حدود الواقع و رمزية العجائبي
في رواية " وراء السراب قليلا" لابراهيم درغوثي
د. عبدالقادر بن سالم
جامعة بشار/ الجزائر
تحاول نصوص السرد الحديثة اليوم الاشتغال على مستويات عديدة من البنى داخلرحم النص الواحد لاعتبارات كثيرة أملتها نظريات التجريب و أنماط الحكي ونظريات الشعرية و الجمال. فالنص السردي الحديث يكسر نمطية الساكن و يعلنتمرده على سكونية الخطاب من خلال الدخول في لعبة جدل بين السرد و المسرود" فإذا كان السرد القصصي أو الروائي ليس وحدة بسيطة ، كونه وحدة معقدةتجتمع فيه عناصر عدة لتشكل من خلال اجتماعها الكلي ميزته الخاصة (1) ، "فإننا ندرك أن الكتابة الروائية أضحت اليوم تراهن على البحث على علاقاتفنية جديدة ترتسم على مشهدية الخطاب ، ذلك أن أسلوب الكتابة ذات البعدالدلالي الواحد لم تعد قادرة على مواجهة زخم النظريات النقدية التي تبحثدوما على ما هو انحرافي – انزياح – و هو ما يطرح جدية البحث عن علاقة النصقبل كتابته بالأداة الإجرائية التي تشتغل على هذه النصوص، أو بتعبير آخرعلاقة الرواية المكتوبة و ما تطرحه من جديد على مستوى التشكيل السرديبطروحات النقد الجديد ، " لأن النصوص تعيش زمن التفكك و التكون لهذهالقوانين الداخلية ، و زمن هدم العناصر و استبدالها في بنيتها النامية والمتطورة نحو اختلافها ، و هي في ذلك قد تطلب أدوات فهمها الجديد مفاهيمأخرى." (2)
و لعل تجربة ابراهيم درغوثي في نصوصه السردية لتطرح هذا الاهتمام ، ذلك أنبنية الخطاب في نصوصه الروائية الأخيرة – خاصة – تثقل كاهل المتلقي و لاتمنحه فرصة القراءة الأولى بل عليه أن يجهد نفسه من أجل فك بعض شفرات سرابالكتابة و انزياحات المعنى لأن نصوصه تتكئ على فلسفة المعنى أولا ثم تنتهيعند فلسفة الفن.
شعرية العنوان / عجائبية الأحداث :
يضحى العنوان مؤشرا هاما يحيلنا على خريطة الرواية ، كما يصبح جزءا لا مفرمنه لقراءة الأحداث التي تنبني عليها الوقائع. و درغوثي من الروائيينالعرب القلائل الذين يحتفون بعناوين نصوصهم ذلك أن " وراء السراب ...قليلا " هو في حد ذاته وحدة سردية تشتغل على خلفية شعرية من جهة ، و علىمؤشر عجائبي يغري بقراءة الرواية.
العنوان يطرح أسئلة كثيرة و ينبئ في الآن ذاته عن بنية مخالفة ستتبناهاالكتابة على الورق. و في ذات الوقت ينبئنا أن الرواية لن تضيع في متاهاتالغرائبية ، هذا حين جاء الاستدراك ب " قليلا " وهو ما بين حدود العجائبيو الواقعي فيها. فهي رواية لم يغامر الكاتب في أن يجعل أحداثها خيالية بينراوح بين الرؤيتين. فالاستدراك جاء لينبه إلى تلك المزاوجة . فعلى الرغممن أن الرواية تغامر صوب الشعري " إلا أن هذا لا يعني القضاء على لوازمالكتابة السردية من أحداث و شخصيات و حبكة ، بل توظيف ما لم تستطع الروايةالواقعية بلوغه كالرحيل في داخل الذات و الكشف عن العجيب الكامن في العالماليومي الواقعي و توظيف الأساطير توظيفا جديدا يفكك شفرات أسطورة العالمالتقني الحديث." (3)
تشتمل الرواية على ستة فصول وخمسة عشر بابا تؤرخ لمراحل عدة من تاريخ تونسو المغرب العربي ، و تغوص في جزئيات تاريخية تصل حد ذكر الأسماء و المواقع. و لكن النص ينحرف فيها عن الواقع ليلامس الخيال عبر اللغة التي هي وسيلةالكاتب الوحيدة للانزياح.
