يتجه القاص والروائي
المغربي محمد أنقار بصدد أطروحة "كتابة الرواية" إلى اعتبارها صيغة إنسانية
موسومة بالقدرة على التواصل مع الواقع والحياة. وهو يرجع سر هذه الصيغة
إلى نوعية الصور السردية التي تطبع النص الروائي وتميزه عن المتون الحكائية
الأخرى كالقصة القصيرة. فالصورة الروائية عنده مطبوعة بالحركة، وهي تتسع
لبث منظور سردي متكامل حول عوالم ممكنة. كما أنها ترمي عبر ميثاق القراءة،
إلى التعاقد مع تجربة المتلقي القادر على تنشيط المنظور السردي، وترهبن
موسوعة الصور المختزلة في حلقات الحكي. وترتبط الصورة الروائية عند أنقار
بتقديم الشخوص والأمكنة، عبر تقاطعات دقيقة تقرب المسافة بين السردي
الوصفي. ومن ثم كان لمرجعية المكان عنده مقام خاص وحضور محوري حاسم في
توجيه أفعال الرواية(1). هذا، وتعد لغة العلاقات المكانية وسيلة من
الوسائل الرئيسية لتصوير الواقع، وينطبق هذا الشرط حتى على مستوى ما بعد
النص، أي على مستوى النمذجة الأيديولوجية الصرف. فإذا نظرنا إلى مفاهيم مثل
: ((أعلى-أسفل) أو (يسار- يمين ) أو قريب – بعيد ) نجد أنها تستخدم
لبنات في نماذج ثقافية لا تنطوي فقط على محتوى مكاني بل تتجاوزه للدلالة
على بعد أخلاقي قيمي. فتكتسب هذه المفاهيم من جراء ذلك معاني جديدة مثل:
(الحسن – السيئ) أو (القريب- الغريب) أو ( السهل-الصعب). وهكذا يمكن
القول إن بنية مكان النص تصبح نموذجا لبنية مكان العالم، وتصبح قواعد
التركيب الداخلي لعناصر النص الداخلية لغة دالة على النمذجة المكانية. (2)
حدود المكان: يحيلنا هذا المدخل السابق على نقاش مبدئي بصدد علاقة
المكان بالتخييل الروائي، وفحواه أن فاعلية التخييل معنيّة، بالنسبة
لغالبية النقاد وعلى رأسهم أرسطو، بما يحدث أو بما يمكن أن يحدث وليس بما
حدث، باعتبار أن السرد التخييلي هو أكثر فلسفة وعلمية من التاريخ . بينما
راح البعض كأفلاطون و مارتن والاس و سيرل ، يصنفونه في خانة الوهم
والكذب .أما (جان إيف تادييه) فيذهب إلى أن الفضاء الروائي هو قبل كل شيء
عالم من كلام، سواء أكان انعكاساً أم انزياحاً (3) . ومن ثم قد يتعين هذا
الفضاء باسم مكان محدد ( مدينة – حارة – موقع تاريخي ...) دون أن يحمل من
ذلك المكان سوى الإسم أو بعض السمات والأبعاد. وأقرب مثال لتوضيح هذا
النمط في الرواية العربية هو خماسية عبد الرحمن منيف ( مدن الملح) حيث
تبرز مدينتا (حران ) و(موران) كمدينتين روائيتين لا تتحقق فيهما المطابقة
بين الروائي والمرجعي إلاّ بقدر يسير. وفي المقابل قد يتعين الفضاء الروائي
وفق مكان واقعي موسوم بحدود الجغرافيا والتاريخ ، وهذا هو شأن "قاهرة"
نجيب محفوظ و"باريو مالقا" محمد أنقار .(4)
المغربي محمد أنقار بصدد أطروحة "كتابة الرواية" إلى اعتبارها صيغة إنسانية
موسومة بالقدرة على التواصل مع الواقع والحياة. وهو يرجع سر هذه الصيغة
إلى نوعية الصور السردية التي تطبع النص الروائي وتميزه عن المتون الحكائية
الأخرى كالقصة القصيرة. فالصورة الروائية عنده مطبوعة بالحركة، وهي تتسع
لبث منظور سردي متكامل حول عوالم ممكنة. كما أنها ترمي عبر ميثاق القراءة،
إلى التعاقد مع تجربة المتلقي القادر على تنشيط المنظور السردي، وترهبن
موسوعة الصور المختزلة في حلقات الحكي. وترتبط الصورة الروائية عند أنقار
بتقديم الشخوص والأمكنة، عبر تقاطعات دقيقة تقرب المسافة بين السردي
الوصفي. ومن ثم كان لمرجعية المكان عنده مقام خاص وحضور محوري حاسم في
توجيه أفعال الرواية(1). هذا، وتعد لغة العلاقات المكانية وسيلة من
الوسائل الرئيسية لتصوير الواقع، وينطبق هذا الشرط حتى على مستوى ما بعد
النص، أي على مستوى النمذجة الأيديولوجية الصرف. فإذا نظرنا إلى مفاهيم مثل
: ((أعلى-أسفل) أو (يسار- يمين ) أو قريب – بعيد ) نجد أنها تستخدم
لبنات في نماذج ثقافية لا تنطوي فقط على محتوى مكاني بل تتجاوزه للدلالة
على بعد أخلاقي قيمي. فتكتسب هذه المفاهيم من جراء ذلك معاني جديدة مثل:
(الحسن – السيئ) أو (القريب- الغريب) أو ( السهل-الصعب). وهكذا يمكن
القول إن بنية مكان النص تصبح نموذجا لبنية مكان العالم، وتصبح قواعد
التركيب الداخلي لعناصر النص الداخلية لغة دالة على النمذجة المكانية. (2)
حدود المكان: يحيلنا هذا المدخل السابق على نقاش مبدئي بصدد علاقة
المكان بالتخييل الروائي، وفحواه أن فاعلية التخييل معنيّة، بالنسبة
لغالبية النقاد وعلى رأسهم أرسطو، بما يحدث أو بما يمكن أن يحدث وليس بما
حدث، باعتبار أن السرد التخييلي هو أكثر فلسفة وعلمية من التاريخ . بينما
راح البعض كأفلاطون و مارتن والاس و سيرل ، يصنفونه في خانة الوهم
والكذب .أما (جان إيف تادييه) فيذهب إلى أن الفضاء الروائي هو قبل كل شيء
عالم من كلام، سواء أكان انعكاساً أم انزياحاً (3) . ومن ثم قد يتعين هذا
الفضاء باسم مكان محدد ( مدينة – حارة – موقع تاريخي ...) دون أن يحمل من
ذلك المكان سوى الإسم أو بعض السمات والأبعاد. وأقرب مثال لتوضيح هذا
النمط في الرواية العربية هو خماسية عبد الرحمن منيف ( مدن الملح) حيث
تبرز مدينتا (حران ) و(موران) كمدينتين روائيتين لا تتحقق فيهما المطابقة
بين الروائي والمرجعي إلاّ بقدر يسير. وفي المقابل قد يتعين الفضاء الروائي
وفق مكان واقعي موسوم بحدود الجغرافيا والتاريخ ، وهذا هو شأن "قاهرة"
نجيب محفوظ و"باريو مالقا" محمد أنقار .(4)
وتتصدى رواية " باريو مالقا " إلى تفعيل
هذا الطرح التوفيقي وتأكيد أبعاده الانعكاسية ( على مستوى التاريخ)
والانزياحية الاستشرافية ( على مستوى الواقع ). فمحكيات الرواية تؤطّر
فضاء حقيقيا يعد من أحدث التجمعات السكانية الشعبية لحاضرة تطوان المغربية.
