الدكتور
جميل حمداوي
صورة العنوان في الرواية العربية
الاثنين ٣١ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
1- مفهوم العنوان:
يعد العنوان من أهم عناصر النص الموازي وملحقاته الداخلية؛ نظرا لكونه مدخلا أساسيا في قراءة الإبداع الأدبي والتخييلي بصفة عامة، والروائي بصفة خاصة.
ومن المعلوم كذلك أن العنوان هو عتبة النص وبدايته، وإشارته الأولى، وهو العلامة التي تطبع الكتاب أو النص وتسميه وتميزه عن غيره، وهو كذلك من العناصر المجاورة والمحيطة بالنص الرئيس إلى جانب الحواشي والهوامش والمقدمات والمقتبسات والأدلة الأيقونية.
2- الاهتمام بالعنوان:
لقد أهمل العنوان كثيرا سواء من قبل الدارسين العرب أم الغربيين قديما وحديثا، لأنهم اعتبروا العنوان هامشا لا قيمة له وملفوظا لغويا لايقدم شيئا إلى تحليل النص الأدبي؛ لذلك تجاوزوه إلى النص كما تجاوزوا باقي العتبات الأخرى التي تحيط بالنص.
ولكن ليس العنوان" الذي يتقدم النص ويفتتح مسيرة نموه- يقول علي جعفر العلاق- مجرد اسم يدل على العمل الأدبي: يحدد هويته، ويكرس انتماءه لأب ما.
لقد صار أبعد من ذلك بكثير، وأوضحت علاقته بالنص بالغة التعقيد، إنه مدخل إلى عمارة النص، وإضاءة بارعة وغامضة لأبهائه وممراته المتشابكة (...) لقد أخذ العنوان يتمرد على إهماله فترات طويلة، وينهض ثانية من رماده الذي حجبه عن فاعليته، وأقصاه إلى ليل من النسيان، ولم يلتفت إلى وظيفة العنوان إلا مؤخرا." [1]
وعلى الرغم من هذا الإهمال فقد التفت إليه بعض الدارسين في الثقافتين: العربية والأجنبية قديما وحديثا، وتنبه إليه الباحثون في مجال السيميوطيقا، وعلم السرد، والمنطق، وأشاروا إلى مضمونه الإجمالي في الأدب والسينما والإشهار نظرا لوظائفه المرجعية واللغوية والتأثيرية والأيقونية. وحرصوا على تمييزه في دراسات معمقة بشرت بعلم جديد ذي استقلالية تامة، ألا وهو علم العنوان(TITROLOGIE) الذي ساهم في صياغته وتأسيسه باحثون غربيون معاصرون منهم: جيرار جنيت G.GENETTE وهنري متران H.METTERAND ولوسيان ﮔولدمان L.GOLDMANN وشارل كريفل CH.GRIVEL وروجر روفر ROGER ROFER وليوهويك LEO HOEK الذي يعرف العنوان بكونه" مجموعة من الدلائل اللسانية (...) يمكنها أن تثبت في بداية النص من أجل تعيينه والإشارة إلى مضمونه الإجمالي ومن أجل جذب الجمهور المقصود" [2].
هذا وقد نادى لوسيان ﮔولدمان الدارسين والباحثين الغربيين إلى الاهتمام بالعتبات بصفة عامة، والعنوان بصفة خاصة، وأكد في قراءته السوسيولوجية للرواية الفرنسية الجديدة مدى قلة النقاد" الذين تعرضوا إلى مسألة بسيطة مثل العنوان في رواية الرائي le voyeur الذي يشير- مع ذلك بوضوح - إلى مضمون الكتاب، ليتفحصوه بما يستحق من عناية". [3]
وتعتبر دراسة (العتبات SEUILS) لجيرار جنيت GERARD GENETTE أهم دراسة علمية ممنهجة في مقاربة العتبات بصفة عامة والعنوان بصفة خاصة؛ لأنها تسترشد بعلم السرد والمقاربة النصية في شكل أسئلة ومسائل، وتفرض عنده نوعا من التحليل [4].
ويبقى ليو هويك LEO HOEK المؤسس الفعلي (لعلم العنوان)؛ لأنه قام بدراسة العنونة من منظور مفتوح يستند إلى العمق المنهجي والاطلاع الكبير على اللسانيات ونتائج السيميوطيقا وتاريخ الكتاب والكتابة، فقد رصد العنونة رصدا سيميوطيقيا من خلال التركيز على بناها ودلالاتها ووظائفها.
كما أن النقد الروائي العربي لم يول العنوان أهمية تذكر، بل ظل يمر عليه مر الكرام.
لكن الآن بدأ الاهتمام بعتبات النص وصار يندرج" ضمن سياق نظري وتحليلي عام يعتني بإبراز ما للعتبات من وظيفة في فهم خصوصية النص وتحديد جانب أساسي من مقاصده الدلالية، وهو اهتمام أضحى في الوقت الراهن مصدرا لصياغة أسئلة دقيقة تعيد الاعتبار لهذه المحافل النصية المتنوعة الأنساق وقوفا عندما يميزها ويعين طرائق اشتغالها؟" [5]
ومن أهم الدراسات العربية التي انصبت على دراسة العنوان تعريفا وتأريخا وتحليلا وتصنيفا نذكر ما أنجزه الباحثون المغاربة الذين كانوا سباقين إلى تعريف القارئ العربي بكيفية الاشتغال على العنوان: تنظيرا وتطبيقا، وهذه الدراسات هي على النحو التالي:
1- (النص الموازي في الرواية(إستراتيجية العنوان))، مقال للدكتور شعيب حليفي منشور في مجلة الكرمل الفلسطينية في واحد وعشرين صفحة، العدد 46، سنة 1996. ويعد في رأيي أول مقال درس العنوان دراسة تاريخية وبنيوية بشكل جيد؛ وأهم مصدر استند إليه الدارسون في حديثهم عن العنوان.
2- مقاربة العنوان في الشعر العربي الحديث والمعاصر للدكتور جميل حمداوي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في الأدب العربي الحديث والمعاصر، تحت إشراف الدكتور محمد الكتاني، نوقشت بجامعة عبد المالك السعدي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ( تطوان) بالمغرب سنة 1996، ويطرح فيها صاحبها منهجية جديدة لدراسة العناوين سماها (المقاربة العنوانية)؛ وتعد – على حد علمي- أول دراسة تحليلية شاملة للعنوان في الوطن العربي (562 صفحة من الحجم الكبير).
3- (العنوان في الرواية المغربية)، للدكتور جمال بوطيب، مقال منشور في كتاب الرواية المغربية، أسئلة الحداثة، منشورات دار الثقافة، الدار البيضاء سنة 1996، ويوجد المقال في (12) صفحة.
4- عتبات النص: البنية والدلالة، للدكتور عبد الفتاح الحجمري، منشورات الرابطة، الدار البيضاء، طبعة 1996، وفيه يدرس صاحبه العنوان على ضوء رواية الضوء الهارب لمحمد برادة في ست صفحات من الحجم المتوسط.
5- ( السميوطيقا والعنونة)، مقال للدكتور جميل حمداوي في 33 صفحة، نشر في مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد 25، العدد 3، يناير/مارس، سنة 1997، وكان مصدرا ومرجعا للكثير من الدراسات التي انصبت على دراسة عتبة العنوان.
6- مقاربة النص الموازي في روايات بنسالم حميش، للدكتور جميل حمداوي، أطروحة دكتوراه الدولة ، ناقشها الباحث في يوليوز سنة 2001 بجامعة محمد الأول بوجدة تحت إشراف الدكتور مصطفى رمضاني.
7- (صورة العنوان في الرواية العربية) للدكتور جميل حمداوي، مقال في حوالي 21 صفحة، نشر في شهر يوليو سنة 2006.
3- وظائف العنوان:
إن العنوان عبارة عن علامة لسانية وسيميولوجية غالبا ماتكون في بداية النص، لها وظيفة تعيينية ومدلولية، ووظيفة تأشيرية أثناء تلقي النص والتلذذ به تقبلا وتفاعلا، يقول الباحث المغربي إدريس الناقوري مؤكدا الوظيفة الإشهارية والقانونية للعنوان:" تتجاوز( دلالة العنوان) دلالاته الفنية والجمالية لتندرج في إطار العلاقة التبادلية الاقتصادية والتجارية تحديدا؛ وذلك لأن الكتاب لايعدو كونه من الناحية الاقتصادية منتوجا تجاريا يفترض فيه أن تكون له علاقة مميزة وبهذه العلامة بالضبط يحول العنوان المنتوج الأدبي أو الفني إلى سلعة قابلة للتداول، هذا بالإضافة إلى كونه وثيقة قانونية وسندا شرعيا يثبت ملكية الكتاب أو النص وانتماءه لصاحبه ولجنس معين من أجناس الأدب أو الفن". [6]
كما للعنوان وظائف أخرى تتمثل في الوظائف التالية:
الوظيفة الإيديولوجية، ووظيفة التسمية، ووظيفة التعيين، والوظيفة الأيقونية/ البصرية، والوظيفة الموضوعاتية، والوظيفة التأثيرية، والوظيفة الإيحائية، ووظيفة الاتساق والانسجام، والوظيفة التأويلية، والوظيفة الدلالية أو المدلولية، والوظيفة اللسانية والسيميائية...
