو أبعاد عدة: نفسية،
واجتماعية، وثقافية، وحضارية، فيصعب على الدرس إيضاح هذه الجوانب كلها.
وعلى
الرغم من هذا الاستشكال المنهجي فإننا نسعى إلى دارسة نماذج شعرية معتمدين
المنهج اللساني، وهذه الممارسة التطبيقية ما هي إلا تجربة نقدية ذاتية، قد
تحظى بالقبول لدى المتلقي، فإن لم يكن، فلا عجب؛ لأن المقاييس المعتمدة
مختلفة، متباينة، والأذواق متفاوتة، والاحساسات متماوجة.
ولهذا السبب
سعيت، في هذا البحث، إلى اعتماد المنهج الدلالي، في دراسة أبيات شعرية من
قصيدة "أنشودة المطر" لبدر شاكر السياب التي مطلعها:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
والغاية
من هذا العمل تبين الأثر التطبيقي للمنهج في القصيدة، ولما كان هذا المنهج
يثير إشكالاً لغوياً، كان لزاماً علينا أن نتعرض لبعض مسائله. فالمنهج
الدلالي، إذا، يهدف إلى دراسة البنية اللغوية باعتماد جانب دلالي في
التحليل، والفصل بين المستويات اللغوية في دراسة الظاهرة الأدبية ما هو إلا
ضرورة منهجية؛ لأن فروع علم اللغة مثل منظمة أو جهاز يعمل بمختلف فروعه في
تعاون على أداء وظيفة ما، هي هنا بيان المعاني اللغوية على مستويات
مختلفة(29)، ونركز في تعريفه على ثلاثة تعريفات أثارت انتباهنا؛ فالأول يرى
فيه علماء اللغة أن علم الدلالة "يدرس المعنى سواء على مستوى الكلمة
المفردة أم التركيب، وتنتهي هذه الدراسة غالباً بوضع نظريات في دراسة
المعنى تختلف من مدرسة لغوية إلى أخرى"(30). وأما الثاني، فيشير إلى أنه
"يدرس العلاقة بين الرمز ودلالته أو دلالاته، كما يدرس معاني الألفاظ من
الناحية التاريخية بما في ذلك تأثير المجاز اللغوي من كناية
واستعارة...الخ(31)، أما الثالث، فيقول فيه أحد الدارسين العرب" وإذا
أوغلنا في تفحص مسائله، نجده يخصص الجزء الأكبر منها لمتابعة تطورات
الدلالات وتغيرها، ورصد المفردات بين المعجم والحالة التي يكون عليها في
النصوص المختلفة، في المقامات المتعددة بحسب التجارب اليومية المعاشة"(32).
تجمع
هذه التعريفات على أن علم الدلالة يبحث في التطور العام لألفاظ اللغة،
وتفترق في الإشارة إلى أفكار متباينة. ففي التعريف الأول، نجد علم الدلالة
يصل في الأخير إلى وضع نظريات في دراسة المعنى، تختلف بحسب الرؤى المنهجية
والعلمية. أما التعريف الثاني، فيركز على إبراز العلاقة اللغوية بين الرمز
ودلالته، وتبين الأثر المجازي في الاستعمالات المختلفة لألفاظ اللغة. وأما
التعريف الثالث، فيضيف مبحثاً من مباحث علم الدلالة، وهو وضع المفردات
باعتماد المقام، والظروف الاجتماعية المختلفة المحيطة بهذه الألفاظ.
قرة العين