وقد استمدت منه الرواية اسمها بالحرف والصفة. ومن ثم فدال العنوان في
هذه الرواية يستثمر ثيمة "الحي" أو " الحارة الشعبية" على غرار النموذج
السائد في روايتي '"خان ا لخليلي' لنجيب محفوظ ، أو'الحي اللاتيني'
لسهيل إدريس، على سبيل المثال. ومابين الملفوظين المتضابفين ( باريو
مالقا) تنجلى تمثلات الحقيقة ورهانات المحكي الواقعي التي تتحلى بلبوس
المكان. وأما المدلول فيتمحور حول لفظة ' باريو' barrioوتعني الحي
بالإسبانية، ولفظة 'مالقا' Malaga وهي المدينة الإسبانية المعروفة.
والحصيلة تحيل على الظروف والملابسات التي أحاطت بنشأة هذه الحارة. وترتبط
هذه الظروف في مجملها بتهجير المستعمر الإسباني في منتصف القرن الماضي
لفئة من رعاياه من غجر غرناطة وضعفاء الإسبان ، وتوطينهم في ضفاف "سيدي
طلحة" و"سامسة" التي ستعرف عندهم بحارة سان أنطونيو ثم باريو مالقا لاحقا
، إلى جنب المهاجرين المحليين النازحين من أرياف الجوار، هروبا من فتنة
المجاعة وبحثا عن أنفاس الكرامة. وتختزل الرواية هذا المؤشر الاجتماعي
بخاصة في المتن الوارد تحت عنوان " الجوع". على لسان (فطوش الريفية) وهي
تحاور الفتى (سلام) بطل الرواية : " الجوع الحقيقي هو الذي عصرنا في
بوادي الريف ..أنت فطرت وتنظر الآن الغداء، أما نحن فكان انتظارنا أزليا...
" (5)
وتتصدر المتن الروائي بعض مشاهد الفتنة أبطالها فئة من
المنحرفين التائهين الذين ترعرعوا في هذه الضفاف الموسومة بسمات البؤس
والرعب ومظاهر البطش والفتك . وقد نعتهم كاتب الرواية ب(الفتوّات) تشبّها
بفتوات الأديب نجيب محفوظ الذي لا يخفي الروائي أنقار التأثر به في كثير
من العلامات الإبداعية التي ترصد تقاطعات الواقع المغربي مع الواقع المصري.
( 6 ) . بيد أن فتوات أنقار هم، على خلاف فتوات النموذج المحفوظي، كائنات
شيزفرينية محطمة فقدت منطق الاتصال بالواقع ولم تعد تستهويها القيم
والمواقف ولا البطولات، بقدر ما تحركها نزوات غريبة من الشذوذ والعدوان
قد تترجمها إلى نزعة التدنيس والعبث برموز الطهر والبراءة.
والسّارد يتخذ من هذه الخلفية الاجتماعية المرعبة واجهة تغذي حلقات
الحكي، ويجعل منها معبرا سيكلوجيا للرؤية الواقعية المشوبة باعتمالات
الوجدان الرومانسي وأبعاد الحس المأساوي. وبقدر ما تعكسه هذه الخلفية من
مظاهر البؤس والضياع ومن سمات القهر والحرمان بالنسبة لواقع الأنا
(المحلي) بقدر ما تحيل على الوجه الآخر للمفارقة متمثلا في هيمنة الرعب
التي يفرضها المستوطن الأجنبي على هذا الواقع باسم أوهام اليسر والرخاء
والأمن والطمأنينة.
وفي ظل هذه المفارقة الصارخة يمتدّ النسيج
الدرامي للحبكة الروائية عبر خيوط المشهد العاطفي الموسوم بسمات الممانعة
والرفض والتعالي التي توجه سلوك الآخر، في مقابل تضخم إحساس الأنا بالإحباط
والتدني إلى درجة اليأس والضمور. حيث تتوخى الحبكة العاطفية في الرواية
تجسيد طموح"الماهية " في الارتباط بوجدان الحداثة وإغراءاتها الحضارية
والثقافية، بينما تصدها عوائق الرفض والممانعة والنبذ العنيف من طرف
"الآخر" الذي يشكل رمز الحضارة وأنموذجها الأسمى. ويترتب عن ذلك كله تراجع
طاقة الصراع بالنسبة للطرف الأول (المنبوذ )إلى داخل النفس لكبت الجسد،
وغل نشاطه بحجة التطهر والارتفاع.. بينما تتجه لدى الطرف الثاني ( النابذ)
إلى خارج النفس، كي تعمل على شحن مزيد من العنف المنظم لتحطيم الآخر
الموجود خارج حدوده الإثنية والقومية. وبين هاتين الفئتين المتنابذتين
يستنبت الواقع تلك النبتة الهجينة السائبة المنفلتة من منطق التحديد
متمثلة في آفة الفتوات، التي تلخص المآل من خلال تجسيدها لشحنة التصادم
الرهيب بين الحدين السالبين: منطق الرضا و الاستسلام لدى الطرف الأول و
ارتكاسة الفعل الهمجي العنيف لدى الطرف الثاني .
وتتصدى الصيرورة
الختامية لأحداث الرواية لتمحيص هذا الطرح الذي رصدته توقعات الرّهان
المؤسس لحدوس القراءة ، بالتأكيد على استحالة منحى التوفيق بين الجماعات
المتنافرة في ظل امتداد أسباب الصراع والمواجهة، و تباعد المصالح والغايات،
وسيادة منطق الطبقة الاجتماعية أو الفئة الإثنية أو الدولة القومية. ففي
ظل تفشي هذه الأسباب واستفحال تأثيرها يتلاشى حلم التلاقي وتحلّ مكانه
مظاهر التنافر وسمات التباغض على مستوى سلوك الأفراد والجماعات، مخلفة
وراءها شروخا وندوبا وألوانا من الحسرة. وقد لا يخفف من غلواء هذا التأثير
سوى الرغبة في تصحيح الارتباط بالماهية وتجديد العلاقة بالمكان، واستجلاء
بقايا الأطياف الجميلة التي قد تتركها أحفار الصور العابرة القادمة من تلك
الضفاف الأخرى. وهنا يجب التأكيد على أن المكان النصي الذي تعكسه الرواية
لا يشكل كلا متناغما ولا متجانسا ولكنه ينقسم إلى أحياز تفصل بينها حدود.
فالعلاقة بهذا المكان تنطوي على جوانب شتى ومعقدة تجعل معايشته عملية
تجاوز حدود القدرة الواعية وتتوغل في أعماق اللا شعور. ذلك أن الإنسان لا
يحتاج فقط إلى مساحة فيزيقية جغرافية يعيش فيها، ولكنه يصبو أيضا إلى
رقعة يضرب فيها بجذوره وتتأصل فيها هويته. ومن ثم يأخذ البحث عن الكيان
والهوية شكل ممارسة الفعل على المكان لتحويله إلى مرآة ترى فها " الأنا"
صورتها . (7)
شعرية الحكي ومقام التاريخ: يقدم الروائي بطل
روايته 'سلام' شخصية مشحونة بسمات نمطية تقرب من مظاهر الصراع و المواجهة
بين الكينونة المنفتحة والماهية المنغلقة على خلفية الأعراف التي تأبى
الامتداد وتستعصي على المغايرة. وقد ألبسها جوهر الفئة الاجتماعية الصاعدة
التي يراد لها أن تغطي حاجة التغيير في المرحلة الجديدة،مرحلة الاستقلال
والتحرر و بناء الذات . بيد أن سمت التحولات يكشف عن ضعف هذه الطبقة ويفضح
هشاشتها وعجزها عن مقاربة الغايات والمآرب. ذلك أن الهوامش النوعية التي
استمدتها هذه الفئة الواعدة من منحى التحولات لم تكن لتسعفها على تجاوز
حدّ الضفاف الرومانسية الرهيفة الني لاتجدي وحدها لإنعاش المسار وتغذية
الطموح. ومن ثم لم يكن بمقدور هذه الطبقة التي يمثلها " سلام" أن تحقق سوى
قدر باهت من الانزياح عن مستوى منظومة القيم التي تشربها الجيل السابق ،
جيل ' عبدالله الإسكافي' الشخصية التقليدية المهادنة المستسلمة لمنطق "
الرتق" والاستنساخ ، وتبرير التبعية وإعادة إنتاج منظومة الهيمنة
بمالـَـها من ثقل التراكمات وما عليها من عبء الأوزار . وفي ظل هذا الطوق
المضروب حول الكينونة لا يسع " الأنا" المحبط إلا أن يلوذ بمسالك الوجدان
الجمعي لتمرير حسه التنويري الموصول بقدسية المكان :
» هلّ
الربيع على الباريو فاضطرم الدم في عروق الفتية ونأت أصداء طبول الغدر..