4- العنوان في الرواية:
إن العنوان هو الذي يوجه قراءة الرواية، ويغتني بدوره بمعان جديدة بمقدار ما تتوضح دلالات الرواية. فهو المفتاح الذي به تحل ألغاز الأحداث وإيقاع نسقها الدرامي وتوترها السردي، علاوة على مدى أهميته في استخلاص البنية الدلالية للنص، وتحديد تيمات الخطاب القصصي، وإضاءة النصوص بها. إن العنوان كما كتب كلود دوشيه CLAUDE DUCHET" عنصر من النص الكلي الذي يستبقه ويستذكره في آن، بما أنه حاضر في البدء، وخلال السرد الذي يدشنه، يعمل كأداة وصل وتعديل للقراءة". [7]
إن العنوان في الحقيقة" مرآة مصغرة لكل ذلك النسيج النصي" [8] واسم فارغ"، وهذا يعني أنه علامة ضمن علامات أوسع هي التي تشكل قوام العمل الفني باعتباره نظاما ونسقا يقتضي أن يعالج معالجة منهجية أساسها أن دلالة أية علامة مرتبطة ارتباطا بنائيا لاتراكميا بدلالات أخرى. ومن ثم فإن العنوان قد يجسد المدخل النظري إلى العالم الذي يسميه، ولكنه لايخلقه إذ إن العلاقة بين الطرفين قد لاتكون مباشرة [ كما هو الشأن في الآثار الفنية التي يحيل فيها العنوان على النص والنص على العنوان (الأسطورة ومعظم حكايات ألف ليلة وليلة والرواية الموسومة بالواقعية) على نحو مباشر]. وفي هذا الحال فإن العنوان يتحول من كونه علامة لسانية" أو مجموعة علامات لسانية تشير إلى المحتوى العام للنص" إلى كونه لعبة فنية وحوارية بين التحدد واللاتحدد، بين المرجعية المحددة وبين الدلالات المتعددة وذلك في حركة دائبة بين نصين متفاعلين في زمن القراءة". [9]
انطلاقا من كل هذا قد يكون بالإمكان تتبع عمل العنوان في النص والشروع في نمذجة تصنيفية (Typologie) للعناوين وفقا لعلاقاتها بالشرح الروائي بالذات عن طريق الاختزال إلى الحد الأقصى. فإما أن الرواية تعبر عن عنوانها" تشبعه وتفك رموزه وتمحوه، وإما أنها تعيد إدماجه في جماع النص وتبلبل السنن الدعائي عن طريق التشديد على الوظيفة الشعرية الكامنة للعنوان، محولة المعلومة والعلامة إلى قيمة والخبر إلى إيحاء". [10]
إن العنوان الذي يلتصق به العمل الروائي قد يكون صورة كلية تحدد هوية الإبداع وتيمته العامة، وتجمع شذراته في بنية مقولاتية تعتمد الاستعارة أوالترميز. وهذه الصورة العنوانية قد تكون فضائية يتقاطع فيها المرجع مع المجاز، فمثلا عنوان رواية" زقاق المدق" عند نجيب محفوظ قد يعني" الحارة الضيقة من حارات القاهرة القديمة كما يعني سكانها من البشر خلال الحرب العالمية الثانية. لكن امتداد ظل هذا الزقاق كمكان وقيامه بدور المركز في الحركة القصصية وتحديد مصائر من يسكنه جعله يقوم بدور البطولة الفعلية في القصة ويفرض نفسه على عنوانها ويبلور رؤية المؤلف لعالمه".]]G ;Genette :Seuils .COLLECTION Poétique, ED, SEUIL, PARIS 1987, p : 73-97 [11]. وتتجلى أهمية الصورة العنوانية عندما نكون أمام عناوين رمزية ذات الشحنة الاستعارية والمجازية في عناوين بعض الروايات كما عند أندريه جيد ANDRE GIDE "قوت الأرض" و"الباب الضيق" و"السيمفونية الريفية". [12]
وإذا أخذنا على سبيل التمثيل رواية الطاعون (LA PESTE) لألبير كامو A.CAMUS ، سنجد العنوان عبارة عن صورة رمزية معقدة، يتماهى فيها البعد المرجعي مع البعد الإيحائي. أي تختلط خيوط التسمية العنوانية، وتتلاشى أضواء الحقيقة لتعوضها دلالات التضمين الرمزي. «فالعنوان" نفسه رمزي، أو هو بدقة أكبر أليغوري. والطاعون حرفيا هو وباء أصاب مدينة وهران سنة 1944م، ولكنه في الوقت نفسه رمز للاحتلال النازي. وهو على مستوى أعلى شر ميتافيزيقي وخلقي في هذا الكون العبثي الذي نحيا فيه. وأكثر من ذلك تثير فكرة الطاعون نفسها على طول الرواية، العديد من الصور التي تنسج تارة دلالتها الأدبية، وتارة مظاهرها الرمزية." [13]
هذا وإذا تأملنا النصوص الروائية فغالبا مانجد على ظهر الغلاف سجل العنوان وتحته التعيين الجنسي(رواية) على شكل عنوان فرعي مكتوب بأحرف صغيرة، على عكس العنوان الأساسي الذي يكتب بأحرف بارزة كبيرة دلالة على أهميته وبعده الأيقوني ومركزيته في تبئيردلالات الرواية. والعنوان الذي يحدد التعيين الجنسي ( رواية) هو بيان إيضاحي يؤكد مدى احترام العمل الإبداعي لخصائص الجنس الروائي وسماته بطريقة جمالية وفنية. كما نجد عناوين الفصول التي تلخص مضامينها وتكثف أهم ماجرى فيها من أحداث ووقائع، وتسجل أسماء شخصياتها والأدوار التي قامت بها والصعوبات التي واجهتها في حياتها والمصير الذي آلت إليه في نهاية المطاف.
ويتطلب العنوان من المؤلف وقتا واسعا من التأمل والتدبر لتوليده وتحويله ليصبح بنية دلالية وإشهارية عامة للنص الروائي، فكل عنوان يلصقه الكاتب على ظهر روايته أو يعلقه كالثريا في رأس الصفحة أو يموقعه في وسط كل فصل أو قسم "لاشك أن المؤلف أفرغ فيه جهدا وتطلب منه اختياره؛ لأن صياغة عنوان أي عمل إبداعي جزء من الكتابة الفنية نظرا لما للعنوان من أهمية على المستوى الإعلامي (الإشهار) أولا، على المستوى الفكري ثانيا، وعلى المستوى الجمالي ثالثا، ونظرا إلى كل هذه الاعتبارات فإن العنوان ذو أهمية خاصة بالنسبة للمؤلف والمتلقي على السواء؛ لأنه جماع النص وملخصه" [14]
ويمكن اعتبار العنوان الروائي بنية عامة قابلة للتحليل والفهم والتفسير والتقويم أيضا من خلال عناصر النص الأساسية التي تتمثل في مشاهده ومتتالياته ووحداته الوظيفية ومراحل تكوين بنيته العامة، التي تتمثل كذلك في بنياته الأساسية، وخطاباته، ومنظوره الفني الذي يبدو في الشخوص، والأحداث، والفضاء الروائي، والراوي، ومنظور التعدد (الرواة- اللهجات- اللغات).
ومن ثم فإن العنوان ذو موقع نصي استراتيجي" يشتغل بوصفة دليلا signe، به تمتاز الرواية عن غيرها. ومنه يعلن نواياه ومقاصده. وعبره يشي النص بمحتواه دون أن يفصح عنه بكيفية كلية. واعتمادا على هذا التحديد تنهض علاقة العنوان بالرواية على أساس التضمن المتبادل. وفي مدار العلاقة هذه، تتبدى الرواية جوابا... عن الأسئلة الطافحة في جملة العنوان. ويستعلن من هذا أمران: يقول أولهما: إن الرواية تنهض بوظيفة المرجع ، فالعنوان نص بدئي يمانع عن الفهم إذا لم يرد إلى القصة التي تفصل ما أجمله وتبسط ما اختصره وتطلق ما احتجزه، أما الأمر الثاني فيلهج بالاشتغال الكنائي للعنوان؛ إذ إن الأخير جزء من كل. ويسمح التحدث به باستحضار هذا الكل. وبهذا المعنى يفترض في العنوان الاشتمال على عناصر الخطاب المكنى عنه، وتشغيلها بما يضمن عدم إرباك العلائق الوظيفية بين المكنى والمكنى عنه".
وليست العناوين الروائية دائما تعبر عن مضامين نصوصها بطريقة مباشرة أي تعكسها بكل جلاء وبوضوح ، بل نجد بعض العناوين غامضة ومبهمة ورمزية بتجريدها الانزياحي، مما يطرح صعوبة في إيجاد صلات دلالية بين العنوان والنص.. ولكن على القارئ أن يبحث عن العلاقة بين العنوان والنص وأن يبحث عن المرامي والمقاصد والعلاقات الرمزية والإيحائية. فكثير من المبدعين كتبوا نصوصا بعناوين غامضة وبعيدة عن مضامينها مثل: رولان بارت في (S/Z) وسارتر في (lesmots). وهكذا فإذا كان كل عنوان يحاول أن يلم "شتات النص المعبر عنه ويلخص كل ماورد فيه من وقائع وأحداث وما تفاعل فيه من شخوص وأبطال في نطاق الزمان والمكان: أي داخل فضاء معين أو فضاءات مختلفة؛ فإن المؤلفين لايفلحون دائما في اختيار العناوين المعبرة عن محتويات كتبهم أو الدالة على كل ما أرادوا قوله فيها، أو دالا على ما يراه المؤلف أساسيا، أو ذا قيمة خاصة بالنسبة إليه. وهذا مايؤكد أن كل كتاب أو كل نص أدبي قابل لأن يحمل عنوانا مغايرا أو تسمية أخرى غير تلك التي اختارها المؤلف". ومن هنا نؤكد أن ثمة عناوين مخادعة ومضللة للقراء، لاتعبر عن محتويات أعمالها ولا تصور لهم الدلالة الحقيقية التي ينطلق بها النص، مثل رواية محمد برادة: لعبة النسيان، أو روايته الثانية: الضوء الهارب، حيث يصير العنوان عبارة عن مجرد تسمية من " تسميات كثيرة ممكنة. وهي على الرغم من اختيار المؤلف ليست ملزمة للقارئ الذي من حقه أن يقترح للكتاب المقروء عنوانا بديلا أو تسمية جديدة، قد تكون أكثر ملاءمة وأصدق تعبيرا عما يرغب المؤلف في إبلاغه إلى المتلقي، أو عما يتوصل إليه القارئ نفسه من خلال قراءته"
5- منهجية مقاربة العنوان:
عند دراسة العنوان لابد من تأطيره ضمن النص الموازي أو العتبات، أو هوامش النص كما يعبر هنري متران. وهذه العتبات عبارة عن ملحقات تحيط بالنص من الناحية الداخلية أو من الناحية الخارجية. وهي تنسج خطابا ميتاروائيا عن النص الإبداعي، وترسل حديثا عن المجتمع والعالم. ومهما تبدت مستقلة أو محايدة، فإنها شديدة الارتباط بالنص الروائي الذي تقف في بوابته ومداخله.
وترتكز مقاربتنا لعناوين النصوص الروائية على منهجية مبنية على أربع خطوات أساسية نجملها في:
1- البنية
2- الدلالة
3- الوظيفة
4- القراءة السياقية: الداخلية والخارجية.
ولقد اخترنا هذه المنهجية لأن العنوان يعكس لنا النص في تضاريسه السطحية والعميقة. ومن ثم فالعنوان هو النص، والعلاقة بينهما علاقة تفاعلية وجدلية، وهو كذلك بؤرة النص وتيمته الكبرى التي يتمحور حولها. وما النص إلا تكملة للعنوان وتمطيط له عبر التوسع فيه وتقليبه في صيغ مختلفة.
يشكل العنوان -إذاً- خطابا أو نصا مستقلا في حد ذاته. فهو نواة معنوية أساسية. وكل ماتلاه من ملفوظ فهو عبارة عن شرح وتوضيح له. وهكذا فالعنوان الذي يوجد في أعلى الصفحة هو أساس كل خطاب روائي، عليه يبنى النص أو المشهد أو الفصل أو القسم أو المقطع الروائي عبر التحوير والشرح والتمطيط والإسهاب في المعنى وتفصيله حتى يمكن لنا القول: إن الرواية تتلخص غالبا في العنوان؛ لأنه المركز وماعداه محيط. أما العلاقة بينهما فهي علاقة جدلية تتمثل في تفاعل النص مع العنوان عبر الانسجام والتغريض الدلالي أوتخييب أفق انتظار القارئ.
وفي كل هذا ننطلق من العنوان إلى النص، ومن النص إلى العنوان عبر مراعاة السياقين: الداخلي والخارجي، ومن خلال القراءة المباشرة وغير المباشرة مراعين مبدأ التأويل المحلي ومقاصد النص ونوايا المبدع.
وإذا كنا نؤكد مدى نسبية هذه المقاربة العنوانية، فإن هناك من يحاول أن يصفها بالعلمية اعتمادا على معطيات اللسانيات والسيميائيات. فقد اصطلح على الاهتمام بالعنوان والاشتغال عليه"TITROLOGIE" (علم العنونة) أو (علم العناوين)... ومن ثم، صار العنوان موضوعا لعدة مقاربات سوسيولوجية وسيكولوجية ولسانية وسيميائية ونقدية بحسب اختلاف الرؤى الإيديولوجية والمنظورات الذاتية والموضوعية.
