عتبة العنوان في رواية إلياس خوري "يالو"
١٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٥بقلم أمل أحمد عبد اللطيف أبو حنيش
احتفت الدراسات الغربية بدراسة النص الموازي، في الوقت الذي أغفلته الدراسات النقدية الحديثة العربية، ومن أهم النقاد والدارسين الغربيين الذين احتفوا بهذا المجال النقدي الهام، الناقد الفرنسـي (جيرار جنيت)، ففي كتابه "عتبات"، فكك النص الموازي إلى: النص المحيط، والنص الفوقي. فقد جعـل العنوان في مقدمة فضاء النص المحيط، وإلى جانبه كل من العناوين الفرعية والداخلية للفصول والمقدمة، بالإضافة إلى الملاحظات التي يمكن للكاتب أن يشير إليها، وكل ما يتعلق بالمظهر الخارجي للكتاب، كالصورة المصاحبة للغلاف، أو كلمة الناشر على ظهر الغلاف أو مقطع معين من المحكي". [1]
والنص الموازي في الرواية ليس حلية أو زينة، بل هو خطاب مفكر فيه، وهو الشيء التي يُواجه المتلقي ويرسم انطباعاً أولياً عن النص، سرعان ما يتوسع أو يتقلص مع القراءة.
وتأتي أهمية العنوان موضوع هذه الدراسة من التوجه البلاغي الجديد، الذي يسعى إلى كسر هيمنة العنوان الحرفي الاشتمالي، ليؤسس بدلاً منه عنواناً تلميحياً، فالعنوان من أهم العناصر المكونة للمؤلف الأدبي، وهو سلطة النص وواجهته الإعلامية، وهو الجزء الدال منه. يساهم في تفسيره، وفك غموضه، لذا عُني المؤلف بعنونة نصوصه، لأنه مفتاح إجرائي به نفتتح مغالق النص سيميائياً. [2]
وأياً كان الأمر فالمؤلف لا يضع عنوانه اعتباطاً، بل يتقصد من ورائه مزيداً من الدلالات والإضاءات التي تساهم في فك رموز نصه سواء أكان ذلك في صياغته وتركيبه أم في دلالته، وتعالقه بالنص اللاحق.
ففي رواية إلياس خوري "يالو" يُطالعنا عنوانها الذي يشدُ الانتباه، ويدخل القارئ في حيرة من أمره منذ البداية، محاولاً استكشاف دلالاته، وفك غموضه، فيالو كعنوان سيميائي يجسد أعلى اقتصاد لغوي، يغري القارئ بتتبع دلالاته وتفسيرها، فما أن يقع نظر القارئ على العنوان حتى يُثير في مخيلته تأويلات شتى.
العنوان كبِنْيَة لها دلالاتها الخاصة:
ثمة حق للقارئ في التساؤل عن مكونات العنوان، هل هو اسم لأحد أبطال الرواية؟ أم هو فضاء مكاني؟. وبتعبير (إمبرتو ايكو) العنوان قاعدة عليها أن ترن دائماً وتخلخل الأفكار، لدى المتلقي، [3] حسب معرفته وثقافته، حيث يتباين أفق التوقع من إنسان لآخر. فمن كان ذا معرفة بفلسطين وتاريخها وقضيتها، سوف ينصرف ذهنه إلى قرية "يالو" الفلسطينية التي دمرها التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي عام 1967. [4] وبناءً على ذلك سوف يبني تصوراً أولياً بأنه سيقرأ عن تلك القرية، وربما سيقرأ "سيرة مكان". ومن كان لا يعرف "يالو" القرية الفلسطينية، سينصرف ذهنه إلى أن "يالو"، ربما هو لقب، أو اسم لأحد أبطال الرواية، ارتأى كاتبها أن يجعله محوراً تدور حوله الأحداث، ونواة يبني عليها نسيج نصه.