وفي زوال ذلك الأحد الأخضر اجتمعت الثلة في مصطبة السويحة ، وخرجوا باتفاق
الصعود إلى الحجر الكبير المغروس في ظهر الكاريان . وعند سفح الحجر تنفسوا
الصعداء وشردوا يتأملون عين الماء الصغيرة .ثم تسلقوا الصخرة في خفة ،
فاستشعروا من عل النسائم الرقيقة وهي تشملهم وتحفزهم على التحليق في الفضاء
الأزرق المفتوح على الدنيا. ونسوا تعب العقبة ، ومن أعلى الصخرة عاينوا
طريق جامع مزواق الملتوية على يمينهم ، وآخر براريك أرض مصطفى قبالتهم،
وعلى يسارهم قبعت حظيرة الخنازير في عمق الخندق. أما سوى ذلك فأراض شاسعة
شبه جرداء رغم الربيع ، اللهم إلا نبتة مريو وحسك السعدان وشجيرات الدوم
والدفلى والتربة المائلة إلى الحمرة. « (
وتطالع القارئ من خلال
هذا المقطع ثيمة " الحجر" بما لها من معنى الصلابة وما تعكسه من دلالات
التحمل والصمود والانتظار،على نحو يشي بتفجير شاعرية المكان وعقد ميثاق
قرائي يربط ذاكرة المتلقي بمناصات الكتابة الشعرية التي تربط الكينونة
بإيقونة الجوهر الصلب المتجسدة في الحجارة. وحينئذ لا فكاك من ربط هذا
الوجدان الشاعري بأفقه التاريخي القومي الفسيح والنأي به قليلا عن ضيق
الحدود. ثم لا بأس بعد ذلك من أن تتكامل ملامح المكان مشفوعة بالحنين عند
كاتب رهيف الحس كالروائي محمد أنقار ببوح قيظ الأمكنة عند شاعر قومي
الأرومة من عيار الشاعر الفلسطيني الكبير أحمد دحبور، القائل في توصيف
حجارة المكان :
مثلما يتفقد جد الزمان
نسله المترامي أسابيع أو أشهر أو سنين
تتفقد روحي حجارة هذا المكان
فتعدد الجيوش التي عبرت فوقها
والغيوم التي كللت أفقها
وأغاني الغرام التي صنعت شرقها
وتجس التراب الذي لم يكن
غير شمس وطين.....
ياحجارة هذا المكان
أو ما كان كان أعدل أن توهب الريح للأرض
لا أن تعيد لها رقها
أو ما كان أكمل أن نتكامل والأرض
لا أن نخالفها رزقها؟
أو ما كان أجمل أن تكون الحجارة ليست كما هي
بل إنها الأمس والهمس والمرتجى والزيارة؟....( 9)
وتأسيسا على الهاجس الموصول بذاكرة المكان وأطيافه البشرية، تتضح ملامح
العلاقة بين هذا المتن الروائي وبين المرحلة التاريخية التي يحيل إليها.وهي
فترة موسومة بالصراع من أجل نيل التحرر السياسي وكسب رهانات التحول
المجتمعي، في ظل انتعاش حركات التنوير العقلي والثقافي. وهنا لا يسع القول
إلا أن ارتباط رواية باريو مالقا بالتاريخ هو من قبيل الارتباط العضوي
العام الذي يصل فن الرواية عموما بعلم التاريخ. ذلك أن الرواية كفن أدبي
ظهرت تاريخيا في زمن صعود علم التاريخ في القرن الثامن عشر، معلنة أن
العقل المبدع هو الذي يميز باستمرار بين الحاضر والماضي. كما أن هذا
الارتباط ، بحسب رأي الدكتور فيصل دراج، يحيل إلى خصوصية الرواية العربية
التي انتعشت في مرحلة تاريخية موسومة بتواطؤ أشكال الهيمنة الاستعمارية
السابقة مع أنظمة القمع اللاحقة ، مما أجبر الروائي (العربي) عن التعامل
باستمرار مع التاريخ سائلا بشكل مباشر أو غير مباشر عن أصول الدولة
المستبدة. ومن هذه الزاوية يمكننا أن نفسر عودة توفيق الحكيم إلى التاريخ
في روايته »عودة الروح« . وندرك وجهة التوثيق الروائي عند نجيب محفوظ
لمراحل المجتمع المصري في القرن العشرين، واتجاه عبد الرحمن منيف الى
التاريخ ليكتب خماسيته الشهيرة عن (مدن الملح) وعودة نبيل سليمان إلى
التاريخ في (مدارات الشرق) و بهاء طاهر في (واحة الحروب) . و مبارك
ربيع في (االريح الشتوية ) وقبله عبدا لكريم غلاب في (دفنا الماضي) ...
. وكل ذلك يعكس ان عودة الرواية الى التاريخ بهذا المعنى لا تعني الولع
بالماضي، بقدر ما يعكس ضرورة منطقية تاريخية يراد بها معرفة الأسباب
التي أدت إلى خيبة المشروع الحضاري في مظاهره الشاملة. ويرى الدكتور فيصل
دراح أن رواية التحرر الوطني والاستقلال جاءت لتعلن عن مجتمع عربي دخل في
طور جديد، رافعة شعار "زمن ضد زمن" حيث الزمن القديم ينسحب ليترك الجديد
يبني عهده بمواد وأدوات جديدة، ولتساوي بين القومية والديموقراطية
والعلمانية، وبين الانتماء العروبي والانفتاح على الأزمنة الحديثة، (10)
ثم إن هذا الارتباط بالتاريخ في الرواية جاء يحمل في طياته مظهرا شعريا
يتمثل في الإحالة على لغة الحلم كأداة تعبير مقترنة بمساءلة المستقبل.