ويمكن تقسيم العنوان منهجيا إلى العنوان الخارجي ( العنوان الغلافي أو المركزي)، والعنوان الأساسي الداخلي ( العنوان الرئيس)، والعنوان الفرعي، والعنوان الفهرسي، بينما يقسمه جيرار جنيت إلى العنوان الأساس والعنوان الفرعي والتعيين الجنسي. كما يحدد للعنونة أربع وظائف أساسية وهي: الإغراء والإيحاء والوصف والتعيين.
وعليه، فعند مقاربة الرواية وعوالمها التخييلية لابد من استحضار عتبات النص الموازي بصفة عامة، وهوامش الخطاب الغلافي من واجهتيه: الأمامية والخلفية بصفة خاصة.
6- تحقيب الرواية العربية عنوانيا:
سنحاول في هذه الدراسة المتواضعة تحقيب الرواية العربية وتحديد محطاتها على ضوء المقاربة العنوانية لفهم مكوناتها ومشخصاتها الفنية قصد تحليلها وتفسيرها. ولقد صدق الباحث المغربي شعيب حليفي حينما قال بأن:" دراسة عناوين الرواية العربية كخطاب هي دراسة تبسط مشهدا كاملا يغري بالمتابعة، ويدعو إلى استفتاء خصوصياته ومكوناته، ثم وظيفته الوصول إلى نتائج تدعو إلى تحليل صارم للعنوان باعتباره جزءا من المشهد الروائي المتميز في الراهن الثقافي".
وكم كانت رغبتي ملحة وعارمة للاستجابة للنداء الذي أطلقه أحد الباحثين المغاربة حينما قال: "إن تحليل" الضوء الهارب [للروائي المغربي محمد برادة] كعنوان يفرض علينا وضعه مع مجموعة من العناوين الأخرى للرواية المغربية أي نقوم بدراسة نسقية لهذه العناوين وذلك على الشكل التالي:
*
جرد العناوين الروائية المغربية.
*
تصنيفها بحسب صياغتها وتحديد أنواعها والصيغ الغالبة والصيغ الغائبة.
*
استخلاص العناوين الحداثية منها.
*
تحديد مميزات العناوين الحداثية....".
وعليه فلا يمكن أن نضع تيبولوجية (صنافة) لعناوين المتن الروائي المغربي قبل أن نضع تصنيفا عنوانيا للرواية العربية بصفة عامة، نضع فيها عناوين الرواية المغربية قصد فهمها وتفسيرها: مناصيا ودلاليا وإيديولوجيا. ومن ثم نحدد أنماط العنونة من خلال بناها الدلالية والشكلية. وهذا ماقام به الباحث المغربي شعيب حليفي في مقاله القيم (النص الموازي للرواية-إستراتيجية العنوان-).
وإذا تأملنا النصوص السردية والروائية، سنلاحظ قطيعة وتجاوزا على مستوى تطور البنية العنوانية خلال المراحل التالية التي قطعتها الرواية العربية عبر عمرها الطويل:
أ?- مرحلة الحكي العربي القديم:
تعتبر الأشكال السردية الحكائية القديمة أنماطا روائية تراثية (ألف ليلة وليلة مثلا) بمقياسنا العربي الأصيل، لا بمفاهيم الرواية الأوربية الحديثة (رواية القرن التاسع عشر) التي أوقعتنا في التقليد والانبهار والتلفيقية والتجريب رغبة في العولمة والحداثة؛ وإن كان ذلك على حساب الأصالة والتراث والذات والهوية والفهم الحقيقي للشخصية العربية والتواصل الحضاري وربط الماضي بالحاضر. فهذه الأمور هي الكفيلة بتحقيق قفزة حضارية: قوامها التوازن بين الماديات والأخلاقيات الإسلامية.
ب?- مرحلة الجهود الروائية الأولى:
وهذه المرحلة امتداد للمرحلة التراثية الأولى، كما نجد ذلك في أعمال كل من حافظ إبراهيم (ليالي سطيح) والمويلحي (حديث عيسى بن هشام)، ورفاعة الطهطاوي (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، ومحمد بن المؤقت المراكشي (1894-1949) في (الرحلة المراكشية أو مرآة المساوئ الوقتية).
وكانت هذه الجهود امتدادا لألف ليلة وليلة وسيرة عنترة وسيف بن ذي يزن ومقامات بديع الزمان الهمذاني أو الحريري وكتاب ابن المقفع (كليلة ودمنة) وابن بطوطة (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، والشريف الإدريسي (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق). وهي تؤكد التواصل الحضاري والفني وربط الماضي بالحاضر. لكن صدمة النهضة والانبهار بالحضارة الغربية والتهافت على الجديد الأدبي- لا التكنولوجي- وتقليد رجل الغرب في طقوسه وشكلياته وعاداته- لا في عقليته الاجتهادية وإبداعه العلمي- سبب القطيعة الفكرية والانفصام الحضاري وانفصال الحاضر عن الماضي على مستوى التخييل الحكائي والإبداع السردي.
ج- مرحلة التجنيس الفني للرواية العربية:
مع بداية القرن العشرين سارت الرواية العربية على نهج الرواية الأوربية في تمثل قواعدها الفنية والتجنيسية. ومن ثم عرفت روايتنا العربية جميع التيارات الغربية من كلاسيكية ورومانسية وواقعية الخ... وذكرتنا بروايات فلوبير وإميل زولا وبلزاك وستندال وتولوستوي ودويستفسكي. ولما حاز نجيب محفوظ جائزة نوبل قال أحد القراء الغربيين: لقد عاد إلينا بلزاك مرة أخرى. وهذا يترجم موقف المشارقة القديم من الأندلسيين:"هذه بضاعتنا ردت إلينا".
يلاحظ- إذاً- على هذه المرحلة تقليد الرواية العربية للرواية الغربية في مضامينها وأشكالها الفنية وتياراتها الأدبية، مما أوقع الرواية العربية في شرك الاحتذاء الأعمى، والتجريب والاستهلاك، والانقطاع عن التراث الروائي بدلا من محاولة تطويره امتدادا وتواصلا وإبداعا: شكلا ومضمونا ورؤية.
د- مرحلة الرواية العربية الجديدة:
وقد سعى أصحابها إما إلى التحديث الروائي على غرار الرواية الفرنسية الجديدة le nouveau roman التي من أقطابها كلود سيمون وآلان روب ﮔرييه وريكاردو وميشيل بوتور ومارﮔريت دورا... والنهج على طرائق رواية ما بعد الحداثة nouveau roman modern التي كان يمثلها كل من فيليب سولرز وجوليا كريستيفا بعد تطور النقد الحديث وظهور جماعة تيل كيل TEL QUEL وما بعد البنيوية، وإما التأصيل والبحث عن شكل روائي عربي. إلا أنهم عادوا إلى التراث قصد استلهامه معارضة وحوارا وامتصاصا وإعادة بنائه في أشكال تخييلية تناصية مثلما كان يفعل إميل حبيبي والطيب صالح وواسيني الأعرج وجمال الغيطاني وبنسالم حميش ومؤنس الرزاز في روايته (متاهة الأعراب في ناطحات السراب)، وروائيون آخرون.
هذا وإذا عدنا إلى النصوص السردية العربية القديمة سنجد العناوين تنقسم إلى قسمين:
1- نوع يركز على الزمن مثل: ألف ليلة وليلة؛
2- نوع ثان يركز على الأسماء البطولية: عنترة وسيف بن ذي يزن وبنو هلال...وحمزة البهلوان..
وكان العنوان قديما يتميز بعدة خاصيات ضابطة له منها: خاصية السجع والطول والتوازي الإيقاعي والطابع الفانطاستيكي وتفريع العنوان الأساسي.
وإذا انتقلنا إلى مرحلة الجهود الروائية الأولى، سنجد هيمنة العنونة التراثية رغبة في ربط الحاضر بالماضي الحضاري لاسيما في مرحلة القرن التاسع عشر، بل حتى حدود الأربعينيات من هذا القرن (روايات محمد بن الموقت المراكشي)، فقد جاءت العناوين الملصقة بالروايات على النمط الحكائي التقليدي.
وليس هذا الاحتذاء تقليدا أو اجترارا لقوالب التراث العربي القديم- كما يعتقد شعيب حليفي- بل رغبة في استكمال مسيرة تطور الرواية العربية نموا وامتدادا وتواصلا. لذا اعتمدت الطول في الكتابة الجملية والتسجيع في إثارة القارئ وتشويقه إيقاعيا علاوة على ظاهرة التناص التي تتحكم في هذه العناوين محاكاة للسرد العربي القديم.
ويلاحظ مع مرحلة الانفتاح على الغرب وتجنيس الفن الروائي العربي اعتمادا على المعايير الفنية للرواية الغربية أن الرواية الحديثة في العالم العربي منذ ظهور زينب لمحمد حسين هيكل (1914) أو الأجنحة المتكسرة لجبران خليل جبران اعتمدت نمطيا العنونة الكلاسيكية أوالتقليدية التي كانت مرآة تشخيصية للذات أو الواقع أو المرجع التاريخي.
لذا كانت الهيمنة لأنماط عنوانية ثلاثة:
1- العنونة الفضائية التي تشخص المكان وتجسد الواقع الموضوعي والفضاء بكل عوالمه الأصيلة والموبوءة (روايات نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي الواقعية).
2- العنونة التجريدية التي تشخص الذات والقيم المثالية والحب الطوباوي كما هو الشأن في الرواية الرومانسية (لأجنحة المتكسرة لجبران، رواية زينب لهيكل، روايات يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وعبد الحليم عبد الله والمنفلوطي والسير الذاتية...الخ).
3- العنونة الوثائقية في الروايات الإخبارية والتاريخية والوطنية والقومية( روايات جورجي زيدان ونجيب محفوظ في مرحلته الأولى ( كفاح طيبة – رادوبيس)).
ونسجل إلى جانب هذه الأنماط العنوانية طغيان ظاهرة الأسماء العلمية (أنثوية كانت أم ذكورية) على المنتوج الروائي الذي ظهر ما بين 1914 و1960، وشكل ما يسمى بالرواية الفنية الحديثة مثل رواية زينب لمحمد حسين هيكل، وثريا لعيسى عبيد 1922 ورجب أفندي لمحمود تيمور 1928 وأديب لطه حسين 1935 وحواء بلا آدم لطاهر لاشين 1934 وسارة للعقاد 1938. ونكتفي بهذه النماذج لنقول بأن "السمة الغالبة في هذه المرحلة للعناوين هي سيادة الأسماء بالدرجة الأولى. وذلك راجع إلى سيادة البطولة المطلقة وروح الفردية وهو ما يشير إلى بداية الرواية الأوربية كما تحدث عنها كوزينوف ومارت روبير وحملها لأسماء أبطالها (دونكيشوت، تيل، كروز...). فهذا النوع من العناوين التي سادت في مرحلة كاملة كان من أجل إعادة الاعتبار للفرد بالإضافة للمكان الذي حفلت به عناوين أخرى (عند البستاني والطهطاوي وفرح أنطون وتوفيق الحكيم...). فقد ساد الإحساس بالغربة عن الذات والمكان، وهو يؤكد أن احتشاد الانكسار الفادح الذي كان يتخفى تحت إهاب الكلمات عكسته العناوين، فجاءت على وتيرة واحدة لتخلق مستويات متعددة المعاني تفيض بآلام الذات العربية التي اختارت هذا المجال كوسيلة للتعبير عن الأسى والرعب الذي استجمع قواه لرؤية انهيار العديد من القيم في حين أن العنوان في الخطاب الروائي الحديث يشكل إستراتيجية خاصة لها خصوصيات ومكونات تدخل في إطار التجريب انطلاقا من استفادتها من الركام الكلاسيكي من جهة، ثم الوعي بأهمية العنوان وتغيراته من جهة ثانية."