فضاء الرواية / كرؤية :
أشارت جوليا كريستيفا حين تحدثت عما تسميه الفضاء التناصي للروايةl'espace textuel du roman إلى ما يشبه زاوية النظر التي يقدم بها الكاتبأو الروائي عالمه الروائي ، فتقول إن " هذا الفضاء يتحول إلى كل ، إنهواحد وواحد فقط مراقب بواسطة وجهة النظر الوحيدة للكاتب التي تهيمن علىمجموع الخطاب بحيث يكون المؤلف بكامله متجمعا في نقطة واحدة ، و كل الخطوطتتجمع في العمق حيث يقبع الكاتب . و هذه الخطوط هي الأبطال الفاعلون الذينتنسج الملفوظات بواسطتهم المشهد الروائي (4).
و لعل الفضاء في " وراء السراب... قليلا " ليستحيل عند درغوثي إلىاستراتيجية يدير من خلاله الحوار و إقامة الحدث الروائي بواسطة الأبطال "إن عالم هذه الرواية بما فيه من أبطال و أشياء يبدو مشدودا إلى تحركاتخفية يديرها الراوي الكاتب ، الذي له علاقة وطيدة بموضوع السرد الروائي(5).
و سنركز في هذا البحث على فضائين رأينا أنهما يبرزان بشكل جلي في النصالمدروس ، إلى جانب كونهما يكشفان عن المكونات التي اخترناها للدراسة وهيالمتعلقة بالواقعي و العجائبي في رواية ابراهيم درغوثي.
و الفضاءان المرشحان هما : الفضاء الجغرافي لما فيه من علاقة بالمكانوارتباط ذلك بالواقع الملموس. ثم الفضاء الدلالي و هو فضاء يشير إلىالصورة التي تخلقها لغة الحكي ، و ما ينشأ عنها من بعد يرتبط بالدلالةالمجازية بشكل عام و علاقة هذا الفضاء بالبعد العجائبي.
الفضاء الجغرافي :
لا يمكن فصل هذا الفضاء عن بقية الأفضية الأخرى لأنها مجتمعة تؤسس الفضاءالعام للرواية على الرغم من أن الأبحاث المتعلقة بدراسة الفضاء في الحكيتعتبر حديثة العهد ، ومن الجدير بالذكر " أنها لم تتطور بعد لتؤلف نظريةمتكاملة عن الفضاء الحكائي ، مما يؤكد أنها أبحاث لا تزال في بداية الطريق( 6 ) و إشارتنا إلى عدم فصل هذا الفضاء عن بقية المكونات الأخرى هو ماذهبت إليه كريستيفا أيضا حين لم تفصل الفضاء الجغرافي عن دلالته الحضارية،فهو إذ يتشكل من خلال العالم القصصي " يحيل معه جميع الدلالات الملازمة لهو التي تكون عادة مرتبطة بعصر من العصور حيث تسود ثقافة معينة أو رؤيةخاصة للعالم "(7) ورواية درغوثي تحتفل إلى حد كبير بهذا الفضاء الذي يعادلمفهوم المكان من حيث المؤشرات ، ففي الفصل الثالث الذي سماه الكاتب ب "هستيريا الأرواح المنسية في الأنفاق" نجد السردية تتكئ على هذه المؤشراتحيث تتحكم بشكل جلي في سير الخطاب ، فتتضاءل الرؤية عند السارد و ربماستضيق من خلال اللغة و الوصف اللذين سيصبحان في خدمة مشهدية محاصرة برموزمكانية ، و عليه يصبح الواقع هنا مشارك
في رواية " وراء السراب قليلا" لابراهيم درغوثي
د. عبدالقادر بن سالم
جامعة بشار/ الجزائر