ومن ثم كان الخطاب الرّوائي، في مجمله، مفرزا اجتماعيا تاريخيا يعتمد
التاريخ ويتكئ عليه ليس في تفسير الواقع فحسب ، بل وفي صياغة نبوءة
المستقبل . وتجسد الرواية هذا الحال من خلال ثيمة ( الفتى الواعد) الني
اشتغل عليها أنقار بوعي وظيفي مستمدا حركتها الرامزة من مقولة "صراع
الأجيال " التي احتفت بها ذاكرة الرواية العربية عموما ووظفتها
لتشخيص الصراع المجتمعي من أجل التحرر والتغيير . وتتجلى ملامح الصبي
المتنور بارزة في ثلاثية نجيب محفوظ وفي رواية " دفنا الماضي " لعبد
الكريم غلاب وفي رواية " الشراع والعاصفة " لحنا مينا وغيرها من الروايات
التي تعكس معركة النضال ضد الجمود والتخلف واستكشاف رياح التغيير. أما
نموذج الفتى الواعد في رواية باريو مالقا فتترجمه شخصية (سلام ) التي
انتقاها سياق الحكي ، بحكم صغر السن، لتجسد مشروع الإنسان النوعي
الذي يمتلك القدرة على المساءلة والتحليق في زمن كيفي مختلف ومتقدم عن
حدود الماضي والحاضر. فسلام بهذا المعنى هو رمز لجيل النهضة والتحرر
الوطني الذي ألفى نفسه مرغما على السير في طريق التصحيح و البحث عن منحى
جديد للهوية . إنه ذات تختزل صيرورة ذوات تشكل في مجموعها المتناقض
إطارا واضحا تحيل عليه لحظة الكتابة، لمثقف مغترب يعيش في مجتمع لا
يتكيف معه، بل يدفعه حتما لاستكشاف عوالم بديلة أكثر ارتقاء وعمقا من
عالم الواقع . ومن ثم أتت هذه الشخصية جامعة لكل المزايا والسمات التي
تفردت بها " الجماعة" أو" الثلّة" أو " أصدقاء السويحة" وهي المصطلحات
التي أطلقها الروائي لتمييز الفئة العمرية التي يمثلها سلام وتحظى برفقته
في توجيه مجرى الأحداث والوقائع عبر متن الرواية . ولذلك ترى أنه يعكس
من حال ( المديني ) حيويته واندفاعه العاطفي غير محسوب النتائج ، وهو
في حال آخر يعكس انطوائية وشرود (محمد العربي ) وتحفزه للمغامرة والمعرفة
وحب الاستطلاع . بل وفيه من ملامح " الشريف " ما بحيل على مظاهر
العطالة وبؤس المعيش، وعلى الشغف الشديد بحضارة الصورة عبر المجلات
المعروضة في أكشاك مجموعة فرانكو ودرب المطيلي. كما يحمل من "إدريس"
سمات تتعلق بتقدير الثقافة و الفن وحب الموسيقى والغناء . وكل ذلك يعكس في
مجموعه ألوانا من الحماس و أشكالا من مظاهر الطموح والارتقاء التي تميز
فئة الشباب المقبل على الحياة.
أحفار الذاكرة وأبعاد التخييل : من
سمات الذاكرة أنها تشرع الباب واسعا أمام حركة التفاصيل الوثيقة الصلة
بوجه العمل، على نحو يفسح المجال لتوثبات العنصر السيكو ثقافي الموجه
لحافز الكتابة. أما خلفية العمل فهي تسعف بالمادة وبسبل تسخيرها على نحو
انتقائي يلائم المجال والسياق. ومن خلال هذا الحافز تطمح الرؤية الفنية
إلى خلق نسقها الجمالي المختلف، في لحظة يحكمها قانون الانفصال والاتصال مع
الواقع المعيش، ويوجهها هاجس البحث عن واقع أفضل. و من العلامات التي لا
يمكن إغفالها في هذا السياق أن الذاكرة قد تهيمن على تواتر اللغة
وتواثبها وقد تحد من مسافة التخييل. وسر ذلك يعود في الغالب إلى الرغبة
في كتابة محكي الحياة. و جماع هذه السمات كلها متوفر في رواية أنقار، من
خلال ما تعرضه من سجل حكائي غزير ومتنوع على شاكلة ألبوم اليوميات
المعتمدة في كتابة الأوتوبيوغرافيا. وتبلغ مفردات هذا السجل الحكائي في
رواية باريو مالقا سبعة وستين متنا. وهي عبارة عن حلقات حكائية صغرى
تنطوي فيها الأحداث والوقائع على منطق الانسجام والتوافق بين المرجع
الواقعي والرؤية الكاشقة التي لا تغويها تهويمات الخيال ولا طقوس
التغريب، بقدر ما تستهويها الحدود والتفاصيل الصغيرة والعلامات التي تلبس
الذاكرة وتحيط بخارطة المكان. وتلخص هذه الحكايا انشغالات الجيل الناشئ
الذي ينتمي إليه "ســـلاّم" بطل الرواية وشخصيتها الرئيسة. ومن ثم يمكن
اعتبار فئة الشخوص المصاحبة ل"ســلام" في صياغة محكي الرواية ، بمثابة
تمظهرات وتنويعات مختلفة لإيقاع هذه الشخصية المتكاملة الأبعاد ، التي
تتقاطع بدورها مع شخصية الكاتب على خلفية من القواسم المشتركة التي تجمع
بينهما وتوحد بداية المسار الحياتي والثقافي. ويبقى " سلام " في النهاية هو
ذلك الفتى الموسوم من بين هذه الزمرة من الفتيان، رغم مظهره الباهت، بسمات
الفطنة والدماثة ورهافة الوجدان. .إنه الشخصية التي تخطط مسار الحكي في
الرواية وتوجه منطق المحكي نحو التعبير عن مكنونات النفس الإنسانية
المطوقة بقيم المحبة ومعايير الجمال التي يحرص السارد عبر فتاه ذي الطاقية
الصوفية التي تغطي رأسه صيفا وشتاء، على استرفادها من عبق الذاكرة، من
تلك الأزمنة السحرية المتوغلة في الضفاف الأخرى،التي يشكل جماع صورها
عوالم عشق تتكامل فيها اللحظة التاريخية المتحفزة، مجسدة عبر مظاهر التمدن
والنهوض لدى الآخر( سحر إسبانيات الباريو المقرون ببهاء الأرومة ونزعة
التفوق – مباهج السينما الغربية الوافدة على قاعة العرض "فيكتوريا" –
أشجان الأغنية المصرية الخمسينية الصادحة عبر مذياع الإسكافي العتيق
المصفح... ) مع خيوط الحلم والآمال الواعدة التي لا تنفك الكينونة تنسجها
حول هذه العوالم لاستكمال مشروعها حول وجود فعال مرتهن برؤية جديدة
للكون والحياة . ( حلم الحرية والانطلاق واسترداد نبض الهوية، والتخلص من
أشباح الهيمنة الزائفة – حلم الكتابة وامتلاك ناصية ألحكي واختراق أفق
الخيال عبر إبداع القصة ) (11)
وهكذا يعكس ارتباط "سلاّم" ب"ماري
كارمن" في تماهيه مع علاقة "المديني" ب" بيلار" وهما فتاتان إسبانيتان من
مستوطني الحي، علامة رامزة لهذا الألق السحري الغامض الذي حرص السارد على
حفزه وتغذيته على امتداد العمل، عبر رؤيا احتفالية واعدة بإمكانيات
التواصل و الاحتواء وتجاوز الحدود المصطنعة بين الفئات والشعوب. بيد أنّ
منطق الواقعي ( الواقعية) يفضي إلى تنكيس هذه الرؤيا الطوباوية
واستبدالها برؤية مأساوية مطوقة بالأعراف والقيم الفارقة التي تحكم
الأجناس وتوجهها بخلفية النفوذ والعقيدة والمذهب. حيث تنتهي الرّواية
بصدمة جنائزية قاتمة، من مظاهرها: جنازة "صبيّ درب"الكنيسة" الذي قضى بسبب
عبث الفتوات، والهجرة العكسية للأسبان بعد استقلال المغرب ، وإحباط تجربة
العشق والارتباط الروحي الراسخة في وجدان سلاّم وصنوه المديني إثر
مغادرة الأطياف الأنثوية الأسبانية لفضاء الباريو ، حيث يغدو مجال العيش
من دونها حزينا كئيبا عديم الطعم والمذاق. ويضاعف من قتام الصورة خفوت
حركة التّجارة الباذخة من حوانيت الإسبان، برحيل أصحابها ، واختفاء الراعي "
جوليان " بعدما أصبح وجوده في مراعي سمسة نشازا بعد زوال شرط الاستيطان
...فتنكشف من جراء ذلك كله عمق الحقيقة المتخفرة خلف ذلك الزخرف الحضاري
الباذخ الذي لوحت به أيادي المستعمر، و دأبت ألسنته على ترويجه تحت غطاء
أطروحة التوحد الكوني. تلك الأطروحة المقيتة التي يسخرها (الإمبريالي)
عادة لإخفاء أهدافه الحقيقية في الهيمنة واحتكار التفوق وتهميش الآخر (
المستضعف ) بإقصائه وبمضاعفة إذلاله ثم سلخه من جذوره وتعطيل قدرته على
النهوض والامتداد . وشتان بين هذه الكونية السلبية التي ترمي ببعدها
الإمبريالي إلى الهيمنة ومحو التعدد وفرض النموذج الواحد ، وتلك الكونية
الإنسانية التحررية التي ترفع الرواية شعارها عبر تطلعات جيل النهضة
والتحرير في حلمه بالتساكن والتجاور ونبذ الانغلاق الطائفي، و التوحد على
أسس ومبادئ الثقافة الإنسانية المتنورة .