لقد أصبح العنوان في الرواية الفنية الحديثة يتسم بعدة خصائص منها:
1- تشخيص الذات والواقع والمرجع التاريخي والرمزي.
2- الاختصار والوضوح.
3- دقة العنوان ونفاذه.
4- ارتباط العنوان بالنص مباشرة.
5- الاشتمال لمكونات العمل ودلالاته ومقاصده.
6- تكثيف المعنى في كلمات معدودة.
7- تذييل العنوان الأساسي بالعناوين الفرعية المشوقة للقارئ.
8- التلخيص الاستباقي.
9- الإيحائية المجازية والرمزية.
10-الاستفادة من تقنيات الـﮔرافيك واللون والحيز المكاني.
11-الإثارة وجلب انتباه القارئ عبر عنونة الفصول والمقاطع النصية.
وهكذا فلم تقتصر الرواية العربية الحديثة في بنيتها العنوانية على الصورة اللغوية والبنية الحرفية التقريرية المباشرة، بل تجاوزتها إلى الصورة البصرية على غرار العناوين السينمائية ذات الوظائف الإيحائية والسيميولوجية. فالسينما الحديثة حرصت على" اختيار عناوينها من كلمة أو كلمتين أو من حرف. أما السينما التي اعتمدت الروايات البوليسية وأعمال الخيال العلمي فإن مكوناتها ظلت كما هي تحتفظ بالعنوان الحدثي المؤسس لبؤرة الرواية قصد تزكية العنوان البصري (الصورة). كما أن سينما الخيال العلمي ظلت تنحو منحى تتخذ فيه الزمان والمكان مكونين للعنوان قصد الإيحاء الوظيفي وأداء مهمة تحيل على المستقبل.
نستنتج –إذاً- أن العنوان الفني يتميز بخصائص محددة تميل نحو ماهو بلاغي في محاولة التقاط جوهر الشيء، وليس الشيء في ذاته: عناوين سريالية تميل نحو ماهو استعاري وتؤدي وظائف متعددة ومتراكبة في آن."
وتمتاز العناوين في الرواية الكلاسيكية أو الفنية الحديثة بخاصية الانسجام على مستوى مظاهر القصة (الأحداث- الشخصيات- الفضاء)، والخطاب (الرؤية- الصيغة- الزمن).
غير أن العناوين في الرواية العربية الجديدة التي ظهرت مع الستينيات من القرن الماضي تبتعد عن العناوين الكلاسيكية على المستويات التالية: البنية والدلالة والوظيفة رغبة في التجريب والعصرنة والعولمة والتأصيل.
لذا فالعنونة الحداثية في الرواية الجديدة قد اتخذت مسلكين عنوانيين:
• المسلك الأول يريد الدخول إلى العولمة الإبداعية من خلال الاستفادة من تقنيات الغرب وتمثل طرائق الرواية الغربية واستيحاء أنماطها السردية وتشكيلاتها الفنية.
• المسلك الثاني يريد تحقيق المعاصرة عبر الاستفادة من التراث ومحاورته معارضة وتحريفا وسخرية بارودية وتمثل سروده القديمة بطريقة تناصية وتفاعلية على النحو التالي:
أ?- العنونة التجريبية رغبة في التحديث.
ب-العنونة التراثية رغبة في التأصيل.
إن العنونة الحداثية التي ظهرت مع الرواية الجديدة منذ ستينيات القرن الماضي، وقبل ذلك بقليل (كتب المسعدي في منتصف الخمسينيات بتونس رواية تراثية عنوانه: "حدثني أبو هريرة فقال" ستبتعد عن العناوين التقليدية المباشرة، وتؤسس لنفسها إيهاما يوحي بالغواية والتأويل المغاير، علاوة على شاعرية تنفلت من الجملة ومدى اتساعها الدلالي.
سيتجاوز العنوان الحداثي – تجريبا وتأصيلا- بنية الجملة العنوانية إلى بنية النص، خاصة عندما يستصحب العنوان الرئيس العنوان الفرعي مثل رواية مجيد طوبيا (تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الشمال، حيث الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة وخوض الأهوال وانقلاب الأحوال وتسلط الفأر على القط وركوع الأسد للقرد).
وسنلاحظ كذلك تجاوزا للصورة اللغوية وإرفاقها- على غرار السينما- بالصورة البصرية التجريدية ذات الوظائف السيميولوجية. وتتحكم الصورة- الرؤيا( الرمز- الأسطورة- الفانطاستيك- المفارقة) في معظم عناوين الرواية الجديدة، إذ أصبحت لهذه البنية العنوانية وظائف أخرى جديدة، تتطلب قارئا ذكيا يوظف الذهن أكثر من الوجدان، ملما بتقنيات الرواية الحديثة وطرائق الكتابة التراثية ومنفتحا على الرواية العالمية ومناهج النقد الحديث وطرائق الكتابة التراثية ومنفتحا على الرواية العالمية ومناهج النقد الحديث كالشعرية والبنيوية والسيميوطيقا ونظريات التأويل والتفكيك.
نقول بكل اختصار: لقد عمدت عناوين الرواية الجديدة إلى التجريب قصد تحقيق الحداثة والعالمية، والتأصيل قصد التواصل مع التراث والانفتاح عليه وتطعيمه بمفاهيم جديدة وتصورات معاصرة بعد القطيعة التي شهدتها الرواية العربية إبان انفتاحها على الغرب لاستيراد أشكال روائية وتقنيات حديثة تقليدا وانبهارا واقتباسا وتمصيرا.
وكل هذا عن الرواية العربية بمحطاتها الكلاسيكية والتجديدية، فماذا عن الرواية المغربية؟
7- تصنيف الرواية المغربية عنوانيا:
يمكن تصنيف الرواية المغربية عنوانيا على الشكل التالي:
أ?- العنونة التراثية في الأشكال الروائية الأولى (1930-1956):
ومن النماذج التمثيلية لهذه العنونة التراثية التي تستوحي بنيتها السردية من الرحلة والمقامة والمناقب (الرحلة المراكشية أو مرآة المساوئ الوقتية لمحمد بن الموقت (1960)، وطه لحمد الحسن السكوري (1941)، والزاوية للتهامي الوزاني (1992).
ب?- العنونة الكلاسيكية في الرواية الفنية المغربية الحديثة(1956- 1970):
وتنقسم هذه العنونة إلى:
1- العنونة التاريخية: رواية وزير غرناطة لعبد الهادي بوطالب والمعركة الكبرى لحمد أشماعو...
2- العنونة الرومانسية: كما في ضحايا حب لمحمد بن التهامي والمرأة والوردة لمحمد زفزاف...
3- العنونة الواقعية: كرواية دفنا الماضي لعبد الكريم غلاب....
ج- العنونة الحداثية في الرواية المغربية الجديدة (1971- إلى يومنا هذا):
وتمثل هذه العنونة مجموعة من النصوص الروائية ذات السمات والخصائص التالية:
1- العنونة الرمزية: في روايات عديدة كرفقة السلاح والقمر لمبارك ربيع والمباءة لمحمد عزا لدين التازي...
2- العنونة المجازية: كما في رواية رحيل البحر لمحمد عز الدين التازي والضوء الهارب لمحمد برادة....
3- العنونة الشاعرية: تكثر في روايات أحمد المديني ولاسيما وردة للوقت المغربي وزمن بين الولادة والحلم...
4- العنونة العجائبية: مثل سماسرة السراب لبنسالم حميش وأحلام بقرة لمحمد الهرادي...
5- العنونة الأسطورية: كبدر زمانه لمبارك ربيع...
6- العنونة التاريخية/ التراثية: كمجنون الحكم والعلامة لبنسالم حميش وجارات أبي موسى لأحمد توفيق..
ويلاحظ على هذه العنونة الحداثية أنها تجمع بين تجريب تقنيات الرواية الغربية وتأصيل الرواية المغربية عن طريق الاستفادة من التراث واستلهام قوالبه معارضة ومحاورة وتعلقا كما عند بنسالم حميش ومبارك ربيع وشغموم الميلودي ومحمد الهرادي ومحمد الشركي...
خاتمة:
تلكم نظرة موجزة ومقتضبة عن العنوان وعلاقته بالنص الموازي والعمل الإبداعي وسماته البنيوية والدلالية والوظيفية في ضوء تطور الرواية العربية بصفة عامة والمغربية بصفة خاصة.
[1] علي جعفر العلاق: ( شعرية الرواية)، علامات في النقد، المجلد 6، الجزء 23 ، السنة 1997 ، ص:100-101؛
[2] لوسيان ﮔولدمان وآخرون: الرواية والواقع، ترجمة رشيد بنحدو، عيون المقالات، دار قرطبة، الدار البيضاء، ط1 ، 1988، ص: 12؛
[3] عبد الفتاح الحجمري: عتبات النص: البنية والدلالة، منشورات الرابطة، الدار البيضاء، ط 1 ، 1996، ص: 7؛
[4] كلود دوشيه: (عناصر علم العنونة الروائي)، أدب، فرنسا، عدد 12 ، كانون الأول، 1973، ص:52-53؛
[5] د. موسى أغربي: مقالات نقدية في الرواية العربية، دار النشر الجسور، وجدة، ط1 ، 1997، ص:5-6؛
[6] موسى اغربي: مقالات نقدية في الرواية العربية،دار النشر الجسور، وجدة، ط 1، 1997، ص:5-6؛
[7] المرجع السابق، ص: 36؛
[8] د. إدريس الناقوري: المرجع السابق، ص: 51-52؛
[9] د. إدريس الناقوري: المرجع السابق، ص:75؛
[10] محمد برادة: الضوء الهارب، نشر الفنك، ط 2 ، 1995؛
[11]
ومن هنا فالعنوان عبارة عن صيغة مطلقة للرواية وكليتها الفنية والمجازية. إنه لايتم إلا بجمع الصور المشتتة وتجميعها من جديد في بؤرة لموضوعات عامة تصف العمل الأدبي، وتسمه بالتواتر والتكرار والتوارد. إذاً، فهو الكلية الدلالية أو الصورة الأساسية أو الصورة المتكاملة التي يستحضرها المتلقي أثناء التلذذ والتفاعل مع جمالية النص الروائي ومسافاته الاستيتيقية. فالصورة العنوانية قد تندرج ضمن علاقات بلاغية قائمة على المشابهة أو المجاورة أو الرؤيا، فيتجاوز العنوان مجازيا مع دلالات الفضاء النصي للغلاف وتنصهر الصورة العنوانية اللغوية في الصورة المكانية لونا ورمزا.
إن فهم الصورة العنوانية وتفسيرها وتذوق جمالها وصيغ أساليبها مرتبط بمعانيها" ضمن" خطاطة المجموع"، أي السياق الكلي للرواية". [[جمال بوطيب: (العنوان في الرواية المغربية)، الرواية المغربية: أسئلة الحداثة، دار الثقافة الدار البيضاء، ط1 ، 1996، ص: 204؛
[12] شعيب حليفي: نفس المرجع السابق، ص: 87؛
[13] نفسه،ص:89؛
[14] مجيد طوبيا: تغريبة بني حتحوت، بيروت، دار الشروق، ط1، 1988.
