ر
من طرف أمكنة في 18/3/2011, 6:49 pm
جماليات ميثيولوجيا الصحراء في رواية«نزيف الحجر» لإبراهيم الكوني
فإذا
كانت تجربة الكوني الروائية ، في امتدادها ، تجسد هذه الصورة الكتابية
المميزة فإن رواية "نزيف الحجر" تمثل النموذج الساطع في استقصاء تفاصيل
عالم الصحراء وميثيولوجيا الطوارق ومخيلتها ، حيث تتأسس بتألق فريد على
التشكيل الغرائبي لفضاء روائي يمظهر النضج الفني والرؤيوي اللذين طرأا على
اللغة الواقعية للرواية الحديثة ، وذلك بقصد البناء الفني لعوالم
الميثولوجية الصحراوية التي يعيد الكوني صوغها بوحي خبرته الثقافية في
اكتشاف روحية إنسان الصحراء ، واستشراق عوالمه الذاتية ، وسبر فيض قلقه
البدائي الفطري. لقد اجتهد الكوني في إبداع كتابة روائية تتفرد بمناهجها
الجديدة وصوغ أحلام كائنها الذي أسقط عصريته وحضارته على ماضيه بحثاً عن
أجنحة وجودية تنقذه من اغترابه ، وقلقه الحضاريين ، وذلك من خلال الالتحام
بتاريخه البيئي ، وحكيه الفطري الذي يحلّق به إلى عوالم سحرية تجيره من
خرابه الداخلي ، وتصير هذه العوالم التي تتصل بمدارات السريالية "موضوعات
قريبة في غرابتها من عوالم الحلم وما يخرج عن العالم المألوف من رموز
وأشكال هذه الغرائبية جزء أساسي من دلالات الواقعية السحرية كما شاعت في
الأدب ، خاصة القصة ، غير أنها تنضاف هنا وبصورة أساسية ، أيضاً ، إلى
تفاصيل الواقع ، إذ يرسم القاص تفاصيله رسما موغلاً في البساطة والألفة ،
ما يزيد حدة الاصطدام بالغريب والمستحيل". ويتجلى هذا التوجه في "نزيف
الحجر" من خلال أسطره تفاصيل الوجود الخرافي لعالم الصحراء ، واجتراح السرد
الخاص به عبر بناء الغرائبية المصادمة للمألوف والناجز ، لتحلّق بأجنحة
حلمية تناغم بين الخيال البدائي وتداعياته الأسطورية في انسجام فريد يرتقي
به الكوني إلى أفق روائي ينتج عوالم غرائبية بكر تشرق لغتها البنائية
بحمولات رمزية منفتحة على فضاءات تضيئها أنوار لغة عوالم الطبيعة الصحراوية
، وكائناتها التي تكتسب عبر التكوين الروائي فضاء داهشاً: "الغزال أكثر
الحيوانات حساسية ويقظة في الصحراء ، يشم رائحة الأنس من أبعد مسافة ولا
يقع تحت طائلة البصر إلا مباغتة في عتمة الفجر أو في الأيام التي يموت فيا
الهواء وتسكن فيها الرياح ، تماماً... الغزال يصبر ويصبر ، ويصبر على
البلاء ، أخلاقه في العدو لا تقارن بأي حيوان هارب ، لا يلجأ إلى المناطق
الجبلية الوعرة كما يفعل الودان ، لا يداور ، ولا يناور في طريق السباق ،
وإنما يمضي ، في خط مستقيم ، عبر العراء السمح ، معتقدا أن الإخلال بقواعد
السباق يخالف النبل ويجلب العار: يختار البطولة على الخبث و المداورة ،
يرفض الحيلة والخديعة ويفضل الالتزام بأسلوب الفرسان". هكذا يتألق السرد
بوميض روحي يفتح مصاريع خارطة الإدهاش في الهامش الرعوي ويبعث فيه أطياف
الميتافيزيقية التي تكشف عن شعاب الأسئلة الفلسفية الوجودية العميقة ، حيث
تتسع في البناء الروائي تخيلاً باتساع الصحراء اللانهائية للتعبير عن
الانفعال الإنساني ، ورصد تفاعله مع المجهول الوجودي ، وغموض أسئلته التي
أصبحت مطية تكوين بطل الرواية في عشق أنسنة التشيؤ ، وبناء خلاص الوجود
ميتافيزيقياً ، وثمة شهوة للتخلص من غموض الكينونة الجاهزة ، وذلك من خلال
العبور إلى التكوين والتفصيل بدافع استدراج دلالة المعنى المصيري للفعل
الإنساني في الوجود التاريخي والراهن معاً ، وتعامله الوسائلي مع هذه
الهيولى الكونية التي تتبادل صورتها من قاع النفس إلى لانهائية الصحراء
وكائناتها ، إذ لم تكن تلك الخرافة الطوارقية الصحراوية إلا مدار المعنى
