نقد أدبي > بطاركة الرواية العربية
بطاركة الرواية العربية
مها حسن
جرت العادة أن يكتب الناقد عن العمل الإبداعي " رواية ، قصة ، مسرحية .... " ، ولكن أن يكتب المبدع عن العمل النقدي ، فهو أمر لم يتحول بعد إلى أن يغدو " عادة " .
من هذه اللا " عادة " أتجه اليوم بوصفي روائية ، إلى الكتابة عن عمل نقدي ، وهو كتاب " معراج النص/ دراسات في السرد الروائي " للدكتور نضال الصالح ، الصادر عن دار البلد ، دمشق 2003 .
ونظراً لضآلة الأعمال النقدية الجادة العربية عموماً ، والسورية خصوصاً ، وللانتشار المذهل ، إلى حد " المرَضي " للأعمال المسماة تجاوزاً " إبداعية " ولا سيما في مجالي الرواية والشعر ، وللانحدار الهائل في الإنتاج الإبداعي المعاصر ، يحق لنا ، مبدعين ونقاداً ، الاحتفاء بأي عمل ، سواء على الصعيد النقدي أم الإبداعي .
لم أكن أرغب بالتطرق إلى علاقة الإبداع بالنقد ، وأسبقية أحدهما على الآخر ، أو تبعيته ، أو أولويته ... ولكني مضطرة هنا للقيام بالاحتفاء بعمل نقدي ، كما قلت سابقاً ، لقلة النتاج النقدي الجاد والأكاديمي ، إذ أننا نجد العديد من الدراسات النقدية العربية التي تفتقد إلى المنهجية ، وتتبع المزاجية والأهواء الشخصية ، وأنا لا أدعي هنا " أكاديميتي " النقدية ، ولكني سأتناول العمل " معراج النص " من مكاني الروائي ذاته ، غير ناسبة لنفسي الصفة النقدية .
من هنا ، أجد أن لي الحق في قراءة موسعة ، تحليلية ، علنية ، تشريحية لكتاب " معراج النص " ، بوصفي روائية مهتمة بالنتاج النقدي الجاد والرصين ، الذي تفتقده المكتبة العربية ، والسورية على الأخص ، إذ أننا باستثناء بعض الأسماء التي لا تتجاوز عدد الأصابع مثل الرائع " جابر عصفور " نكاد نعاني من الشح والفقر النقدي وإذا لم تكن الساحة الإبداعية أفضل حالاً ، فإنها على الأقل تتسم بالثراء الكمي ،إذن من هنا ، يأتي احتفائي بعمل الدكتور الصالح ، الذي ينتمي ، برأيي ، إلى فئة العمل الجاد والرصين ، إلى درجة الراديكالية ، والابتعاد عن الأهواء الشخصية والمزاجية ، والانطباعية الذاتية .
يقسم السيد الصالح كتابه إلى عدة فصول ، وأسمح لنفسي بقسمه إلى جزأين أساسيين : الأول نظري ، والثاني تطبيقي .
أولاً : القسم النظري ، أو التنظيري :
1ً- مفهوم التبئير :
يدخل الكاتب مباشرة في الإشكاليات النقدية المعاصرة ، عبر " مفهوم التبئير في السرديات " في حوالي ثلاث وعشرين صفحة ، مستعرضاً مفهوم التبئير لغوياً وتاريخياً ، منذ أرسطو ، الذي يعد الكاتب ثناءه على القصة الهوميرية ( أول إرهاصات النقد بالمفهوم ) ، إلى أن ينقطع المفهوم خلال واحد وعشرين قرناً حتى ظهور " غوستاف فلوبير " إلى أن يصل المفهوم / التبئير إلى المعاصرة مروراُ بـ هنري جيمس ، لوبوك ، توماتشفسكي ، باختين ، فريدمان ، بويون ، فرانسواز فان روسوم كيون ، شانزل ، فورستر ، تودوروف ،أوسبنسكس ، جوليا كريستيفا ، جينيت ، لينتفلت ، ...