حياكــــــــــــــــــم الله
جميل حمداوي
صورة العنوان في الرواية العربية
الاثنين ٣١ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
1- مفهوم العنوان:
يعد العنوان من أهم عناصر النص الموازي وملحقاته الداخلية؛ نظرا لكونه مدخلا أساسيا في قراءة الإبداع الأدبي والتخييلي بصفة عامة، والروائي بصفة خاصة.
ومن المعلوم كذلك أن العنوان هو عتبة النص وبدايته، وإشارته الأولى، وهو العلامة التي تطبع الكتاب أو النص وتسميه وتميزه عن غيره، وهو كذلك من العناصر المجاورة والمحيطة بالنص الرئيس إلى جانب الحواشي والهوامش والمقدمات والمقتبسات والأدلة الأيقونية.
2- الاهتمام بالعنوان:
لقد أهمل العنوان كثيرا سواء من قبل الدارسين العرب أم الغربيين قديما وحديثا، لأنهم اعتبروا العنوان هامشا لا قيمة له وملفوظا لغويا لايقدم شيئا إلى تحليل النص الأدبي؛ لذلك تجاوزوه إلى النص كما تجاوزوا باقي العتبات الأخرى التي تحيط بالنص.
ولكن ليس العنوان" الذي يتقدم النص ويفتتح مسيرة نموه- يقول علي جعفر العلاق- مجرد اسم يدل على العمل الأدبي: يحدد هويته، ويكرس انتماءه لأب ما.
لقد صار أبعد من ذلك بكثير، وأوضحت علاقته بالنص بالغة التعقيد، إنه مدخل إلى عمارة النص، وإضاءة بارعة وغامضة لأبهائه وممراته المتشابكة (...) لقد أخذ العنوان يتمرد على إهماله فترات طويلة، وينهض ثانية من رماده الذي حجبه عن فاعليته، وأقصاه إلى ليل من النسيان، ولم يلتفت إلى وظيفة العنوان إلا مؤخرا." [1]
وعلى الرغم من هذا الإهمال فقد التفت إليه بعض الدارسين في الثقافتين: العربية والأجنبية قديما وحديثا، وتنبه إليه الباحثون في مجال السيميوطيقا، وعلم السرد، والمنطق، وأشاروا إلى مضمونه الإجمالي في الأدب والسينما والإشهار نظرا لوظائفه المرجعية واللغوية والتأثيرية والأيقونية. وحرصوا على تمييزه في دراسات معمقة بشرت بعلم جديد ذي استقلالية تامة، ألا وهو علم العنوان(TITROLOGIE) الذي ساهم في صياغته وتأسيسه باحثون غربيون معاصرون منهم: جيرار جنيت G.GENETTE وهنري متران H.METTERAND ولوسيان ﮔولدمان L.GOLDMANN وشارل كريفل CH.GRIVEL وروجر روفر ROGER ROFER وليوهويك LEO HOEK الذي يعرف العنوان بكونه" مجموعة من الدلائل اللسانية (...) يمكنها أن تثبت في بداية النص من أجل تعيينه والإشارة إلى مضمونه الإجمالي ومن أجل جذب الجمهور المقصود" [2].
هذا وقد نادى لوسيان ﮔولدمان الدارسين والباحثين الغربيين إلى الاهتمام بالعتبات بصفة عامة، والعنوان بصفة خاصة، وأكد في قراءته السوسيولوجية للرواية الفرنسية الجديدة مدى قلة النقاد" الذين تعرضوا إلى مسألة بسيطة مثل العنوان في رواية الرائي le voyeur الذي يشير- مع ذلك بوضوح - إلى مضمون الكتاب، ليتفحصوه بما يستحق من عناية". [3]
وتعتبر دراسة (العتبات SEUILS) لجيرار جنيت GERARD GENETTE أهم دراسة علمية ممنهجة في مقاربة العتبات بصفة عامة والعنوان بصفة خاصة؛ لأنها تسترشد بعلم السرد والمقاربة النصية في شكل أسئلة ومسائل، وتفرض عنده نوعا من التحليل [4].
ويبقى ليو هويك LEO HOEK المؤسس الفعلي (لعلم العنوان)؛ لأنه قام بدراسة العنونة من منظور مفتوح يستند إلى العمق المنهجي والاطلاع الكبير على اللسانيات ونتائج السيميوطيقا وتاريخ الكتاب والكتابة، فقد رصد العنونة رصدا سيميوطيقيا من خلال التركيز على بناها ودلالاتها ووظائفها.
كما أن النقد الروائي العربي لم يول العنوان أهمية تذكر، بل ظل يمر عليه مر الكرام.
لكن الآن بدأ الاهتمام بعتبات النص وصار يندرج" ضمن سياق نظري وتحليلي عام يعتني بإبراز ما للعتبات من وظيفة في فهم خصوصية النص وتحديد جانب أساسي من مقاصده الدلالية، وهو اهتمام أضحى في الوقت الراهن مصدرا لصياغة أسئلة دقيقة تعيد الاعتبار لهذه المحافل النصية المتنوعة الأنساق وقوفا عندما يميزها ويعين طرائق اشتغالها؟" [5]
ومن أهم الدراسات العربية التي انصبت على دراسة العنوان تعريفا وتأريخا وتحليلا وتصنيفا نذكر ما أنجزه الباحثون المغاربة الذين كانوا سباقين إلى تعريف القارئ العربي بكيفية الاشتغال على العنوان: تنظيرا وتطبيقا، وهذه الدراسات هي على النحو التالي:
1- (النص الموازي في الرواية(إستراتيجية العنوان))، مقال للدكتور شعيب حليفي منشور في مجلة الكرمل الفلسطينية في واحد وعشرين صفحة، العدد 46، سنة 1996. ويعد في رأيي أول مقال درس العنوان دراسة تاريخية وبنيوية بشكل جيد؛ وأهم مصدر استند إليه الدارسون في حديثهم عن العنوان.
2- مقاربة العنوان في الشعر العربي الحديث والمعاصر للدكتور جميل حمداوي، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا في الأدب العربي الحديث والمعاصر، تحت إشراف الدكتور محمد الكتاني، نوقشت بجامعة عبد المالك السعدي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية ( تطوان) بالمغرب سنة 1996، ويطرح فيها صاحبها منهجية جديدة لدراسة العناوين سماها (المقاربة العنوانية)؛ وتعد – على حد علمي- أول دراسة تحليلية شاملة للعنوان في الوطن العربي (562 صفحة من الحجم الكبير).
3- (العنوان في الرواية المغربية)، للدكتور جمال بوطيب، مقال منشور في كتاب الرواية المغربية، أسئلة الحداثة، منشورات دار الثقافة، الدار البيضاء سنة 1996، ويوجد المقال في (12) صفحة.
4- عتبات النص: البنية والدلالة، للدكتور عبد الفتاح الحجمري، منشورات الرابطة، الدار البيضاء، طبعة 1996، وفيه يدرس صاحبه العنوان على ضوء رواية الضوء الهارب لمحمد برادة في ست صفحات من الحجم المتوسط.
5- ( السميوطيقا والعنونة)، مقال للدكتور جميل حمداوي في 33 صفحة، نشر في مجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد 25، العدد 3، يناير/مارس، سنة 1997، وكان مصدرا ومرجعا للكثير من الدراسات التي انصبت على دراسة عتبة العنوان.
6- مقاربة النص الموازي في روايات بنسالم حميش، للدكتور جميل حمداوي، أطروحة دكتوراه الدولة ، ناقشها الباحث في يوليوز سنة 2001 بجامعة محمد الأول بوجدة تحت إشراف الدكتور مصطفى رمضاني.
7- (صورة العنوان في الرواية العربية) للدكتور جميل حمداوي، مقال في حوالي 21 صفحة، نشر في شهر يوليو سنة 2006.
3- وظائف العنوان:
إن العنوان عبارة عن علامة لسانية وسيميولوجية غالبا ماتكون في بداية النص، لها وظيفة تعيينية ومدلولية، ووظيفة تأشيرية أثناء تلقي النص والتلذذ به تقبلا وتفاعلا، يقول الباحث المغربي إدريس الناقوري مؤكدا الوظيفة الإشهارية والقانونية للعنوان:" تتجاوز( دلالة العنوان) دلالاته الفنية والجمالية لتندرج في إطار العلاقة التبادلية الاقتصادية والتجارية تحديدا؛ وذلك لأن الكتاب لايعدو كونه من الناحية الاقتصادية منتوجا تجاريا يفترض فيه أن تكون له علاقة مميزة وبهذه العلامة بالضبط يحول العنوان المنتوج الأدبي أو الفني إلى سلعة قابلة للتداول، هذا بالإضافة إلى كونه وثيقة قانونية وسندا شرعيا يثبت ملكية الكتاب أو النص وانتماءه لصاحبه ولجنس معين من أجناس الأدب أو الفن". [6]
كما للعنوان وظائف أخرى تتمثل في الوظائف التالية:
الوظيفة الإيديولوجية، ووظيفة التسمية، ووظيفة التعيين، والوظيفة الأيقونية/ البصرية، والوظيفة الموضوعاتية، والوظيفة التأثيرية، والوظيفة الإيحائية، ووظيفة الاتساق والانسجام، والوظيفة التأويلية، والوظيفة الدلالية أو المدلولية، والوظيفة اللسانية والسيميائية...