ومن هذا الأفق الكاشف نجد
الكاتب أنقار يتعامل في هذه الرواية مع الصورة الحكائية بصدد مروياته عن
الآخر، عبر مسافة تجعل رؤيتنا له محفوفة بالأسرار المستمدة من عوالمه
المتعالية عن شروط الواقع المحلي مكشوف السمات والملامح. فبقدر ما يستسهل
الروائي استغوار نفسيات الشخوص المحليين وتصنيف أنماط سلوكهم، بقدر ما
يقتصر، بالنسبة لشخوص الطرف الآخر على رصد إطارها الخارجي الباهت المفرغ
من العمق الإنساني، متهيبا خرق القناع الذي تتخفى وراءه هذه الشخوص
المجسدة لكينونة المستعمر، مكتفيا بالملامسة والتلميح العرضي لردود
أفعالها السطحية المتباعدة التي تحيط بها هالة من السمو ومظاهر الثقة.
وكل ذلك خلافا لما نجده في محكيات الرواية الاستعمارية بصدد المحليين التي
وجدنا الدكتور أنقار نفسه ينبري لعرض نماذج منها في كتابه النقدي
الموسوم: ( بناء الصورة الروائية في الرواية الاستعمارية)، ومن بين هذه
النماذج ما نجده مشحونا بطابع السخرية والاستخفاف بماهية الكائن المحلي
(المغربي/ الآخر بالنسبة للطرف الإسباني ) وعرضها نافرة قميئة على نحو ما
أورده الكاتب أنقار نفسه من الصور والنماذج في بحثه السالف الذكر. ومنها
هذا النموذج من رواية "صفارة البارود" للروائي الإسباني (لويس أنطونيو دي
فيجا) . حيث جاء في الرواية على لسان " حميدو" الجندي المغربي المنخرط في
صفوف الوطنيين الإسبان إبان الحرب الأهلية، مايلي:" ...الآن أكتفي بزوجتين
وأحمد اسمه (تعالى) . ولكن عندما أعود من الحرب سأقتني زوجة ثالثة إذا كانت
تلك مشيئة الرسول" ( 12)
هكذا يتخذ المكان شكل البؤرة الموجهة
للمخيال الفني في أبعاده الإنسانية المحفوفة بالأشجان ومتعة الحلم والخيال،
أو بتهويمات الفكر والإيديولوجيا والأضغاث المصاحبة. فاختيار المكان
وتهيئته بهذه الصفة أو تلك يمثل جزءا من تشكيل الشخصية البشرية، لأن
الإنسان، طبقا لحاجته، قد ينتعش في بعض الأماكن وقد يذبل في بعضها الآخر،
بصرف النظر عن مساحتها وعن طبيعة تكوينها. وعليه، فقد تكون الأماكن الضيقة
المغلقة مرفوضة من قبل البعض لأنها صعبة الولوج، ولكنها قد تكون على العكس
مطلوبة للآخرين لأنها تشكل بالنسبة لهم " صورة الرحم"، وتمثل لهم الملجأ
والملاذ.
عبدالسلام ناس عبدالكريم - المغرب
هذا الطرح التوفيقي وتأكيد أبعاده الانعكاسية ( على مستوى التاريخ)
والانزياحية الاستشرافية ( على مستوى الواقع ). فمحكيات الرواية تؤطّر
فضاء حقيقيا يعد من أحدث التجمعات السكانية الشعبية لحاضرة تطوان المغربية.
وقد استمدت منه الرواية اسمها بالحرف والصفة. ومن ثم فدال العنوان في
هذه الرواية يستثمر ثيمة "الحي" أو " الحارة الشعبية" على غرار النموذج
السائد في روايتي '"خان ا لخليلي' لنجيب محفوظ ، أو'الحي اللاتيني'
لسهيل إدريس، على سبيل المثال. ومابين الملفوظين المتضابفين ( باريو
مالقا) تنجلى تمثلات الحقيقة ورهانات المحكي الواقعي التي تتحلى بلبوس
المكان. وأما المدلول فيتمحور حول لفظة ' باريو' barrioوتعني الحي
بالإسبانية، ولفظة 'مالقا' Malaga وهي المدينة الإسبانية المعروفة.
والحصيلة تحيل على الظروف والملابسات التي أحاطت بنشأة هذه الحارة. وترتبط
هذه الظروف في مجملها بتهجير المستعمر الإسباني في منتصف القرن الماضي
لفئة من رعاياه من غجر غرناطة وضعفاء الإسبان ، وتوطينهم في ضفاف "سيدي
طلحة" و"سامسة" التي ستعرف عندهم بحارة سان أنطونيو ثم باريو مالقا لاحقا
، إلى جنب المهاجرين المحليين النازحين من أرياف الجوار، هروبا من فتنة
المجاعة وبحثا عن أنفاس الكرامة. وتختزل الرواية هذا المؤشر الاجتماعي
بخاصة في المتن الوارد تحت عنوان " الجوع". على لسان (فطوش الريفية) وهي
تحاور الفتى (سلام) بطل الرواية : " الجوع الحقيقي هو الذي عصرنا في
بوادي الريف ..أنت فطرت وتنظر الآن الغداء، أما نحن فكان انتظارنا أزليا...
" (5)
وتتصدر المتن الروائي بعض مشاهد الفتنة أبطالها فئة من
المنحرفين التائهين الذين ترعرعوا في هذه الضفاف الموسومة بسمات البؤس
والرعب ومظاهر البطش والفتك . وقد نعتهم كاتب الرواية ب(الفتوّات) تشبّها
بفتوات الأديب نجيب محفوظ الذي لا يخفي الروائي أنقار التأثر به في كثير
من العلامات الإبداعية التي ترصد تقاطعات الواقع المغربي مع الواقع المصري.
( 6 ) . بيد أن فتوات أنقار هم، على خلاف فتوات النموذج المحفوظي، كائنات
شيزفرينية محطمة فقدت منطق الاتصال بالواقع ولم تعد تستهويها القيم
والمواقف ولا البطولات، بقدر ما تحركها نزوات غريبة من الشذوذ والعدوان
قد تترجمها إلى نزعة التدنيس والعبث برموز الطهر والبراءة.
والسّارد يتخذ من هذه الخلفية الاجتماعية المرعبة واجهة تغذي حلقات
الحكي، ويجعل منها معبرا سيكلوجيا للرؤية الواقعية المشوبة باعتمالات
الوجدان الرومانسي وأبعاد الحس المأساوي. وبقدر ما تعكسه هذه الخلفية من
مظاهر البؤس والضياع ومن سمات القهر والحرمان بالنسبة لواقع الأنا
(المحلي) بقدر ما تحيل على الوجه الآخر للمفارقة متمثلا في هيمنة الرعب
التي يفرضها المستوطن الأجنبي على هذا الواقع باسم أوهام اليسر والرخاء
والأمن والطمأنينة.