ومع عرض رأي كل من الأسماء المذكورة وتعريفه ورؤيته لمفهوم التئبير ، نقع على فصل هام يوضح رؤية الفكر أو النقد الغربي للتئبير ، وربما كان الوقوف عند جيرار جينيت هو الأكثر أهمية في تاريخ المفهوم ، إذ أنه ، أي جينيت هو أول من استخدم " التبئير " كاسم ، وآثره على ما سبقه من أسماء ، وتأتي أهمية جينيت كذلك من معارضته لـ " تودوروف " الذي اعتبر التبئير مكونا مستقلا في حين رآه جينيت دورا ثانويا ، وبمقابل ذلك فقد اعتنى جينيت بـ " الصيغة " Le mode وميزها عن الصوت La voix إذ كان سابقوه قد خلطوا بين الاثنين ، أي " بين السؤال : مَن الشخصية التي توجّه وجهة نظرها المنظور السردي ؟ وهذا السؤال المختلف تماماً : مَن السارد ؟ أو بعبارة أوجز : بين السؤال : مَن يرى ؟ والسؤال : من يتكلم " ص 23 من الكتاب .
بعد هذه الوقفة الموفقة الطويلة نسبياً مع النقد الغربي ، يتجه الكاتب إلى مفهوم التئبير في الخطاب النقدي العربي ، لنجد أنه ما من إضافة للفهم العربي لهذا المفهوم ، عن المنجز الغربي له " باستثناءات قليلة " كما يذكر الكاتب مستشهداً بـ عبد الله ابراهيم ود. صلاح فضل .
2ً- الاسترجاع :
بعد التعرف على الاسترجاع لغوياً ، يستعرضه نقدياً ، مستنداً أكثر على جيرار جينيت حول توسيعه لمفهوم الاسترجاع :
1-استرجاع داخلي : داخلي غيريّ ، وداخلي مِثليّ " مثلي تكميلي ، ومثلي تكراري
2-استرجاع خارجي
3-استرجاع مختلط
وكذلك يميز جينيت ، تبعا لعلاقة الاسترجاع بالمدى والسعة بين : الاسترجاع الجزئي ، الاسترجاع التام والاسترجاع المفتوح .
ثم يتعرض الكاتب لتقنية الاسترجاع في الرواية من خلال " المدار " نموذجاً، و" الماء والأسماء " .
3ً- فكر التنوير في الرواية العربية :
متخذاً " غابة الحق " نموذجاً ، إذ يراها " نموذجاً مبكراً ومكتملاً للأطروحة النقدية التي ترى أن الرواية العربية " كانت .. ، في نشأتها ، تجسيداً لعقلانية الاستنارة التي انبنى عليها مشروع النهضة في محاولته تأصيل الوعي المدني " ص 58 من الكتاب ، ويجدها ، إضافة إلى كونها نصاً أدبياً ، نصاً تنويرياً زاخراً بالأفكار التي تطمح إلى تحرير الواقع .
وإذا أخذنا عنوان الكتاب الأصلي " معراج النص " والمعراج حسب المنجد : السلّم أو المصعد ، فنحن لا نجد أهمية للتحدث عن " الأفكار التنويرية " في النص ، خاصة وأن الكاتب ذاته يعتبر " قيمة النص الإبداعي لا تكمن فيما يقوله فحسب ، بل في طرائق صوغه الجمالي لهذا القول أيضاً ، أي في عروجه بمحكيه من أرض الواقع إلى أرض الفن " من المقدمة .
لذلك ، أجد أن من غير المقبول ، أن يُقدم ناقد في سن الدكتور الصالح ( مواليد 1957 ) على الاحتفاء بالأفكار التنويرية لرواية صدرت في عام 1865، وكأننا لا نزال نقبع في مرحلة الشعارات والأفكار التي تجاوزها النقد ، وبحسب مفهوم التبئير ذاته الذي اشتغل عليه الصالح نفسه " يستجيب هذا البحث في مفهوم التبئير focalization لهاجس النظريات النقدية المعاصرة ، أي لـ " السرديات " التي نقلت الدرس النقدي من كونه بحثاً في " الشيء " الذي يُقال في النص إلى كونه بحثاً في كيفية / كيفيات قول هذا " الشيء " . ص 7 من الكتاب ، فما علاقة الأفكار التنويرية ، وأين تكمن أهميتها في الدرس النقدي المعاصر .