لاستعادة الخريطة التاريخية لمعنى الإنسان الذي يسعى إبراهيم الكوني إلى
استنهاضه بطرائقه المتعددة والمبدعة ، بما يوافق تركيبته الثقافية دافعاً
الرواية إلى مدارات عليا تحكي حركية الوجود ، وعلاقته التاريخية بالحضارة
من خلال تأمله الروائي لحالة العالم الصحراوي ، وتجلياته اللازمنية ، حيث
الحياة تتأسس في سواها مكسّرة حدود البدائية للبؤر التكوينية الوجودية التي
تمارس جملة أفعال متعددة ومتنوعة للخروج الحر من السبات الزمني والصوري
لثنائية الحلم والواقع وأثرهما في التشكيل الإنساني. ويتوارى الكوني عبر
سرده في جسد الصحراء ليكشف لنا عن رؤاه ومسلكيته الفكرية والحياتية بواسطة
التاريخي الذي يدفعه من خلال التأمل للالتقاء بذاته خارج الضجيج الحياتي
الراهن المصدئ للإنسان ، فيغترب به عن نفسه فلا يلتقي بها إلا بواسطة
الماضي ، وتلك مأساة العتمة الوجودية للاغتراب الإنساني التي ينبش إبراهيم
الكوني في ظلالها عن مجرى الأفق الروحي ، ويستحضر ذاته ـ من خلال تشيؤ
تفاصيل منسية مرمية على قارعة الوجود ـ ببعد يتسع ويتسع باتساع عالم
الصحراء الغامض وهكذا تتصل الرواية عبر ذاكرتها الغرائبية بمعالجة التجربة
الشعورية التي تصوغ الإنسان بأصابعها الهلامية ، وتفتعل له صوراً تخضعه
للواقع موسعة المسافة بينه وبين ذاته في اغتراب يخترقه ، فيزخرفه حضارياً ،
لكنه يحيل هذا النص إلى المفارقة الوجودية من خلال رصد مشهد التقاء فريد
بين البدائي والحضاري ، لكن المثير في الأمر أن اللقاء يتحوّل إلى صدام
يغذيه أفق فلسفي يكشف عن هوة سحيقة تبعد الإنسان عن تاريخه ، فيموت الزمن
روائياً ليصادم كائناتها المتفارقة في تكويناتها الفكرية والإثنية
والتاريخية والاجتماعية ، وذلك من خلال مشاركة الطبيعة التي تسهم في خلق
فعل روائي يستدرج كوناً طقوسياً يربط فعل الإنسان بمؤسس مثيولوجي. وهكذا
ينشئ الكوني الغرابة الروائية التي غالباً ما تستوي مخيلة أسطورية توقّعها
الصحراء التي تلتقي في السياق الروائي مع مفهوم ما بعد التاريخ حيث هي
المحطة الوجودية الأخيرة للإنسان: "الصحراء كنز مكافئ لمن أراد النجاح من
استعباد العبد وأذى العباد فيها الهناء ، فيها المراد". هكذا يطرح إبراهيم
الكوني أسئلته الفلسفية للوجود وهي أسئلة تتبوأ حافة رهيبة من القلق ، إذا
تتجاذبها تفسيرات تتراوح بين الإدانة ، والإشادة ، أما الإدانة فتنشأ من
توجس الفهم الانعزالي للحنين البدائي للمشاعية ، وأما الإشادة فتتمظهر في
تفسير أفق هذه الفلسفة بالخلق الإبداعي المتفرد للسياق الروائي الذي يفسح
المجال لصراع الثنائيات الوجودية ، واستكشاف دراما سيرورتها من داخلها ،
وهذا ما يجعلها نهجاً حيوياً لتحرير جوهر الوجود وتجلياته الأصيلة ، من دون
تزييف أدبي قاصر تفرضه الإبداعية الإيديولوجية المسيسة التي تعمل
بالمواراة على تدليس الاستبصار الفذ لماهية سيرورة الوجود بتلبسه بالإنشاء
السياسي الديماغوجي الخارج عن روح الأدب ، فإذا أعلينا الفهم الأول مؤكدين
على المعنى التحريري لماهية الوجود فإن ذلك يقوى عند التوظيف الإبداعي
الفريد للأفق الأسطوري للسرد الذي يتمظهر في سياق الرواية قالباً يصب فيه
عالمه الروائي بقدر ما يبني العالم الروائي ، أي إن الروائية تتأسطر ببناها
الصورية والمادية عبر التحليق بأجنحة السحرية وفضاء طقوسيتها المثيولوجية:
"لم يتبين شيئاً في العتمة ، جسم يتحرك يجره من فم الهواية... الجني الذي
أنقذ حياته ما زال يخطو في العراء المغطى بالأحجار. ببطء وصمت وهدوء رأى
ملامح ، يا ربي ، إنه الودان... نفس الودان ضحية جلاده من منهما الضحية.
