في نظرية الرواية
بقلم : د. حسين المناصرة
جامعة الملك سعود
(1)
عبد الملك مرتاض وسيد إبراهيم
"أعتقد أن جميع النظريات التي يروجها نقاد الرواية العرب المعاصرون هم عالة فيها على الغرب " عبد الملك مرتاض
ما زالت السرديات بمجملها من أهم الأجناس الأدبية إشغالاً للنقاد المعاصرين، وتعد الرواية سيدة السرديات ،لكونها بنية سردية منفتحة من جهة ،ومستوعبة لأجناس إبداعية كثيرة من جهة أخرى .وإضافة إلى الرواية تشغل القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً حيزين مهمين فيفضاء كتابة النصوص السردية الحديثة . كما لم تخل الساحة النقديةوالإبداعية الجديدة من اهتمامات موجهة إلى حقلي الحكاية الشعبية ،والمقامة ، بأشكالهما القديمة ، وبتوظيفهما في الكتابات السردية الجديدة.وكذلك تعد السيرة الذاتية من أبرز السرديات احتفالاًبالشخصية الخاصة بالمبدعين في سياق السرديات الجديدة الأكثر تطوراً ، إذأصبحت هذه الكتابة السيرية مقصدية كل مبدع أو كاتب تجاوز الخمسين عاماً منعمره ، مما يؤكد أن الكتابة السردية أصبحت هماً يقصده حتى الشعراء ، وربمامن هذه الناحية نفسر رواج الكتابة السردية قياساً إلى كساد سوق الشعر.
مابين الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً والسيرة الذاتية والنقد السردي.. ستتحرك إشكالية إبراز بعض القضايا التقنية الفنية الجمالية التي يجسدها كتاب السرديات ونقادها، مما يسهم في إثراء الحركة النقدية.
ليسالقصد من وراء عنوان " في نظرية الرواية " الحديث عن نظرية الرواية الفنالأكثر إشكالاً في الثقافة العربية الأدبية النقدية المعاصرة،وإنما هو محاورة لكتابين صدرا أواخرعام 1998 في هذا الموضوع ، وهما : " نظرية الرواية : دراسة لمناهج النقدالأدبي في معالجة فن القصة" للسيد إبراهيم(دار قباء للنشر والتوزيع ،القاهرة ، 1998 )، و" في نظرية الرواية : بحث في تقنيات السرد" لعبد الملكمرتاض (سلسلة كتاب عالم المعرفة ،240الكويت ، 1998).
والكتابان من الناحية المبدئية ، بشكل عام ، تعرّيا منالتفاعل بطريقة أو بأخرى مع المساهمات العربية الحديثة الفاعلة سردياً منذمطلع القرن إلى اليوم بمستوياتها الثلاثة، النص الروائي المنتج عربياً، والتجربة النقدية الروائية العربية، وتجربة الروائيين العرب في حواراتهم وشهاداتهم… وبسبب تغييب الكتابين لهذه المستويات عوّلا في قراءة النظرية الروائية علىالنظرية النقدية الغربية ؛وكأنها بداية نظرية الرواية ونهايتها،مع ميلواضح عند عبد الملك مرتاض إلى محاورة التراث في تأصيله لتقنيات كتابه .
فقد انغمس الكتابان في النقد الغربي على اعتبار أنه مصدر نظرية الرواية ،بل المصدرالوحيد ، بحيث راح عبد الملك مرتاض في مقدمته يسلب الثقافة العربيةالمعاصرة من أية فاعليات في هذا الجانب، ويحيل كل شيء إلى الغرب في مجالنظرية الرواية دون أن يغفل بطريقته النقدية المعروفة المستطردة مايمكن أن يقال في مجال التراث فيما يخص السرديات على سبيل الاستطراد لا أكثر ولا أقل.
فجمهور مظان تساؤلاته( مرتاض) في فضاء نظرية الرواية ، كما يقول، هو المصادر الأجنبية بلغتها الأصلية، مبدياً رفضه لجل المترجمات إلى اللغة العربية لهزاللغتها ، ولضعف صياغاتها الأسلوبية من وجهة نظره.ويعترف أنه قرأ على مضضبعص النصوص الروائية العربية،فوجدها ضعيفة اللغة بشكل عام ، مع إيجاده متعة ولذة في قراءة بعضها.لهذا برر ضرورة بحثه في مجمل نظرية الرواية فيفضاء المصادر الأجنبية، وكأنها المصادر الوحيدة المتاحة بين يديه ، يقولفي المقدمة: " وقد اضطررنا إلى التعويل في كتابة مادة هذا الكتاب علىجمهور من المؤلفين الغربيين مستقين مواد مقالاتنا من تلك الكتاباتالمطروحة في اللغة الفرنسية، تأليفاً فيها أو ترجمة إليها من الأسبانيةوالروسية والألمانية والإنجليزية والإيطالية . وما تراه من نصوص مستشهدبها من تلك المراجع باللغة العربية هو من صميم ترجمتنا الشخصية . ولا نحسبأننا عولنا إلا على ترجمة أو ترجمتين لأننا لم نعثر على النص الأصليفذكرنا ذلك في موطنه ".
كأن كلام عبد الملك مرتاض هنايريد منه أن يشعرنا بأنه المعرب الفاتح للثقافة النقدية في مجال نظريةالرواية في سياق الثقافة العربية ، فهو يخوض هذا الغمار ، كما يزعم،بعروبية منفردة ، ليخرج بهذا الكتاب الذي يقدمه "للقراء العرب " بعدتجربة ثقافية في مجاله زادت على عشرين عاماً، لم يستفد فيها، كما يرى ، من الكتابة الروائية العربية المعاصرة نقداً أو إبداعاً إلا منعدة كتب لا تتجاوز العشرة، جاء توظيفها في أنساق هامشية غالباً ، مما يعنيإغفال تام لما كتب في الثقافة النقدية العربية عن نظرية الرواية . وهذابحد ذاته قصور واضح لا مجال لتفنيده ، علما بأن ما كتب في فضاء النقد الروائي العربي يتجاوز المئة كتاب على أقل تقدير ، معظمها في تقنيات الرواية وإشكالياتها الجمالية … فهل هذا التغييب للمصدر العربي الحديثفعل متعمد لإبراز الذات على حساب الآخر ، أم أنه إنكار لما أنجزه الآخرلتكريس الذاتية النرجسية ؟! أم أنه تكرار لما قيل في هذا الفضاء بطريقةغير حيادية وغير علمية ؟! ربما كل ذلك ! وربما لا شيء منه !!
من ناحية أخرى يعد كتاب " نظرية الرواية " للسيد إبراهيم الخالي من الاستطرادات التيوقع فيها مرتاض، ذا فاعلية منهجية أكاديمية أكثر من كتاب مرتاض،رغم إشارةالمؤلف في المقدمة إلى أنه سعى في كتابه ، وهو ثمرة ثماني سنوات ،إلىمحاولة التخلص من النهج الأكاديمي الراطن باللامعنى بعيداًعن النصوص،لكن المتن في الكتاب ، لم يخل حقيقة من لغة التنظير المقتبسة مننصوص الآخر .يضاف إلى ذلك أن الكتاب لم يحفل إطلاقاً بأية تأسيسات للنظريةالنقدية العربية في فضاء الرواية، قديماً أو حديثاً،ويكفي أن تكون مراجعهكلها أجنبية باستثناء مرجعين لنبيلة إبراهيم، كانت وظيفتهما في الكتاب هامشية ...
منالمؤكد ، ألا ينكر أي ناقد عربي كون النقد الغربي هو الأساس في التأسيسللنظرية الروائية وللنظرية النقدية المعاصرة بمجملها في الأجناس الأدبية كافة ، ولكن لا يعني هذا الموقف أن ننكر كثيراً من المنظرين العرب أو كلهم فيهذا المجال ، فنغيّب النظرية النقدية العربية الكلاسية كما جاءت عند عبدالمحسن طه بدر، ومحمد يوسف نجم ، ومحمود حامد شوكت ، ونغيّب أيضاً النظريةالنقدية السردية المؤسسة للنقد السردي الواقعي، أو النفسي، في كتاباتمحمود أمين العالم، وفيصل دراج ، ومحمد برادة ،ونبيل سليمان، وجورج طرابيش..وأن نغيّب الاستفادة من النقد الجديد في كتابات إدواردالخراط، وحميد الحمداني،وفخري صالح ، وسعيد يقطين،وكثير من النقادغيرهم.بل إن حوارات كثير من الروائيين العرب وشهاداتهم وقراءاتهم هي مؤسسةلنظرية نقدية سردية تطبيقية عربية مهمة .
وليس المأخذ الكبير المشير إلى سوء تغييب المرجعية العربية المعاصرة في نظرية الرواية تفقد هذين الكتابين كونهما رائدين على مستوى التسمية في نظرية الرواية في النقد العربي المعاصر ، إذ إنهما كتابان مهمان في معالجة قضايا السرد : " تقنيات السرد " عند عبد الملك مرتاض ، و"مناهج النقد الأدبي في معالجة فن القصة " عند السيد إبراهيم .
