منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    المكان ودراما المكان في رواية...............

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    المكان ودراما المكان في رواية............... Empty المكان ودراما المكان في رواية...............

    مُساهمة   الأربعاء يناير 06, 2010 5:40 am

    المكان ودراما المكان في رواية "عالم بلا خرائط


    لجبرا
    إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف






    توطئة :


    إن
    الحديث عن المدينة، بقدر ما هو حديث يغري كل باحث، بقدر ما يحمل من الصعوبة التي
    قد تصل إلى حد الاستحالة؛ لأن السؤال الذي ينهض أمامنا يتركز حول ما يجب أن نتحدث
    عنه، وما يجب أن نتركه .



    فالمدينة
    ليست حيزا جغرافيا ساكنا، يخلو من نبض الحياة، المدينة هي البشر، وهي الزمان وهي
    الحركة، وهي كذلك مجموع العلاقات الإنسانية التي تكتسب صفة المدينية عندما تبدأ في
    التعالق والتعقد. والفضاء المديني لا يبلغ مستوى الفضاء الفني إلا عندما يكتسب صفة
    المدينية، ويسمو فوق كل الأجزاء الصغيرة المتمايزة، ليشكل الكل العضوي المتعالق
    تعالقا ظفائريا. وهذه العلاقات المدينيـة
    »
    ليست نتيجة الرغبة بقدر ما تكون نتيجة التطور في طبيعة الروابط وأسباب المعيشة
    والنظرة، إضافة إلى الشعور بالأمن، وهذه كلها تفرض بدورها نمطا جديدا من العلاقات
    والسلوك تؤدي إلى صفات تميز الحياة في ك
    ل المكان« (1) .


    لقد
    أولى الكتاب الغربيون اهتماما كبيرا للمدينة؛ لأنهم أدركوا أن المدن هي الذاكرة
    وهي التاريخ الحقيقي الصادق الذي لم تلوثه أقلام الساسة ورجال الحرب، فالفنان هو الجدير
    بالكتابة عن هذه المدن، هذه الحاضنات التي احتوتنا بصدر دافئ عندما صدتنا ولفظتنا
    أماكن طادرة أخرى، والفنان - وهو يكتب عن المدينة : عن حاراتها، ومعالمها،
    وشوارعها، ومقاهيها وفنادقها، وحدائقها .. الخ - إنما










    هو يؤرخ لتاريخ البشر في زمان معين وفي مكان
    محدد، ويتابع مراحل تطور البشر عبر هذه المراحل . إن " لينين " لم يكتشف
    روسيا من خلال التقارير والإحصائيات بالمقدار الكافي، فاكتشفها من خلال "
    تولستوي "، وساعده تولستوي على هذا الاكتشاف دون ضجة .



    أما عندنا نحن العرب، فقد حاول قديما الرحالة
    تقديم صورة عن المدن التي زاروها أو مروا بها، صورة عن هواء المدن وبشرها وعاداتهم
    وتقاليدهم وثقافتهم ... وكان بإمكان هذا التوجه - لو استمر - أن يكون عندنا تقاليد
    مدينية عربية، وبالتالي تترسخ المدينة في ذاكرتنا ووجداننا، وهذا ما لم يتكرس في كتابات
    المعاصرين، فلم تجد المدينة الاهتمام والعناية والمتابعة اللازمة، وهذا ما أدى إلى
    فقدان ذاكرتنا الحقيقية وتاريخنا الصادق، وهكذا أصبحنا بلا ملامح تميزنا . لقد
    حاول بعض الكتاب القلائل أن يجددوا العهد بالمدينة العربية، خاصة من خلال الكتابة
    الروائية - كون الرواية نتاج المدينة بالدرجة الأولى - فقدم " نجيب محفوظ
    " في الثلاثية صورة المدينة والحارة في مرحلة من المراحل، وتفطن إلى بعض
    الأمور التي لم يتفطن إليها الكثيرون من المؤرخين، كذلك فعل " عبد الرحمن
    منيف " في الخماسية وجها آخر لتاريخ المدن العربية النفطية، وهذا الوجه
    الثاني للتاريخ يأخذ في الحسبان أحوال الناس ومشاعرهم وأفكارهم ونظرتهم للحياة
    ومعاناتهم وأحلامهم وتطلعاتهم وخيباتهم أيضا، وهذه المشاعر ما كان للتاريخ الرسمي
    أن يقدمها .



    وبنفس الطريقة، عاد منيف مجددا ليقدم لنا تاريخ
    العراق الفني من خلال ثلاثية " أرض السواد "، تاريخ المدن وشكلها والناس
    ومعاناتهم والحكام وظلمهم ... لقد أراد "منيف" أن يعيد رسم التاريخ -
    الذاكرة والحلم قبل أن يتلاشى ويغيب، كيف كانت الأماكن والحياة والبشر .



    فلو ازداد اهتمام الكتاب العرب بتدوين بعض هذا
    الذي عاشوه وعرفوه
    » لتكونت لدينا - كما يقول منيف - نظرة مدينية، وبالتالي تقاليد
    مدينية، لكن يبدو أن مفهوم المدينة بمعناه الحديث، والذي يجب أن يسود، لم يتكون
    بعد، فهذا ما يفسر من بعض الجوانب، ندرة الكتابات عن المدن، أي عن الأماكن، بما
    يعني أن المدينة لم تترسخ بعد في وجداننا، وبالتالي في ذاكرتنا
    « (2) .