ومن منهما الجلاد من منهما الإنسان". هكذا تتلا قح الأساطير المثيولوجية
التراثية والوراثية والفنية ، ما يجعل الأسطرة تثقيفاً فنياً روائياً ، إذ
تستحضر الشرفة الأسطورية في الفضاء الروائي لـ"نزيف الحجر" مع العتبة
الأسطورية الأزلية للوجود أسطورة الصراع الأول (قابيل وهابيل) ، وتتلاقى
هاتان الأسطورتان في البنية العميقة للتكوين الروائي في تشكيل سلطان إبداعي
مخترق لنرجسه الفنتازي ، لأنه يحوّل الأسطورة ـ في متنه ـ إلى ثقافة فنية
للرواية ، وهي قنديل لإضاءة مفاتن الروح الروائية لا تضاريس جسده ، بمعنى
آخر: إن التمثيل الأسطوري للرواية ليس مجرد محاكاة تزيينية لها ، أي: إن
"البعد الأسطوري الضمني في الرواية ليس وسيلة للزخرفة والتزيين على الإطلاق
، إنما تحض على الإحاطة بهذا الوضع وعلى البحث عن وسائل وأساليب كفيلة
بتحريرهم من براثن جملة الأدوار النمطية الموروثة والمفهومات الفكرية التي
عفّى عليها الزمن" ، وهذا ما يجسده قابيل الذي ينبعث في نزيف الحجر مصارعاً
أفقه الثبوتي الأسطوري "ولكن قابيل لا يفكر كثيراً في الإخلال بقوانين
الطبيعة ، ما يهمه هو أن يصطاد أكبر عدد ممكن من الغزلان ليطفئ لهيب أسنانه
ويسكت جوفه ويبيع الباقي لضابط المعسكر الأمريكي". إن السياق الروائي في
"نزيف الحجر" لا يتجمّد في صورة زمنه المثيولوجية أو البيئية ليبني أسطورته
بموازاة التراث ، "إنما يصطنع الكوني أساطيره الفنية الخاصة ويطلقها في
ذلك المدى المحدود بطموحاته النزقة ، أحياناً ، وبمكوناته المتناثرة ،
أحياناً أخرى ، وفي مقدمتها الإنسان والحيوان. وشيئاً فشيئاً يجد القارئ
نفسه وسط أمواج الرمال وقد تناثرت حوله الحكايات ، حكايات تنبثق فجأة أمامه
وتنطفئ فجأة ، أيضاً ، وهي تومض بإيماءات متنوعة" ، وإن أسطورة قابيل تبني
سياقها في "نزيف الحجر" بتحويل بناء الصراع الأخوي الإنساني إلى انتهاك
بناء الأخوة بين الحيوان والإنسان في المجتمع الطوارقي الذي يتأسس تراثه
على قوانين تحريم قتل الحيوان وسرمدة القاتل باللعنة والإثم السابع الذي
يفتن قابيل في "نزيف الحجر: "أنت ، يا قابيل ، تأكل الغلة وتسب الملة
والصحراء لم تطهرك لأنك لم تعشقها". وتستدرج الرواية العادي والمألوف في
المجتمع الطوارقي إلى بؤرة أسطورية روائية ، كون الخصوصية المجتمعية تستند
في بنيتها إلى عالم غرائبي أسطوري ، وتسهم الخصوصية المجتمعية القائمة على
نسق غرائبي أسطوري في بناء وهم التكوين الروائي الفنتازي ، بينما الحقيقة
أن الرواية تمتح العوالم لهذا المجتمع من خلال فنية تخلط بين الأسطوري
التخيلي والواقعي الذي تنتظمه جملة تقاليد مشابكة للبنية الأسطورية. لقد
تجلت رواية "نزيف الحجر" لوحة فنية يتجاذبها السحري والتاريخي فعرضت