وبنظرة سريعة إلى العناوين الرئيسة في الكتابين ، نجد عناوين كتاب " في نظرية الرواية" تنحصرفيتسع مقالات على النحو التالي : الرواية الماهية النشأة والتطور/ أسسالبناء السردي في الرواية الجديدة / الشخصية : الماهية، البناء، الإشكالية/ مستويات اللغة الروائية وأشكالها / الحيز الروائي وأشكاله / أشكال السردومستوياته / علاقة السرد بالزمن / شبكة العلاقات السردية / حدود التداخلبين الوصف والسرد في الرواية .
وهذه العناوين كما يتضح تعالج حركية الرواية ، وبناءها، وشخصياتها،ولغتها، وأمكنتها،وأزمنتها، وطرق عرضها ، والقارئ للثقافة السردية النقدية العربية ، لا يجد غير هذه الأفكار في أي كتاب نقدي مطروح فيفضاء السرد ، والفضل الذي أنجزه مرتاض هو أنه اشتغل بطريقة ذاتية ، وبرؤيةثقافية في هذا الفضاء ، فكانت كتابته ذات لغة نقدية إبداعية مميزة، مليئةبالاستطرادات والأفكار الحاملة لفكرة خاصة ، ووجهة نظر مدعمة ببعض الشواهد.
ومن هذه الناحية يعد كتاب " في نظرية الرواية " لمرتاض، أكثر قرباً للمتلقين من "نظرية الرواية" لسيدإبراهيم ، والأخير أكثر إغراقاً ، إلى حد الاختناق باقتباس النصوص والرؤى،وطرائق التحليل المبثوثة في الكتب النقدية الأجنبية . وقد جاء الكتاب فيثلاثة فصول ، هي: نحو الرواية /بويطيقا الرواية /النص الكلاسيكي الواقعيوالنص الحديث ، وفي كل فصل من هذه الفصول الثلاثة ، عناوين عديدة ، لاتشعر المتلقي بأنها مألوفة في وعيه النقدي ، كما هو حال ألفة عناوين مرتاض.
فنحوالرواية كما يعرفه المؤلف هو الجهد المبذول للكشف عن اللغة الباطنة أوالعميقة المخفية وراء شكل الكلام أو بنيته السطحية ، في حين تتعلقالبويطيقا ببحث التقنيات في العمل الأدبي وتصنيفاتها، وليست المفارقات بينالنصوص الكلاسية والجديدة بعنوان غير أليف ، وفي المحصلةالنهائية فإن المفارقة بين عنواني " في نظرية الرواية " و"نظرية الرواية "تكمن أولاً في حرف " في " إذ كان مرتاض موقناً أن ما يقوله في هذا المجالهو مساهمات جزئية من وجهة نظر منهجية خاصة ، وليست شاملة ، في حين نعتقدأن الكتاب الآخر كان أكثر شمولاً واستيعاباً لكثير من إشكاليات الرواية؛لتعددية المناهج التي استقرأها، هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى فقد تركزتالكتابة عند عبد الملك مرتاض على تقنيات السرد ، في حين أضاف إليها السيدإبراهيم طرق استنباط الدلالات والمعاني العميقة .
(2)
الرواية الجديدة /الشخصية
" الرواية الجديدة تثور على كل القواعد، وتتنكر لكل الأصول ، وترفض كل القيم والجماليات التي كانت سائدة في كتابة الرواية التي أصبحت توصف بالتقليدية " عبد الملك مرتاض
"بحث في تقنيات السرد" هو العنوان التفسيري لكتاب" في نظرية الرواية" لعبد الملك مرتاض ، وتقنيات السرد كما نعرف هيالإشكاليات الفنية والجمالية المتصورة التي تنشأ عليها الكتابة السرديةعموماً ، والرواية سيدة السرد تحديداً ، بما تمتلكه من عجائبية وسحرية ، جعلت عبد الملك مرتاض يبدأ كتابه في السطور الأولى من المقدمة بقوله:" الرواية ؛هذه العجائبية . هذا العالم السحري الجميل ، بلغتها وشخصياتها، وأزمانها وأحيازها ، وأحداثها ، وما يعتور كل ذلك من خصيب الخيال ،وبديع الجمال ، ما شأنها؟ وما تقنياتها ؟ وما مشكلاتها ؟ وكيف نكتبها إذاكتبناها؟ وكيف نبني عناصرها إذا بنيناها ؟ وكيف نقرؤها إذا قرأناها؟ ".حيث يظهر هنا إشكالية نظرية الرواية التي ما زالت تشغل الدارسين علىاعتبار أن عمرها الفعلي في ثقافتنا الإبداعية لا يزيد على قرن تقريباً .
ففي مقالة هذاالكتاب الأولى ( يتكون الكتاب من عشر مقالات)، وهي بعنوان "الرواية :الماهية ، والنشأة والتطور " يشير المؤلف ، كما أشار غيره من النقاد العرب منقبل،معتمدين على نقد الآخر ، وخاصة على نقد باختين ، إلى أن الرواية "تتخذ ..لنفسها ألف وجه ، وترتدي في هيئتها ألف رداء ، وتتشكل أمام القارئ، تحت ألف شكل ، مما يعسر تعريفها تعريفاً جامعاً مانعاً ".لذلك ينشغل مرتاض مثل غيره في التفريق بين الرواية وبين أجناسأدبية أخرى كالملحمة ، والشعر ، والمسرحية؛ ليتوصل من مقارناته هذه إلى أنالرواية خطاب منفرد بذاته ، وفي الوقت نفسه جنس أدبي له ارتباطات وثيقةبعامة الأجناس الأدبية الأخرى ، لتبدو الرواية كأنهاعالم شديد التعقيد ، متناهي التركيب ، متداخل الأصول ،لها علاقة قويةبالتاريخ ، والمجتمع، حاملة في بنيتها رؤية العالم.وهنا تصير الكتابةالنقدية في ماهية الرواية كأنها كتابة إبداعية يتغزل فيها شاعر ما بسطوةحبيبته التي تملك كل الجماليات .
ويتحدثعن أثر المدرسة الأمريكية في تطور الرواية،وعن نوعين مهمين في فضاءالرواية ،وهما رواية التجسس المنتشرة في الغرب، والرواية الحربية أوالوطنية التي تعد أشهر الأنواع الروائية في الأدب العربي ،معتذراً عنمتابعة الحديث عن أنواع الرواية الأخرى، وخاصة روايات الوثائق، والمسلسلة،والغرامية، والجنس، والطفل، والنفسية...
ولا نعتقد أن هذا الفصل ، أو هذه المقالة حملت شيئاً جديداً ، مفارقاً لما جاء في كتابات الموسوي تحديداً، ونبيل سليمان ، وسامي سويدان ، وسعيد يقطين ، وغيرهم، وأبحاث الروائيينالعرب في مؤتمراتهم المختلفة ، أو مفارقة لما جاء في كتاب "الخطابالروائي" لباختين ...وإشارات الكتاب كافية في توثيق كثير من الاقتباساتوالمرجعيات الغربية، وكان يجدر بالمؤلف أن يهتم بكتابات النقاد والساردين العرب المحدثين للتأسيس لنظرية الرواية ، حتى يشعرنا بضرورة أهمية فاعليتنا الثقافية المعاصرة ، لا أن يجعلنا صدى سلبياً للثقافة الغربية ، وهامشية غير مفيدة في ذاتها كما لاحظنا ذلك في مقدمة كتابه.
* * *
في المقالة الثانية" أسس البناء السردي في الرواية الجديدة " ، نعتقد أن هذه المقالة من أهممقالات الكتاب ، لأن المؤلف يقارن فيها بين نمطي الرواية التقليدية التيسادت في كتابات ما قبل الحرب العالمية الثانية ، والرواية الجديدة التيسادت بعد الحرب العالمية الثانية، هذه الحرب التي أوجدت أشكالاً جديدة فيالكتابة والفكر،حيث تغير التفكير الفلسفي بظهور الوجودية ، وتغير التفكيرالنقدي بظهور البنيوية ، وتغير الشكل الروائي بظهور الكتابة الجديدة ...هذه الكتابة " التي تثور على كل القواعد، وتتنكر لكل الأصول ، وترفض كلالقيم والجماليات التي كانت سائدة في كتابة الرواية التيأصبحت توصف بالتقليدية ؛ فإذا لا الشخصية شخصية، ولا الحدث حدث ، ولاالحيز حيز ، ولا الزمان زمان ، ولا أي شيء مما كان متعارفاً في الروايةالتقليدية متآلفا اغتدى مقبولاً في تمثيل الروائيين الجدد" كما يقولمرتاض.بحيث مال كتاب الرواية الجديدة إلى تمزيق الشخصيات واضطهادها وتمزيقالحبكة الروائية ، وتدمير التركيبة الزمكانية...
وبخصوصعوامل نشأة الرواية الجديدة يحدد مرتاض العوامل الأربعة التالية: الحربالعالمية الثانية، والحرب التحريرية الجزائرية ، واستكشاف السلاح الذري،وغزو الفضاء. كما يعرف مصطلح الرواية الجديدة ، ويشير إلى طلائعها وملامحهاعند كتاب كثيرين من غير العرب ، منتهيا إلى تأكيد أن الرواية الجديدة " تشكل مدرسة بامتياز" .