وتبقى دلالة العنوان غائبة، مراوغة، عصية على القبض، تحتمل تلك التأويلات. الأمر الذي يدفع القارئ إلى تحديد دلالة للعنوان، من خلال البحث في تعالقه مع النص اللاحق دلالياً ولغوياً، فالعنوان والنص يشكلان بنية معادلية كبرى. بمعنى أن العنوان يولد معظم دلالات النص. فإذا كان النص هو المولود، فالعنوان هو المولد الفعلي لتشابكات النص وأبعاده الفكرية والأيدولوجية. [5] فيالو كعنوان روائي، يعلن عن نفسه كجملة أولى في النص، مؤكداً تبعيته. "لم يفهم يالو ماذا يجري"، [6] هذه الجملة الأولى في النص تتمة منطقية للعنوان الذي يشير إلى بطل الرواية.
فمنذ الصفحة الأولى نجد أنفسنا أمام حركة صعود ونزول بين العنوان والنص، لنؤكد ما توصلنا إليه أو نفيه. لكن من أي منطلق أتى هذا العنوان؟ هل هو تجسيد واختصار لموضوع النص؟ أم هو محاولة لإعادة الاعتبار للفرد في زمن الإحسـاس بالغربة عن الذات، والشـعور بالمرارة، وانكسار الروح، وتوالي الهزائم، في زمن الحرب، والفقر والظلم والبحث عن العدالة والحرية.
تعالق العنوان مع النص اللاحق لغوياً وتركيبياً:
على المستوى اللغوي نجد العنوان في الرواية دائم الحضور كعلامة سيميائية مشعة، فيالو هو بطل الرواية وهو النواة المتحركة التي بُني عليها نسيج النص، وعلى المستوى التركيبي يشدنا العنوان ويُغرينا للدخول في تجربة قراءة النص. فتشكيل الحروف المنجزة على الغلاف خُط باللون الأسـود الداكن، وبرسم مميز، لافتاً الانتباه إليه. و"خَطَّ" تعني بالعربية ممارستين مخصوصتين باليد "كتب و رسم"، كما أن المصدر "خط" يعني في نفس الآن فعل الكتابة، وفن الخط. والعنوان عندما يُخط، فهو ليس حروفاً وحسب، بل هو "رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس". [7]
وإذ تُخط الحروف، فإنها تتسلل من بين أصابع كاتبها، لتخلق لغة وعالماً وحياة. ولرصد البعد التركيبي لحروف كلمة "يالو"، لا بد وأن نقف عند توالد الحروف وتراكبها مصحوبة بحركات، وهو ما يشي بحضور الإيقاع. [8] فقد رسمت الياء صغيرة، مقارنة بالألف التي امتدت طويلة، لتشكلا معاً حرف نداء للبعيد، وإطالة صوتية، ونغماً ممتداً، يخرج من أعماق الروح، ليعبر عن هم ما يريد البوح به والإفصاح عنه، إنها حياة يالو الطويلة من أولها لآخرها، بكل ما فيها من مرارة وقسوة. وإلى جانب الألف تمتد اللام بنفس الإطالة، بينما تعقبها الواو لتوحي بالقطع، وبالنهاية بعد الامتداد – بالموت بعد الحياة – وكأن العنوان يكثف النص ويختزله.
تعالق العنوان مع النص دلالياً:
يبدأ السرد عن شخص يدعى يالو، ومع القراءة تتوالى الإضاءات لدلالات العنوان، فيالو حكاية شاب يدعى دانيال هابيل أبيض، يلقب بيالو. يدخل السجن وهناك يكتب قصة حياته مرات عديدة، يكتبها بناءً على ذاكرته لا خياله، يكتبها بعد حفلات التعذيب المتنوعة التي تعرض لها في سجنه، وبناءً على طلب من المحقق "ما بدي ياك تألف شي من خيالك، أقعد على رواق وتذكر واكتب متل ما بتتذكر، بدي القصة من أولها لآخرها". [9] إنها حكاية الذاكرة، ذاكرة الحرب الأهلية، الذاكرة التي نجد صداها يتردد في معظم أعمال خوري الروائية.