لا أنكر ، فكرياً ، الأهمية التاريخية ، للأفكار التنويرية التي ساهمت في تقدم المجتمعات ، وقد حدث ذلك في الفكر الغربي قبلنا بكثير من الزمن ، وروسو وفولتير والآخرون أدلة على ذلك ، ولكن النقد المعاصر لم يعد يُعنى بالفكرة ، بقدر ما انصب اهتمامه على " الكيفية " التي تقال بها الفكرة .
من هنا ، أجد أن " غابة الحق " وفصل " الأفكار التنويرية " زائداً في الكتاب ، لا ضرورة له في معاريج النصوص ، سيما أيضاً ، وأنه ، أي السيد الصالح يؤكد ، كما في معظم أعمال تلك المرحلة " طغيان خطاب الأقوال على خطاب الأفعال " فهل لا نزال نراوح في دائرة الأقوال ؟! ويأتي ذلك لدى السيد الصالح على النقيض من كتابه الصادر عام 2001 عن اتحاد الكتاب العرب " النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة " إذ أنه تناول نماذج حداثية ، إبداعية ، تستحق الوقوف أمامها من أمثال : جبرا ابراهيم جبرا ، ادوار الخراط ، لويس عوض ، صبري موسى والطاهر وطار .
ثانياً : القسم التطبيقي :
وهو يبدأ برايي منذ الصفحة رقم 80 من الكتاب ، وهو القسم الذي عنونه المؤلف بـ " صباح محي الدين " .
باستثناء هذا القسم ، إذ أن " صباح محي الدين " تجربة ونموذجاً فريداً في سيرورة الكتابة السورية ، سواء من حيث المستوى الإبداعي ، أو الشخصي ، ويذكرنا الرحيل الدرامي المفجع لـ محي الدين برحيل جاك فاشيه ، الذي تحدث عنه بروتون ، وقد مات منتحراً في سن مبكرة ، 23 عاماً ، كما فقدنا محي الدين وهو في السابعة والثلاثين من عمره .
لذلك ، ولأن صباح محي الدين لم يأخذ حقه في الساحة النقدية السورية ، فإني أحترم قيام الدكتور الصالح بتخصصي قسم لمقاربة نتاجه .
باستثناء هذا القسم إذن ، من القسم التطبيقي في كتاب السيد الصالح ، تأتي بقية الفصول باهتة ، وأنا لم أجد اصطلاحاً أقل قسوة من ذلك ، إذ أن الجانب التنظيري في الكتاب يُعد على مستوى مخالف للقسم التطبيقي ، فكأن الكتاب ، ينزاح من حيث الأهمية والمستوى ، وبدلاً من أن يتابع خطه في " العروج " فهو يهبط .
والهبوط هنا لا يأخذ شكلاً أخلاقياً بالضرورة ، كما جرت العادة على تناول الففظة ، ولكنه هبوط فني ، وقيمي ، وأنا أعتب بشدة على الدكتور نضال الصالح الموسوم ، بالنسبة لي على الأقل " بالراديكالية " لتناوله نماذجاً " عفا عليها الدهر النقدي المعاصر " فأين هذه الأسماء من " التبئير " ؟!
لا أفهم ، لماذا لا يزال النقد ، على قلته ، يحتفي بأسماء لم تقدم أكثر من حكاية ، ولم يكن نتاجها أكثر من كونه بحثاً في " الشيء " الذي يُقال في النص ، أي وفقاً للمدارس النقدية ، والنتاج الإبداعي السلفي .
