شعرية الاحتجاج في”أنثى السراب” لواسيني الأعرج
بقلم: هشام بن الشاوي *
المحرر | قراءات, نصوص نقدية | 2010.09.290tweetsretweet
عبر حالة جنون مسربل بفتنة الحكي وبهجة السرد، نتعرف على لعبة كتابة الرواية ورواية الكتابة عند الروائي الجزائري، الدكتور واسيني الأعرج من خلال بطلة روايته الجديدة “أنثى السراب”(في شهوة الحبر وفتنة الورق)، الصادرة حديثا عن سلسلة كتاب دبي الثقافية (عدد أكتوبر2009)… ونلج مطبخه الإبداعي برفقة بطلة الرواية، التي تتحدث عن الكاتب بلغة سارد عليم بكل شيء، مقدمة حياة موازية لامرأة “تشبه الحياة قليلا”، على الرغم أنها مجرد امرأة ورقية، لا تعيش إلا بين الكتب والقلوب، عبر مراسلات بينها وبين الكاتب.. مراسلات بين واسيني الأعرج وبطلة الرواية( ليلى)، التي تسعى إلى استعادة اسمها، معلنة للقراء عن رغبتها في قتل مريم، التي حضرت في روايات سابقة للكاتب، وكانت ليلى من اقترح على الروائي تغيير اسمها حتى لا يمل الناس، وتتمادى في لعبتها، وتفكر في التمرد على كاتبها أيضا و… في قتله.امرأة ورقية تقتل كائنا من لحم ودم، بأن تفترض غيبوبته وأزمته القلبية، وعبر قناع الشخصية، يتولى الكاتب دفة السرد، ممارسا نوعا من التخييل الذاتي، بالكتابة عن وعكته الصحية وهو في باريس، وشماتة الأعداء وانتظارهم لموته، حتى يقوموا بواجبهم الأخير مكرهين … ويشير إلى روايته ما قبل الأخيرة “سوناتا لأشباح القدس”، وعلاقته-واسيني الأعرج- ككاتب مع أبطال رواياته :”الكاتب مثل الممثل، إذا لم يعش دوره كحقيقة، سيبقى على هامشه”، ويؤكد أن تقنية الرسائل لعبته الأثيرة عند كتابته عن الحب، رغم أنها لعبة غير مأمونة المسالك، ويذيل رسائله بالأسماء المستعارة التي اضطر أن يكتب بها من قبل (في التسعينات)، وموازاة مع ذلك تتبادل ليلى ومريم نفس الدور، كما تؤرخ كل رسالة لزمن ومكان معين، لاسيما وأن لكل فضاء طقسه الخاص وحالاته النفسية.تبدأ الرواية بنزول ليلى إلى كهفها.. شقتها الأرضية التي تعتزل فيها، بأشيائها المهملة المرمية كسقط المتاع، لكنها لا تستغني عن أشيائها القديمة، المسربلة بالحنين وعبق الذكريات. تقرأ وتكتب هذه الرسائل، وبجوارها مسدسها الذي لا يفارقها، منذ أن علمها زوجها استعماله لحماية نفسها من حرّاس الخراب في بلد حمّامات الدم، ومن ثم تفكر في المسدس كوسيلة للانتقام من مريم والكاتب.. يستغرق زمن السرد ليلة بأكملها ، تقضيها أمام الرسائل القديمة والكتابة على حاسوبها القديم، ورغم ضخامة حجم الرواية (455 صفحة) فهي تدور في ليلة واحدة.تعد الرواية محاولة لفهم الذات والعالم، عبر تجارب حياتية متباينة، وتقارب أيضا عدة إشكالات.. كأزمة المثقف الجزائري في تسعينات القرن الماضي، حيث لا لغة للتفاهم سوى التصفيات الجسدية والاغتيالات، و يناقش الكاتب عبر تضاعيف روايته ثيمات الأدب، المنفى، الوطن… ويؤرخ لنزوحه إلى باريس كمنفى اختياري، هروبا من القتل اليومي والمجاني. فضلا عن احتفاء الرواية بكائنات شديدة الهشاشة، محبة للحياة رغم الخراب.. شخصيات بالغة الشجن، أبرزها سي ناصر (والد ليلى)، المناضل الذي لم يبع مبادئه، ولم يتذكره المسؤولون الذين تناسوه بعد أن أقالوه إلا يوم وفاته، بعد أن انتحر على كمانه، ولم ترث منه ليلى سوى خيباته وكمانه!مريم لم تكن سوى قناع مشترك بين الكاتب و ليلى (الشخصية الورقية) في حياة ظالمة، حتى يتسنى لهما كتابة قصة حبهما وتمريرها، لكن ليلى تسعى، في نهاية المطاف، للتمرد على الكاتب، حتى لا تلقى نفس مصير (زوليخة كاتب)، شقيقة الروائي الجزائري ( كاتب ياسين) التي استعار سرّها الخفي، وسلمه لشخصية روائية هي “نجمة”، فطغت شهرتها (الرواية التي تحمل اسم البطلة، والشخصية الروائية أيضا)، وانتصرت المرأة الورقية على المرأة الحقيقية، وحولتها إلى لاشيء.تقوم ليلى بإطلاق النار على مريم، وواوسيني، ثم على الذبابة التي أزعجتها طوال الليل، وتحس بأنها تحررت من أثقالها، وتغادر البيت صباحا.. بحثا عن “نصيبها في المعصية والحياة وبعض الحنون”، وتتجه إلى مكتب البريد لإيداع مخطوط هذه الرواية، وخارج المبنى تفاجأ برؤية مريم قريبا منها، تبدأ في الصراخ بشكل يلفت الأنظار، وتخرج مسدسها من حقيبتها، ومثل المجنونة تركض خلف طيفها، بينما شرطي يطاردها محذرا، وتحصد روحها رصاصة الشرطي، وفي إغماضتها الأخيرة تتأكد من عطر أنثى السراب… مريم.