وفي ظل هذه المفارقة الصارخة يمتدّ النسيج
الدرامي للحبكة الروائية عبر خيوط المشهد العاطفي الموسوم بسمات الممانعة
والرفض والتعالي التي توجه سلوك الآخر، في مقابل تضخم إحساس الأنا بالإحباط
والتدني إلى درجة اليأس والضمور. حيث تتوخى الحبكة العاطفية في الرواية
تجسيد طموح"الماهية " في الارتباط بوجدان الحداثة وإغراءاتها الحضارية
والثقافية، بينما تصدها عوائق الرفض والممانعة والنبذ العنيف من طرف
"الآخر" الذي يشكل رمز الحضارة وأنموذجها الأسمى. ويترتب عن ذلك كله تراجع
طاقة الصراع بالنسبة للطرف الأول (المنبوذ )إلى داخل النفس لكبت الجسد،
وغل نشاطه بحجة التطهر والارتفاع.. بينما تتجه لدى الطرف الثاني ( النابذ)
إلى خارج النفس، كي تعمل على شحن مزيد من العنف المنظم لتحطيم الآخر
الموجود خارج حدوده الإثنية والقومية. وبين هاتين الفئتين المتنابذتين
يستنبت الواقع تلك النبتة الهجينة السائبة المنفلتة من منطق التحديد
متمثلة في آفة الفتوات، التي تلخص المآل من خلال تجسيدها لشحنة التصادم
الرهيب بين الحدين السالبين: منطق الرضا و الاستسلام لدى الطرف الأول و
ارتكاسة الفعل الهمجي العنيف لدى الطرف الثاني .
وتتصدى الصيرورة
الختامية لأحداث الرواية لتمحيص هذا الطرح الذي رصدته توقعات الرّهان
المؤسس لحدوس القراءة ، بالتأكيد على استحالة منحى التوفيق بين الجماعات
المتنافرة في ظل امتداد أسباب الصراع والمواجهة، و تباعد المصالح والغايات،
وسيادة منطق الطبقة الاجتماعية أو الفئة الإثنية أو الدولة القومية. ففي
ظل تفشي هذه الأسباب واستفحال تأثيرها يتلاشى حلم التلاقي وتحلّ مكانه
مظاهر التنافر وسمات التباغض على مستوى سلوك الأفراد والجماعات، مخلفة
وراءها شروخا وندوبا وألوانا من الحسرة. وقد لا يخفف من غلواء هذا التأثير
سوى الرغبة في تصحيح الارتباط بالماهية وتجديد العلاقة بالمكان، واستجلاء
بقايا الأطياف الجميلة التي قد تتركها أحفار الصور العابرة القادمة من تلك
الضفاف الأخرى. وهنا يجب التأكيد على أن المكان النصي الذي تعكسه الرواية
لا يشكل كلا متناغما ولا متجانسا ولكنه ينقسم إلى أحياز تفصل بينها حدود.
فالعلاقة بهذا المكان تنطوي على جوانب شتى ومعقدة تجعل معايشته عملية
تجاوز حدود القدرة الواعية وتتوغل في أعماق اللا شعور. ذلك أن الإنسان لا
يحتاج فقط إلى مساحة فيزيقية جغرافية يعيش فيها، ولكنه يصبو أيضا إلى
رقعة يضرب فيها بجذوره وتتأصل فيها هويته. ومن ثم يأخذ البحث عن الكيان
والهوية شكل ممارسة الفعل على المكان لتحويله إلى مرآة ترى فها " الأنا"
صورتها . (7)
شعرية الحكي ومقام التاريخ: يقدم الروائي بطل
روايته 'سلام' شخصية مشحونة بسمات نمطية تقرب من مظاهر الصراع و المواجهة
بين الكينونة المنفتحة والماهية المنغلقة على خلفية الأعراف التي تأبى
الامتداد وتستعصي على المغايرة. وقد ألبسها جوهر الفئة الاجتماعية الصاعدة
التي يراد لها أن تغطي حاجة التغيير في المرحلة الجديدة،مرحلة الاستقلال
والتحرر و بناء الذات . بيد أن سمت التحولات يكشف عن ضعف هذه الطبقة ويفضح
هشاشتها وعجزها عن مقاربة الغايات والمآرب. ذلك أن الهوامش النوعية التي
استمدتها هذه الفئة الواعدة من منحى التحولات لم تكن لتسعفها على تجاوز
حدّ الضفاف الرومانسية الرهيفة الني لاتجدي وحدها لإنعاش المسار وتغذية
الطموح. ومن ثم لم يكن بمقدور هذه الطبقة التي يمثلها " سلام" أن تحقق سوى
قدر باهت من الانزياح عن مستوى منظومة القيم التي تشربها الجيل السابق ،
جيل ' عبدالله الإسكافي' الشخصية التقليدية المهادنة المستسلمة لمنطق "
الرتق" والاستنساخ ، وتبرير التبعية وإعادة إنتاج منظومة الهيمنة
بمالـَـها من ثقل التراكمات وما عليها من عبء الأوزار . وفي ظل هذا الطوق
المضروب حول الكينونة لا يسع " الأنا" المحبط إلا أن يلوذ بمسالك الوجدان
الجمعي لتمرير حسه التنويري الموصول بقدسية المكان :
» هلّ
الربيع على الباريو فاضطرم الدم في عروق الفتية ونأت أصداء طبول الغدر..
وفي زوال ذلك الأحد الأخضر اجتمعت الثلة في مصطبة السويحة ، وخرجوا باتفاق
الصعود إلى الحجر الكبير المغروس في ظهر الكاريان . وعند سفح الحجر تنفسوا
الصعداء وشردوا يتأملون عين الماء الصغيرة .ثم تسلقوا الصخرة في خفة ،
فاستشعروا من عل النسائم الرقيقة وهي تشملهم وتحفزهم على التحليق في الفضاء
الأزرق المفتوح على الدنيا. ونسوا تعب العقبة ، ومن أعلى الصخرة عاينوا
طريق جامع مزواق الملتوية على يمينهم ، وآخر براريك أرض مصطفى قبالتهم،
وعلى يسارهم قبعت حظيرة الخنازير في عمق الخندق. أما سوى ذلك فأراض شاسعة
شبه جرداء رغم الربيع ، اللهم إلا نبتة مريو وحسك السعدان وشجيرات الدوم
والدفلى والتربة المائلة إلى الحمرة. « (
وتطالع القارئ من خلال
هذا المقطع ثيمة " الحجر" بما لها من معنى الصلابة وما تعكسه من دلالات
التحمل والصمود والانتظار،على نحو يشي بتفجير شاعرية المكان وعقد ميثاق
قرائي يربط ذاكرة المتلقي بمناصات الكتابة الشعرية التي تربط الكينونة
بإيقونة الجوهر الصلب المتجسدة في الحجارة. وحينئذ لا فكاك من ربط هذا
الوجدان الشاعري بأفقه التاريخي القومي الفسيح والنأي به قليلا عن ضيق
الحدود. ثم لا بأس بعد ذلك من أن تتكامل ملامح المكان مشفوعة بالحنين عند
كاتب رهيف الحس كالروائي محمد أنقار ببوح قيظ الأمكنة عند شاعر قومي
الأرومة من عيار الشاعر الفلسطيني الكبير أحمد دحبور، القائل في توصيف
حجارة المكان :
مثلما يتفقد جد الزمان
نسله المترامي أسابيع أو أشهر أو سنين
تتفقد روحي حجارة هذا المكان
فتعدد الجيوش التي عبرت فوقها
والغيوم التي كللت أفقها
وأغاني الغرام التي صنعت شرقها
وتجس التراب الذي لم يكن
غير شمس وطين.....