وأنا أعتبر أن الأسماء التي اشتغل عليها نقدياً في كتابه هذا ، هي رموز للبطريركية الأدبية في سورية ، ولا أريد الدخول في معركة فكرية ، لأتحدث عن البطاركة العرب في الرواية العربية ،والتي أصبح أحد أعمدتها ، مرجعية للرواية العربية ، بنظر الغرب حتى !
لذلك أجد أن كتاب السيد الصالح يتجزأ إلى جزأين ، تنظيري ، مهم ، وضروري للمكتبة العربية ، والآخر ، ومنذ الصفحة 102 ، يتحول مسار الكتاب ، لتطبيق أفكار معاصرة ، حداثية ، على نصوص لا تتسم بذلك ، كامرأة عجوز ترتدي ثياباً معاصرة .
السؤال موجه هنا للسيد الصالح : هل تخلو الساحة السورية من مبدعين تنطبق عليهم مواصفاتك في الاشتغال النقدي عليهم " لروائيين ينتمون إلى أجيال أدبية مختلفة ، ورؤى فكرية متعددة ، ولعدد منهم رصيد ابداعي يمثل ، .... علامة فارقة في التجربة الروائية السورية " ؟! ، والسيد الصالح ، والكثيرون غيره ، يعرفون أن روائياً مثل " الطيب الصالح " ذاع صيته من عمل واحد ، أو اثنين على أكثر تقدير ، وأن الكم لا يعد مقياساً للإبداع .
ثمة أسماء سورية تستحق الاهتمام بها أكثر ، وهي بحق ، راديكالية على مستوى الإنتاج الإبداعي ، مثل ممدوح عزام ، وخليل صويلح وغيرهما .
أريد الاعتراف في نهاية هذه القراءة السريعة لكتاب الدكتور نضال الصالح ، لو لم يكن الكتاب من إنتاجه ، لما اقترفت الكتابة عنه ، لأني أكن احتراماً حقيقياً للسيد الصالح ، نابعاً من جديته ومنهجيته ، وراديكاليته النقدية .
لذلك ، وبتناول عمل لمؤلف راديكالي ، أبرر لنفسي راديكاليتي في تناوله .
بطاركة الرواية العربية
مها حسن
جرت العادة أن يكتب الناقد عن العمل الإبداعي " رواية ، قصة ، مسرحية .... " ، ولكن أن يكتب المبدع عن العمل النقدي ، فهو أمر لم يتحول بعد إلى أن يغدو " عادة " .
من هذه اللا " عادة " أتجه اليوم بوصفي روائية ، إلى الكتابة عن عمل نقدي ، وهو كتاب " معراج النص/ دراسات في السرد الروائي " للدكتور نضال الصالح ، الصادر عن دار البلد ، دمشق 2003 .
ونظراً لضآلة الأعمال النقدية الجادة العربية عموماً ، والسورية خصوصاً ، وللانتشار المذهل ، إلى حد " المرَضي " للأعمال المسماة تجاوزاً " إبداعية " ولا سيما في مجالي الرواية والشعر ، وللانحدار الهائل في الإنتاج الإبداعي المعاصر ، يحق لنا ، مبدعين ونقاداً ، الاحتفاء بأي عمل ، سواء على الصعيد النقدي أم الإبداعي .
لم أكن أرغب بالتطرق إلى علاقة الإبداع بالنقد ، وأسبقية أحدهما على الآخر ، أو تبعيته ، أو أولويته ... ولكني مضطرة هنا للقيام بالاحتفاء بعمل نقدي ، كما قلت سابقاً ، لقلة النتاج النقدي الجاد والأكاديمي ، إذ أننا نجد العديد من الدراسات النقدية العربية التي تفتقد إلى المنهجية ، وتتبع المزاجية والأهواء الشخصية ، وأنا لا أدعي هنا " أكاديميتي " النقدية ، ولكني سأتناول العمل " معراج النص " من مكاني الروائي ذاته ، غير ناسبة لنفسي الصفة النقدية .