وإذا ما عدنا إلى جسد النص، وجدناه مشعاً لإشاراته المباشرة، التي يضيء بها العنوان، وكأنها نوافذ أساسية في الأطلال على قصديته. يالو بكى وتعذب، وشعر بالعجز عن كتابة حكايته، لكنه كتبها، فكانت قصيرة لا تصلح، وهو لا يعرف كيف يُعيد كتابتها، يحاول ترتيب ذاكرته، ليكتب حكايته من جديد، حكاية الحرب الأهلية في لبنان. "الحكاية التي أسـالت الكلمات كما أســالت الدم". [10] حكاية الواقع الذي يغوص بجذوره إلى مذبحة 1860، "المذبحة التي افتتحت مذابح لبنان كلَّها". [11] فقد نبش اللبنانيون في حربهم تاريخ حروبهم الماضية من أجل أن يبرروا جنونهم. وتأتي حكاية يالو على هذا النحو، كأنما تريد أن تقول إن ما نقوم به من أعمال ليس سوى صدى للاوعينا. إننا نكرر في الواقع ما شهده الماضي وما قام به الأسلاف. [12]
ومع توالي القراءة تتضح دلالات العنوان، فيالو كان كغيره من اللبنانيين، ضحية للحرب التي خدعتهم، "كنت مثل جميع الشباب أريد أن أدافع عن لبنان، وبعد ذلك اكتشفت إنني أحارب فقراء مثلي". [13]
وفي السجن يكتب يالو قصة حياته مرات عديدة، فيكتشف الكلمة التي أعادت خلقه من جديد، لذا يكتب قصة حياته لتكون عبرة لمن يعتبر، يكتبها من أولها لآخرها. ومع توالي القراءة يشف النص عن محتواه مضيئاً عنوانه " حكاية يالو يا سيدي حكاية أسمها الحرب". [14] حكاية يلخص فيها الواقع، واقع الحرب الأهلية في لبنان، فيغدو النص عنواناً، والعنوان نصاً في دلالة كل منهما على الآخر.
فالحكاية لا تخص يالو وحده، فهو فرد ضمن أسرته ومجتمعه وبيئته التي يعيش فيها، إنها بيئة الحرب التي خطت المستقبل الأسود للشباب اللبنانيين، فيالو صار مقاتلاً مثل آلاف الشباب الذين تركوا دراستهم، وذهبوا إلى المصير الذي صنعته لهم الحرب. [15]
وحين يكتب يالو حكايته يكتبها بالتفصيل، يكتب كل شيء عن "جده وأمه، وإلياس الشامي، حكايات بلونة وعشاقها، والمتفجرات…". يكتب يالو حكايته من أولها لآخرها أسود على أبيض. [16] هذه المفارقة في الألوان تتضح أكثر من خلال لوحة الغلاف البيضاء كنص موازٍ، يساهم في إضاءة العنوان، فالعنوان "يالو" يتوسط صفحة الغلاف البيضاء باللون الأسود الداكن، وإن لم تكن الصفحة خالصة البياض.
ومفارقة اللون هذه تمنح العنوان بعداً إيحائياً، فالأسود يشير إلى حياة يالو الصعبة، حياة الحرب والموت والدمار، بكل تفاصيلها وآلامها، حياة سوداء، وزمن أسود، سُطر على صفحة بيضاء. وتلك هي الحياة الجديدة التي يحلم بها يالو بعد أن قرر التوبة. "إنني صرت إنساناً آخر لم أتعلم من الماضي سوى الحب". [17] وهكذا يستمر النص في إضاءة دلالات العنوان، مع تواصل القراءة، فقد كان اعتقاد يالو بانتهاء حكايته خاطئاً، فقد أبلغه المحقق باكتشاف عصابة المتفجرات واعترافها. وبعد كل المعاناة والعذاب الذي تعرض له يالو يقول المحقق: "ما تآخذنا مسيو يالو، عذبناك معنا، قصتك سخيفة، وما بتستاهل". [18]عندها رأى يالو حكايته على الأرض، الماء والحبر والحكاية التي تسـيل. ومع توالي تقليبنا لصفحات الرواية، وما بين النص ولوحة غلافه، تتضح دلالات أخرى للعنوان، حينما يقرر يالو كتابة قصة حياته من جديد بعد الحكم عليه بالسجن، يكتبها هذه المرة لنفسه متراجعاً عما سبق وقاله بشأنها، فهو لم يعد يريدها عبرة لمن يعتبر. "قررت أن أكتب قصة حياتي بخط صغير بحيث تكون الكلمات مثل النمل، لا يستطيع أحد قراءتها، لا أريد أن يقرأ أحد سواي هذه القصة". [19]وهكذا هي صفحة الغلاف، صفحة بيضاء كتب عليها كلمـات صغيرة غير مقروءة، يتخللها كلمات ممحوة تدفعنا للبحث عن دلالاتها في جسد النص، فنجدها في قوله: "أمي زارتني مرة واحدة فقط، بالي مشغول عليها، أخبارها انقطعت من سنة، ولا أعرف وسيلة للاتصال بها". [20] تلك الكلمات تلقي الضوء على نفسية يالو المحطمة وذاكرته المشتتة، فهو غير قادر على التركيز، لم يكتب سوى صفحة واحدة "سنة كاملة لم أكتب خلالها سوى صفحة واحدة". [21] وهكذا، إذا كان العنوان علامة سيميائية، تعلو النص وتمنحه النور اللازم، فالنص بالمقابل له نفـس التأثير على العنوان. فالتعالق بين النص وعنوانه، يعطينا الحق أن نسمي "يالو" عنوان الدلالة المولدة.