ففي الوقت الذي لا يستخدم فيه المؤلف أية وثيقة روائية عربية معاصرة ، نجده بطريقة تعسفية يجعل من حرب التحرير الجزائرية إحدى أسباب نشوء الرواية الجديدة في فرنسا ، لمجرد صدور بعض الروايات والكتب النقدية الفرنسة مصادفة مع هذه الحرب، واعتماداً بشكل مباشر على مقولة للناقد الفرنسي ريمون جان يشير فيها إلى المصادفة بين الرواية الجديدة وحرب التحرير. أليس في هذا مفارقة؟!
***
إن " الشخصية : الماهية / البناء / الإشكالية " هوعنوان المقالة الثالثة في الكتاب، وفي هذه المقالة يقارن مرتاض أولاً بينمصطلحي الشخصية والشخص ، مفضلاً استخدام مصطلح الشخصية ،ثم يوضح أهميةالشخصية في الروايات التقليدية والجديدة . ويتحدث عن علاقة الشخصيةبالضمائر الثلاثة الغائب والمتكلم والمخاطب. كما يحدد أنواع الشخصيةبمسمياتها المختلفة : المركزية ، والثانوية ، والخالية من الاعتبار ،والمدورة ، والمسطحة، والإيجابية ، والسلبية ، والثابتة والنامية . ويفرد عنواناًفرعياً للمفارقة بين شخصيتي المدورة (النامية ) والمسطحة (الثابتة)،وعنواناً آخر لتوضيح علاقة الشخصية بالمشكلات السردية الأخرى ، وينتهي منهذه إلى القول : " إن الشخصية هي التي تكون واسطة العقد بين جميع المشكلاتالأخرى ، حيث إنها هي التي تصطنع اللغة،وهي التي تبث أو تستقبل الحوار،وهيالتي تصطنع المناجاة ، وهي التي تصف معظم المناظر".
وينتهي من هذه المقالة بالإشارةإلى ثلاث مراحل مرت بها الشخصية في القرون الأخيرة ، وهي : مرحلة التوهجوالعنفوان والازدهار ، حيث أنتجت هذه الشخصية في الروايتين التاريخيةوالاجتماعية ، وكان أهم من احتفل بها في هذه المرحلةبالزاك، وزولا، وفلوبير، وسكوت ، وتولستوي ،وكافكا ، ومحفوظ .ومرحلةالتشكك والاهتزاز التي أعقبت الحرب العالمية الأولى ، حيث الشك بإمكانيةصدق تصوير الشخصية لصور الحياة الاجتماعية المختلفة ،ومثّل هذه الكتابة السردية أندري جيد ، وجيميس جويس ، وفيرجينيا وولف. ومرحلة إنكار وجود الشخصية خارجاللغة ، وتمثيلها لصور الحياة الاجتماعية ، وتميزها على بقية عناصر السردالأخرى،ومثّل هذه المرحلة ألان روب جريي، وناطالي صاروط ، وكلود سيمون ،وميشال بيطور،وصمويل بيكيت.
***
إنماهية الرواية وتطورها ما زالت تشكل دوراً حاسماً في أية كتابة نقديةسردية ، بل إن تعريف الرواية بحد ذاته هو إشكاليتها الفنية الأولى ، ومنتعريفها المنفتح المستعصي المتداخل الأجناس ، يمكن أن نثبت مبدئياً أننظرية الرواية هي نظرية مفتوحة وليست مغلقة ، وأن أية كتابة في هذا الفضاءهي تجميع لرؤى وأفكار مختلفة وتصورات مستنتجة من مجموعة النصوص السردية .
أما بخصوص المفارقة بين الروايتين التقليدية والجديدة ، فإذا كنا نقر بأن التطور في الإبداع في مختلف الأجناس الأدبية والفنية جاء مع الحداثة بعد الحرب العالمية الثانية ، فإننا لا ننكر أن هناك كثيراً من النصوص التراثية تعدجديدة ومتجددة ، وأن مسألة التقليدية والجدة ليست محصورة في الزمن بقدر ماهي مسألة موجودة داخل النصوص ، إذ كل تقليدي هو جديد في زمنه ، ومتجدد فيأزمنة لاحقة ، وهذه مسألة يدركها الجميع ، لكن الرواية الجديدة ، فيالتصور العام،استطاعت أن تكسر رتابة عناصر السرد المختلفة وتسلسلها ، وسعتإلى خلط الأوراق الفنية والجمالية المألوفة بطريقة جديدة بعضها مع بعض؛ لتصبح الكتابة أكثر إشكالية ، وأعمق تأثيراً في خلخلة ذهنية التلقي .
وليسلدينا شك في أن الشخصية السردية لعبت وما زالت تلعب الدور الحاسم فيمقاربة الخطابات السردية ، وأنه لا يمكن قراءة بقية عناصر السرد بعيداً عنحركية الشخصية ورؤاها ، دون إغفال كون كل عناصر السرد الأخرى مهمة بدرجاتمتفاوتة ، وأن الكتابة عن أي عنصر فني في السرد ، سواء في فضاءات الشخصية، أو الزمان ، أو المكان ، أو الحدث ، أو الآلية اللغوية ، أو الجمالية...يمكن أن ينتج صفحات كثيرة ، وكل هذا بسبب كون لغة الرواية لغة ممتدةومتشابكة ، ولو وزعنا لغة رواية من ثلاث مئة صفحة على سبيل المثال على ستةعناصر سردية ، لأخذ أي عنصر خمسين صفحة بطريقة التساوي ، إضافة إلى أن أي عنصر فني لا يشتغل وحده مطلقاً ، وإنما يشتغل بطريقة التشابك الحميمي مع بقية العناصر الفنية الأخرى في الرواية .
(3)
اللغة السردية
"أمرالكتابة قائم على العمل البارع باللغة والنسج بألفاظها،في دائرةنظامها،وليس هذا النسج الرفيع الكريم إلا في مقدور الفنانين المتألقين،والكتاب البارعين المتأنقين"عبد الملك مرتاض .
لمتكن مشكلة ازدواجية اللغة العربية تواجه اللغة الشعرية في تاريخها الطويلمثلما واجهت السرديات، إذ كانت اللغة الشعرية أحادية شبه متوحدة ثقافياً،لأنها مستلة من لغة الثقافة الرسمية العليا المعبرة عن تمترس الشعراء فيسياق اللغة الفصيحة العليا نسبياً،طبعاً نستثني من هذا التصور لغة الشعرالشعبي المكتوب باللهجات المحكية الدارجة،والذي لم تحفظ منه ثقافتنااللغوية التراثية إلا الشيء القليل الشائع في السير والملاحم الشعبية.
وإذاكانت اللغة الشعرية تعتز دوماً بأنها لغة ممتلئة بمفردات المعاجم والثقافةاللغوية العليا،فإن اللغة السردية لم تحتفل بهذا السياق،لا في ماضيها،ولافي حاضرها.فهي كانت وما زالت تراعي ضرورة التواصل مع جمهورالمتلقين بمختلف مستوياتهم،كما تحرص على التشبع بالتراكيب الشعبية العاديةالمألوفة في سياق الفصيح أو غير الفصيح ...
وما دمنا نعترف بأن اللغة العربية التي نتعايش معها هي عدة مستويات ، أبرزها من الناحية الآليةاللغة المعجزة، واللغة الفصيحة العليا ، واللغة الفصيحة الثقافية ، واللغةالوسطى الصحفية ، واللغة الدارجة .. ومن الناحية الاجتماعية والثقافيةمتعددة بتعدد الأشخاص ..فإن هذا التصور لتعددية المستويات يجعلالكتابة السردية ، وهي التي تتفاعل مع شخصيات اجتماعية مختلفة ، ذاتمستويات لغوية متعددة، بأصوات متداخلة ومتجاورة في السرد، ومن ثمّ لا يمكن أن تصنف اللغة السردية نفسها في سياق اللغة الشعرية الأحادية ، لأنها في نهاية الأمر لغة سردية متعددة بتعدد الأصوات ، و متنوعة بتنوع التراكيب الثقافية المنتجة في تصور الكاتب عن الشخصيات .
ولعلالإشكالية الرئيسة التي تبرز في لغة السرد هي إشكالية ازدواجية اللغةالفصيحة والعامية ، فهناك من يتشبث برفض دخول العامية إلى لغة الإبداع ،طالباً من الكتاب أن يراعوا في سردياتهم لغة الحال لا لغة اللسان ..ويقابل ذلك وجود فئة أخرى ، وخاصة من الكتاب السرديين أنفسهم الذين يرونضرورة كتابة السرد أحياناً بلغة اللسان التي تنطق بها الشخصيات، وهي غالباً لهجات دارجة.
وإجمالاً كانت هاتان الرؤيتان أهم ما أنتج في النقد السردي في جانبه اللغوي، وكان الميل العام إلى أن تكون اللغة العربية الفصيحة الوسطى الصحفية التعليمية المبسطة هي لغة الكتابة السردية ، فتكون بذلك حافظت هذه اللغة على آلية الفصيحة من جهة ، وحافظت على حميمية العلاقة مع جمهور المتلقين من جهة ثانية . ولا مانع في كل الأحوال سردياًأن تكون اللغة العربية الفصيحة متعددة المستويات إذا كانت الغاية هي الحرصعلى الكتابة بلغة فصيحة مبسطة ، في سبيل التقليل من استخدام العامية الدارجة في لغة السرد .