من هنا ، أجد أن لي الحق في قراءة موسعة ، تحليلية ، علنية ، تشريحية لكتاب " معراج النص " ، بوصفي روائية مهتمة بالنتاج النقدي الجاد والرصين ، الذي تفتقده المكتبة العربية ، والسورية على الأخص ، إذ أننا باستثناء بعض الأسماء التي لا تتجاوز عدد الأصابع مثل الرائع " جابر عصفور " نكاد نعاني من الشح والفقر النقدي وإذا لم تكن الساحة الإبداعية أفضل حالاً ، فإنها على الأقل تتسم بالثراء الكمي ،إذن من هنا ، يأتي احتفائي بعمل الدكتور الصالح ، الذي ينتمي ، برأيي ، إلى فئة العمل الجاد والرصين ، إلى درجة الراديكالية ، والابتعاد عن الأهواء الشخصية والمزاجية ، والانطباعية الذاتية .
يقسم السيد الصالح كتابه إلى عدة فصول ، وأسمح لنفسي بقسمه إلى جزأين أساسيين : الأول نظري ، والثاني تطبيقي .
أولاً : القسم النظري ، أو التنظيري :
1ً- مفهوم التبئير :
يدخل الكاتب مباشرة في الإشكاليات النقدية المعاصرة ، عبر " مفهوم التبئير في السرديات " في حوالي ثلاث وعشرين صفحة ، مستعرضاً مفهوم التبئير لغوياً وتاريخياً ، منذ أرسطو ، الذي يعد الكاتب ثناءه على القصة الهوميرية ( أول إرهاصات النقد بالمفهوم ) ، إلى أن ينقطع المفهوم خلال واحد وعشرين قرناً حتى ظهور " غوستاف فلوبير " إلى أن يصل المفهوم / التبئير إلى المعاصرة مروراُ بـ هنري جيمس ، لوبوك ، توماتشفسكي ، باختين ، فريدمان ، بويون ، فرانسواز فان روسوم كيون ، شانزل ، فورستر ، تودوروف ،أوسبنسكس ، جوليا كريستيفا ، جينيت ، لينتفلت ، ...
ومع عرض رأي كل من الأسماء المذكورة وتعريفه ورؤيته لمفهوم التئبير ، نقع على فصل هام يوضح رؤية الفكر أو النقد الغربي للتئبير ، وربما كان الوقوف عند جيرار جينيت هو الأكثر أهمية في تاريخ المفهوم ، إذ أنه ، أي جينيت هو أول من استخدم " التبئير " كاسم ، وآثره على ما سبقه من أسماء ، وتأتي أهمية جينيت كذلك من معارضته لـ " تودوروف " الذي اعتبر التبئير مكونا مستقلا في حين رآه جينيت دورا ثانويا ، وبمقابل ذلك فقد اعتنى جينيت بـ " الصيغة " Le mode وميزها عن الصوت La voix إذ كان سابقوه قد خلطوا بين الاثنين ، أي " بين السؤال : مَن الشخصية التي توجّه وجهة نظرها المنظور السردي ؟ وهذا السؤال المختلف تماماً : مَن السارد ؟ أو بعبارة أوجز : بين السؤال : مَن يرى ؟ والسؤال : من يتكلم " ص 23 من الكتاب .
بعد هذه الوقفة الموفقة الطويلة نسبياً مع النقد الغربي ، يتجه الكاتب إلى مفهوم التئبير في الخطاب النقدي العربي ، لنجد أنه ما من إضافة للفهم العربي لهذا المفهوم ، عن المنجز الغربي له " باستثناءات قليلة " كما يذكر الكاتب مستشهداً بـ عبد الله ابراهيم ود. صلاح فضل .
2ً- الاسترجاع :
بعد التعرف على الاسترجاع لغوياً ، يستعرضه نقدياً ، مستنداً أكثر على جيرار جينيت حول توسيعه لمفهوم الاسترجاع :
1-استرجاع داخلي : داخلي غيريّ ، وداخلي مِثليّ " مثلي تكميلي ، ومثلي تكراري
2-استرجاع خارجي
3-استرجاع مختلط
وكذلك يميز جينيت ، تبعا لعلاقة الاسترجاع بالمدى والسعة بين : الاسترجاع الجزئي ، الاسترجاع التام والاسترجاع المفتوح .