"جانباً من تصورات الطوارق الذين يعتقدون في أخوة الإنسان مع العالم
الحيواني المحيط به ، ومن ثم حرّمت نواميس كتابهم القديم قتل الحيوان ، ومن
خالف ذلك نزلت به اللعنة وانتهى إلى مصير مأساوي. إن أبا البطل قابيل قتل
الودّان فلقي مصرعه لأنه خان العهد ، والعهد ذاته نكثه قابيل بقتله الحيوان
ـ وهو غزاله الذي تآخى معه بالرضاعة ـ فعوقب ، أيضاً ، بالجنون". وتتمركز
هذه الرواية على إعادة البناء الروائي إلى ثقافة وحياة بيئة خاصة تمسّ
الأسطورة في تجلياتها العليا التي تعكس فضاء روائياً بكراً يتوهج بإشراقاته
الداهشة التي تسمو به إلى بهاء إبداعي متفرد تمنحه هوية فنية مميزة ارتقت
به إلى مصاف الأدب العالمي.
- </li>
- 1
من طرف أمكنة في 18/3/2011, 6:49 pm
جماليات ميثيولوجيا الصحراء في رواية«نزيف الحجر» لإبراهيم الكوني
د. خالد زغريت
تخطّت
تجربة إبراهيم الكوني الروائية في تفردها الإبداعي خريطة استقبال ناطقي
العربية إلى ناطقي كبرى اللغات الحية ، ولم يقف حدود هذا الاستقبال عند
ترجمة أعماله الإبداعية ، بل تجاوزتها إلى الدراسات النقدية والأكاديمية
المتعددة في أوسع اللغات (الإنكليزية ـ الفرنسية - الألمانية - الروسية -
البولونية). لا شك في أن هذه العناية الداهشة بتجربة الكوني تدلّ على رحابة
تفرّد إبداعي وفني في الرواية العربية اجترحها الكوني لروايته ، لذلك اتفق
الدارسون ، عرباً وأجانب ، على تفرد شامخ في كتابة إبراهيم الكوني
الروائية ، التي تجسّدت من خلال خيار فني وإبداعي تجلى بسرد "مغامرته
وتوغله بعيداً في عمق الصحراء مستثمراً شذرات من تاريخ الطوارق ، الذي تحول
في سرده إلى عالم قائم بذاته ، يغاير عالماً كتابياً له ميزاته المغايرة ،
فالدهشة التي تولدها نصوص الكوني الأغلب إضاءة معتمة بالنسبة لنا مضاءة
لأهلها" ، وكما يرى روجر ألن "أن الكوني قدم إضافة بارزة إلى الاتجاه الذي
يصبح فيه التوسل بتراث الماضي إبداعياً بارزاً أماً صيغة الحاضر فيتوسل بها
باستمرار في تلك اللحظات التي يكون فيها الإنشاء مرجعها في أكثر لحظات
خرافية أسطورة ، حيث يسجل الراوي شعوراً بما هو مألوف ، ومتوقع ، وبما
ينسجم مع الطبيعة". وبرع الكوني في استثمار هذا الأفق الغرائبي لبناء فضاء
روائي سحري ماتع ، فحقق فيه هوية سردية متفردة أممت له خصوصية عالمية في
الرواية الحديثة صورة ومادة وسرداً ، وروائية تبدع غرائبيتها من يئتها التي
تغذّت على خرافة شعبية محلية ، ولم يقتصر جمال هذه الغرائبية على استعادة
نمط مثيولوجي ، أو حياتي بيئي وحسب ، بل من براعته في النفاذ إلى عوالم
إنسانية عجائبية منحتها بيئتها هذه الخصوصية الإبداعية ، "فالكوني لا
يستلهم مكونات بيئة الصحراء ، فحسب ، إنما ـ وربما هذا هو الأهم ـ يميط
اللثام عن بشرية احتجبت دائماً وراء اللثام".