تنهض الرواية على عدة تقنيات منها الرواية تقنية الرسائل، السرد المرآوي، تعدد الطبقات السردية وذلك بالتمييز الطباعي لطبقة الرسائل المتبادلة بين الكاتب وليلى/مريم في التنضيد السردي للرواية، إضافة إلى المتن والهامش، وعبر الهوامش، تنبّه ليلى (وليس الكاتب، كما يحدث عادة) القارئ إلى أن هذه الرسائل سبق أن وردت في نصوص روائية سابقة للكاتب، لكن بتصرف… شارحة تلك الحيثيات والتفاصيل، وكذلك ما طال الرسائل والشخوص من تعديلات وتحريفات في رواياته السابقة على يد الكاتب. كما تحفل الرواية ببنية التجاور الأجناسي، حيث تحضر المذكرات واليوميات، من وراء حجاب المراسلات، ويتجاور التخييل الذاتي مع السرد الأتوبيوغرافي، فيتعذر على القارئ التمييز بين ما هو واقعي وما متخيل… لكن لن يختلف إثنان على أن رواية “أنثى السراب” سيرة ذاتية روائية بامتياز لجيل بأكمله، وعلى فرادتها الثيماتية والجمالية، وكذلك لغتها الشعرية الباذخة.
* أديب وكاتب من المغرب الشقيق . انظر لمزيد الاطلاع مدونته(مدونة القاص هشام بن الشاوي)
بقلم: هشام بن الشاوي *
المحرر | قراءات, نصوص نقدية | 2010.09.290tweetsretweet
عبر حالة جنون مسربل بفتنة الحكي وبهجة السرد، نتعرف على لعبة كتابة الرواية ورواية الكتابة عند الروائي الجزائري، الدكتور واسيني الأعرج من خلال بطلة روايته الجديدة “أنثى السراب”(في شهوة الحبر وفتنة الورق)، الصادرة حديثا عن سلسلة كتاب دبي الثقافية (عدد أكتوبر2009)… ونلج مطبخه الإبداعي برفقة بطلة الرواية، التي تتحدث عن الكاتب بلغة سارد عليم بكل شيء، مقدمة حياة موازية لامرأة “تشبه الحياة قليلا”، على الرغم أنها مجرد امرأة ورقية، لا تعيش إلا بين الكتب والقلوب، عبر مراسلات بينها وبين الكاتب.. مراسلات بين واسيني الأعرج وبطلة الرواية( ليلى)، التي تسعى إلى استعادة اسمها، معلنة للقراء عن رغبتها في قتل مريم، التي حضرت في روايات سابقة للكاتب، وكانت ليلى من اقترح على الروائي تغيير اسمها حتى لا يمل الناس، وتتمادى في لعبتها، وتفكر في التمرد على كاتبها أيضا و… في قتله.امرأة ورقية تقتل كائنا من لحم ودم، بأن تفترض غيبوبته وأزمته القلبية، وعبر قناع الشخصية، يتولى الكاتب دفة السرد، ممارسا نوعا من التخييل الذاتي، بالكتابة عن وعكته الصحية وهو في باريس، وشماتة الأعداء وانتظارهم لموته، حتى يقوموا بواجبهم الأخير مكرهين … ويشير إلى روايته ما قبل الأخيرة “سوناتا لأشباح القدس”، وعلاقته-واسيني الأعرج- ككاتب مع أبطال رواياته :”الكاتب مثل الممثل، إذا لم يعش دوره كحقيقة، سيبقى على هامشه”، ويؤكد أن تقنية الرسائل لعبته الأثيرة عند كتابته عن الحب، رغم أنها لعبة غير مأمونة المسالك، ويذيل رسائله بالأسماء المستعارة التي اضطر أن يكتب بها من قبل (في التسعينات)، وموازاة مع ذلك تتبادل ليلى ومريم نفس الدور، كما تؤرخ كل رسالة لزمن ومكان معين، لاسيما وأن لكل فضاء طقسه الخاص وحالاته النفسية.