حواشي
[1] انظر، حليفي، شعيب: النص الموازي للرواية " إستراتيجية العنوان، الكرمل، بيسان للصحافة والنشر، قبرص، عدد 46، 1992، ص82.
[2] انظر/ حمداوي، جميل: السيموطيقا والعنونة، عالم الفكر، الكويت، مج 25، عدد3، 1997، ص107.
[3] انظر، حليفي، شعيب: النص الموازي للرواية، ص90.
[4] يالو هي إحدى القرى الفلسطينية المدمرة عام1967، فقد قام الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، بتدمير ثلاث قرى في منطقة القدس هي: عمواس، بيت نوبا، ويالو.
[5] انظر، حمداوي، جميل: السيموطيقا والعنونة، ص 106.
[6] انظر، خوري، إلياس، ط 1، بيروت، دار الآداب، 2002، ص 9.
[7] انظر، ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: مقدمة العلامة بن خلدون، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، د.ت، ص 417.
[8] انظر، فرشوخ، أحمد: جمالية النص الروائي، الرباط، دار الأمان، 1996، ص 15.
[9] انظر، خوري، إلياس: يالو، ص 93.
[10] انظر، خوري، إلياس: يالو، ص93.
[11] انظر، المصدر السابق، ص 231.
[12] انظر، الأسطة، عادل: إلياس خوري يواصل لعبه الروائي " قراءة في روايته الجديدة يالو " الأيام، 24/6/2003 م.
[13] انظر، خوري، إلياس: يالو، ص263.
[14] انظر، المصدر السابق، ص 290.
[15] انظر، المصدر السابق، ص 201.
[16] انظر، المصدر السابق، ص 364.
[17] انظر، المصدر السابق، ص 262.
[18] انظر، المصدر السابق، ص 360.
[19] انظر، المصدر السابق، ص 378.
[20] انظر، المصدر السابق، ص 379.
[21] انظر، المصدر السابق، ص 379.
منقول.
١٠ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٥بقلم أمل أحمد عبد اللطيف أبو حنيش
احتفت الدراسات الغربية بدراسة النص الموازي، في الوقت الذي أغفلته الدراسات النقدية الحديثة العربية، ومن أهم النقاد والدارسين الغربيين الذين احتفوا بهذا المجال النقدي الهام، الناقد الفرنسـي (جيرار جنيت)، ففي كتابه "عتبات"، فكك النص الموازي إلى: النص المحيط، والنص الفوقي. فقد جعـل العنوان في مقدمة فضاء النص المحيط، وإلى جانبه كل من العناوين الفرعية والداخلية للفصول والمقدمة، بالإضافة إلى الملاحظات التي يمكن للكاتب أن يشير إليها، وكل ما يتعلق بالمظهر الخارجي للكتاب، كالصورة المصاحبة للغلاف، أو كلمة الناشر على ظهر الغلاف أو مقطع معين من المحكي". [1]
والنص الموازي في الرواية ليس حلية أو زينة، بل هو خطاب مفكر فيه، وهو الشيء التي يُواجه المتلقي ويرسم انطباعاً أولياً عن النص، سرعان ما يتوسع أو يتقلص مع القراءة.