تجربة إبراهيم الكوني الروائية في تفردها الإبداعي خريطة استقبال ناطقي
العربية إلى ناطقي كبرى اللغات الحية ، ولم يقف حدود هذا الاستقبال عند
ترجمة أعماله الإبداعية ، بل تجاوزتها إلى الدراسات النقدية والأكاديمية
المتعددة في أوسع اللغات (الإنكليزية ـ الفرنسية - الألمانية - الروسية -
البولونية). لا شك في أن هذه العناية الداهشة بتجربة الكوني تدلّ على رحابة
تفرّد إبداعي وفني في الرواية العربية اجترحها الكوني لروايته ، لذلك اتفق
الدارسون ، عرباً وأجانب ، على تفرد شامخ في كتابة إبراهيم الكوني
الروائية ، التي تجسّدت من خلال خيار فني وإبداعي تجلى بسرد "مغامرته
وتوغله بعيداً في عمق الصحراء مستثمراً شذرات من تاريخ الطوارق ، الذي تحول
في سرده إلى عالم قائم بذاته ، يغاير عالماً كتابياً له ميزاته المغايرة ،
فالدهشة التي تولدها نصوص الكوني الأغلب إضاءة معتمة بالنسبة لنا مضاءة
لأهلها" ، وكما يرى روجر ألن "أن الكوني قدم إضافة بارزة إلى الاتجاه الذي
يصبح فيه التوسل بتراث الماضي إبداعياً بارزاً أماً صيغة الحاضر فيتوسل بها
باستمرار في تلك اللحظات التي يكون فيها الإنشاء مرجعها في أكثر لحظات
خرافية أسطورة ، حيث يسجل الراوي شعوراً بما هو مألوف ، ومتوقع ، وبما
ينسجم مع الطبيعة". وبرع الكوني في استثمار هذا الأفق الغرائبي لبناء فضاء
روائي سحري ماتع ، فحقق فيه هوية سردية متفردة أممت له خصوصية عالمية في
الرواية الحديثة صورة ومادة وسرداً ، وروائية تبدع غرائبيتها من يئتها التي
تغذّت على خرافة شعبية محلية ، ولم يقتصر جمال هذه الغرائبية على استعادة
نمط مثيولوجي ، أو حياتي بيئي وحسب ، بل من براعته في النفاذ إلى عوالم
إنسانية عجائبية منحتها بيئتها هذه الخصوصية الإبداعية ، "فالكوني لا
يستلهم مكونات بيئة الصحراء ، فحسب ، إنما ـ وربما هذا هو الأهم ـ يميط
اللثام عن بشرية احتجبت دائماً وراء اللثام".
فإذا
كانت تجربة الكوني الروائية ، في امتدادها ، تجسد هذه الصورة الكتابية
المميزة فإن رواية "نزيف الحجر" تمثل النموذج الساطع في استقصاء تفاصيل
عالم الصحراء وميثيولوجيا الطوارق ومخيلتها ، حيث تتأسس بتألق فريد على
التشكيل الغرائبي لفضاء روائي يمظهر النضج الفني والرؤيوي اللذين طرأا على
اللغة الواقعية للرواية الحديثة ، وذلك بقصد البناء الفني لعوالم
الميثولوجية الصحراوية التي يعيد الكوني صوغها بوحي خبرته الثقافية في
اكتشاف روحية إنسان الصحراء ، واستشراق عوالمه الذاتية ، وسبر فيض قلقه
البدائي الفطري. لقد اجتهد الكوني في إبداع كتابة روائية تتفرد بمناهجها
الجديدة وصوغ أحلام كائنها الذي أسقط عصريته وحضارته على ماضيه بحثاً عن
أجنحة وجودية تنقذه من اغترابه ، وقلقه الحضاريين ، وذلك من خلال الالتحام
بتاريخه البيئي ، وحكيه الفطري الذي يحلّق به إلى عوالم سحرية تجيره من
خرابه الداخلي ، وتصير هذه العوالم التي تتصل بمدارات السريالية "موضوعات
قريبة في غرابتها من عوالم الحلم وما يخرج عن العالم المألوف من رموز