    لقد كانت وما زالت نظرتنا للمدينة ضيقة، وتتوقف
    عند السطح، دون الأخذ بعين الاعتبار أن المدينة ليست الحجارة والأرقام، ليست حيزا
    جغرافيا يعيش فيه وكفة .
    » إن المدن كالبشر، فلكي تقوم العلاقة مع
    المدينة، أية مدينة يجب أن يحس الإنسان بالطمأنينة، بالألفة بالحب، وهذه تتولد
    نتيجة المشاركة والحاجة، وأيضا نتيجة الإحساس أن هذه المدينة تعني له شيئا خاصا،
    ولا يمكن أن تستبدل بأية مدينة أخرى، وهذا ما يعطي المدينة طعمها وملامحها
    « (3) .


    أما إذا كانت المدن مجرد أمكنة يتعايش فيها البشر؛
    لأنهم مضطرون لذلك، فلا شك أن مدنا من هذا النوع ستكون قبرا يحاصر ساكنيه، ستكون
    قاسية ضيقة، وستبقى العلاقة بينها وبين ناسها هشة وخطرة .



    يقول عبد الرحمن منيف : » أعتقد أن عنصر الحب هو الجسر الحقيقي الذي
    يقيم العلاقة بين البشر والأشياء والمدن؛ ولأن المدينة العربية، بصورة عامة، تضخمت
    أكثر مما ينبغي، وتغيرت أسرع من المدن الأخرى، فإنها بحاجة إلى كمّ إنساني كبير من
    أجل إعادة صياغتها، لكي تكون مكانا أليفا، ومن أجل أن تكون حضنا حنونا لأبنائها،
    ومظلة تقيهم من قسوة المدن الأخرى، والتي ترفضهم وتطاردهم، لذلك أعتقد أن جهدا،
    وربما جهدا كبيرا، يجب أن يبذل من أجل أن نقيم المدينة الإنسانية
    « (4) .


    إن جماليات المدينة تقتضي المصالحة الحقيقية مع
    التاريخ ومع البشر، فالمدينة هي الفضاء الذي تتشكل فيه عواطفنا وأفكارنا وأحلامنا،
    وأيضا هزائمنا وخيباتنا، المدينة هي التي تحدد نظرتنا لما يحيط بنا وللعالم .



    إلا أن الحقيقة المرة تقول إننا أخطأنا فهم
    المدينة، كانت نظرتنا إلى المدينة على أنها مجرد أبنية وأرقام، وهذا التصور الخاطئ
    هو الذي جنى على كل إحساس مديني، وأصبحت المدينة العربية فاقدة لكل جمالية، وأصبح
    الحي الواحد خليطا عجيبا من البنايات، الياباني إلى جانب العربي الأصيل، الهندي
    إلى جانب ناطحات نيويورك .. وبالتالي، فقد الحي الانسجام والروابط الحية بسكانه،
    وهذا ما ولّد الاغتراب والنظرة العدائية للمدينة .
    » لقد ظلمنا- كما يقول منيف - المدن التي
    عشنا فيها، الحاضنات التي استقبلتنا وأعطتنا كل شيء، ولم نعرف كيف نقول لها شكرا
    «
    (5)

    .



    لقد ساهم الكتاب العرب مساهمة سلبية في تكريس
    هذه النظرة العدائية للمدينة، وبالتالي لم يساعدوا على خلق ثقافة مدينية، أي
    تقاليد مدينية من شأنها أن تغير من نظرتنا القاسية لمدننا . إن عددا كبيرا من كتاب
    الرواية العربية يرسمون في كتاباتهم أحداثا تجري في أماكن مغلقة، أو في أماكن
    مختلقة، ولذلك جرد الفضاء من البعد الإنساني الموار، وتحول بذلك إلى كتلة صماء بلا
    ملامح وبلا تاريخ . لقد سقط الكثير من الكتاب العرب في تقليد الغرب، فلم يعايشوا
    المكان معايشة وجدانية حقيقية، وهذا أدى إلى فقدان الرواية العربية لخصوصيتها،
    وبالتالي لهويتها، ولم تعد تمتلك ما يميزها عن غيرها . فلم تحذُ حذو الرواية
    اليابانية مثلا، أو الرواية الواقعية السحرية في أمريكا الجنوبية التي تعد بحق خير
    معبر عن وجدان تلك المجتمعات وهويتهم وانتمائهم الحضاري .






    - دراما المدينة في " عالم بلا خرائط " :


    هو عنوان يتكون من كلمة ( عالم ) التي تدل على
    مكان غير محدد وكلمة ( لا ) وهي حرف نفي، وكلمة ( خرائط )، وهي جمع لكلمة خريطة،
    والخريطة مستند يوضح المعالم الخاصة التي يتميز بها المكان المحدد الدالة عليه .
    وهذا العنوان يعني أنه يدل على عالم موجود ليس له خريطة تمكننا من تلمس معالمه،
    وتحديد موقعه، يعنون نصا حكائيا كوّن رواية من تجليات مدينة عمورية السياسية
    والاجتماعية والاقتصادية مادة النص، وجعل عمورية فضاء له عمورية هو اسم المكان في
    " عالم بلا خرائط "، وقد كانت تتميز بالألفة والشجاعة والتآلف، لكنها لم
    تستطع المحافظة على هويتها الأصلية، لأنها أرادت أن تتمدن وتتطور، خاصة بعدما
    اكتشف الأمريكيون النفط بها وعلموا الناس الخطيئة بل الخطايا السبع، فتغيرت
    ملامحها واستعارت ملامح لم تنسجم مع ملامحها الأصلية، مما أدى إلى تشويهها،
    » فلم تحتفظ بالماضي ولا استطاعت أن تدخل
    المستقبل
    « (6)، وبذلك
    بقيت ملامح خاصة تميزها عن غيرها من المدن، وأصبحت بلا هوية، شأنها شأن العنوان
    الذي عنون النص الحكائي . فالمكان - حسب هلسا - يوجد عندما نكون شهودا عليه، إذا
    ابتعد أو أدار ظهره، اختفى المكان، والذاكرة هي التي تحافظ على المكان، وافتقاد
    الذاكرة يعني افتقاد الهوية، وبالتالي الانتماء
    « (7) .