وإجمالاً،فإن التراكيب الفصيحة هي التي تعتمد على سلامة التركيب النحوي ، وسلامةالاشتقاق اللغوي،وسلامة نطق الحركات... في حين تتحول الفصيحة إلى دارجةعامية عندما تكسر واحدة من هذه السلامات الثلاث أو غيرها.فإذا قلنا (سافرالرجلين) أو (دعيتهم إلى الندوة )، أو (كِيْفْ حالك ) نكون في سياقالعامية ، وأن الأمر يحتاج إلى تحويرات بسيطة للغاية لنصبح في سياقالفصيحة، وهو سياق (سافر الرجلان)،و(دعوتهم إلى الندوة)، و(كَيْفَحالك)... ومن ثمّ ليس البون شاسعاً كما يظن البعض بين الفصيحة والدارجة فيازدواجية لغتنا .
ولوتوقفنا عند مجمل النصوص السردية العربية لوجدناها تستخدم اللغة العربيةالفصيحة في مستوى اللغة الوسطى الصحفية المبسطة التي لا تخلو من أخطاء فيالمفردات والتراكيب على طريقة خطأ شائع أفضل من صواب مهمل . وكأن الكتابةباللغة العربية الوسطى الفصيحة نسبياً هي الأفضل لأي قارئ عربي من أية لغةدارجة ، لأن اللغة الدارجة عندما تكتب تحديداً تختلف صورتها، فتصبح أكثر تعقيداً بدرجات من اللغة الفصيحة التي تعود عليها القارئالعربي في المدرسة وفي الكتاب، لذلك لم يفضل جل الكتاب العرب الكتابةباللهجات الدارجة ، وهذا الموقف بحد ذاته ميزة ثقافية .
* * *
يكتبعبد الملك مرتاض في كتابه " في نظرية الرواية مقالة أو فصلاً بعنوان "مستويات اللغة السردية وأشكالها " ويتحدث في سياق هذا العنوان عن خمسمفردات هي " اللغة والمعرفة والحياة "و" اللغة والفلسفة والسيمائية " و"لغة الكتابة الروائية ومستوياتها" و"اللغة الإبداعية بين الوسيلة والغائية" و" أشكال اللغة الروائية : لغة النسج السردي ، واللغة الحوارية، ولغةالمناجاة ".
والغريبأن يعد المؤلف هذا الفصل كأنه الفريد من نوعه ، والأول من جنسه،فيالثقافتين العربية،والغربية،وكأنه تناسى أن المعركة حول اللغة أصبحت منالأشياء المستهلكة في السرديات منذ منتصف القرن العشرين .ورغم ذلك فإنه لم يقدم أكثر مما قيل في هذا المجال،باستثناء سلبية الصوت الخطابي المرتفع الذي يطالب به أن تكون اللغة السردية مشابهة للغة الشعرية على نحو قوله التالي الممتلئ بالمترادفات والألفاظ المعجمية المهملة :"وإذالم تكن لغة الرواية شعرية،أنيقة،رشيقة،عبقة،مغردة،مختالة ، مترهيئة ،متزينة ، متغجرة،لا يمكن إلا أن تكون لغة شاحبة،ذابلة،عليلة،كليلة،حسيرة،خلقة،بالية،فانية،وربما شعثاء غبراء ".أو في قوله: "إنا نطالببتبني لغة شعرية في الرواية ، ولكن ليست كالشعر ، ولغة عالية المستوى ولكنليست بالمقدار الذي تصبح فيه تقعرا وتفيهقا ".
وكلامهعن اللغة لا يخلو من القيمة المباشرة في توصيف لغة السرديات ، إذ يمكن عدّالصفحات الثماني الأخيرة، الخاصة بأشكال اللغة الروائية ، مجدية ، وهي تشير إشارات عابرة إلى فضاءات النسيج السردي ، والحوارية ، والمناجاة، وكان من الأجدر أن يكون الفصل كله متعلقاً بهذه الفضاءات الثلاثة تنظيراً وتطبيقاً ، بدلاً من أن يكون هجوماًغير مبرر على الروائيين وعلى لغتهم دون مبرر، على نحو قوله " فقد عهدنا منكتاب الرواية ... لا يتقنون أدوات الكتابة ، فتراهم يكابدون من أجل نسجكتابات ضعيفة على مستويات النحو واللغة والأسلبة جميعاً". ومع هذا القول الخطِر لم يفرخ المؤلف في هذا الفصل كتابات كل هؤلاء الكتاب الضمنيين السلبيين من وجهة نظره، فيشرحهم في جسد لغته النقدية المصرة على أن تكون فضفاضة، باستثناء إشارته إلى إحسان عبد القدوس ، ويوسف السباعي كساردين سلبيين في اتجاههما إلى العامية المصرية.
وفي الوقت الذي يقتبس فيه المؤلف من النقد الغربي مقولةأن تكون الرواية مركبة من عدد ضخم من التراكيب والصياغات ، ويؤمن بضرورةأن تكون المستويات اللغوية متعددة في الرواية ، نجده لا يجد في الروايةالعربية المعاصر المستويات التي ينصّ عليها النقد الغربي ، أو ما يجده في"ألف ليلة وليلة" التي يصورها على أنها "عسل الشهد، مزج بالزبد الطري ..ذوقان في ذوق واحد ، أو قل: أذواق تشكل ذوقاً واحداً " ، وكأن الروايةالعربية مقفرة بلهاء.
ثم تغدو نظرية المطالبة لديه نظرية رومانسية براجماتيةونقدية طوباوية لا تعترف بواقع الكتابة العربية المغيبة، في قوله التالي:" إن المسألة اللغوية في السردانية تحتاج إلى براعة المزج ، كالعصيرالممزوج من جملة من الفواكه مزجاً مدروساً يراعى فيه رقة الذوق .. نشربعصائر في عصير ، ونتلذذ بذلك تلذذاً .. أما الطريقة التي طبقها كثير منالروائيين العرب المعاصرين في مسألة المستويات اللغوية ، فإنها تشبه خلطالخل بالعسل ، والملح بالسكر ، والزيت بالماء ، وكل شيء بما لا ينسجم معصنوه "، وفي هذا القول من التعسف شيء كثير ، لا يحتاج إلى إغراء بالهدم .
إنالكلام السابق هو طوباوية الرواية ، وربما تصلح "روايات عبير " أن تكونعصائر كوكتيل مناسبة ..لذلك تصبح اللغة النقدية هنا لغة مجانية أكثر منهالغة علمية، ولعل شتم أرضية الرواية العربية بهذا الشكل هو إساءة إلىالثقافة السردية العربية، وإساءة إلى المثقفين العرب،ونرجسية الذات المستعلية المتشبثة بتقديس التراث والآخر الغربي...!! وربمانزعم أن الفقر الثقافي المطلع على النصوص السردية العربية المهمة هو الذيينتج هذه الشعارات المعيارية المشوهة.
وهكذايغدو عبد الملك مرتاض في تنظيره للغة السردية مطالباً بأن تكون الروايةقصيدة شعر ، وبكل تأكيد يريدها أن تكون قصيدة عمودية مثل قصائد أبي فراسالحمداني، أو عمر بن أبي ربيعة !لتصبح اللغة المطلوبة لغة شعرية مئةبالمئة ، لأنه يريد " اللغة وجمالها ، واللغة وأسرها ، واللغة وسحرها ،واللغة وتجليات تشكيلها ، وفعلها وتفاعلها ، ومثولها لوحات لوحات أمامكوأنت تقرأ ، وكأنك تشم عطراً بين الحروف ، بل كأنك ترف رضاباً بين الألفاظ، بل كأنك ترشف شهداً بين الجمل". وفي رأيي أن أي كاتب يصرف وقته في إنتاجهذه "المرأة " اللغوية ، سيكون بيجماليون ينحت تمثالاً لفتاة ساحرة الجمال، وما أن تدب في التمثال الحياة حتى يصبح التمثال موبوءاً ، على الأقل من وجهة نظر توفيق الحكيم في مسرحيته المشهورة عن بيجماليون.
أليست أفكار مرتاض طوباوية مثالية ؟ ثم ألا يعد في هذا الجانب واحداً من النقاد الذين يريدون الرواية أن تكون قصيدة ، ولو طارت ..على طريقة " عنزة ولو طارت " ؟!
إنهلا مجال لجعل اللغة السردية لغة شعرية ، وإن كانت الشعرية ميزة في أية لغةإبداعية ، بل إن تعددية اللغة السردية وتنوع مستوياتها تكسب العمل السرديانفتاحاً على الأصوات الحياتية كافة ، مما يجعل من الرواية صياغة جماليةللواقع مهما حاولت أن تغرق نفسها في التخييل أو الوهم أو أي فضاء آخر غيرالواقع الذي أنتجت فيه ولأجله.