ياحجارة هذا المكان
أو ما كان كان أعدل أن توهب الريح للأرض
لا أن تعيد لها رقها
أو ما كان أكمل أن نتكامل والأرض
لا أن نخالفها رزقها؟
أو ما كان أجمل أن تكون الحجارة ليست كما هي
بل إنها الأمس والهمس والمرتجى والزيارة؟....( 9)
وتأسيسا على الهاجس الموصول بذاكرة المكان وأطيافه البشرية، تتضح ملامح
العلاقة بين هذا المتن الروائي وبين المرحلة التاريخية التي يحيل إليها.وهي
فترة موسومة بالصراع من أجل نيل التحرر السياسي وكسب رهانات التحول
المجتمعي، في ظل انتعاش حركات التنوير العقلي والثقافي. وهنا لا يسع القول
إلا أن ارتباط رواية باريو مالقا بالتاريخ هو من قبيل الارتباط العضوي
العام الذي يصل فن الرواية عموما بعلم التاريخ. ذلك أن الرواية كفن أدبي
ظهرت تاريخيا في زمن صعود علم التاريخ في القرن الثامن عشر، معلنة أن
العقل المبدع هو الذي يميز باستمرار بين الحاضر والماضي. كما أن هذا
الارتباط ، بحسب رأي الدكتور فيصل دراج، يحيل إلى خصوصية الرواية العربية
التي انتعشت في مرحلة تاريخية موسومة بتواطؤ أشكال الهيمنة الاستعمارية
السابقة مع أنظمة القمع اللاحقة ، مما أجبر الروائي (العربي) عن التعامل
باستمرار مع التاريخ سائلا بشكل مباشر أو غير مباشر عن أصول الدولة
المستبدة. ومن هذه الزاوية يمكننا أن نفسر عودة توفيق الحكيم إلى التاريخ
في روايته »عودة الروح« . وندرك وجهة التوثيق الروائي عند نجيب محفوظ
لمراحل المجتمع المصري في القرن العشرين، واتجاه عبد الرحمن منيف الى
التاريخ ليكتب خماسيته الشهيرة عن (مدن الملح) وعودة نبيل سليمان إلى
التاريخ في (مدارات الشرق) و بهاء طاهر في (واحة الحروب) . و مبارك
ربيع في (االريح الشتوية ) وقبله عبدا لكريم غلاب في (دفنا الماضي) ...
. وكل ذلك يعكس ان عودة الرواية الى التاريخ بهذا المعنى لا تعني الولع
بالماضي، بقدر ما يعكس ضرورة منطقية تاريخية يراد بها معرفة الأسباب
التي أدت إلى خيبة المشروع الحضاري في مظاهره الشاملة. ويرى الدكتور فيصل
دراح أن رواية التحرر الوطني والاستقلال جاءت لتعلن عن مجتمع عربي دخل في
طور جديد، رافعة شعار "زمن ضد زمن" حيث الزمن القديم ينسحب ليترك الجديد
يبني عهده بمواد وأدوات جديدة، ولتساوي بين القومية والديموقراطية
والعلمانية، وبين الانتماء العروبي والانفتاح على الأزمنة الحديثة، (10)
ثم إن هذا الارتباط بالتاريخ في الرواية جاء يحمل في طياته مظهرا شعريا
يتمثل في الإحالة على لغة الحلم كأداة تعبير مقترنة بمساءلة المستقبل.
ومن ثم كان الخطاب الرّوائي، في مجمله، مفرزا اجتماعيا تاريخيا يعتمد
التاريخ ويتكئ عليه ليس في تفسير الواقع فحسب ، بل وفي صياغة نبوءة
المستقبل . وتجسد الرواية هذا الحال من خلال ثيمة ( الفتى الواعد) الني
اشتغل عليها أنقار بوعي وظيفي مستمدا حركتها الرامزة من مقولة "صراع
الأجيال " التي احتفت بها ذاكرة الرواية العربية عموما ووظفتها
لتشخيص الصراع المجتمعي من أجل التحرر والتغيير . وتتجلى ملامح الصبي
المتنور بارزة في ثلاثية نجيب محفوظ وفي رواية " دفنا الماضي " لعبد
الكريم غلاب وفي رواية " الشراع والعاصفة " لحنا مينا وغيرها من الروايات
التي تعكس معركة النضال ضد الجمود والتخلف واستكشاف رياح التغيير. أما
نموذج الفتى الواعد في رواية باريو مالقا فتترجمه شخصية (سلام ) التي
انتقاها سياق الحكي ، بحكم صغر السن، لتجسد مشروع الإنسان النوعي
الذي يمتلك القدرة على المساءلة والتحليق في زمن كيفي مختلف ومتقدم عن
حدود الماضي والحاضر. فسلام بهذا المعنى هو رمز لجيل النهضة والتحرر
الوطني الذي ألفى نفسه مرغما على السير في طريق التصحيح و البحث عن منحى
جديد للهوية . إنه ذات تختزل صيرورة ذوات تشكل في مجموعها المتناقض
إطارا واضحا تحيل عليه لحظة الكتابة، لمثقف مغترب يعيش في مجتمع لا
يتكيف معه، بل يدفعه حتما لاستكشاف عوالم بديلة أكثر ارتقاء وعمقا من
عالم الواقع . ومن ثم أتت هذه الشخصية جامعة لكل المزايا والسمات التي
تفردت بها " الجماعة" أو" الثلّة" أو " أصدقاء السويحة" وهي المصطلحات
التي أطلقها الروائي لتمييز الفئة العمرية التي يمثلها سلام وتحظى برفقته
في توجيه مجرى الأحداث والوقائع عبر متن الرواية . ولذلك ترى أنه يعكس
من حال ( المديني ) حيويته واندفاعه العاطفي غير محسوب النتائج ، وهو
في حال آخر يعكس انطوائية وشرود (محمد العربي ) وتحفزه للمغامرة والمعرفة
وحب الاستطلاع . بل وفيه من ملامح " الشريف " ما بحيل على مظاهر
العطالة وبؤس المعيش، وعلى الشغف الشديد بحضارة الصورة عبر المجلات
المعروضة في أكشاك مجموعة فرانكو ودرب المطيلي. كما يحمل من "إدريس"
سمات تتعلق بتقدير الثقافة و الفن وحب الموسيقى والغناء . وكل ذلك يعكس في
مجموعه ألوانا من الحماس و أشكالا من مظاهر الطموح والارتقاء التي تميز
فئة الشباب المقبل على الحياة.