    لقد توسعت عمورية توسعا غريبا، وتغيرت تغيرا
    شاسعا، وتفككت العلاقات الاجتماعية العامة وطغى سلطان المال على المجتمع وفقدت
    القيم والمثل والمبادئ فعاليتها، وانحدرت أخلاق الناس وتلاشت الروح الإنسانية، فعم
    الظلم والفساد في ربوع المدينة . وهكذا راحت البرجوازية العربية تتشكل، وبدأت غولا
    صغيرا، ثم ما لبث أن أصبح غولا كبيرا يلتهم كل شيء، خاصة بعد أن أمسكت عمورية
    برملها فتحول إلى ذهب، فكان النفط بداية اللعنة والنهاية .



    وهذه الملامح التي تتصف بها عمورية، لا تنفرد
    بها عن بقية المدن العربية؛ لأنها تنطبق على كل المدن العربية، فالخاص منها ينطبق
    على الكل، ودراما عمورية تتسع لتشمل المدن العربية . لقد نظر منيف وجبرا إلى المدن
    العربية من خلال مدينة عمورية، وهذه المدينة لا وجود لها على الخريطة؛ لأنها رمز
    للعواصم والمدن العربية وفي هذا المعنى يذهب باشلار إلى التأكيد على أنه
    »
    كلما صغرت العالم بمهارة أكبر، امتلكته بشكل أكثر مهارة
    « (Cool، وهذا ما سعى إليه جبرا ومنيف من خلال التركيز على خصائص عمورية
    وملامحها التي تنطبق على كل المدن العربية النفطية :
    » ولكنها بهذا الوجه
    المليء بالندوب، بمقدار ما هي واحدة هي الكل أيضا ...
    « (9) .


    عمورية - تاريخيا - مدينة تعرضت لغزو الروم،
    واستنجدت بالمعتصم بالله الذي استطاع أن ينقذها من الأعداء، وعمورية في هذا النص
    الحكائي هي عمورية الروائي " علاء الدين سلوم " الذي سعى إلى إنقاذها من
    وضعها المزري بكتابة الرواية، لكنه لم يستطع أن يحقق شيئا مما صبا إليه،
    ..
    عندما صدرت روايتي الثانية، لم يرض عنها النقاد كثيرا، وقالوا إنها ملأى بالغموض
    والتناقض، وادعوا أنها لا تمثل عمورية كما يعرفونها بقدر ما تمثل محاولات مؤلفها
    خلق مدينة لا يمكن أن توجد في رقعة معلومة من
    الأرض ...
    « (10) .


    - أشكال اقتحام عمورية مجال السرد :


    قدمت مدينة عمورية متميزة بكثرة النساء، وذلك
    حين طلب " صادق الرمحي " من صديقه " علاء الدين سلوم " أن يكف
    عن علاقته المكشوفة مع " نجوى العامري " المتزوجة من " خلدون
    » عمورية مليئة بالنساء، كل امرأة تتمنى لو تكون لك زوجة أو عشيقة،
    ألا ترضيك إلا هذه المرأة
    « (11) .


    إن تقديم عمورية بهذا الشكل جاء منسجما مع بعض
    معالم محتوى هذا النص الذي تضمن قصة عشق الراوي علاء الدين سلوم لـ نجوى العامري،
    وهذا التقديم رغم أنه يمكّن متلقي النص من تصور ما قد يحصل من نتائج شأن هذه
    العلاقة اللامتكافئة في نظر الآخرين، لا يعبر عن جوهر النص تعبيرا مناسبا، ولا
    يمكن المتلقي من اختبار العالم الداخلي للمكان؛ لأن هذه العلاقة العاطفية بين علاء
    ونجوى لها وظيفة التشويق في الرواية كي يشد القارئ، ويمشي مشوارا طويلا، لكنه ليس
    الرواية كلها،
    » إن موضوع فهم
    التاريخ كما يقول منيف والنظرة إليه في هذه الرواية من أهم النواحي فيها .. ثم
    انهيار طبقة بكاملها وبداية صعود طبقة جديدة تغير المجتمع، موضوع الحريات العامة
    والمدنية ...
    « (12) .


    فجوهر النص الحقيقي ليس العلاقة العاطفية بين
    " علاء ونجوى "، لأن واقع عمورية الذي تغير تماما وشمل مختلف مستويات
    الحياة هو جوهر النص .



    لقد اشترك جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف
    في كتابة هذه الرواية المعنونة بـ " عالم بلا خرائط "، وهي تجربة فريدة
    حسب علمي في تاريخ كتابة الرواية العربية . إن نجاح هذه التجربة أو إخفاقها لا
    يهمنا في هذه الدراسة، لكن لا بد أن نؤكد على تمايز واختلاف المنظور الجمالي
    للمكان عند كل من المبدعين، وهذا التباين في الموقف يتجلى بدقة وبعمق في موقف بطل
    الكاتبين من مدينة عمورية .