تحاول نصوص السرد الحديثة اليوم الاشتغال على مستويات عديدة من البنى داخلرحم النص الواحد لاعتبارات كثيرة أملتها نظريات التجريب و أنماط الحكي ونظريات الشعرية و الجمال. فالنص السردي الحديث يكسر نمطية الساكن و يعلنتمرده على سكونية الخطاب من خلال الدخول في لعبة جدل بين السرد و المسرود" فإذا كان السرد القصصي أو الروائي ليس وحدة بسيطة ، كونه وحدة معقدةتجتمع فيه عناصر عدة لتشكل من خلال اجتماعها الكلي ميزته الخاصة (1) ، "فإننا ندرك أن الكتابة الروائية أضحت اليوم تراهن على البحث على علاقاتفنية جديدة ترتسم على مشهدية الخطاب ، ذلك أن أسلوب الكتابة ذات البعدالدلالي الواحد لم تعد قادرة على مواجهة زخم النظريات النقدية التي تبحثدوما على ما هو انحرافي – انزياح – و هو ما يطرح جدية البحث عن علاقة النصقبل كتابته بالأداة الإجرائية التي تشتغل على هذه النصوص، أو بتعبير آخرعلاقة الرواية المكتوبة و ما تطرحه من جديد على مستوى التشكيل السرديبطروحات النقد الجديد ، " لأن النصوص تعيش زمن التفكك و التكون لهذهالقوانين الداخلية ، و زمن هدم العناصر و استبدالها في بنيتها النامية والمتطورة نحو اختلافها ، و هي في ذلك قد تطلب أدوات فهمها الجديد مفاهيمأخرى." (2)
و لعل تجربة ابراهيم درغوثي في نصوصه السردية لتطرح هذا الاهتمام ، ذلك أنبنية الخطاب في نصوصه الروائية الأخيرة – خاصة – تثقل كاهل المتلقي و لاتمنحه فرصة القراءة الأولى بل عليه أن يجهد نفسه من أجل فك بعض شفرات سرابالكتابة و انزياحات المعنى لأن نصوصه تتكئ على فلسفة المعنى أولا ثم تنتهيعند فلسفة الفن.
شعرية العنوان / عجائبية الأحداث :
يضحى العنوان مؤشرا هاما يحيلنا على خريطة الرواية ، كما يصبح جزءا لا مفرمنه لقراءة الأحداث التي تنبني عليها الوقائع. و درغوثي من الروائيينالعرب القلائل الذين يحتفون بعناوين نصوصهم ذلك أن " وراء السراب ...قليلا " هو في حد ذاته وحدة سردية تشتغل على خلفية شعرية من جهة ، و علىمؤشر عجائبي يغري بقراءة الرواية.
العنوان يطرح أسئلة كثيرة و ينبئ في الآن ذاته عن بنية مخالفة ستتبناهاالكتابة على الورق. و في ذات الوقت ينبئنا أن الرواية لن تضيع في متاهاتالغرائبية ، هذا حين جاء الاستدراك ب " قليلا " وهو ما بين حدود العجائبيو الواقعي فيها. فهي رواية لم يغامر الكاتب في أن يجعل أحداثها خيالية بينراوح بين الرؤيتين. فالاستدراك جاء لينبه إلى تلك المزاوجة . فعلى الرغممن أن الرواية تغامر صوب الشعري " إلا أن هذا لا يعني القضاء على لوازمالكتابة السردية من أحداث و شخصيات و حبكة ، بل توظيف ما لم تستطع الروايةالواقعية بلوغه كالرحيل في داخل الذات و الكشف عن العجيب الكامن في العالماليومي الواقعي و توظيف الأساطير توظيفا جديدا يفكك شفرات أسطورة العالمالتقني الحديث." (3)
تشتمل الرواية على ستة فصول وخمسة عشر بابا تؤرخ لمراحل عدة من تاريخ تونسو المغرب العربي ، و تغوص في جزئيات تاريخية تصل حد ذكر الأسماء و المواقع. و لكن النص ينحرف فيها عن الواقع ليلامس الخيال عبر اللغة التي هي وسيلةالكاتب الوحيدة للانزياح.