4- العنوان في الرواية:
إن العنوان هو الذي يوجه قراءة الرواية، ويغتني بدوره بمعان جديدة بمقدار ما تتوضح دلالات الرواية. فهو المفتاح الذي به تحل ألغاز الأحداث وإيقاع نسقها الدرامي وتوترها السردي، علاوة على مدى أهميته في استخلاص البنية الدلالية للنص، وتحديد تيمات الخطاب القصصي، وإضاءة النصوص بها. إن العنوان كما كتب كلود دوشيه CLAUDE DUCHET" عنصر من النص الكلي الذي يستبقه ويستذكره في آن، بما أنه حاضر في البدء، وخلال السرد الذي يدشنه، يعمل كأداة وصل وتعديل للقراءة". [7]
إن العنوان في الحقيقة" مرآة مصغرة لكل ذلك النسيج النصي" [8] واسم فارغ"، وهذا يعني أنه علامة ضمن علامات أوسع هي التي تشكل قوام العمل الفني باعتباره نظاما ونسقا يقتضي أن يعالج معالجة منهجية أساسها أن دلالة أية علامة مرتبطة ارتباطا بنائيا لاتراكميا بدلالات أخرى. ومن ثم فإن العنوان قد يجسد المدخل النظري إلى العالم الذي يسميه، ولكنه لايخلقه إذ إن العلاقة بين الطرفين قد لاتكون مباشرة [ كما هو الشأن في الآثار الفنية التي يحيل فيها العنوان على النص والنص على العنوان (الأسطورة ومعظم حكايات ألف ليلة وليلة والرواية الموسومة بالواقعية) على نحو مباشر]. وفي هذا الحال فإن العنوان يتحول من كونه علامة لسانية" أو مجموعة علامات لسانية تشير إلى المحتوى العام للنص" إلى كونه لعبة فنية وحوارية بين التحدد واللاتحدد، بين المرجعية المحددة وبين الدلالات المتعددة وذلك في حركة دائبة بين نصين متفاعلين في زمن القراءة". [9]
انطلاقا من كل هذا قد يكون بالإمكان تتبع عمل العنوان في النص والشروع في نمذجة تصنيفية (Typologie) للعناوين وفقا لعلاقاتها بالشرح الروائي بالذات عن طريق الاختزال إلى الحد الأقصى. فإما أن الرواية تعبر عن عنوانها" تشبعه وتفك رموزه وتمحوه، وإما أنها تعيد إدماجه في جماع النص وتبلبل السنن الدعائي عن طريق التشديد على الوظيفة الشعرية الكامنة للعنوان، محولة المعلومة والعلامة إلى قيمة والخبر إلى إيحاء". [10]
إن العنوان الذي يلتصق به العمل الروائي قد يكون صورة كلية تحدد هوية الإبداع وتيمته العامة، وتجمع شذراته في بنية مقولاتية تعتمد الاستعارة أوالترميز. وهذه الصورة العنوانية قد تكون فضائية يتقاطع فيها المرجع مع المجاز، فمثلا عنوان رواية" زقاق المدق" عند نجيب محفوظ قد يعني" الحارة الضيقة من حارات القاهرة القديمة كما يعني سكانها من البشر خلال الحرب العالمية الثانية. لكن امتداد ظل هذا الزقاق كمكان وقيامه بدور المركز في الحركة القصصية وتحديد مصائر من يسكنه جعله يقوم بدور البطولة الفعلية في القصة ويفرض نفسه على عنوانها ويبلور رؤية المؤلف لعالمه".]]G ;Genette :Seuils .COLLECTION Poétique, ED, SEUIL, PARIS 1987, p : 73-97 [11]. وتتجلى أهمية الصورة العنوانية عندما نكون أمام عناوين رمزية ذات الشحنة الاستعارية والمجازية في عناوين بعض الروايات كما عند أندريه جيد ANDRE GIDE "قوت الأرض" و"الباب الضيق" و"السيمفونية الريفية". [12]
وإذا أخذنا على سبيل التمثيل رواية الطاعون (LA PESTE) لألبير كامو A.CAMUS ، سنجد العنوان عبارة عن صورة رمزية معقدة، يتماهى فيها البعد المرجعي مع البعد الإيحائي. أي تختلط خيوط التسمية العنوانية، وتتلاشى أضواء الحقيقة لتعوضها دلالات التضمين الرمزي. «فالعنوان" نفسه رمزي، أو هو بدقة أكبر أليغوري. والطاعون حرفيا هو وباء أصاب مدينة وهران سنة 1944م، ولكنه في الوقت نفسه رمز للاحتلال النازي. وهو على مستوى أعلى شر ميتافيزيقي وخلقي في هذا الكون العبثي الذي نحيا فيه. وأكثر من ذلك تثير فكرة الطاعون نفسها على طول الرواية، العديد من الصور التي تنسج تارة دلالتها الأدبية، وتارة مظاهرها الرمزية." [13]
هذا وإذا تأملنا النصوص الروائية فغالبا مانجد على ظهر الغلاف سجل العنوان وتحته التعيين الجنسي(رواية) على شكل عنوان فرعي مكتوب بأحرف صغيرة، على عكس العنوان الأساسي الذي يكتب بأحرف بارزة كبيرة دلالة على أهميته وبعده الأيقوني ومركزيته في تبئيردلالات الرواية. والعنوان الذي يحدد التعيين الجنسي ( رواية) هو بيان إيضاحي يؤكد مدى احترام العمل الإبداعي لخصائص الجنس الروائي وسماته بطريقة جمالية وفنية. كما نجد عناوين الفصول التي تلخص مضامينها وتكثف أهم ماجرى فيها من أحداث ووقائع، وتسجل أسماء شخصياتها والأدوار التي قامت بها والصعوبات التي واجهتها في حياتها والمصير الذي آلت إليه في نهاية المطاف.
ويتطلب العنوان من المؤلف وقتا واسعا من التأمل والتدبر لتوليده وتحويله ليصبح بنية دلالية وإشهارية عامة للنص الروائي، فكل عنوان يلصقه الكاتب على ظهر روايته أو يعلقه كالثريا في رأس الصفحة أو يموقعه في وسط كل فصل أو قسم "لاشك أن المؤلف أفرغ فيه جهدا وتطلب منه اختياره؛ لأن صياغة عنوان أي عمل إبداعي جزء من الكتابة الفنية نظرا لما للعنوان من أهمية على المستوى الإعلامي (الإشهار) أولا، على المستوى الفكري ثانيا، وعلى المستوى الجمالي ثالثا، ونظرا إلى كل هذه الاعتبارات فإن العنوان ذو أهمية خاصة بالنسبة للمؤلف والمتلقي على السواء؛ لأنه جماع النص وملخصه" [14]
ويمكن اعتبار العنوان الروائي بنية عامة قابلة للتحليل والفهم والتفسير والتقويم أيضا من خلال عناصر النص الأساسية التي تتمثل في مشاهده ومتتالياته ووحداته الوظيفية ومراحل تكوين بنيته العامة، التي تتمثل كذلك في بنياته الأساسية، وخطاباته، ومنظوره الفني الذي يبدو في الشخوص، والأحداث، والفضاء الروائي، والراوي، ومنظور التعدد (الرواة- اللهجات- اللغات).
ومن ثم فإن العنوان ذو موقع نصي استراتيجي" يشتغل بوصفة دليلا signe، به تمتاز الرواية عن غيرها. ومنه يعلن نواياه ومقاصده. وعبره يشي النص بمحتواه دون أن يفصح عنه بكيفية كلية. واعتمادا على هذا التحديد تنهض علاقة العنوان بالرواية على أساس التضمن المتبادل. وفي مدار العلاقة هذه، تتبدى الرواية جوابا... عن الأسئلة الطافحة في جملة العنوان. ويستعلن من هذا أمران: يقول أولهما: إن الرواية تنهض بوظيفة المرجع ، فالعنوان نص بدئي يمانع عن الفهم إذا لم يرد إلى القصة التي تفصل ما أجمله وتبسط ما اختصره وتطلق ما احتجزه، أما الأمر الثاني فيلهج بالاشتغال الكنائي للعنوان؛ إذ إن الأخير جزء من كل. ويسمح التحدث به باستحضار هذا الكل. وبهذا المعنى يفترض في العنوان الاشتمال على عناصر الخطاب المكنى عنه، وتشغيلها بما يضمن عدم إرباك العلائق الوظيفية بين المكنى والمكنى عنه".
وليست العناوين الروائية دائما تعبر عن مضامين نصوصها بطريقة مباشرة أي تعكسها بكل جلاء وبوضوح ، بل نجد بعض العناوين غامضة ومبهمة ورمزية بتجريدها الانزياحي، مما يطرح صعوبة في إيجاد صلات دلالية بين العنوان والنص.. ولكن على القارئ أن يبحث عن العلاقة بين العنوان والنص وأن يبحث عن المرامي والمقاصد والعلاقات الرمزية والإيحائية. فكثير من المبدعين كتبوا نصوصا بعناوين غامضة وبعيدة عن مضامينها مثل: رولان بارت في (S/Z) وسارتر في (lesmots). وهكذا فإذا كان كل عنوان يحاول أن يلم "شتات النص المعبر عنه ويلخص كل ماورد فيه من وقائع وأحداث وما تفاعل فيه من شخوص وأبطال في نطاق الزمان والمكان: أي داخل فضاء معين أو فضاءات مختلفة؛ فإن المؤلفين لايفلحون دائما في اختيار العناوين المعبرة عن محتويات كتبهم أو الدالة على كل ما أرادوا قوله فيها، أو دالا على ما يراه المؤلف أساسيا، أو ذا قيمة خاصة بالنسبة إليه. وهذا مايؤكد أن كل كتاب أو كل نص أدبي قابل لأن يحمل عنوانا مغايرا أو تسمية أخرى غير تلك التي اختارها المؤلف". ومن هنا نؤكد أن ثمة عناوين مخادعة ومضللة للقراء، لاتعبر عن محتويات أعمالها ولا تصور لهم الدلالة الحقيقية التي ينطلق بها النص، مثل رواية محمد برادة: لعبة النسيان، أو روايته الثانية: الضوء الهارب، حيث يصير العنوان عبارة عن مجرد تسمية من " تسميات كثيرة ممكنة. وهي على الرغم من اختيار المؤلف ليست ملزمة للقارئ الذي من حقه أن يقترح للكتاب المقروء عنوانا بديلا أو تسمية جديدة، قد تكون أكثر ملاءمة وأصدق تعبيرا عما يرغب المؤلف في إبلاغه إلى المتلقي، أو عما يتوصل إليه القارئ نفسه من خلال قراءته"
5- منهجية مقاربة العنوان:
عند دراسة العنوان لابد من تأطيره ضمن النص الموازي أو العتبات، أو هوامش النص كما يعبر هنري متران. وهذه العتبات عبارة عن ملحقات تحيط بالنص من الناحية الداخلية أو من الناحية الخارجية. وهي تنسج خطابا ميتاروائيا عن النص الإبداعي، وترسل حديثا عن المجتمع والعالم. ومهما تبدت مستقلة أو محايدة، فإنها شديدة الارتباط بالنص الروائي الذي تقف في بوابته ومداخله.
وترتكز مقاربتنا لعناوين النصوص الروائية على منهجية مبنية على أربع خطوات أساسية نجملها في:
1- البنية
2- الدلالة
3- الوظيفة
4- القراءة السياقية: الداخلية والخارجية.
ولقد اخترنا هذه المنهجية لأن العنوان يعكس لنا النص في تضاريسه السطحية والعميقة. ومن ثم فالعنوان هو النص، والعلاقة بينهما علاقة تفاعلية وجدلية، وهو كذلك بؤرة النص وتيمته الكبرى التي يتمحور حولها. وما النص إلا تكملة للعنوان وتمطيط له عبر التوسع فيه وتقليبه في صيغ مختلفة.
يشكل العنوان -إذاً- خطابا أو نصا مستقلا في حد ذاته. فهو نواة معنوية أساسية. وكل ماتلاه من ملفوظ فهو عبارة عن شرح وتوضيح له. وهكذا فالعنوان الذي يوجد في أعلى الصفحة هو أساس كل خطاب روائي، عليه يبنى النص أو المشهد أو الفصل أو القسم أو المقطع الروائي عبر التحوير والشرح والتمطيط والإسهاب في المعنى وتفصيله حتى يمكن لنا القول: إن الرواية تتلخص غالبا في العنوان؛ لأنه المركز وماعداه محيط. أما العلاقة بينهما فهي علاقة جدلية تتمثل في تفاعل النص مع العنوان عبر الانسجام والتغريض الدلالي أوتخييب أفق انتظار القارئ.
وفي كل هذا ننطلق من العنوان إلى النص، ومن النص إلى العنوان عبر مراعاة السياقين: الداخلي والخارجي، ومن خلال القراءة المباشرة وغير المباشرة مراعين مبدأ التأويل المحلي ومقاصد النص ونوايا المبدع.
وإذا كنا نؤكد مدى نسبية هذه المقاربة العنوانية، فإن هناك من يحاول أن يصفها بالعلمية اعتمادا على معطيات اللسانيات والسيميائيات. فقد اصطلح على الاهتمام بالعنوان والاشتغال عليه"TITROLOGIE" (علم العنونة) أو (علم العناوين)... ومن ثم، صار العنوان موضوعا لعدة مقاربات سوسيولوجية وسيكولوجية ولسانية وسيميائية ونقدية بحسب اختلاف الرؤى الإيديولوجية والمنظورات الذاتية والموضوعية.
ويمكن تقسيم العنوان منهجيا إلى العنوان الخارجي ( العنوان الغلافي أو المركزي)، والعنوان الأساسي الداخلي ( العنوان الرئيس)، والعنوان الفرعي، والعنوان الفهرسي، بينما يقسمه جيرار جنيت إلى العنوان الأساس والعنوان الفرعي والتعيين الجنسي. كما يحدد للعنونة أربع وظائف أساسية وهي: الإغراء والإيحاء والوصف والتعيين.