وتأتي أهمية العنوان موضوع هذه الدراسة من التوجه البلاغي الجديد، الذي يسعى إلى كسر هيمنة العنوان الحرفي الاشتمالي، ليؤسس بدلاً منه عنواناً تلميحياً، فالعنوان من أهم العناصر المكونة للمؤلف الأدبي، وهو سلطة النص وواجهته الإعلامية، وهو الجزء الدال منه. يساهم في تفسيره، وفك غموضه، لذا عُني المؤلف بعنونة نصوصه، لأنه مفتاح إجرائي به نفتتح مغالق النص سيميائياً. [2]
وأياً كان الأمر فالمؤلف لا يضع عنوانه اعتباطاً، بل يتقصد من ورائه مزيداً من الدلالات والإضاءات التي تساهم في فك رموز نصه سواء أكان ذلك في صياغته وتركيبه أم في دلالته، وتعالقه بالنص اللاحق.
ففي رواية إلياس خوري "يالو" يُطالعنا عنوانها الذي يشدُ الانتباه، ويدخل القارئ في حيرة من أمره منذ البداية، محاولاً استكشاف دلالاته، وفك غموضه، فيالو كعنوان سيميائي يجسد أعلى اقتصاد لغوي، يغري القارئ بتتبع دلالاته وتفسيرها، فما أن يقع نظر القارئ على العنوان حتى يُثير في مخيلته تأويلات شتى.
العنوان كبِنْيَة لها دلالاتها الخاصة:
ثمة حق للقارئ في التساؤل عن مكونات العنوان، هل هو اسم لأحد أبطال الرواية؟ أم هو فضاء مكاني؟. وبتعبير (إمبرتو ايكو) العنوان قاعدة عليها أن ترن دائماً وتخلخل الأفكار، لدى المتلقي، [3] حسب معرفته وثقافته، حيث يتباين أفق التوقع من إنسان لآخر. فمن كان ذا معرفة بفلسطين وتاريخها وقضيتها، سوف ينصرف ذهنه إلى قرية "يالو" الفلسطينية التي دمرها التي دمرها الاحتلال الإسرائيلي عام 1967. [4] وبناءً على ذلك سوف يبني تصوراً أولياً بأنه سيقرأ عن تلك القرية، وربما سيقرأ "سيرة مكان". ومن كان لا يعرف "يالو" القرية الفلسطينية، سينصرف ذهنه إلى أن "يالو"، ربما هو لقب، أو اسم لأحد أبطال الرواية، ارتأى كاتبها أن يجعله محوراً تدور حوله الأحداث، ونواة يبني عليها نسيج نصه.
وتبقى دلالة العنوان غائبة، مراوغة، عصية على القبض، تحتمل تلك التأويلات. الأمر الذي يدفع القارئ إلى تحديد دلالة للعنوان، من خلال البحث في تعالقه مع النص اللاحق دلالياً ولغوياً، فالعنوان والنص يشكلان بنية معادلية كبرى. بمعنى أن العنوان يولد معظم دلالات النص. فإذا كان النص هو المولود، فالعنوان هو المولد الفعلي لتشابكات النص وأبعاده الفكرية والأيدولوجية. [5] فيالو كعنوان روائي، يعلن عن نفسه كجملة أولى في النص، مؤكداً تبعيته. "لم يفهم يالو ماذا يجري"، [6] هذه الجملة الأولى في النص تتمة منطقية للعنوان الذي يشير إلى بطل الرواية.
فمنذ الصفحة الأولى نجد أنفسنا أمام حركة صعود ونزول بين العنوان والنص، لنؤكد ما توصلنا إليه أو نفيه. لكن من أي منطلق أتى هذا العنوان؟ هل هو تجسيد واختصار لموضوع النص؟ أم هو محاولة لإعادة الاعتبار للفرد في زمن الإحسـاس بالغربة عن الذات، والشـعور بالمرارة، وانكسار الروح، وتوالي الهزائم، في زمن الحرب، والفقر والظلم والبحث عن العدالة والحرية.