فضاء الرواية / كرؤية :
أشارت جوليا كريستيفا حين تحدثت عما تسميه الفضاء التناصي للروايةl'espace textuel du roman إلى ما يشبه زاوية النظر التي يقدم بها الكاتبأو الروائي عالمه الروائي ، فتقول إن " هذا الفضاء يتحول إلى كل ، إنهواحد وواحد فقط مراقب بواسطة وجهة النظر الوحيدة للكاتب التي تهيمن علىمجموع الخطاب بحيث يكون المؤلف بكامله متجمعا في نقطة واحدة ، و كل الخطوطتتجمع في العمق حيث يقبع الكاتب . و هذه الخطوط هي الأبطال الفاعلون الذينتنسج الملفوظات بواسطتهم المشهد الروائي (4).
و لعل الفضاء في " وراء السراب... قليلا " ليستحيل عند درغوثي إلىاستراتيجية يدير من خلاله الحوار و إقامة الحدث الروائي بواسطة الأبطال "إن عالم هذه الرواية بما فيه من أبطال و أشياء يبدو مشدودا إلى تحركاتخفية يديرها الراوي الكاتب ، الذي له علاقة وطيدة بموضوع السرد الروائي(5).
و سنركز في هذا البحث على فضائين رأينا أنهما يبرزان بشكل جلي في النصالمدروس ، إلى جانب كونهما يكشفان عن المكونات التي اخترناها للدراسة وهيالمتعلقة بالواقعي و العجائبي في رواية ابراهيم درغوثي.
و الفضاءان المرشحان هما : الفضاء الجغرافي لما فيه من علاقة بالمكانوارتباط ذلك بالواقع الملموس. ثم الفضاء الدلالي و هو فضاء يشير إلىالصورة التي تخلقها لغة الحكي ، و ما ينشأ عنها من بعد يرتبط بالدلالةالمجازية بشكل عام و علاقة هذا الفضاء بالبعد العجائبي.
الفضاء الجغرافي :
لا يمكن فصل هذا الفضاء عن بقية الأفضية الأخرى لأنها مجتمعة تؤسس الفضاءالعام للرواية على الرغم من أن الأبحاث المتعلقة بدراسة الفضاء في الحكيتعتبر حديثة العهد ، ومن الجدير بالذكر " أنها لم تتطور بعد لتؤلف نظريةمتكاملة عن الفضاء الحكائي ، مما يؤكد أنها أبحاث لا تزال في بداية الطريق( 6 ) و إشارتنا إلى عدم فصل هذا الفضاء عن بقية المكونات الأخرى هو ماذهبت إليه كريستيفا أيضا حين لم تفصل الفضاء الجغرافي عن دلالته الحضارية،فهو إذ يتشكل من خلال العالم القصصي " يحيل معه جميع الدلالات الملازمة لهو التي تكون عادة مرتبطة بعصر من العصور حيث تسود ثقافة معينة أو رؤيةخاصة للعالم "(7) ورواية درغوثي تحتفل إلى حد كبير بهذا الفضاء الذي يعادلمفهوم المكان من حيث المؤشرات ، ففي الفصل الثالث الذي سماه الكاتب ب "هستيريا الأرواح المنسية في الأنفاق" نجد السردية تتكئ على هذه المؤشراتحيث تتحكم بشكل جلي في سير الخطاب ، فتتضاءل الرؤية عند السارد و ربماستضيق من خلال اللغة و الوصف اللذين سيصبحان في خدمة مشهدية محاصرة برموزمكانية ، و عليه يصبح الواقع هنا مشارك