وعليه، فعند مقاربة الرواية وعوالمها التخييلية لابد من استحضار عتبات النص الموازي بصفة عامة، وهوامش الخطاب الغلافي من واجهتيه: الأمامية والخلفية بصفة خاصة.
6- تحقيب الرواية العربية عنوانيا:
سنحاول في هذه الدراسة المتواضعة تحقيب الرواية العربية وتحديد محطاتها على ضوء المقاربة العنوانية لفهم مكوناتها ومشخصاتها الفنية قصد تحليلها وتفسيرها. ولقد صدق الباحث المغربي شعيب حليفي حينما قال بأن:" دراسة عناوين الرواية العربية كخطاب هي دراسة تبسط مشهدا كاملا يغري بالمتابعة، ويدعو إلى استفتاء خصوصياته ومكوناته، ثم وظيفته الوصول إلى نتائج تدعو إلى تحليل صارم للعنوان باعتباره جزءا من المشهد الروائي المتميز في الراهن الثقافي".
وكم كانت رغبتي ملحة وعارمة للاستجابة للنداء الذي أطلقه أحد الباحثين المغاربة حينما قال: "إن تحليل" الضوء الهارب [للروائي المغربي محمد برادة] كعنوان يفرض علينا وضعه مع مجموعة من العناوين الأخرى للرواية المغربية أي نقوم بدراسة نسقية لهذه العناوين وذلك على الشكل التالي:
*
جرد العناوين الروائية المغربية.
*
تصنيفها بحسب صياغتها وتحديد أنواعها والصيغ الغالبة والصيغ الغائبة.
*
استخلاص العناوين الحداثية منها.
*
تحديد مميزات العناوين الحداثية....".
وعليه فلا يمكن أن نضع تيبولوجية (صنافة) لعناوين المتن الروائي المغربي قبل أن نضع تصنيفا عنوانيا للرواية العربية بصفة عامة، نضع فيها عناوين الرواية المغربية قصد فهمها وتفسيرها: مناصيا ودلاليا وإيديولوجيا. ومن ثم نحدد أنماط العنونة من خلال بناها الدلالية والشكلية. وهذا ماقام به الباحث المغربي شعيب حليفي في مقاله القيم (النص الموازي للرواية-إستراتيجية العنوان-).
وإذا تأملنا النصوص السردية والروائية، سنلاحظ قطيعة وتجاوزا على مستوى تطور البنية العنوانية خلال المراحل التالية التي قطعتها الرواية العربية عبر عمرها الطويل:
أ?- مرحلة الحكي العربي القديم:
تعتبر الأشكال السردية الحكائية القديمة أنماطا روائية تراثية (ألف ليلة وليلة مثلا) بمقياسنا العربي الأصيل، لا بمفاهيم الرواية الأوربية الحديثة (رواية القرن التاسع عشر) التي أوقعتنا في التقليد والانبهار والتلفيقية والتجريب رغبة في العولمة والحداثة؛ وإن كان ذلك على حساب الأصالة والتراث والذات والهوية والفهم الحقيقي للشخصية العربية والتواصل الحضاري وربط الماضي بالحاضر. فهذه الأمور هي الكفيلة بتحقيق قفزة حضارية: قوامها التوازن بين الماديات والأخلاقيات الإسلامية.
ب?- مرحلة الجهود الروائية الأولى:
وهذه المرحلة امتداد للمرحلة التراثية الأولى، كما نجد ذلك في أعمال كل من حافظ إبراهيم (ليالي سطيح) والمويلحي (حديث عيسى بن هشام)، ورفاعة الطهطاوي (تخليص الإبريز في تلخيص باريز)، ومحمد بن المؤقت المراكشي (1894-1949) في (الرحلة المراكشية أو مرآة المساوئ الوقتية).
وكانت هذه الجهود امتدادا لألف ليلة وليلة وسيرة عنترة وسيف بن ذي يزن ومقامات بديع الزمان الهمذاني أو الحريري وكتاب ابن المقفع (كليلة ودمنة) وابن بطوطة (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، والشريف الإدريسي (نزهة المشتاق في اختراق الآفاق). وهي تؤكد التواصل الحضاري والفني وربط الماضي بالحاضر. لكن صدمة النهضة والانبهار بالحضارة الغربية والتهافت على الجديد الأدبي- لا التكنولوجي- وتقليد رجل الغرب في طقوسه وشكلياته وعاداته- لا في عقليته الاجتهادية وإبداعه العلمي- سبب القطيعة الفكرية والانفصام الحضاري وانفصال الحاضر عن الماضي على مستوى التخييل الحكائي والإبداع السردي.
ج- مرحلة التجنيس الفني للرواية العربية:
مع بداية القرن العشرين سارت الرواية العربية على نهج الرواية الأوربية في تمثل قواعدها الفنية والتجنيسية. ومن ثم عرفت روايتنا العربية جميع التيارات الغربية من كلاسيكية ورومانسية وواقعية الخ... وذكرتنا بروايات فلوبير وإميل زولا وبلزاك وستندال وتولوستوي ودويستفسكي. ولما حاز نجيب محفوظ جائزة نوبل قال أحد القراء الغربيين: لقد عاد إلينا بلزاك مرة أخرى. وهذا يترجم موقف المشارقة القديم من الأندلسيين:"هذه بضاعتنا ردت إلينا".
يلاحظ- إذاً- على هذه المرحلة تقليد الرواية العربية للرواية الغربية في مضامينها وأشكالها الفنية وتياراتها الأدبية، مما أوقع الرواية العربية في شرك الاحتذاء الأعمى، والتجريب والاستهلاك، والانقطاع عن التراث الروائي بدلا من محاولة تطويره امتدادا وتواصلا وإبداعا: شكلا ومضمونا ورؤية.
د- مرحلة الرواية العربية الجديدة:
وقد سعى أصحابها إما إلى التحديث الروائي على غرار الرواية الفرنسية الجديدة le nouveau roman التي من أقطابها كلود سيمون وآلان روب ﮔرييه وريكاردو وميشيل بوتور ومارﮔريت دورا... والنهج على طرائق رواية ما بعد الحداثة nouveau roman modern التي كان يمثلها كل من فيليب سولرز وجوليا كريستيفا بعد تطور النقد الحديث وظهور جماعة تيل كيل TEL QUEL وما بعد البنيوية، وإما التأصيل والبحث عن شكل روائي عربي. إلا أنهم عادوا إلى التراث قصد استلهامه معارضة وحوارا وامتصاصا وإعادة بنائه في أشكال تخييلية تناصية مثلما كان يفعل إميل حبيبي والطيب صالح وواسيني الأعرج وجمال الغيطاني وبنسالم حميش ومؤنس الرزاز في روايته (متاهة الأعراب في ناطحات السراب)، وروائيون آخرون.
هذا وإذا عدنا إلى النصوص السردية العربية القديمة سنجد العناوين تنقسم إلى قسمين:
1- نوع يركز على الزمن مثل: ألف ليلة وليلة؛
2- نوع ثان يركز على الأسماء البطولية: عنترة وسيف بن ذي يزن وبنو هلال...وحمزة البهلوان..
وكان العنوان قديما يتميز بعدة خاصيات ضابطة له منها: خاصية السجع والطول والتوازي الإيقاعي والطابع الفانطاستيكي وتفريع العنوان الأساسي.
وإذا انتقلنا إلى مرحلة الجهود الروائية الأولى، سنجد هيمنة العنونة التراثية رغبة في ربط الحاضر بالماضي الحضاري لاسيما في مرحلة القرن التاسع عشر، بل حتى حدود الأربعينيات من هذا القرن (روايات محمد بن الموقت المراكشي)، فقد جاءت العناوين الملصقة بالروايات على النمط الحكائي التقليدي.
وليس هذا الاحتذاء تقليدا أو اجترارا لقوالب التراث العربي القديم- كما يعتقد شعيب حليفي- بل رغبة في استكمال مسيرة تطور الرواية العربية نموا وامتدادا وتواصلا. لذا اعتمدت الطول في الكتابة الجملية والتسجيع في إثارة القارئ وتشويقه إيقاعيا علاوة على ظاهرة التناص التي تتحكم في هذه العناوين محاكاة للسرد العربي القديم.
ويلاحظ مع مرحلة الانفتاح على الغرب وتجنيس الفن الروائي العربي اعتمادا على المعايير الفنية للرواية الغربية أن الرواية الحديثة في العالم العربي منذ ظهور زينب لمحمد حسين هيكل (1914) أو الأجنحة المتكسرة لجبران خليل جبران اعتمدت نمطيا العنونة الكلاسيكية أوالتقليدية التي كانت مرآة تشخيصية للذات أو الواقع أو المرجع التاريخي.
لذا كانت الهيمنة لأنماط عنوانية ثلاثة:
1- العنونة الفضائية التي تشخص المكان وتجسد الواقع الموضوعي والفضاء بكل عوالمه الأصيلة والموبوءة (روايات نجيب محفوظ وعبد الرحمن الشرقاوي الواقعية).
2- العنونة التجريدية التي تشخص الذات والقيم المثالية والحب الطوباوي كما هو الشأن في الرواية الرومانسية (لأجنحة المتكسرة لجبران، رواية زينب لهيكل، روايات يوسف السباعي وإحسان عبد القدوس وعبد الحليم عبد الله والمنفلوطي والسير الذاتية...الخ).
3- العنونة الوثائقية في الروايات الإخبارية والتاريخية والوطنية والقومية( روايات جورجي زيدان ونجيب محفوظ في مرحلته الأولى ( كفاح طيبة – رادوبيس)).
ونسجل إلى جانب هذه الأنماط العنوانية طغيان ظاهرة الأسماء العلمية (أنثوية كانت أم ذكورية) على المنتوج الروائي الذي ظهر ما بين 1914 و1960، وشكل ما يسمى بالرواية الفنية الحديثة مثل رواية زينب لمحمد حسين هيكل، وثريا لعيسى عبيد 1922 ورجب أفندي لمحمود تيمور 1928 وأديب لطه حسين 1935 وحواء بلا آدم لطاهر لاشين 1934 وسارة للعقاد 1938. ونكتفي بهذه النماذج لنقول بأن "السمة الغالبة في هذه المرحلة للعناوين هي سيادة الأسماء بالدرجة الأولى. وذلك راجع إلى سيادة البطولة المطلقة وروح الفردية وهو ما يشير إلى بداية الرواية الأوربية كما تحدث عنها كوزينوف ومارت روبير وحملها لأسماء أبطالها (دونكيشوت، تيل، كروز...). فهذا النوع من العناوين التي سادت في مرحلة كاملة كان من أجل إعادة الاعتبار للفرد بالإضافة للمكان الذي حفلت به عناوين أخرى (عند البستاني والطهطاوي وفرح أنطون وتوفيق الحكيم...). فقد ساد الإحساس بالغربة عن الذات والمكان، وهو يؤكد أن احتشاد الانكسار الفادح الذي كان يتخفى تحت إهاب الكلمات عكسته العناوين، فجاءت على وتيرة واحدة لتخلق مستويات متعددة المعاني تفيض بآلام الذات العربية التي اختارت هذا المجال كوسيلة للتعبير عن الأسى والرعب الذي استجمع قواه لرؤية انهيار العديد من القيم في حين أن العنوان في الخطاب الروائي الحديث يشكل إستراتيجية خاصة لها خصوصيات ومكونات تدخل في إطار التجريب انطلاقا من استفادتها من الركام الكلاسيكي من جهة، ثم الوعي بأهمية العنوان وتغيراته من جهة ثانية."