وأشكال هذه الغرائبية جزء أساسي من دلالات الواقعية السحرية كما شاعت في
الأدب ، خاصة القصة ، غير أنها تنضاف هنا وبصورة أساسية ، أيضاً ، إلى
تفاصيل الواقع ، إذ يرسم القاص تفاصيله رسما موغلاً في البساطة والألفة ،
ما يزيد حدة الاصطدام بالغريب والمستحيل". ويتجلى هذا التوجه في "نزيف
الحجر" من خلال أسطره تفاصيل الوجود الخرافي لعالم الصحراء ، واجتراح السرد
الخاص به عبر بناء الغرائبية المصادمة للمألوف والناجز ، لتحلّق بأجنحة
حلمية تناغم بين الخيال البدائي وتداعياته الأسطورية في انسجام فريد يرتقي
به الكوني إلى أفق روائي ينتج عوالم غرائبية بكر تشرق لغتها البنائية
بحمولات رمزية منفتحة على فضاءات تضيئها أنوار لغة عوالم الطبيعة الصحراوية
، وكائناتها التي تكتسب عبر التكوين الروائي فضاء داهشاً: "الغزال أكثر
الحيوانات حساسية ويقظة في الصحراء ، يشم رائحة الأنس من أبعد مسافة ولا
يقع تحت طائلة البصر إلا مباغتة في عتمة الفجر أو في الأيام التي يموت فيا
الهواء وتسكن فيها الرياح ، تماماً... الغزال يصبر ويصبر ، ويصبر على
البلاء ، أخلاقه في العدو لا تقارن بأي حيوان هارب ، لا يلجأ إلى المناطق
الجبلية الوعرة كما يفعل الودان ، لا يداور ، ولا يناور في طريق السباق ،
وإنما يمضي ، في خط مستقيم ، عبر العراء السمح ، معتقدا أن الإخلال بقواعد
السباق يخالف النبل ويجلب العار: يختار البطولة على الخبث و المداورة ،
يرفض الحيلة والخديعة ويفضل الالتزام بأسلوب الفرسان". هكذا يتألق السرد
بوميض روحي يفتح مصاريع خارطة الإدهاش في الهامش الرعوي ويبعث فيه أطياف
الميتافيزيقية التي تكشف عن شعاب الأسئلة الفلسفية الوجودية العميقة ، حيث
تتسع في البناء الروائي تخيلاً باتساع الصحراء اللانهائية للتعبير عن
الانفعال الإنساني ، ورصد تفاعله مع المجهول الوجودي ، وغموض أسئلته التي
أصبحت مطية تكوين بطل الرواية في عشق أنسنة التشيؤ ، وبناء خلاص الوجود
ميتافيزيقياً ، وثمة شهوة للتخلص من غموض الكينونة الجاهزة ، وذلك من خلال
العبور إلى التكوين والتفصيل بدافع استدراج دلالة المعنى المصيري للفعل
الإنساني في الوجود التاريخي والراهن معاً ، وتعامله الوسائلي مع هذه
الهيولى الكونية التي تتبادل صورتها من قاع النفس إلى لانهائية الصحراء
وكائناتها ، إذ لم تكن تلك الخرافة الطوارقية الصحراوية إلا مدار المعنى
لاستعادة الخريطة التاريخية لمعنى الإنسان الذي يسعى إبراهيم الكوني إلى
استنهاضه بطرائقه المتعددة والمبدعة ، بما يوافق تركيبته الثقافية دافعاً
الرواية إلى مدارات عليا تحكي حركية الوجود ، وعلاقته التاريخية بالحضارة
من خلال تأمله الروائي لحالة العالم الصحراوي ، وتجلياته اللازمنية ، حيث
الحياة تتأسس في سواها مكسّرة حدود البدائية للبؤر التكوينية الوجودية التي
تمارس جملة أفعال متعددة ومتنوعة للخروج الحر من السبات الزمني والصوري
لثنائية الحلم والواقع وأثرهما في التشكيل الإنساني. ويتوارى الكوني عبر