بقلم : د. حسين المناصرة
جامعة الملك سعود
(1)
عبد الملك مرتاض وسيد إبراهيم
"أعتقد أن جميع النظريات التي يروجها نقاد الرواية العرب المعاصرون هم عالة فيها على الغرب " عبد الملك مرتاض
ما زالت السرديات بمجملها من أهم الأجناس الأدبية إشغالاً للنقاد المعاصرين، وتعد الرواية سيدة السرديات ،لكونها بنية سردية منفتحة من جهة ،ومستوعبة لأجناس إبداعية كثيرة من جهة أخرى .وإضافة إلى الرواية تشغل القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً حيزين مهمين فيفضاء كتابة النصوص السردية الحديثة . كما لم تخل الساحة النقديةوالإبداعية الجديدة من اهتمامات موجهة إلى حقلي الحكاية الشعبية ،والمقامة ، بأشكالهما القديمة ، وبتوظيفهما في الكتابات السردية الجديدة.وكذلك تعد السيرة الذاتية من أبرز السرديات احتفالاًبالشخصية الخاصة بالمبدعين في سياق السرديات الجديدة الأكثر تطوراً ، إذأصبحت هذه الكتابة السيرية مقصدية كل مبدع أو كاتب تجاوز الخمسين عاماً منعمره ، مما يؤكد أن الكتابة السردية أصبحت هماً يقصده حتى الشعراء ، وربمامن هذه الناحية نفسر رواج الكتابة السردية قياساً إلى كساد سوق الشعر.
مابين الرواية والقصة القصيرة والقصة القصيرة جداً والسيرة الذاتية والنقد السردي.. ستتحرك إشكالية إبراز بعض القضايا التقنية الفنية الجمالية التي يجسدها كتاب السرديات ونقادها، مما يسهم في إثراء الحركة النقدية.
ليسالقصد من وراء عنوان " في نظرية الرواية " الحديث عن نظرية الرواية الفنالأكثر إشكالاً في الثقافة العربية الأدبية النقدية المعاصرة،وإنما هو محاورة لكتابين صدرا أواخرعام 1998 في هذا الموضوع ، وهما : " نظرية الرواية : دراسة لمناهج النقدالأدبي في معالجة فن القصة" للسيد إبراهيم(دار قباء للنشر والتوزيع ،القاهرة ، 1998 )، و" في نظرية الرواية : بحث في تقنيات السرد" لعبد الملكمرتاض (سلسلة كتاب عالم المعرفة ،240الكويت ، 1998).
والكتابان من الناحية المبدئية ، بشكل عام ، تعرّيا منالتفاعل بطريقة أو بأخرى مع المساهمات العربية الحديثة الفاعلة سردياً منذمطلع القرن إلى اليوم بمستوياتها الثلاثة، النص الروائي المنتج عربياً، والتجربة النقدية الروائية العربية، وتجربة الروائيين العرب في حواراتهم وشهاداتهم… وبسبب تغييب الكتابين لهذه المستويات عوّلا في قراءة النظرية الروائية علىالنظرية النقدية الغربية ؛وكأنها بداية نظرية الرواية ونهايتها،مع ميلواضح عند عبد الملك مرتاض إلى محاورة التراث في تأصيله لتقنيات كتابه .
فقد انغمس الكتابان في النقد الغربي على اعتبار أنه مصدر نظرية الرواية ،بل المصدرالوحيد ، بحيث راح عبد الملك مرتاض في مقدمته يسلب الثقافة العربيةالمعاصرة من أية فاعليات في هذا الجانب، ويحيل كل شيء إلى الغرب في مجالنظرية الرواية دون أن يغفل بطريقته النقدية المعروفة المستطردة مايمكن أن يقال في مجال التراث فيما يخص السرديات على سبيل الاستطراد لا أكثر ولا أقل.
فجمهور مظان تساؤلاته( مرتاض) في فضاء نظرية الرواية ، كما يقول، هو المصادر الأجنبية بلغتها الأصلية، مبدياً رفضه لجل المترجمات إلى اللغة العربية لهزاللغتها ، ولضعف صياغاتها الأسلوبية من وجهة نظره.ويعترف أنه قرأ على مضضبعص النصوص الروائية العربية،فوجدها ضعيفة اللغة بشكل عام ، مع إيجاده متعة ولذة في قراءة بعضها.لهذا برر ضرورة بحثه في مجمل نظرية الرواية فيفضاء المصادر الأجنبية، وكأنها المصادر الوحيدة المتاحة بين يديه ، يقولفي المقدمة: " وقد اضطررنا إلى التعويل في كتابة مادة هذا الكتاب علىجمهور من المؤلفين الغربيين مستقين مواد مقالاتنا من تلك الكتاباتالمطروحة في اللغة الفرنسية، تأليفاً فيها أو ترجمة إليها من الأسبانيةوالروسية والألمانية والإنجليزية والإيطالية . وما تراه من نصوص مستشهدبها من تلك المراجع باللغة العربية هو من صميم ترجمتنا الشخصية . ولا نحسبأننا عولنا إلا على ترجمة أو ترجمتين لأننا لم نعثر على النص الأصليفذكرنا ذلك في موطنه ".
كأن كلام عبد الملك مرتاض هنايريد منه أن يشعرنا بأنه المعرب الفاتح للثقافة النقدية في مجال نظريةالرواية في سياق الثقافة العربية ، فهو يخوض هذا الغمار ، كما يزعم،بعروبية منفردة ، ليخرج بهذا الكتاب الذي يقدمه "للقراء العرب " بعدتجربة ثقافية في مجاله زادت على عشرين عاماً، لم يستفد فيها، كما يرى ، من الكتابة الروائية العربية المعاصرة نقداً أو إبداعاً إلا منعدة كتب لا تتجاوز العشرة، جاء توظيفها في أنساق هامشية غالباً ، مما يعنيإغفال تام لما كتب في الثقافة النقدية العربية عن نظرية الرواية . وهذابحد ذاته قصور واضح لا مجال لتفنيده ، علما بأن ما كتب في فضاء النقد الروائي العربي يتجاوز المئة كتاب على أقل تقدير ، معظمها في تقنيات الرواية وإشكالياتها الجمالية … فهل هذا التغييب للمصدر العربي الحديثفعل متعمد لإبراز الذات على حساب الآخر ، أم أنه إنكار لما أنجزه الآخرلتكريس الذاتية النرجسية ؟! أم أنه تكرار لما قيل في هذا الفضاء بطريقةغير حيادية وغير علمية ؟! ربما كل ذلك ! وربما لا شيء منه !!
من ناحية أخرى يعد كتاب " نظرية الرواية " للسيد إبراهيم الخالي من الاستطرادات التيوقع فيها مرتاض، ذا فاعلية منهجية أكاديمية أكثر من كتاب مرتاض،رغم إشارةالمؤلف في المقدمة إلى أنه سعى في كتابه ، وهو ثمرة ثماني سنوات ،إلىمحاولة التخلص من النهج الأكاديمي الراطن باللامعنى بعيداًعن النصوص،لكن المتن في الكتاب ، لم يخل حقيقة من لغة التنظير المقتبسة مننصوص الآخر .يضاف إلى ذلك أن الكتاب لم يحفل إطلاقاً بأية تأسيسات للنظريةالنقدية العربية في فضاء الرواية، قديماً أو حديثاً،ويكفي أن تكون مراجعهكلها أجنبية باستثناء مرجعين لنبيلة إبراهيم، كانت وظيفتهما في الكتاب هامشية ...
منالمؤكد ، ألا ينكر أي ناقد عربي كون النقد الغربي هو الأساس في التأسيسللنظرية الروائية وللنظرية النقدية المعاصرة بمجملها في الأجناس الأدبية كافة ، ولكن لا يعني هذا الموقف أن ننكر كثيراً من المنظرين العرب أو كلهم فيهذا المجال ، فنغيّب النظرية النقدية العربية الكلاسية كما جاءت عند عبدالمحسن طه بدر، ومحمد يوسف نجم ، ومحمود حامد شوكت ، ونغيّب أيضاً النظريةالنقدية السردية المؤسسة للنقد السردي الواقعي، أو النفسي، في كتاباتمحمود أمين العالم، وفيصل دراج ، ومحمد برادة ،ونبيل سليمان، وجورج طرابيش..وأن نغيّب الاستفادة من النقد الجديد في كتابات إدواردالخراط، وحميد الحمداني،وفخري صالح ، وسعيد يقطين،وكثير من النقادغيرهم.بل إن حوارات كثير من الروائيين العرب وشهاداتهم وقراءاتهم هي مؤسسةلنظرية نقدية سردية تطبيقية عربية مهمة .
وليس المأخذ الكبير المشير إلى سوء تغييب المرجعية العربية المعاصرة في نظرية الرواية تفقد هذين الكتابين كونهما رائدين على مستوى التسمية في نظرية الرواية في النقد العربي المعاصر ، إذ إنهما كتابان مهمان في معالجة قضايا السرد : " تقنيات السرد " عند عبد الملك مرتاض ، و"مناهج النقد الأدبي في معالجة فن القصة " عند السيد إبراهيم .