لقد أصبح العنوان في الرواية الفنية الحديثة يتسم بعدة خصائص منها:
1- تشخيص الذات والواقع والمرجع التاريخي والرمزي.
2- الاختصار والوضوح.
3- دقة العنوان ونفاذه.
4- ارتباط العنوان بالنص مباشرة.
5- الاشتمال لمكونات العمل ودلالاته ومقاصده.
6- تكثيف المعنى في كلمات معدودة.
7- تذييل العنوان الأساسي بالعناوين الفرعية المشوقة للقارئ.
8- التلخيص الاستباقي.
9- الإيحائية المجازية والرمزية.
10-الاستفادة من تقنيات الـﮔرافيك واللون والحيز المكاني.
11-الإثارة وجلب انتباه القارئ عبر عنونة الفصول والمقاطع النصية.
وهكذا فلم تقتصر الرواية العربية الحديثة في بنيتها العنوانية على الصورة اللغوية والبنية الحرفية التقريرية المباشرة، بل تجاوزتها إلى الصورة البصرية على غرار العناوين السينمائية ذات الوظائف الإيحائية والسيميولوجية. فالسينما الحديثة حرصت على" اختيار عناوينها من كلمة أو كلمتين أو من حرف. أما السينما التي اعتمدت الروايات البوليسية وأعمال الخيال العلمي فإن مكوناتها ظلت كما هي تحتفظ بالعنوان الحدثي المؤسس لبؤرة الرواية قصد تزكية العنوان البصري (الصورة). كما أن سينما الخيال العلمي ظلت تنحو منحى تتخذ فيه الزمان والمكان مكونين للعنوان قصد الإيحاء الوظيفي وأداء مهمة تحيل على المستقبل.
نستنتج –إذاً- أن العنوان الفني يتميز بخصائص محددة تميل نحو ماهو بلاغي في محاولة التقاط جوهر الشيء، وليس الشيء في ذاته: عناوين سريالية تميل نحو ماهو استعاري وتؤدي وظائف متعددة ومتراكبة في آن."
وتمتاز العناوين في الرواية الكلاسيكية أو الفنية الحديثة بخاصية الانسجام على مستوى مظاهر القصة (الأحداث- الشخصيات- الفضاء)، والخطاب (الرؤية- الصيغة- الزمن).
غير أن العناوين في الرواية العربية الجديدة التي ظهرت مع الستينيات من القرن الماضي تبتعد عن العناوين الكلاسيكية على المستويات التالية: البنية والدلالة والوظيفة رغبة في التجريب والعصرنة والعولمة والتأصيل.
لذا فالعنونة الحداثية في الرواية الجديدة قد اتخذت مسلكين عنوانيين:
• المسلك الأول يريد الدخول إلى العولمة الإبداعية من خلال الاستفادة من تقنيات الغرب وتمثل طرائق الرواية الغربية واستيحاء أنماطها السردية وتشكيلاتها الفنية.
• المسلك الثاني يريد تحقيق المعاصرة عبر الاستفادة من التراث ومحاورته معارضة وتحريفا وسخرية بارودية وتمثل سروده القديمة بطريقة تناصية وتفاعلية على النحو التالي:
أ?- العنونة التجريبية رغبة في التحديث.
ب-العنونة التراثية رغبة في التأصيل.
إن العنونة الحداثية التي ظهرت مع الرواية الجديدة منذ ستينيات القرن الماضي، وقبل ذلك بقليل (كتب المسعدي في منتصف الخمسينيات بتونس رواية تراثية عنوانه: "حدثني أبو هريرة فقال" ستبتعد عن العناوين التقليدية المباشرة، وتؤسس لنفسها إيهاما يوحي بالغواية والتأويل المغاير، علاوة على شاعرية تنفلت من الجملة ومدى اتساعها الدلالي.
سيتجاوز العنوان الحداثي – تجريبا وتأصيلا- بنية الجملة العنوانية إلى بنية النص، خاصة عندما يستصحب العنوان الرئيس العنوان الفرعي مثل رواية مجيد طوبيا (تغريبة بني حتحوت إلى بلاد الشمال، حيث الملاحم العظيمة والحوادث الجسيمة وخوض الأهوال وانقلاب الأحوال وتسلط الفأر على القط وركوع الأسد للقرد).
وسنلاحظ كذلك تجاوزا للصورة اللغوية وإرفاقها- على غرار السينما- بالصورة البصرية التجريدية ذات الوظائف السيميولوجية. وتتحكم الصورة- الرؤيا( الرمز- الأسطورة- الفانطاستيك- المفارقة) في معظم عناوين الرواية الجديدة، إذ أصبحت لهذه البنية العنوانية وظائف أخرى جديدة، تتطلب قارئا ذكيا يوظف الذهن أكثر من الوجدان، ملما بتقنيات الرواية الحديثة وطرائق الكتابة التراثية ومنفتحا على الرواية العالمية ومناهج النقد الحديث وطرائق الكتابة التراثية ومنفتحا على الرواية العالمية ومناهج النقد الحديث كالشعرية والبنيوية والسيميوطيقا ونظريات التأويل والتفكيك.
نقول بكل اختصار: لقد عمدت عناوين الرواية الجديدة إلى التجريب قصد تحقيق الحداثة والعالمية، والتأصيل قصد التواصل مع التراث والانفتاح عليه وتطعيمه بمفاهيم جديدة وتصورات معاصرة بعد القطيعة التي شهدتها الرواية العربية إبان انفتاحها على الغرب لاستيراد أشكال روائية وتقنيات حديثة تقليدا وانبهارا واقتباسا وتمصيرا.
وكل هذا عن الرواية العربية بمحطاتها الكلاسيكية والتجديدية، فماذا عن الرواية المغربية؟
7- تصنيف الرواية المغربية عنوانيا:
يمكن تصنيف الرواية المغربية عنوانيا على الشكل التالي:
أ?- العنونة التراثية في الأشكال الروائية الأولى (1930-1956):
ومن النماذج التمثيلية لهذه العنونة التراثية التي تستوحي بنيتها السردية من الرحلة والمقامة والمناقب (الرحلة المراكشية أو مرآة المساوئ الوقتية لمحمد بن الموقت (1960)، وطه لحمد الحسن السكوري (1941)، والزاوية للتهامي الوزاني (1992).
ب?- العنونة الكلاسيكية في الرواية الفنية المغربية الحديثة(1956- 1970):
وتنقسم هذه العنونة إلى:
1- العنونة التاريخية: رواية وزير غرناطة لعبد الهادي بوطالب والمعركة الكبرى لحمد أشماعو...
2- العنونة الرومانسية: كما في ضحايا حب لمحمد بن التهامي والمرأة والوردة لمحمد زفزاف...
3- العنونة الواقعية: كرواية دفنا الماضي لعبد الكريم غلاب....
ج- العنونة الحداثية في الرواية المغربية الجديدة (1971- إلى يومنا هذا):
وتمثل هذه العنونة مجموعة من النصوص الروائية ذات السمات والخصائص التالية:
1- العنونة الرمزية: في روايات عديدة كرفقة السلاح والقمر لمبارك ربيع والمباءة لمحمد عزا لدين التازي...
2- العنونة المجازية: كما في رواية رحيل البحر لمحمد عز الدين التازي والضوء الهارب لمحمد برادة....
3- العنونة الشاعرية: تكثر في روايات أحمد المديني ولاسيما وردة للوقت المغربي وزمن بين الولادة والحلم...
4- العنونة العجائبية: مثل سماسرة السراب لبنسالم حميش وأحلام بقرة لمحمد الهرادي...
5- العنونة الأسطورية: كبدر زمانه لمبارك ربيع...
6- العنونة التاريخية/ التراثية: كمجنون الحكم والعلامة لبنسالم حميش وجارات أبي موسى لأحمد توفيق..
ويلاحظ على هذه العنونة الحداثية أنها تجمع بين تجريب تقنيات الرواية الغربية وتأصيل الرواية المغربية عن طريق الاستفادة من التراث واستلهام قوالبه معارضة ومحاورة وتعلقا كما عند بنسالم حميش ومبارك ربيع وشغموم الميلودي ومحمد الهرادي ومحمد الشركي...
خاتمة:
تلكم نظرة موجزة ومقتضبة عن العنوان وعلاقته بالنص الموازي والعمل الإبداعي وسماته البنيوية والدلالية والوظيفية في ضوء تطور الرواية العربية بصفة عامة والمغربية بصفة خاصة.
[1] علي جعفر العلاق: ( شعرية الرواية)، علامات في النقد، المجلد 6، الجزء 23 ، السنة 1997 ، ص:100-101؛
[2] لوسيان ﮔولدمان وآخرون: الرواية والواقع، ترجمة رشيد بنحدو، عيون المقالات، دار قرطبة، الدار البيضاء، ط1 ، 1988، ص: 12؛
[3] عبد الفتاح الحجمري: عتبات النص: البنية والدلالة، منشورات الرابطة، الدار البيضاء، ط 1 ، 1996، ص: 7؛
[4] كلود دوشيه: (عناصر علم العنونة الروائي)، أدب، فرنسا، عدد 12 ، كانون الأول، 1973، ص:52-53؛
[5] د. موسى أغربي: مقالات نقدية في الرواية العربية، دار النشر الجسور، وجدة، ط1 ، 1997، ص:5-6؛
[6] موسى اغربي: مقالات نقدية في الرواية العربية،دار النشر الجسور، وجدة، ط 1، 1997، ص:5-6؛
[7] المرجع السابق، ص: 36؛
[8] د. إدريس الناقوري: المرجع السابق، ص: 51-52؛
[9] د. إدريس الناقوري: المرجع السابق، ص:75؛
[10] محمد برادة: الضوء الهارب، نشر الفنك، ط 2 ، 1995؛
[11]
ومن هنا فالعنوان عبارة عن صيغة مطلقة للرواية وكليتها الفنية والمجازية. إنه لايتم إلا بجمع الصور المشتتة وتجميعها من جديد في بؤرة لموضوعات عامة تصف العمل الأدبي، وتسمه بالتواتر والتكرار والتوارد. إذاً، فهو الكلية الدلالية أو الصورة الأساسية أو الصورة المتكاملة التي يستحضرها المتلقي أثناء التلذذ والتفاعل مع جمالية النص الروائي ومسافاته الاستيتيقية. فالصورة العنوانية قد تندرج ضمن علاقات بلاغية قائمة على المشابهة أو المجاورة أو الرؤيا، فيتجاوز العنوان مجازيا مع دلالات الفضاء النصي للغلاف وتنصهر الصورة العنوانية اللغوية في الصورة المكانية لونا ورمزا.
إن فهم الصورة العنوانية وتفسيرها وتذوق جمالها وصيغ أساليبها مرتبط بمعانيها" ضمن" خطاطة المجموع"، أي السياق الكلي للرواية". [[جمال بوطيب: (العنوان في الرواية المغربية)، الرواية المغربية: أسئلة الحداثة، دار الثقافة الدار البيضاء، ط1 ، 1996، ص: 204؛
[12] شعيب حليفي: نفس المرجع السابق، ص: 87؛
[13] نفسه،ص:89؛
[14] مجيد طوبيا: تغريبة بني حتحوت، بيروت، دار الشروق، ط1، 1988.
حياكــــــــــــــــــم الله