أحفار الذاكرة وأبعاد التخييل : من
سمات الذاكرة أنها تشرع الباب واسعا أمام حركة التفاصيل الوثيقة الصلة
بوجه العمل، على نحو يفسح المجال لتوثبات العنصر السيكو ثقافي الموجه
لحافز الكتابة. أما خلفية العمل فهي تسعف بالمادة وبسبل تسخيرها على نحو
انتقائي يلائم المجال والسياق. ومن خلال هذا الحافز تطمح الرؤية الفنية
إلى خلق نسقها الجمالي المختلف، في لحظة يحكمها قانون الانفصال والاتصال مع
الواقع المعيش، ويوجهها هاجس البحث عن واقع أفضل. و من العلامات التي لا
يمكن إغفالها في هذا السياق أن الذاكرة قد تهيمن على تواتر اللغة
وتواثبها وقد تحد من مسافة التخييل. وسر ذلك يعود في الغالب إلى الرغبة
في كتابة محكي الحياة. و جماع هذه السمات كلها متوفر في رواية أنقار، من
خلال ما تعرضه من سجل حكائي غزير ومتنوع على شاكلة ألبوم اليوميات
المعتمدة في كتابة الأوتوبيوغرافيا. وتبلغ مفردات هذا السجل الحكائي في
رواية باريو مالقا سبعة وستين متنا. وهي عبارة عن حلقات حكائية صغرى
تنطوي فيها الأحداث والوقائع على منطق الانسجام والتوافق بين المرجع
الواقعي والرؤية الكاشقة التي لا تغويها تهويمات الخيال ولا طقوس
التغريب، بقدر ما تستهويها الحدود والتفاصيل الصغيرة والعلامات التي تلبس
الذاكرة وتحيط بخارطة المكان. وتلخص هذه الحكايا انشغالات الجيل الناشئ
الذي ينتمي إليه "ســـلاّم" بطل الرواية وشخصيتها الرئيسة. ومن ثم يمكن
اعتبار فئة الشخوص المصاحبة ل"ســلام" في صياغة محكي الرواية ، بمثابة
تمظهرات وتنويعات مختلفة لإيقاع هذه الشخصية المتكاملة الأبعاد ، التي
تتقاطع بدورها مع شخصية الكاتب على خلفية من القواسم المشتركة التي تجمع
بينهما وتوحد بداية المسار الحياتي والثقافي. ويبقى " سلام " في النهاية هو
ذلك الفتى الموسوم من بين هذه الزمرة من الفتيان، رغم مظهره الباهت، بسمات
الفطنة والدماثة ورهافة الوجدان. .إنه الشخصية التي تخطط مسار الحكي في
الرواية وتوجه منطق المحكي نحو التعبير عن مكنونات النفس الإنسانية
المطوقة بقيم المحبة ومعايير الجمال التي يحرص السارد عبر فتاه ذي الطاقية
الصوفية التي تغطي رأسه صيفا وشتاء، على استرفادها من عبق الذاكرة، من
تلك الأزمنة السحرية المتوغلة في الضفاف الأخرى،التي يشكل جماع صورها
عوالم عشق تتكامل فيها اللحظة التاريخية المتحفزة، مجسدة عبر مظاهر التمدن
والنهوض لدى الآخر( سحر إسبانيات الباريو المقرون ببهاء الأرومة ونزعة
التفوق – مباهج السينما الغربية الوافدة على قاعة العرض "فيكتوريا" –
أشجان الأغنية المصرية الخمسينية الصادحة عبر مذياع الإسكافي العتيق
المصفح... ) مع خيوط الحلم والآمال الواعدة التي لا تنفك الكينونة تنسجها
حول هذه العوالم لاستكمال مشروعها حول وجود فعال مرتهن برؤية جديدة
للكون والحياة . ( حلم الحرية والانطلاق واسترداد نبض الهوية، والتخلص من
أشباح الهيمنة الزائفة – حلم الكتابة وامتلاك ناصية ألحكي واختراق أفق
الخيال عبر إبداع القصة ) (11)
وهكذا يعكس ارتباط "سلاّم" ب"ماري
كارمن" في تماهيه مع علاقة "المديني" ب" بيلار" وهما فتاتان إسبانيتان من
مستوطني الحي، علامة رامزة لهذا الألق السحري الغامض الذي حرص السارد على
حفزه وتغذيته على امتداد العمل، عبر رؤيا احتفالية واعدة بإمكانيات
التواصل و الاحتواء وتجاوز الحدود المصطنعة بين الفئات والشعوب. بيد أنّ
منطق الواقعي ( الواقعية) يفضي إلى تنكيس هذه الرؤيا الطوباوية
واستبدالها برؤية مأساوية مطوقة بالأعراف والقيم الفارقة التي تحكم
الأجناس وتوجهها بخلفية النفوذ والعقيدة والمذهب. حيث تنتهي الرّواية
بصدمة جنائزية قاتمة، من مظاهرها: جنازة "صبيّ درب"الكنيسة" الذي قضى بسبب
عبث الفتوات، والهجرة العكسية للأسبان بعد استقلال المغرب ، وإحباط تجربة
العشق والارتباط الروحي الراسخة في وجدان سلاّم وصنوه المديني إثر
مغادرة الأطياف الأنثوية الأسبانية لفضاء الباريو ، حيث يغدو مجال العيش
من دونها حزينا كئيبا عديم الطعم والمذاق. ويضاعف من قتام الصورة خفوت
حركة التّجارة الباذخة من حوانيت الإسبان، برحيل أصحابها ، واختفاء الراعي "
جوليان " بعدما أصبح وجوده في مراعي سمسة نشازا بعد زوال شرط الاستيطان
...فتنكشف من جراء ذلك كله عمق الحقيقة المتخفرة خلف ذلك الزخرف الحضاري
الباذخ الذي لوحت به أيادي المستعمر، و دأبت ألسنته على ترويجه تحت غطاء
أطروحة التوحد الكوني. تلك الأطروحة المقيتة التي يسخرها (الإمبريالي)
عادة لإخفاء أهدافه الحقيقية في الهيمنة واحتكار التفوق وتهميش الآخر (
المستضعف ) بإقصائه وبمضاعفة إذلاله ثم سلخه من جذوره وتعطيل قدرته على
النهوض والامتداد . وشتان بين هذه الكونية السلبية التي ترمي ببعدها
الإمبريالي إلى الهيمنة ومحو التعدد وفرض النموذج الواحد ، وتلك الكونية
الإنسانية التحررية التي ترفع الرواية شعارها عبر تطلعات جيل النهضة
والتحرير في حلمه بالتساكن والتجاور ونبذ الانغلاق الطائفي، و التوحد على
أسس ومبادئ الثقافة الإنسانية المتنورة .
ومن هذا الأفق الكاشف نجد
الكاتب أنقار يتعامل في هذه الرواية مع الصورة الحكائية بصدد مروياته عن
الآخر، عبر مسافة تجعل رؤيتنا له محفوفة بالأسرار المستمدة من عوالمه
المتعالية عن شروط الواقع المحلي مكشوف السمات والملامح. فبقدر ما يستسهل
الروائي استغوار نفسيات الشخوص المحليين وتصنيف أنماط سلوكهم، بقدر ما
يقتصر، بالنسبة لشخوص الطرف الآخر على رصد إطارها الخارجي الباهت المفرغ
من العمق الإنساني، متهيبا خرق القناع الذي تتخفى وراءه هذه الشخوص
المجسدة لكينونة المستعمر، مكتفيا بالملامسة والتلميح العرضي لردود
أفعالها السطحية المتباعدة التي تحيط بها هالة من السمو ومظاهر الثقة.
وكل ذلك خلافا لما نجده في محكيات الرواية الاستعمارية بصدد المحليين التي
وجدنا الدكتور أنقار نفسه ينبري لعرض نماذج منها في كتابه النقدي
الموسوم: ( بناء الصورة الروائية في الرواية الاستعمارية)، ومن بين هذه
النماذج ما نجده مشحونا بطابع السخرية والاستخفاف بماهية الكائن المحلي
(المغربي/ الآخر بالنسبة للطرف الإسباني ) وعرضها نافرة قميئة على نحو ما
أورده الكاتب أنقار نفسه من الصور والنماذج في بحثه السالف الذكر. ومنها
هذا النموذج من رواية "صفارة البارود" للروائي الإسباني (لويس أنطونيو دي
فيجا) . حيث جاء في الرواية على لسان " حميدو" الجندي المغربي المنخرط في
صفوف الوطنيين الإسبان إبان الحرب الأهلية، مايلي:" ...الآن أكتفي بزوجتين
وأحمد اسمه (تعالى) . ولكن عندما أعود من الحرب سأقتني زوجة ثالثة إذا كانت
تلك مشيئة الرسول" ( 12)
هكذا يتخذ المكان شكل البؤرة الموجهة
للمخيال الفني في أبعاده الإنسانية المحفوفة بالأشجان ومتعة الحلم والخيال،
أو بتهويمات الفكر والإيديولوجيا والأضغاث المصاحبة. فاختيار المكان
وتهيئته بهذه الصفة أو تلك يمثل جزءا من تشكيل الشخصية البشرية، لأن
الإنسان، طبقا لحاجته، قد ينتعش في بعض الأماكن وقد يذبل في بعضها الآخر،
بصرف النظر عن مساحتها وعن طبيعة تكوينها. وعليه، فقد تكون الأماكن الضيقة
المغلقة مرفوضة من قبل البعض لأنها صعبة الولوج، ولكنها قد تكون على العكس
مطلوبة للآخرين لأنها تشكل بالنسبة لهم " صورة الرحم"، وتمثل لهم الملجأ
والملاذ.
عبدالسلام ناس عبدالكريم - المغرب