ثم يتعرض الكاتب لتقنية الاسترجاع في الرواية من خلال " المدار " نموذجاً، و" الماء والأسماء " .
3ً- فكر التنوير في الرواية العربية :
متخذاً " غابة الحق " نموذجاً ، إذ يراها " نموذجاً مبكراً ومكتملاً للأطروحة النقدية التي ترى أن الرواية العربية " كانت .. ، في نشأتها ، تجسيداً لعقلانية الاستنارة التي انبنى عليها مشروع النهضة في محاولته تأصيل الوعي المدني " ص 58 من الكتاب ، ويجدها ، إضافة إلى كونها نصاً أدبياً ، نصاً تنويرياً زاخراً بالأفكار التي تطمح إلى تحرير الواقع .
وإذا أخذنا عنوان الكتاب الأصلي " معراج النص " والمعراج حسب المنجد : السلّم أو المصعد ، فنحن لا نجد أهمية للتحدث عن " الأفكار التنويرية " في النص ، خاصة وأن الكاتب ذاته يعتبر " قيمة النص الإبداعي لا تكمن فيما يقوله فحسب ، بل في طرائق صوغه الجمالي لهذا القول أيضاً ، أي في عروجه بمحكيه من أرض الواقع إلى أرض الفن " من المقدمة .
لذلك ، أجد أن من غير المقبول ، أن يُقدم ناقد في سن الدكتور الصالح ( مواليد 1957 ) على الاحتفاء بالأفكار التنويرية لرواية صدرت في عام 1865، وكأننا لا نزال نقبع في مرحلة الشعارات والأفكار التي تجاوزها النقد ، وبحسب مفهوم التبئير ذاته الذي اشتغل عليه الصالح نفسه " يستجيب هذا البحث في مفهوم التبئير focalization لهاجس النظريات النقدية المعاصرة ، أي لـ " السرديات " التي نقلت الدرس النقدي من كونه بحثاً في " الشيء " الذي يُقال في النص إلى كونه بحثاً في كيفية / كيفيات قول هذا " الشيء " . ص 7 من الكتاب ، فما علاقة الأفكار التنويرية ، وأين تكمن أهميتها في الدرس النقدي المعاصر .
لا أنكر ، فكرياً ، الأهمية التاريخية ، للأفكار التنويرية التي ساهمت في تقدم المجتمعات ، وقد حدث ذلك في الفكر الغربي قبلنا بكثير من الزمن ، وروسو وفولتير والآخرون أدلة على ذلك ، ولكن النقد المعاصر لم يعد يُعنى بالفكرة ، بقدر ما انصب اهتمامه على " الكيفية " التي تقال بها الفكرة .
من هنا ، أجد أن " غابة الحق " وفصل " الأفكار التنويرية " زائداً في الكتاب ، لا ضرورة له في معاريج النصوص ، سيما أيضاً ، وأنه ، أي السيد الصالح يؤكد ، كما في معظم أعمال تلك المرحلة " طغيان خطاب الأقوال على خطاب الأفعال " فهل لا نزال نراوح في دائرة الأقوال ؟! ويأتي ذلك لدى السيد الصالح على النقيض من كتابه الصادر عام 2001 عن اتحاد الكتاب العرب " النزوع الأسطوري في الرواية العربية المعاصرة " إذ أنه تناول نماذج حداثية ، إبداعية ، تستحق الوقوف أمامها من أمثال : جبرا ابراهيم جبرا ، ادوار الخراط ، لويس عوض ، صبري موسى والطاهر وطار .
ثانياً : القسم التطبيقي :
وهو يبدأ برايي منذ الصفحة رقم 80 من الكتاب ، وهو القسم الذي عنونه المؤلف بـ " صباح محي الدين " .