تبدأ الرواية بنزول ليلى إلى كهفها.. شقتها الأرضية التي تعتزل فيها، بأشيائها المهملة المرمية كسقط المتاع، لكنها لا تستغني عن أشيائها القديمة، المسربلة بالحنين وعبق الذكريات. تقرأ وتكتب هذه الرسائل، وبجوارها مسدسها الذي لا يفارقها، منذ أن علمها زوجها استعماله لحماية نفسها من حرّاس الخراب في بلد حمّامات الدم، ومن ثم تفكر في المسدس كوسيلة للانتقام من مريم والكاتب.. يستغرق زمن السرد ليلة بأكملها ، تقضيها أمام الرسائل القديمة والكتابة على حاسوبها القديم، ورغم ضخامة حجم الرواية (455 صفحة) فهي تدور في ليلة واحدة.تعد الرواية محاولة لفهم الذات والعالم، عبر تجارب حياتية متباينة، وتقارب أيضا عدة إشكالات.. كأزمة المثقف الجزائري في تسعينات القرن الماضي، حيث لا لغة للتفاهم سوى التصفيات الجسدية والاغتيالات، و يناقش الكاتب عبر تضاعيف روايته ثيمات الأدب، المنفى، الوطن… ويؤرخ لنزوحه إلى باريس كمنفى اختياري، هروبا من القتل اليومي والمجاني. فضلا عن احتفاء الرواية بكائنات شديدة الهشاشة، محبة للحياة رغم الخراب.. شخصيات بالغة الشجن، أبرزها سي ناصر (والد ليلى)، المناضل الذي لم يبع مبادئه، ولم يتذكره المسؤولون الذين تناسوه بعد أن أقالوه إلا يوم وفاته، بعد أن انتحر على كمانه، ولم ترث منه ليلى سوى خيباته وكمانه!مريم لم تكن سوى قناع مشترك بين الكاتب و ليلى (الشخصية الورقية) في حياة ظالمة، حتى يتسنى لهما كتابة قصة حبهما وتمريرها، لكن ليلى تسعى، في نهاية المطاف، للتمرد على الكاتب، حتى لا تلقى نفس مصير (زوليخة كاتب)، شقيقة الروائي الجزائري ( كاتب ياسين) التي استعار سرّها الخفي، وسلمه لشخصية روائية هي “نجمة”، فطغت شهرتها (الرواية التي تحمل اسم البطلة، والشخصية الروائية أيضا)، وانتصرت المرأة الورقية على المرأة الحقيقية، وحولتها إلى لاشيء.تقوم ليلى بإطلاق النار على مريم، وواوسيني، ثم على الذبابة التي أزعجتها طوال الليل، وتحس بأنها تحررت من أثقالها، وتغادر البيت صباحا.. بحثا عن “نصيبها في المعصية والحياة وبعض الحنون”، وتتجه إلى مكتب البريد لإيداع مخطوط هذه الرواية، وخارج المبنى تفاجأ برؤية مريم قريبا منها، تبدأ في الصراخ بشكل يلفت الأنظار، وتخرج مسدسها من حقيبتها، ومثل المجنونة تركض خلف طيفها، بينما شرطي يطاردها محذرا، وتحصد روحها رصاصة الشرطي، وفي إغماضتها الأخيرة تتأكد من عطر أنثى السراب… مريم.
تنهض الرواية على عدة تقنيات منها الرواية تقنية الرسائل، السرد المرآوي، تعدد الطبقات السردية وذلك بالتمييز الطباعي لطبقة الرسائل المتبادلة بين الكاتب وليلى/مريم في التنضيد السردي للرواية، إضافة إلى المتن والهامش، وعبر الهوامش، تنبّه ليلى (وليس الكاتب، كما يحدث عادة) القارئ إلى أن هذه الرسائل سبق أن وردت في نصوص روائية سابقة للكاتب، لكن بتصرف… شارحة تلك الحيثيات والتفاصيل، وكذلك ما طال الرسائل والشخوص من تعديلات وتحريفات في رواياته السابقة على يد الكاتب. كما تحفل الرواية ببنية التجاور الأجناسي، حيث تحضر المذكرات واليوميات، من وراء حجاب المراسلات، ويتجاور التخييل الذاتي مع السرد الأتوبيوغرافي، فيتعذر على القارئ التمييز بين ما هو واقعي وما متخيل… لكن لن يختلف إثنان على أن رواية “أنثى السراب” سيرة ذاتية روائية بامتياز لجيل بأكمله، وعلى فرادتها الثيماتية والجمالية، وكذلك لغتها الشعرية الباذخة.
* أديب وكاتب من المغرب الشقيق . انظر لمزيد الاطلاع مدونته(مدونة القاص هشام بن الشاوي)