    ولكي تكون الدراسة منهجية ودقيقة، ويتمكن
    المتلقي من التجاوب مع النص، ومع هذه الدراسة، آثرت أن أميز بين نظرة " علاء
    الدين منيف "، و" علاء الدين جبرا " لهذه المدينة (عمورية)
    ومنظورهما الجمالي . ذلك
    » أن الأمكنة في الواقع كالحجارة في المقلع، لا تشكل بناء جماليا إلا عندما
    يقطعها المبدع وينقشها بالحلم والرؤيا، ويكحلها بالأزمنة
    « (13) . وبما أن
    الأمكنة هي البشر، والناس هم الزمن، والحركة هي المكان والزمان، ومن هنا أردت أن أتتبع شخصية نجوى العامري
    وعلاقتها بدراما المكان من خلال منظور علاء منيف وعلاء جبرا .



    - كيف بدت عمورية في نظر علاء منيف ؟ :


    يرسم لنا " علاء منيف " عموريته في
    قوله :



    رأيت عمورية تتسع في ربع القرن الأخير اتساعا
    مذهلا، فكأنني كلما تقدمت في السن .. ازدادت المدينة طولا وعرضا وفوضى، من مئة ألف
    نسمة في أوائل العشرينات إلى نصف مليون بعد الحرب العالمية الثانية .. إلى قرابة
    ثلاثة ملايين نسمة اليوم، كأنما نحن في مرحلة من مراحل تاريخ قادم بالعجائب أو في
    نهاية مرحلة نراها تبتعد في أحشاء أفق بعيد، تحت أبصارنا
    « (14) .


    وكأن علاء هنا يصنف عمورية إلى عموريتين،
    فعمورية الأولى تمتد حتى الخمسينات تختلف عن عمورية الثانية التي جاءت بعدها؛
    الأولى كانت تعجب علاء، وكان ينعم فيها بالراحة على الرغم من أنها ضيعت أفرادها
    وأهملتهم إلى أن جعلتهم يتركونها ويهاجرونها إلى الخارج .



    »عمورية الآن غير عمورية حين تركتها قبل خمس
    وعشرين سنة وسافرت لمواصلة دراستي، ولو أن فيها من الثوابت ما يجعل تغيرها بطيئا
    صعبا، ولكن البشر فيها تغيروا بأسرع مما تغيرت الأماكن .



    كانت عمورية حين قررت ( أو قرر لي أبي ) في تلك
    الظروف أن أغادرها، على درجة كبيرة من الألفة، رغم فقرها والمصاعب الكبيرة التي
    كانت تعاني منها وتطحنها. كانت عمورية آنذاك تدرك ما تريد. وهذا ما جعلها أيامئذ
    متألقة، مصممة، وشجاعة .



    صحيح أن الفترة التي سبقت رحيلي كانت مليئة
    بالألم والمعاناة، وكانت مليئة بالصرخات المكتومة أواخر الليل، لكن تلك كانت صرخات
    الذين يحاولون شق الطريق، الذين يريدون أن يرفعوا عن صدورهم كابوسا ثقيلا منذ طوال
    عشرات السنين السابقة
    « (15) .


    إلا أن لعنة التغيير المفاجئ جثمت على صدر
    عمورية، وحولتها فجأة من حال إلى حال أخرى . لقد تغيرت عمورية، أجل تغيرت كثيرا،
    فعمورية الأولى التي كان علاء يحس فيها بالألفة والأمان قد اندثرت كالبخار وتلاشت
    لتخرج مكانها عمورية أخرى، كانت قاسية وصعبة على أفرادها، مشوشة، تملؤها الفوضى
    والغموض
    » لعلها الآن أكبر مدينة مشوهة في العالم، إنها تشبه كل المدن ولا
    تشبه أية مدينة ... عمورية قبل ثلاثين سنة كانت أجمل أو ربما كانت نظرتنا إليها أكثر براءة وبساطة، عمورية الآن
    تشبه العروس القروية التي تريد تقليد نساء المدن، ولذلك فهي تضع على وجهها كل
    المساحيق وبكميات كبيرة، وتضع على جسدها مجموعة من الخرق الملونة المتنافرة، ثم
    تتباهى باستعراضها كل هذا النشاز من الألوان . جاءت الأموال السهلة لتفسدها،
    لتشوهها، فلم تحتفظ بالماضي ولا استطاعت أن تدخل المستقبل، وظلت تستعير من الآخرين
    وتكدس، ولن يمر وقت طويل حتى تنفجر من التخمة
    « (16) .


    لقد أورد " شاخت " رأيا لميركوف يبرز
    فيه أن فقدان الاتجاه هو انهيار في الهيكل الثقافي، يحدث بصفة خاصة حينما يطرأ
    انقطاع حاد في التواصل بين الأهداف الثقافية وقدرات أفراد الجماعة .. وهذا الانقطاع
    يولد شعورا بالاغتراب والقلق (17) .