وبنظرة سريعة إلى العناوين الرئيسة في الكتابين ، نجد عناوين كتاب " في نظرية الرواية" تنحصرفيتسع مقالات على النحو التالي : الرواية الماهية النشأة والتطور/ أسسالبناء السردي في الرواية الجديدة / الشخصية : الماهية، البناء، الإشكالية/ مستويات اللغة الروائية وأشكالها / الحيز الروائي وأشكاله / أشكال السردومستوياته / علاقة السرد بالزمن / شبكة العلاقات السردية / حدود التداخلبين الوصف والسرد في الرواية .
وهذه العناوين كما يتضح تعالج حركية الرواية ، وبناءها، وشخصياتها،ولغتها، وأمكنتها،وأزمنتها، وطرق عرضها ، والقارئ للثقافة السردية النقدية العربية ، لا يجد غير هذه الأفكار في أي كتاب نقدي مطروح فيفضاء السرد ، والفضل الذي أنجزه مرتاض هو أنه اشتغل بطريقة ذاتية ، وبرؤيةثقافية في هذا الفضاء ، فكانت كتابته ذات لغة نقدية إبداعية مميزة، مليئةبالاستطرادات والأفكار الحاملة لفكرة خاصة ، ووجهة نظر مدعمة ببعض الشواهد.
ومن هذه الناحية يعد كتاب " في نظرية الرواية " لمرتاض، أكثر قرباً للمتلقين من "نظرية الرواية" لسيدإبراهيم ، والأخير أكثر إغراقاً ، إلى حد الاختناق باقتباس النصوص والرؤى،وطرائق التحليل المبثوثة في الكتب النقدية الأجنبية . وقد جاء الكتاب فيثلاثة فصول ، هي: نحو الرواية /بويطيقا الرواية /النص الكلاسيكي الواقعيوالنص الحديث ، وفي كل فصل من هذه الفصول الثلاثة ، عناوين عديدة ، لاتشعر المتلقي بأنها مألوفة في وعيه النقدي ، كما هو حال ألفة عناوين مرتاض.
فنحوالرواية كما يعرفه المؤلف هو الجهد المبذول للكشف عن اللغة الباطنة أوالعميقة المخفية وراء شكل الكلام أو بنيته السطحية ، في حين تتعلقالبويطيقا ببحث التقنيات في العمل الأدبي وتصنيفاتها، وليست المفارقات بينالنصوص الكلاسية والجديدة بعنوان غير أليف ، وفي المحصلةالنهائية فإن المفارقة بين عنواني " في نظرية الرواية " و"نظرية الرواية "تكمن أولاً في حرف " في " إذ كان مرتاض موقناً أن ما يقوله في هذا المجالهو مساهمات جزئية من وجهة نظر منهجية خاصة ، وليست شاملة ، في حين نعتقدأن الكتاب الآخر كان أكثر شمولاً واستيعاباً لكثير من إشكاليات الرواية؛لتعددية المناهج التي استقرأها، هذا من ناحية . ومن ناحية أخرى فقد تركزتالكتابة عند عبد الملك مرتاض على تقنيات السرد ، في حين أضاف إليها السيدإبراهيم طرق استنباط الدلالات والمعاني العميقة .
(2)
الرواية الجديدة /الشخصية
" الرواية الجديدة تثور على كل القواعد، وتتنكر لكل الأصول ، وترفض كل القيم والجماليات التي كانت سائدة في كتابة الرواية التي أصبحت توصف بالتقليدية " عبد الملك مرتاض
"بحث في تقنيات السرد" هو العنوان التفسيري لكتاب" في نظرية الرواية" لعبد الملك مرتاض ، وتقنيات السرد كما نعرف هيالإشكاليات الفنية والجمالية المتصورة التي تنشأ عليها الكتابة السرديةعموماً ، والرواية سيدة السرد تحديداً ، بما تمتلكه من عجائبية وسحرية ، جعلت عبد الملك مرتاض يبدأ كتابه في السطور الأولى من المقدمة بقوله:" الرواية ؛هذه العجائبية . هذا العالم السحري الجميل ، بلغتها وشخصياتها، وأزمانها وأحيازها ، وأحداثها ، وما يعتور كل ذلك من خصيب الخيال ،وبديع الجمال ، ما شأنها؟ وما تقنياتها ؟ وما مشكلاتها ؟ وكيف نكتبها إذاكتبناها؟ وكيف نبني عناصرها إذا بنيناها ؟ وكيف نقرؤها إذا قرأناها؟ ".حيث يظهر هنا إشكالية نظرية الرواية التي ما زالت تشغل الدارسين علىاعتبار أن عمرها الفعلي في ثقافتنا الإبداعية لا يزيد على قرن تقريباً .
ففي مقالة هذاالكتاب الأولى ( يتكون الكتاب من عشر مقالات)، وهي بعنوان "الرواية :الماهية ، والنشأة والتطور " يشير المؤلف ، كما أشار غيره من النقاد العرب منقبل،معتمدين على نقد الآخر ، وخاصة على نقد باختين ، إلى أن الرواية "تتخذ ..لنفسها ألف وجه ، وترتدي في هيئتها ألف رداء ، وتتشكل أمام القارئ، تحت ألف شكل ، مما يعسر تعريفها تعريفاً جامعاً مانعاً ".لذلك ينشغل مرتاض مثل غيره في التفريق بين الرواية وبين أجناسأدبية أخرى كالملحمة ، والشعر ، والمسرحية؛ ليتوصل من مقارناته هذه إلى أنالرواية خطاب منفرد بذاته ، وفي الوقت نفسه جنس أدبي له ارتباطات وثيقةبعامة الأجناس الأدبية الأخرى ، لتبدو الرواية كأنهاعالم شديد التعقيد ، متناهي التركيب ، متداخل الأصول ،لها علاقة قويةبالتاريخ ، والمجتمع، حاملة في بنيتها رؤية العالم.وهنا تصير الكتابةالنقدية في ماهية الرواية كأنها كتابة إبداعية يتغزل فيها شاعر ما بسطوةحبيبته التي تملك كل الجماليات .
ويتحدثعن أثر المدرسة الأمريكية في تطور الرواية،وعن نوعين مهمين في فضاءالرواية ،وهما رواية التجسس المنتشرة في الغرب، والرواية الحربية أوالوطنية التي تعد أشهر الأنواع الروائية في الأدب العربي ،معتذراً عنمتابعة الحديث عن أنواع الرواية الأخرى، وخاصة روايات الوثائق، والمسلسلة،والغرامية، والجنس، والطفل، والنفسية...
ولا نعتقد أن هذا الفصل ، أو هذه المقالة حملت شيئاً جديداً ، مفارقاً لما جاء في كتابات الموسوي تحديداً، ونبيل سليمان ، وسامي سويدان ، وسعيد يقطين ، وغيرهم، وأبحاث الروائيينالعرب في مؤتمراتهم المختلفة ، أو مفارقة لما جاء في كتاب "الخطابالروائي" لباختين ...وإشارات الكتاب كافية في توثيق كثير من الاقتباساتوالمرجعيات الغربية، وكان يجدر بالمؤلف أن يهتم بكتابات النقاد والساردين العرب المحدثين للتأسيس لنظرية الرواية ، حتى يشعرنا بضرورة أهمية فاعليتنا الثقافية المعاصرة ، لا أن يجعلنا صدى سلبياً للثقافة الغربية ، وهامشية غير مفيدة في ذاتها كما لاحظنا ذلك في مقدمة كتابه.
* * *
في المقالة الثانية" أسس البناء السردي في الرواية الجديدة " ، نعتقد أن هذه المقالة من أهممقالات الكتاب ، لأن المؤلف يقارن فيها بين نمطي الرواية التقليدية التيسادت في كتابات ما قبل الحرب العالمية الثانية ، والرواية الجديدة التيسادت بعد الحرب العالمية الثانية، هذه الحرب التي أوجدت أشكالاً جديدة فيالكتابة والفكر،حيث تغير التفكير الفلسفي بظهور الوجودية ، وتغير التفكيرالنقدي بظهور البنيوية ، وتغير الشكل الروائي بظهور الكتابة الجديدة ...هذه الكتابة " التي تثور على كل القواعد، وتتنكر لكل الأصول ، وترفض كلالقيم والجماليات التي كانت سائدة في كتابة الرواية التيأصبحت توصف بالتقليدية ؛ فإذا لا الشخصية شخصية، ولا الحدث حدث ، ولاالحيز حيز ، ولا الزمان زمان ، ولا أي شيء مما كان متعارفاً في الروايةالتقليدية متآلفا اغتدى مقبولاً في تمثيل الروائيين الجدد" كما يقولمرتاض.بحيث مال كتاب الرواية الجديدة إلى تمزيق الشخصيات واضطهادها وتمزيقالحبكة الروائية ، وتدمير التركيبة الزمكانية...
وبخصوصعوامل نشأة الرواية الجديدة يحدد مرتاض العوامل الأربعة التالية: الحربالعالمية الثانية، والحرب التحريرية الجزائرية ، واستكشاف السلاح الذري،وغزو الفضاء. كما يعرف مصطلح الرواية الجديدة ، ويشير إلى طلائعها وملامحهاعند كتاب كثيرين من غير العرب ، منتهيا إلى تأكيد أن الرواية الجديدة " تشكل مدرسة بامتياز" .