سرده في جسد الصحراء ليكشف لنا عن رؤاه ومسلكيته الفكرية والحياتية بواسطة
التاريخي الذي يدفعه من خلال التأمل للالتقاء بذاته خارج الضجيج الحياتي
الراهن المصدئ للإنسان ، فيغترب به عن نفسه فلا يلتقي بها إلا بواسطة
الماضي ، وتلك مأساة العتمة الوجودية للاغتراب الإنساني التي ينبش إبراهيم
الكوني في ظلالها عن مجرى الأفق الروحي ، ويستحضر ذاته ـ من خلال تشيؤ
تفاصيل منسية مرمية على قارعة الوجود ـ ببعد يتسع ويتسع باتساع عالم
الصحراء الغامض وهكذا تتصل الرواية عبر ذاكرتها الغرائبية بمعالجة التجربة
الشعورية التي تصوغ الإنسان بأصابعها الهلامية ، وتفتعل له صوراً تخضعه
للواقع موسعة المسافة بينه وبين ذاته في اغتراب يخترقه ، فيزخرفه حضارياً ،
لكنه يحيل هذا النص إلى المفارقة الوجودية من خلال رصد مشهد التقاء فريد
بين البدائي والحضاري ، لكن المثير في الأمر أن اللقاء يتحوّل إلى صدام
يغذيه أفق فلسفي يكشف عن هوة سحيقة تبعد الإنسان عن تاريخه ، فيموت الزمن
روائياً ليصادم كائناتها المتفارقة في تكويناتها الفكرية والإثنية
والتاريخية والاجتماعية ، وذلك من خلال مشاركة الطبيعة التي تسهم في خلق
فعل روائي يستدرج كوناً طقوسياً يربط فعل الإنسان بمؤسس مثيولوجي. وهكذا
ينشئ الكوني الغرابة الروائية التي غالباً ما تستوي مخيلة أسطورية توقّعها
الصحراء التي تلتقي في السياق الروائي مع مفهوم ما بعد التاريخ حيث هي
المحطة الوجودية الأخيرة للإنسان: "الصحراء كنز مكافئ لمن أراد النجاح من
استعباد العبد وأذى العباد فيها الهناء ، فيها المراد". هكذا يطرح إبراهيم
الكوني أسئلته الفلسفية للوجود وهي أسئلة تتبوأ حافة رهيبة من القلق ، إذا
تتجاذبها تفسيرات تتراوح بين الإدانة ، والإشادة ، أما الإدانة فتنشأ من
توجس الفهم الانعزالي للحنين البدائي للمشاعية ، وأما الإشادة فتتمظهر في
تفسير أفق هذه الفلسفة بالخلق الإبداعي المتفرد للسياق الروائي الذي يفسح
المجال لصراع الثنائيات الوجودية ، واستكشاف دراما سيرورتها من داخلها ،
وهذا ما يجعلها نهجاً حيوياً لتحرير جوهر الوجود وتجلياته الأصيلة ، من دون
تزييف أدبي قاصر تفرضه الإبداعية الإيديولوجية المسيسة التي تعمل
بالمواراة على تدليس الاستبصار الفذ لماهية سيرورة الوجود بتلبسه بالإنشاء
السياسي الديماغوجي الخارج عن روح الأدب ، فإذا أعلينا الفهم الأول مؤكدين
على المعنى التحريري لماهية الوجود فإن ذلك يقوى عند التوظيف الإبداعي
الفريد للأفق الأسطوري للسرد الذي يتمظهر في سياق الرواية قالباً يصب فيه
عالمه الروائي بقدر ما يبني العالم الروائي ، أي إن الروائية تتأسطر ببناها
الصورية والمادية عبر التحليق بأجنحة السحرية وفضاء طقوسيتها المثيولوجية:
"لم يتبين شيئاً في العتمة ، جسم يتحرك يجره من فم الهواية... الجني الذي
أنقذ حياته ما زال يخطو في العراء المغطى بالأحجار. ببطء وصمت وهدوء رأى
ملامح ، يا ربي ، إنه الودان... نفس الودان ضحية جلاده من منهما الضحية.