    لقد صور لنا منيف شخصيات تعاني ألم الضياع
    والغربة والخوف على ما آلت إليه عمورية، هذه المدينة النفطية الصاعدة فجأة في
    الصحراء العربية، حيث الإيقاع المتسارع، والتحول الذي يتسرب إلى البشر، فتتحول
    حياتهم جذريا، فإذا بالجميع يركضون .. لا يعرفون إلى أين ولماذا ؟



    لقد أرادت هذه المدن الطارئة أن تواكب الزمن
    المتسارع، فتخلت عن أصالتها، ولم تستطع أن تأخذ من الغرب إلا القشور، وبالتالي
    يشهد تحول المكان على دراما المدينة العربية وانعكاساتها على الشخصيات المحيطة بها
    .



    لقد كانت عمورية كالجوهرة ببريقها وعنفوانها،
    فتبدل الحب إلى كراهية، وذلك لضجيجها وفوضويتها وازدحامها وجوها الخانق، فقد
    أصبحـت مع كـل
    » ضربة فـأس مـن أرضها
    تخنق روحا وتقتل حلما
    « (18) .


    فالسارد يبرئها من المسؤولية، مسؤولية ما يحل
    بها وبالبشر، ويحمل حكامها المسؤولية لقد غارت عمورية القديمة في البحر، وقامت
    مقامها عمورية الجديدة الكبيرة الثقيلة القاسية، ولعلها باتت أكبر مدينة مشوهة في
    العالم، فما الذي جرى ؟



    إنه سرطان المدينة العربية، لقد تحول رمل
    عمورية إلى ذهب، فكثرت الأموال بطريقة عجيبة، وهذا ما أدى إلى بروز طبقة برجوازية
    عربية استولت على كل شيء . ومع صعود البرجوازية المستغلة، راحت عمورية تتغير
    وبسرعة مذهلة، وراحت المدينة تتعامل مع الزمن النفطي، سمته الكبرى : العداء،
    والتوتر، والخوف، والحقد . فلم تكف عمورية يوما واحدا عن أن تفاجئ نفسها وتفاجئ
    الآخرين، حتى غدت مكانا استثنائيا . لقد تفننت الحياة القبلة دون قدرة البديل على
    حمل هذه الحياة إلى منظور مستقبلي واضح، وهو الذي ينتج عمورية كئيبة وهشة، بلا شيء
    في عمورية ينتظر ويبقى ثابتا لا يتغير، البشر والأشياء وحتى الطبيعة بما فيها من
    ماء وهواء تتغير وتتبدل .



    لقد تحولت عمورية - بعد اكتشاف النفط - إلى
    بؤرة الأحداث الروائية، فهي ملتقى الشركات البترولية والسلطة الجشعة الحاكمة،
    والوافدون من كل مكان للاستغلال وجمع المال، وهكذا بدأت تتشكل البرجوازية وبسرعة
    مذهلة في عمورية . فالمال أو بالأحرى النفط أفسد كل جميل في عمورية؛ الأخلاق،
    الطبيعة، البشر .. لقد كانت عمورية مكانا خصبا لنمو وتطور البرجوازية العربية
    المستغلة والمتحالفة مع السلطة، فتحولت - البرجوازية - إلى غول كبير يلتهم كل شيء
    .



    عمورية الأولى - في الخمسينات - كانت أشبه
    بنجوى نفسها كما يقول حسام، لكن شيئا كالدخان أخذ يتصاعد ويشتت الحلم، شيء يجهله
    حسام، لكنه كما يبين في موضع آخر من الرواية : المال وتداخل العلاقات الشخصية
    والعائلية مع المصالح والاستثمارات الاقتصادية، وصولا إلى صراع التجار وجشع
    الطفيليين، ولن ينس
    »النفط الذي
    اكتشفه الأمريكيون وعلموا الناس الخطيئة، بل الخطايا السبع كلها
    « (20) .


    - نجوى منيف :


    لقد تبدلت عمورية كما تبدلت نجوى، بات لنجوى
    لغتها الجديدة في عالم المشاريع المالية - كما يقول منيف -
    »
    فالمكان في حالات كثيرة ليس حيزا جغرافيا فقط، فهو أيضا البشر، والبشر في زمن
    معين، وهكذا نكتشف علاقة جدلية بين عناصر متعددة، متشابكة ومتفاعلة . فالمكان
    يكتسب ملامحه من خلال البشر الذين عاشوا فيه، والبشر هم تلخيص للزمن الذي كان، وفي
    مكان محدد بالذات ...
    « (21) .


    فقد تبدلت عمورية كما تبدلـت نجـوى »
    فجأة أصبحت نجوى خبيرة في قوانين الأراضي والملكية والميراث، وتعرف أضعاف ما يعرفه
    مثقف بائس مثلي
    « (22) .


    لهذا السبب لم تعد نجوى نفسها التي تعرف عليها
    علاء أول مرة، وكما ازدادت الفجوة اتساعا بين عمورية القديمة وعمورية الحديثة،
    كذلك حصل بين علاء ونجوى، فلم يعد يلتقي بها في بيت المجنونة كما كان يفعل في
    الماضي،
    » بدت لي الحياة،
    حياتي وحياة الآخرين حولي شديدة الخواء والتفاهة، وبدت المسافة التي تفصلني عنهم
    كبيرة إلى درجة لا يمكن ردمها أو تجاوزها
    « (23) .