ففي الوقت الذي لا يستخدم فيه المؤلف أية وثيقة روائية عربية معاصرة ، نجده بطريقة تعسفية يجعل من حرب التحرير الجزائرية إحدى أسباب نشوء الرواية الجديدة في فرنسا ، لمجرد صدور بعض الروايات والكتب النقدية الفرنسة مصادفة مع هذه الحرب، واعتماداً بشكل مباشر على مقولة للناقد الفرنسي ريمون جان يشير فيها إلى المصادفة بين الرواية الجديدة وحرب التحرير. أليس في هذا مفارقة؟!
***
إن " الشخصية : الماهية / البناء / الإشكالية " هوعنوان المقالة الثالثة في الكتاب، وفي هذه المقالة يقارن مرتاض أولاً بينمصطلحي الشخصية والشخص ، مفضلاً استخدام مصطلح الشخصية ،ثم يوضح أهميةالشخصية في الروايات التقليدية والجديدة . ويتحدث عن علاقة الشخصيةبالضمائر الثلاثة الغائب والمتكلم والمخاطب. كما يحدد أنواع الشخصيةبمسمياتها المختلفة : المركزية ، والثانوية ، والخالية من الاعتبار ،والمدورة ، والمسطحة، والإيجابية ، والسلبية ، والثابتة والنامية . ويفرد عنواناًفرعياً للمفارقة بين شخصيتي المدورة (النامية ) والمسطحة (الثابتة)،وعنواناً آخر لتوضيح علاقة الشخصية بالمشكلات السردية الأخرى ، وينتهي منهذه إلى القول : " إن الشخصية هي التي تكون واسطة العقد بين جميع المشكلاتالأخرى ، حيث إنها هي التي تصطنع اللغة،وهي التي تبث أو تستقبل الحوار،وهيالتي تصطنع المناجاة ، وهي التي تصف معظم المناظر".
وينتهي من هذه المقالة بالإشارةإلى ثلاث مراحل مرت بها الشخصية في القرون الأخيرة ، وهي : مرحلة التوهجوالعنفوان والازدهار ، حيث أنتجت هذه الشخصية في الروايتين التاريخيةوالاجتماعية ، وكان أهم من احتفل بها في هذه المرحلةبالزاك، وزولا، وفلوبير، وسكوت ، وتولستوي ،وكافكا ، ومحفوظ .ومرحلةالتشكك والاهتزاز التي أعقبت الحرب العالمية الأولى ، حيث الشك بإمكانيةصدق تصوير الشخصية لصور الحياة الاجتماعية المختلفة ،ومثّل هذه الكتابة السردية أندري جيد ، وجيميس جويس ، وفيرجينيا وولف. ومرحلة إنكار وجود الشخصية خارجاللغة ، وتمثيلها لصور الحياة الاجتماعية ، وتميزها على بقية عناصر السردالأخرى،ومثّل هذه المرحلة ألان روب جريي، وناطالي صاروط ، وكلود سيمون ،وميشال بيطور،وصمويل بيكيت.
***
إنماهية الرواية وتطورها ما زالت تشكل دوراً حاسماً في أية كتابة نقديةسردية ، بل إن تعريف الرواية بحد ذاته هو إشكاليتها الفنية الأولى ، ومنتعريفها المنفتح المستعصي المتداخل الأجناس ، يمكن أن نثبت مبدئياً أننظرية الرواية هي نظرية مفتوحة وليست مغلقة ، وأن أية كتابة في هذا الفضاءهي تجميع لرؤى وأفكار مختلفة وتصورات مستنتجة من مجموعة النصوص السردية .
أما بخصوص المفارقة بين الروايتين التقليدية والجديدة ، فإذا كنا نقر بأن التطور في الإبداع في مختلف الأجناس الأدبية والفنية جاء مع الحداثة بعد الحرب العالمية الثانية ، فإننا لا ننكر أن هناك كثيراً من النصوص التراثية تعدجديدة ومتجددة ، وأن مسألة التقليدية والجدة ليست محصورة في الزمن بقدر ماهي مسألة موجودة داخل النصوص ، إذ كل تقليدي هو جديد في زمنه ، ومتجدد فيأزمنة لاحقة ، وهذه مسألة يدركها الجميع ، لكن الرواية الجديدة ، فيالتصور العام،استطاعت أن تكسر رتابة عناصر السرد المختلفة وتسلسلها ، وسعتإلى خلط الأوراق الفنية والجمالية المألوفة بطريقة جديدة بعضها مع بعض؛ لتصبح الكتابة أكثر إشكالية ، وأعمق تأثيراً في خلخلة ذهنية التلقي .
وليسلدينا شك في أن الشخصية السردية لعبت وما زالت تلعب الدور الحاسم فيمقاربة الخطابات السردية ، وأنه لا يمكن قراءة بقية عناصر السرد بعيداً عنحركية الشخصية ورؤاها ، دون إغفال كون كل عناصر السرد الأخرى مهمة بدرجاتمتفاوتة ، وأن الكتابة عن أي عنصر فني في السرد ، سواء في فضاءات الشخصية، أو الزمان ، أو المكان ، أو الحدث ، أو الآلية اللغوية ، أو الجمالية...يمكن أن ينتج صفحات كثيرة ، وكل هذا بسبب كون لغة الرواية لغة ممتدةومتشابكة ، ولو وزعنا لغة رواية من ثلاث مئة صفحة على سبيل المثال على ستةعناصر سردية ، لأخذ أي عنصر خمسين صفحة بطريقة التساوي ، إضافة إلى أن أي عنصر فني لا يشتغل وحده مطلقاً ، وإنما يشتغل بطريقة التشابك الحميمي مع بقية العناصر الفنية الأخرى في الرواية .
(3)
اللغة السردية
"أمرالكتابة قائم على العمل البارع باللغة والنسج بألفاظها،في دائرةنظامها،وليس هذا النسج الرفيع الكريم إلا في مقدور الفنانين المتألقين،والكتاب البارعين المتأنقين"عبد الملك مرتاض .
لمتكن مشكلة ازدواجية اللغة العربية تواجه اللغة الشعرية في تاريخها الطويلمثلما واجهت السرديات، إذ كانت اللغة الشعرية أحادية شبه متوحدة ثقافياً،لأنها مستلة من لغة الثقافة الرسمية العليا المعبرة عن تمترس الشعراء فيسياق اللغة الفصيحة العليا نسبياً،طبعاً نستثني من هذا التصور لغة الشعرالشعبي المكتوب باللهجات المحكية الدارجة،والذي لم تحفظ منه ثقافتنااللغوية التراثية إلا الشيء القليل الشائع في السير والملاحم الشعبية.
وإذاكانت اللغة الشعرية تعتز دوماً بأنها لغة ممتلئة بمفردات المعاجم والثقافةاللغوية العليا،فإن اللغة السردية لم تحتفل بهذا السياق،لا في ماضيها،ولافي حاضرها.فهي كانت وما زالت تراعي ضرورة التواصل مع جمهورالمتلقين بمختلف مستوياتهم،كما تحرص على التشبع بالتراكيب الشعبية العاديةالمألوفة في سياق الفصيح أو غير الفصيح ...
وما دمنا نعترف بأن اللغة العربية التي نتعايش معها هي عدة مستويات ، أبرزها من الناحية الآليةاللغة المعجزة، واللغة الفصيحة العليا ، واللغة الفصيحة الثقافية ، واللغةالوسطى الصحفية ، واللغة الدارجة .. ومن الناحية الاجتماعية والثقافيةمتعددة بتعدد الأشخاص ..فإن هذا التصور لتعددية المستويات يجعلالكتابة السردية ، وهي التي تتفاعل مع شخصيات اجتماعية مختلفة ، ذاتمستويات لغوية متعددة، بأصوات متداخلة ومتجاورة في السرد، ومن ثمّ لا يمكن أن تصنف اللغة السردية نفسها في سياق اللغة الشعرية الأحادية ، لأنها في نهاية الأمر لغة سردية متعددة بتعدد الأصوات ، و متنوعة بتنوع التراكيب الثقافية المنتجة في تصور الكاتب عن الشخصيات .
ولعلالإشكالية الرئيسة التي تبرز في لغة السرد هي إشكالية ازدواجية اللغةالفصيحة والعامية ، فهناك من يتشبث برفض دخول العامية إلى لغة الإبداع ،طالباً من الكتاب أن يراعوا في سردياتهم لغة الحال لا لغة اللسان ..ويقابل ذلك وجود فئة أخرى ، وخاصة من الكتاب السرديين أنفسهم الذين يرونضرورة كتابة السرد أحياناً بلغة اللسان التي تنطق بها الشخصيات، وهي غالباً لهجات دارجة.