ومن منهما الجلاد من منهما الإنسان". هكذا تتلا قح الأساطير المثيولوجية
التراثية والوراثية والفنية ، ما يجعل الأسطرة تثقيفاً فنياً روائياً ، إذ
تستحضر الشرفة الأسطورية في الفضاء الروائي لـ"نزيف الحجر" مع العتبة
الأسطورية الأزلية للوجود أسطورة الصراع الأول (قابيل وهابيل) ، وتتلاقى
هاتان الأسطورتان في البنية العميقة للتكوين الروائي في تشكيل سلطان إبداعي
مخترق لنرجسه الفنتازي ، لأنه يحوّل الأسطورة ـ في متنه ـ إلى ثقافة فنية
للرواية ، وهي قنديل لإضاءة مفاتن الروح الروائية لا تضاريس جسده ، بمعنى
آخر: إن التمثيل الأسطوري للرواية ليس مجرد محاكاة تزيينية لها ، أي: إن
"البعد الأسطوري الضمني في الرواية ليس وسيلة للزخرفة والتزيين على الإطلاق
، إنما تحض على الإحاطة بهذا الوضع وعلى البحث عن وسائل وأساليب كفيلة
بتحريرهم من براثن جملة الأدوار النمطية الموروثة والمفهومات الفكرية التي
عفّى عليها الزمن" ، وهذا ما يجسده قابيل الذي ينبعث في نزيف الحجر مصارعاً
أفقه الثبوتي الأسطوري "ولكن قابيل لا يفكر كثيراً في الإخلال بقوانين
الطبيعة ، ما يهمه هو أن يصطاد أكبر عدد ممكن من الغزلان ليطفئ لهيب أسنانه
ويسكت جوفه ويبيع الباقي لضابط المعسكر الأمريكي". إن السياق الروائي في
"نزيف الحجر" لا يتجمّد في صورة زمنه المثيولوجية أو البيئية ليبني أسطورته
بموازاة التراث ، "إنما يصطنع الكوني أساطيره الفنية الخاصة ويطلقها في
ذلك المدى المحدود بطموحاته النزقة ، أحياناً ، وبمكوناته المتناثرة ،
أحياناً أخرى ، وفي مقدمتها الإنسان والحيوان. وشيئاً فشيئاً يجد القارئ
نفسه وسط أمواج الرمال وقد تناثرت حوله الحكايات ، حكايات تنبثق فجأة أمامه
وتنطفئ فجأة ، أيضاً ، وهي تومض بإيماءات متنوعة" ، وإن أسطورة قابيل تبني
سياقها في "نزيف الحجر" بتحويل بناء الصراع الأخوي الإنساني إلى انتهاك
بناء الأخوة بين الحيوان والإنسان في المجتمع الطوارقي الذي يتأسس تراثه
على قوانين تحريم قتل الحيوان وسرمدة القاتل باللعنة والإثم السابع الذي
يفتن قابيل في "نزيف الحجر: "أنت ، يا قابيل ، تأكل الغلة وتسب الملة
والصحراء لم تطهرك لأنك لم تعشقها". وتستدرج الرواية العادي والمألوف في
المجتمع الطوارقي إلى بؤرة أسطورية روائية ، كون الخصوصية المجتمعية تستند
في بنيتها إلى عالم غرائبي أسطوري ، وتسهم الخصوصية المجتمعية القائمة على
نسق غرائبي أسطوري في بناء وهم التكوين الروائي الفنتازي ، بينما الحقيقة
أن الرواية تمتح العوالم لهذا المجتمع من خلال فنية تخلط بين الأسطوري
التخيلي والواقعي الذي تنتظمه جملة تقاليد مشابكة للبنية الأسطورية. لقد
تجلت رواية "نزيف الحجر" لوحة فنية يتجاذبها السحري والتاريخي فعرضت
"جانباً من تصورات الطوارق الذين يعتقدون في أخوة الإنسان مع العالم
الحيواني المحيط به ، ومن ثم حرّمت نواميس كتابهم القديم قتل الحيوان ، ومن
خالف ذلك نزلت به اللعنة وانتهى إلى مصير مأساوي. إن أبا البطل قابيل قتل
الودّان فلقي مصرعه لأنه خان العهد ، والعهد ذاته نكثه قابيل بقتله الحيوان
ـ وهو غزاله الذي تآخى معه بالرضاعة ـ فعوقب ، أيضاً ، بالجنون". وتتمركز
هذه الرواية على إعادة البناء الروائي إلى ثقافة وحياة بيئة خاصة تمسّ
الأسطورة في تجلياتها العليا التي تعكس فضاء روائياً بكراً يتوهج بإشراقاته
الداهشة التي تسمو به إلى بهاء إبداعي متفرد تمنحه هوية فنية مميزة ارتقت
به إلى مصاف الأدب العالمي.
تحويل الأسطورة إلى ثقافة فنية للرواية
- </li>
- </li>
- </li>
- </li>