    لقد فقد علاء رغبة العيش في عمورية، كما فقد
    رغبتـه في الاقتـراب من نجـوى،
    »..
    ونجوى، هل فقدتها، فأستردها ؟ ربما لم أفقدها بعد، أم أنني سأسمح لها أن تنزلق من
    بين أصابعي، وحياتي لم تمتلئ بها بعد، كما سمحت لعمورية أن تنزلق ؟ آه المدينة،
    كانت المدينة هي الشيء الرائع الخارق الذي يجب أن أحتويه، أن أجعل في جزء مني بعضا
    من كل جزء منه.. هل كانت نجوى طريقي إلى المدينة، وهي مثلها أحبها وأريد محقها،
    أكرهها وأريد أن أتمرغ حتى الجنون في لحمها؟
    « (24) .


    لقد كانت نجوى في نظر علاء منيف رقيقة ولينة،
    خجولة خاصة أمام علاء، أما الآن فنجوى لم تعد كذلك بعدما تعرفت على أصلها، وأنها
    ليست ابنة محسن سليمان العامري
    الرجل الغني، ومع ذلك كانت مصرة على التمتع بميراثه الضخم، لقد تطورت شخصية
    نجوى وتحولت من المرأة البسيطة الفاتنة إلى المرأة القوية التي تتحكم بآرائها،
    وأصبحت لها لغة خاصة بها بعدما دخلت في مشاريع مالية، فأصبحت قاسية قسوة عمورية،
    وقسوة رجال الأعمال، وقسوة البرجوازية العربية الصاعدة . وهنا، وكما اتخذ علاء
    منيف موقفا من تغير عمورية، اتخذ الموقف نفسه من تغير نجوى المفاجئ، حتى إنه بدأ
    ينفر منها، ويرغب في نسيانها، كما أنها لم تعد مهتمة به كما في السابق، لكنها لم
    تنسه ضمن مشاريعها التجارية، قالت بصياح
    »
    علاء سيكون مديرا للمشروع السكني
    « (25) .


    »لم أعرف ولم أكتشف من قبل أن نجوى، نجوى التي أعرفها، تمتلك مثل هذه
    الأفكار، وينطوي جسدها الرائع، ورأسها الذي كنت أحب كثيرا أن ينام على صدري وفي
    أحضاني، على مثل هذه الأفكار
    ! أين كنت خلال هذه الفترة كلها ؟ لماذا لم أكتشف ولم أتبين ما يدور
    في هذا الرأس الجميل الغامض؟
    « (26) .


    ويضيف: » نجوى
    التي امتلأت بها إلى درجة الوله أصبحت بالنسبة لي مخلوقا جديدا
    « (27) .


    ويضيف: » كانت لطيفة، كانت اهتماماتها مختلفة، كانت
    تمزح، تضحك، لا تنظر إلى المادة والمال مثلما تفعل الآن
    « (28) .


    إنه المال أو بالأحرى النفط الذي غير المكان
    والبشر والهواء والماء وكل شيء في عمورية . لقد أمسكت عمورية بالرمل، فإذا به
    يتحول إلى ذهب، فكان التحول المرعب والمفاجئ، والذي قطع كل صلة بما كانت عمورية
    عليه، فصارت أخرى مكانها سمتها الكبرى : العداء والتوتر والجشع والاستغلال، مما
    أدى إلى تزعزع القيم والأخلاق والمبادئ وتفككت العلاقات الاجتماعية، وأصبحت سلطة
    المال هي العليا .



    و"علاء الدين سلوم" الأستاذ الجامعي
    والروائي المشهور الذي حكى النص الموسوم بـ "عالم بلا خرائط" أبقى النص
    مفتوحا يحمل سؤالا موجها إلى ذاته وإلى كل إنسان في عمورية
    »ثمة سؤال واضح على كل إنسان أن يطرحه على نفسه
    كما أطرحه على نفسي في هذه الأيام الصعبة المخيفة، والعواصف على الأبواب: أين
    مكاني من هذا كله ؟ هل سأجده ؟ هل سأكون جديرا بالمستقبل ؟
    « (29) .


    إنه سؤال الإنسان الشريف الذي لم يلوثه المال
    ولم يخربه، وبقي شاهدا على عصر ينهار، وقيم تتهاوى، وهذه النهاية المفتوحة تتميز
    بقيمة فنية؛ لأنها تدفع المتلقي أكثر فأكثر إلى العالم الداخلي للمكان، بحثا عن
    الإجابة على هذه الأسئلة التي طرحها علاء الدين .



    - عمورية جبرا إبراهيم جبرا :


    إن عمورية جبرا تختلف عن عمورية منيف، فجبرا
    ينظر إلى عمورية على
    »أنها حورية
    البحر، مشعة، زاخرة، مليئة بالعنفوان
    « (30) . وعلى الرغم من أنه هاجرها إلى الخارج، إلا أنه ظل يذكرها » كنت أتذكر شوارعها، شارعا شارعا وأتذكر
    المنعطفات والزوايا، لكن أكثر ما أتذكر الناس في عمورية، وحين تشمخ المدينة في
    ذاكرتي تعاودني الرغبة في الدفء والاقتراب من الآخرين، وينتابني حالة من الهياج
    والنزق لا أعرف إن كان عليّ خنقها أم الامتثال لها، فأحس بحاجة إلى الغناء والبكاء
    «
    (31) .



    لقد حمل علاء معه عمورية وسافر بها إلى إنجلترا
    إرضاء لطلب والده، الذي أراد أن يبعده عن " سخافات " السياسة، إلا أن حب
    علاء لعمورية كان نارا حارقة، نارا قاتلة، تعذبه وتدفعـه إلى البكـاء وطلب
    الغفـران
    » عمورية قاتلة، عمورية استطاعت أن تقتلني أو أن توقع بي إصابات لا
    حصر لها، حتى على ذلك البعد كانت معي أينما ذهبت، كانت تراقبني تنظر إليّ، وتستمع
    إلى الهمسات التي كنت أوشوش بها الفتيات اللواتي تعرفـت عليهن
    «(32) .