وإجمالاً كانت هاتان الرؤيتان أهم ما أنتج في النقد السردي في جانبه اللغوي، وكان الميل العام إلى أن تكون اللغة العربية الفصيحة الوسطى الصحفية التعليمية المبسطة هي لغة الكتابة السردية ، فتكون بذلك حافظت هذه اللغة على آلية الفصيحة من جهة ، وحافظت على حميمية العلاقة مع جمهور المتلقين من جهة ثانية . ولا مانع في كل الأحوال سردياًأن تكون اللغة العربية الفصيحة متعددة المستويات إذا كانت الغاية هي الحرصعلى الكتابة بلغة فصيحة مبسطة ، في سبيل التقليل من استخدام العامية الدارجة في لغة السرد .
وإجمالاً،فإن التراكيب الفصيحة هي التي تعتمد على سلامة التركيب النحوي ، وسلامةالاشتقاق اللغوي،وسلامة نطق الحركات... في حين تتحول الفصيحة إلى دارجةعامية عندما تكسر واحدة من هذه السلامات الثلاث أو غيرها.فإذا قلنا (سافرالرجلين) أو (دعيتهم إلى الندوة )، أو (كِيْفْ حالك ) نكون في سياقالعامية ، وأن الأمر يحتاج إلى تحويرات بسيطة للغاية لنصبح في سياقالفصيحة، وهو سياق (سافر الرجلان)،و(دعوتهم إلى الندوة)، و(كَيْفَحالك)... ومن ثمّ ليس البون شاسعاً كما يظن البعض بين الفصيحة والدارجة فيازدواجية لغتنا .
ولوتوقفنا عند مجمل النصوص السردية العربية لوجدناها تستخدم اللغة العربيةالفصيحة في مستوى اللغة الوسطى الصحفية المبسطة التي لا تخلو من أخطاء فيالمفردات والتراكيب على طريقة خطأ شائع أفضل من صواب مهمل . وكأن الكتابةباللغة العربية الوسطى الفصيحة نسبياً هي الأفضل لأي قارئ عربي من أية لغةدارجة ، لأن اللغة الدارجة عندما تكتب تحديداً تختلف صورتها، فتصبح أكثر تعقيداً بدرجات من اللغة الفصيحة التي تعود عليها القارئالعربي في المدرسة وفي الكتاب، لذلك لم يفضل جل الكتاب العرب الكتابةباللهجات الدارجة ، وهذا الموقف بحد ذاته ميزة ثقافية .
* * *
يكتبعبد الملك مرتاض في كتابه " في نظرية الرواية مقالة أو فصلاً بعنوان "مستويات اللغة السردية وأشكالها " ويتحدث في سياق هذا العنوان عن خمسمفردات هي " اللغة والمعرفة والحياة "و" اللغة والفلسفة والسيمائية " و"لغة الكتابة الروائية ومستوياتها" و"اللغة الإبداعية بين الوسيلة والغائية" و" أشكال اللغة الروائية : لغة النسج السردي ، واللغة الحوارية، ولغةالمناجاة ".
والغريبأن يعد المؤلف هذا الفصل كأنه الفريد من نوعه ، والأول من جنسه،فيالثقافتين العربية،والغربية،وكأنه تناسى أن المعركة حول اللغة أصبحت منالأشياء المستهلكة في السرديات منذ منتصف القرن العشرين .ورغم ذلك فإنه لم يقدم أكثر مما قيل في هذا المجال،باستثناء سلبية الصوت الخطابي المرتفع الذي يطالب به أن تكون اللغة السردية مشابهة للغة الشعرية على نحو قوله التالي الممتلئ بالمترادفات والألفاظ المعجمية المهملة :"وإذالم تكن لغة الرواية شعرية،أنيقة،رشيقة،عبقة،مغردة،مختالة ، مترهيئة ،متزينة ، متغجرة،لا يمكن إلا أن تكون لغة شاحبة،ذابلة،عليلة،كليلة،حسيرة،خلقة،بالية،فانية،وربما شعثاء غبراء ".أو في قوله: "إنا نطالببتبني لغة شعرية في الرواية ، ولكن ليست كالشعر ، ولغة عالية المستوى ولكنليست بالمقدار الذي تصبح فيه تقعرا وتفيهقا ".
وكلامهعن اللغة لا يخلو من القيمة المباشرة في توصيف لغة السرديات ، إذ يمكن عدّالصفحات الثماني الأخيرة، الخاصة بأشكال اللغة الروائية ، مجدية ، وهي تشير إشارات عابرة إلى فضاءات النسيج السردي ، والحوارية ، والمناجاة، وكان من الأجدر أن يكون الفصل كله متعلقاً بهذه الفضاءات الثلاثة تنظيراً وتطبيقاً ، بدلاً من أن يكون هجوماًغير مبرر على الروائيين وعلى لغتهم دون مبرر، على نحو قوله " فقد عهدنا منكتاب الرواية ... لا يتقنون أدوات الكتابة ، فتراهم يكابدون من أجل نسجكتابات ضعيفة على مستويات النحو واللغة والأسلبة جميعاً". ومع هذا القول الخطِر لم يفرخ المؤلف في هذا الفصل كتابات كل هؤلاء الكتاب الضمنيين السلبيين من وجهة نظره، فيشرحهم في جسد لغته النقدية المصرة على أن تكون فضفاضة، باستثناء إشارته إلى إحسان عبد القدوس ، ويوسف السباعي كساردين سلبيين في اتجاههما إلى العامية المصرية.
وفي الوقت الذي يقتبس فيه المؤلف من النقد الغربي مقولةأن تكون الرواية مركبة من عدد ضخم من التراكيب والصياغات ، ويؤمن بضرورةأن تكون المستويات اللغوية متعددة في الرواية ، نجده لا يجد في الروايةالعربية المعاصر المستويات التي ينصّ عليها النقد الغربي ، أو ما يجده في"ألف ليلة وليلة" التي يصورها على أنها "عسل الشهد، مزج بالزبد الطري ..ذوقان في ذوق واحد ، أو قل: أذواق تشكل ذوقاً واحداً " ، وكأن الروايةالعربية مقفرة بلهاء.
ثم تغدو نظرية المطالبة لديه نظرية رومانسية براجماتيةونقدية طوباوية لا تعترف بواقع الكتابة العربية المغيبة، في قوله التالي:" إن المسألة اللغوية في السردانية تحتاج إلى براعة المزج ، كالعصيرالممزوج من جملة من الفواكه مزجاً مدروساً يراعى فيه رقة الذوق .. نشربعصائر في عصير ، ونتلذذ بذلك تلذذاً .. أما الطريقة التي طبقها كثير منالروائيين العرب المعاصرين في مسألة المستويات اللغوية ، فإنها تشبه خلطالخل بالعسل ، والملح بالسكر ، والزيت بالماء ، وكل شيء بما لا ينسجم معصنوه "، وفي هذا القول من التعسف شيء كثير ، لا يحتاج إلى إغراء بالهدم .
إنالكلام السابق هو طوباوية الرواية ، وربما تصلح "روايات عبير " أن تكونعصائر كوكتيل مناسبة ..لذلك تصبح اللغة النقدية هنا لغة مجانية أكثر منهالغة علمية، ولعل شتم أرضية الرواية العربية بهذا الشكل هو إساءة إلىالثقافة السردية العربية، وإساءة إلى المثقفين العرب،ونرجسية الذات المستعلية المتشبثة بتقديس التراث والآخر الغربي...!! وربمانزعم أن الفقر الثقافي المطلع على النصوص السردية العربية المهمة هو الذيينتج هذه الشعارات المعيارية المشوهة.
وهكذايغدو عبد الملك مرتاض في تنظيره للغة السردية مطالباً بأن تكون الروايةقصيدة شعر ، وبكل تأكيد يريدها أن تكون قصيدة عمودية مثل قصائد أبي فراسالحمداني، أو عمر بن أبي ربيعة !لتصبح اللغة المطلوبة لغة شعرية مئةبالمئة ، لأنه يريد " اللغة وجمالها ، واللغة وأسرها ، واللغة وسحرها ،واللغة وتجليات تشكيلها ، وفعلها وتفاعلها ، ومثولها لوحات لوحات أمامكوأنت تقرأ ، وكأنك تشم عطراً بين الحروف ، بل كأنك ترف رضاباً بين الألفاظ، بل كأنك ترشف شهداً بين الجمل". وفي رأيي أن أي كاتب يصرف وقته في إنتاجهذه "المرأة " اللغوية ، سيكون بيجماليون ينحت تمثالاً لفتاة ساحرة الجمال، وما أن تدب في التمثال الحياة حتى يصبح التمثال موبوءاً ، على الأقل من وجهة نظر توفيق الحكيم في مسرحيته المشهورة عن بيجماليون.
أليست أفكار مرتاض طوباوية مثالية ؟ ثم ألا يعد في هذا الجانب واحداً من النقاد الذين يريدون الرواية أن تكون قصيدة ، ولو طارت ..على طريقة " عنزة ولو طارت " ؟!
إنهلا مجال لجعل اللغة السردية لغة شعرية ، وإن كانت الشعرية ميزة في أية لغةإبداعية ، بل إن تعددية اللغة السردية وتنوع مستوياتها تكسب العمل السرديانفتاحاً على الأصوات الحياتية كافة ، مما يجعل من الرواية صياغة جماليةللواقع مهما حاولت أن تغرق نفسها في التخييل أو الوهم أو أي فضاء آخر غيرالواقع الذي أنتجت فيه ولأجله.