باستثناء هذا القسم ، إذ أن " صباح محي الدين " تجربة ونموذجاً فريداً في سيرورة الكتابة السورية ، سواء من حيث المستوى الإبداعي ، أو الشخصي ، ويذكرنا الرحيل الدرامي المفجع لـ محي الدين برحيل جاك فاشيه ، الذي تحدث عنه بروتون ، وقد مات منتحراً في سن مبكرة ، 23 عاماً ، كما فقدنا محي الدين وهو في السابعة والثلاثين من عمره .
لذلك ، ولأن صباح محي الدين لم يأخذ حقه في الساحة النقدية السورية ، فإني أحترم قيام الدكتور الصالح بتخصصي قسم لمقاربة نتاجه .
باستثناء هذا القسم إذن ، من القسم التطبيقي في كتاب السيد الصالح ، تأتي بقية الفصول باهتة ، وأنا لم أجد اصطلاحاً أقل قسوة من ذلك ، إذ أن الجانب التنظيري في الكتاب يُعد على مستوى مخالف للقسم التطبيقي ، فكأن الكتاب ، ينزاح من حيث الأهمية والمستوى ، وبدلاً من أن يتابع خطه في " العروج " فهو يهبط .
والهبوط هنا لا يأخذ شكلاً أخلاقياً بالضرورة ، كما جرت العادة على تناول الففظة ، ولكنه هبوط فني ، وقيمي ، وأنا أعتب بشدة على الدكتور نضال الصالح الموسوم ، بالنسبة لي على الأقل " بالراديكالية " لتناوله نماذجاً " عفا عليها الدهر النقدي المعاصر " فأين هذه الأسماء من " التبئير " ؟!
لا أفهم ، لماذا لا يزال النقد ، على قلته ، يحتفي بأسماء لم تقدم أكثر من حكاية ، ولم يكن نتاجها أكثر من كونه بحثاً في " الشيء " الذي يُقال في النص ، أي وفقاً للمدارس النقدية ، والنتاج الإبداعي السلفي .
وأنا أعتبر أن الأسماء التي اشتغل عليها نقدياً في كتابه هذا ، هي رموز للبطريركية الأدبية في سورية ، ولا أريد الدخول في معركة فكرية ، لأتحدث عن البطاركة العرب في الرواية العربية ،والتي أصبح أحد أعمدتها ، مرجعية للرواية العربية ، بنظر الغرب حتى !
لذلك أجد أن كتاب السيد الصالح يتجزأ إلى جزأين ، تنظيري ، مهم ، وضروري للمكتبة العربية ، والآخر ، ومنذ الصفحة 102 ، يتحول مسار الكتاب ، لتطبيق أفكار معاصرة ، حداثية ، على نصوص لا تتسم بذلك ، كامرأة عجوز ترتدي ثياباً معاصرة .
السؤال موجه هنا للسيد الصالح : هل تخلو الساحة السورية من مبدعين تنطبق عليهم مواصفاتك في الاشتغال النقدي عليهم " لروائيين ينتمون إلى أجيال أدبية مختلفة ، ورؤى فكرية متعددة ، ولعدد منهم رصيد ابداعي يمثل ، .... علامة فارقة في التجربة الروائية السورية " ؟! ، والسيد الصالح ، والكثيرون غيره ، يعرفون أن روائياً مثل " الطيب الصالح " ذاع صيته من عمل واحد ، أو اثنين على أكثر تقدير ، وأن الكم لا يعد مقياساً للإبداع .
ثمة أسماء سورية تستحق الاهتمام بها أكثر ، وهي بحق ، راديكالية على مستوى الإنتاج الإبداعي ، مثل ممدوح عزام ، وخليل صويلح وغيرهما .
أريد الاعتراف في نهاية هذه القراءة السريعة لكتاب الدكتور نضال الصالح ، لو لم يكن الكتاب من إنتاجه ، لما اقترفت الكتابة عنه ، لأني أكن احتراماً حقيقياً للسيد الصالح ، نابعاً من جديته ومنهجيته ، وراديكاليته النقدية .
لذلك ، وبتناول عمل لمؤلف راديكالي ، أبرر لنفسي راديكاليتي في تناوله .