    إن الذكرى، مهما كانت الصفة التي تعطيها لها،
    حالة تجعل الإنسان، أي إنسان، أقرب إلى الاستسلام ومسكونا بالماضي وناسه، وبتلك
    اللحظات الجميلة الضاربة في عمق الزمن، وهذا ما يزيد من عذاب الذات، ذلك أن الزمن
    يقودها أمامه ببطء مخادع، مثيرا في نفسه الندم والمستحيل .



    فالزمن كما يقول منيف »
    ... هذا السلاح الذي نحاول بواسطته أن تقاوم، لكن هو ذاته يتسرب، يتفتت ويتلاشى،
    ولا يبقى سوى الذكرى، ذكرى الأيام التي مرت، والذكرى بمقدار ما هي حارس يحمي
    الروح، فإنها الداء الذي ينخرها، بما يخلفه من لوعة التي تزيد يوما بعد آخر .



    وإذا استبدت الذكرى بالإنسان تحضنه وتغيره،
    يصبح أسيرا لحالة لا يقوى على مقاومتها، ويصعب عليه الاستسلام لها؛ لأنها بمقدار
    ما تبدو في لحظات معينة جميلة، فإنها موجعة، وهي تحمل معها هذا الكم الكبير من الشجي على أيام كانت قد مضت إلى
    الأبد، كما تجرّ معها أشياء يفترض الإنسان أنها انتهت وأنه تجاوزها، لكن وهي تعود
    هكذا حاملة معها الأصوات والإشارات وروائح الأمكنة والأجساد والكلمات، يولد من
    جديد المجبول بالأسى والرغبة في أن تعود الأشياء كما كانت في يوم من الأيام
    « (33) .


    لقد تحولت عمورية في نظر علاء إلى قيد يصعب
    الفكاك منه، تحولت إلى حلم يقض مضجعه، يولد فيه الحنين الجارف والرغبة المعذبة في
    استعادة المكان وامتلاكه . لقد أصبح علاء يحمل معه عمورية أينما ذهب، وتحولت لندن
    إلى قبر يحاصره .



    علاء جبرا رجل مناضل مطارد من قبل الشرطة،
    أوقفته مرات عديدة لاشتراكه في مظاهرات ضد الأحلاف العسكرية، ولهذا السبب بعثه
    والده إلى لندن ليبعده عن السخافات
    »
    كان أبي أول الأمر يضحك بسخرية، ويعتبر تلك المهمات التي أقوم بها مضيعة للوقت،
    ولا بد أن أتخلى عنها حالما أكبر قليلا أو حين أقع في غرام فتاة ... لكن بدا له الأمر
    خطرا في وقت لاحق ...
    « (34) .


    وعلاء جبرا يختلف عن علاء منيف من حيث إنه يبدي حبا لعمورية،
    يحن إليها إذا غاب عنها، لم يتركها بمحض إرادته وإنما بأمر من والده، وهو في
    المهجر لا يخفي كآبته لوداع عمورية، خاصة عندما يحاصره البرد والعتمة، فتغدو الشمس
    حلما ويصبح الدفء أمنية .



    »العيش في المدن في المدن الباردة المعتمة يولد
    في النفس رغبة غير محدودة في إقامة توازن من نوع ما مع الطبيعة، توازن يواجه
    البرودة والعتمة، إذ ما كنت أفتقد عمورية، أو ما كادت عمورية تبتعد، حتى داهمتني
    البرودة والعتمة، بدت لي الشمس حلما، وأصبح الدف أمنية ...
    « (35) .


    إن هذا العشق الصوفي بين علاء جبرا وعموريته
    يجعلنا نميل إلى التأكيد بأن عمورية ما هي إلا فلسطين الضائعة، فلسطين الحلم
    والجرح.



    - نجوى جبرا :


    كانت نجوى جبرا تسيطر على علاء سيطرة مطلقة،
    وذلك لجمالها الذي يثير غرائز الموتى وأنوثتها التي لا تقاوم، حتى ذكرياتها لم تكن
    تفارقه .



    »..
    أما إذا نظرت بتلك الطريقة التي نظرت بها أول مرة، فيجب أن أفعل شيئا مجنونا كان
    شيء ينفجر، يتمطى كشيطان، يمد لي لسانا ساخرا، إذا وجدني ساكنا، ودون انتظار
    انقذفت كالسهم أحارب، ولشد ما حاربت وخسرت، حتى الخسارة كانت لذيذة معها، كنت
    أقامر بكل شيء من أجل أن ترضى، أن تضيء عيناها، خسارتي هي الشيء الوحيد الذي كان
    يرضيها ... وأخسر ... وأخسر، لا لم أخسر مرة واحدة، كنت الرابح دون توقف، يدها وهي
    تشتعل حول عنقي، صدرها وهو يخنق بذلك الترقيم العجيب، بشرتها البيضاء المزروعة في
    ذاكرتي إلى الأبد
    « (36) .


    إن هذا الوصف الباهر يدفعنا إلى التساؤل: أي
    نوع من النساء تكون نجوى هذه ؟ هل هي ملاك ساحر ؟ جبار تحارب بجسدها وبنظراتها،
    حتى الخسارة معها هي الربح الوحيد، لقد سيطرت نجوى على عقل وقلب علاء، وجعلته
    أسيرها الأبدي، لا يقتنع إلا برضاها، ولا يحس بالوجود إلا إذا احتوته وذاب في
    كيانها . نجوى لا يمكن أن تكون عند علاء جبرا إلا صورة لفلسطين القوية الصامدة.



    »
    إذا كان لها أن تموت، فهي قد ماتت، وإذا كان لي أن أكون القاتل، فأنا كنت القاتل
    ... كان كل شيء يجري، وكأنه قد خطط له منذ زمن بعيد، وها هو الآن ينفذ بشراسة، نعم
    بحماقة، نعم . ولكن برضا أيضا ... أنا لم أفهمها قط منذ يوم عرفتها . كنت أتصور
    أنني أفهم ما تقول وما تبغي، وما تفعل، وأنا في دخيلتي أعلم أنني أكذب على نفسي
    وأكذب عليها، أو أنني لم أكذب عليها، وإنما رضيت، وتمتعت، بأن أتفق مع هواها . ربما
    هي التي كانت تكذب على نفسها، وتكذب علي، دون أن تدري، أو ربما كنا كلانا صادقين -
    صادقين حتى الموت
    « (37) .


    لقد اعترف علاء بأنه من قتل نجوى، وفي اعترافه
    بقتلها نفي للقتل بالمعنى المباشر، بمعنى أنه أطلق الرصاص عليها، وإنما أنه قتلها
    لأنه منحها حبا مقدسا سممها به فماتت، نجوى جبرا هي فلسطين، وقد جعلها الكاتب قوية
    لأن فلسطين قوية رغم المؤامرات المحاكة حولها؛ إلا أنها ظلت شامخة . وكما انتصرت
    نجوى التي أرادت أن تحيا لتعيش حرة، فماتت حرة فهي التي اختارت أن تموت بهذه
    الطريقة ما دامت قد اختارت سلوكها وطريقها وحتى موت نجوى انتصار لها ولحريتها؛
    لأنها ماتت وهي تنعم بآخر إحساسها باللذة بين أحضان حبيبها علاء . لقد غدت فلسطين
    حلما في قلب كل إنسان عربي شريف، حلما لا يمكن أن يموت .






    الإحالات والمراجع :





    1 - عبد الرحمن منيف، سيرة مدينة، المؤسسة العربية للدراسات
    والنشر، ط 1، 1994، ص 253 .



    2
    - عبد الرحمن منيف، حوار أجرته معه سلوى النعيمي، مجلة الجديد، عدد 12، 1996، ص 10
    .



    3
    - عبد الرحمن منيف، بين الثقافة والسياسة، المركز الثقافي العربي، ط 1، 1998، ص
    176.



    4
    - المصدر نفسه، ص 176 - 177 .



    5
    - المصدر نفسه، ص 230 .



    6
    - جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، عالم بلا خرائط، المؤسسة العربية للدراسات
    والنشر، ط 2، 1992، ص 84 .



    7
    - انظر شاكر النابلسي، جماليات المكان في الرواية العربية، المؤسسة العربية
    للدراسات والنشر، ط 1، 1994، ص 161 .



    8
    - غاستون باشلار، جماليات المكان، ترجمة غالب هلسا، ط 2، 1984، ص 145 – 146.



    9
    - جبرا إبراهيم جبرا وعبد الرحمن منيف، عالم بلا خرائط، ص 82 .



    10
    - المصدر نفسه، ص 29 .



    11
    - المصدر نفسه، ص 17 .



    12 - عبد الرحمن منيف، الكاتب والمنفى (هموم وآفاق الرواية
    العربية) تقديم محمد دكروب دار الفكر الجديد، بيروت، ط 1، 1992، ص 171 .



    13
    - شاكر النابلسي، جماليات المكان في الرواية العربية، ص 59 .



    14
    - الرواية، ص 79 .



    15
    - المصدر نفسه، ص 82 .



    16
    - المصدر نفسه، ص 83 - 84 .



    17
    - ريتشارد شاخت، الاغتراب، ترجمة يوسف حسين، منشورات المؤسسة العربية للدراسات
    والنشر، ط 1، 1980، ص 133 .



    18
    - الرواية، ص 95 .



    19
    - المصدر نفسه، ص 93 .



    20
    - المصدر نفسه، ص 81 .



    21
    - عبد الرحمن منيف، سيرة مدينة، ص 5 .



    22
    - الرواية، ص 310 .



    23
    - المصدر نفسه، ص 312 .



    24
    - المصدر نفسه، ص 326 .



    25
    - المصدر نفسه، ص 311 .



    26
    - المصدر نفسه، ص 311 .



    27
    - المصدر نفسه، ص 311 .



    28
    - المصدر نفسه، ص 354 .



    29
    - المصدر نفسه، ص 383 .



    30
    - المصدر نفسه، ص 85 .



    31
    - المصدر نفسه، ص 85 .



    32
    - المصدر نفسه، ص 86 .



    33
    - عبد الرحمن منيف، سيرة مدينة، ص8- 7 .



    34
    - المصدر نفسه، ص 85 .



    35
    - المصدر نفسه، ص 87 .



    36
    - المصدر نفسه، ص 15 .



    37
    - المصدر نفسه، ص 12 .















    <table width="100%" cellpadding="0" cellspacing="0">
    <tr>
    <td>


    نصوص مترجمة


    </td>
    </tr>
    </table>

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 9:40 am