تعالق العنوان مع النص اللاحق لغوياً وتركيبياً:
على المستوى اللغوي نجد العنوان في الرواية دائم الحضور كعلامة سيميائية مشعة، فيالو هو بطل الرواية وهو النواة المتحركة التي بُني عليها نسيج النص، وعلى المستوى التركيبي يشدنا العنوان ويُغرينا للدخول في تجربة قراءة النص. فتشكيل الحروف المنجزة على الغلاف خُط باللون الأسـود الداكن، وبرسم مميز، لافتاً الانتباه إليه. و"خَطَّ" تعني بالعربية ممارستين مخصوصتين باليد "كتب و رسم"، كما أن المصدر "خط" يعني في نفس الآن فعل الكتابة، وفن الخط. والعنوان عندما يُخط، فهو ليس حروفاً وحسب، بل هو "رسوم وأشكال حرفية تدل على الكلمات المسموعة الدالة على ما في النفس". [7]
وإذ تُخط الحروف، فإنها تتسلل من بين أصابع كاتبها، لتخلق لغة وعالماً وحياة. ولرصد البعد التركيبي لحروف كلمة "يالو"، لا بد وأن نقف عند توالد الحروف وتراكبها مصحوبة بحركات، وهو ما يشي بحضور الإيقاع. [8] فقد رسمت الياء صغيرة، مقارنة بالألف التي امتدت طويلة، لتشكلا معاً حرف نداء للبعيد، وإطالة صوتية، ونغماً ممتداً، يخرج من أعماق الروح، ليعبر عن هم ما يريد البوح به والإفصاح عنه، إنها حياة يالو الطويلة من أولها لآخرها، بكل ما فيها من مرارة وقسوة. وإلى جانب الألف تمتد اللام بنفس الإطالة، بينما تعقبها الواو لتوحي بالقطع، وبالنهاية بعد الامتداد – بالموت بعد الحياة – وكأن العنوان يكثف النص ويختزله.
تعالق العنوان مع النص دلالياً:
يبدأ السرد عن شخص يدعى يالو، ومع القراءة تتوالى الإضاءات لدلالات العنوان، فيالو حكاية شاب يدعى دانيال هابيل أبيض، يلقب بيالو. يدخل السجن وهناك يكتب قصة حياته مرات عديدة، يكتبها بناءً على ذاكرته لا خياله، يكتبها بعد حفلات التعذيب المتنوعة التي تعرض لها في سجنه، وبناءً على طلب من المحقق "ما بدي ياك تألف شي من خيالك، أقعد على رواق وتذكر واكتب متل ما بتتذكر، بدي القصة من أولها لآخرها". [9] إنها حكاية الذاكرة، ذاكرة الحرب الأهلية، الذاكرة التي نجد صداها يتردد في معظم أعمال خوري الروائية.
وإذا ما عدنا إلى جسد النص، وجدناه مشعاً لإشاراته المباشرة، التي يضيء بها العنوان، وكأنها نوافذ أساسية في الأطلال على قصديته. يالو بكى وتعذب، وشعر بالعجز عن كتابة حكايته، لكنه كتبها، فكانت قصيرة لا تصلح، وهو لا يعرف كيف يُعيد كتابتها، يحاول ترتيب ذاكرته، ليكتب حكايته من جديد، حكاية الحرب الأهلية في لبنان. "الحكاية التي أسـالت الكلمات كما أســالت الدم". [10] حكاية الواقع الذي يغوص بجذوره إلى مذبحة 1860، "المذبحة التي افتتحت مذابح لبنان كلَّها". [11] فقد نبش اللبنانيون في حربهم تاريخ حروبهم الماضية من أجل أن يبرروا جنونهم. وتأتي حكاية يالو على هذا النحو، كأنما تريد أن تقول إن ما نقوم به من أعمال ليس سوى صدى للاوعينا. إننا نكرر في الواقع ما شهده الماضي وما قام به الأسلاف. [12]
ومع توالي القراءة تتضح دلالات العنوان، فيالو كان كغيره من اللبنانيين، ضحية للحرب التي خدعتهم، "كنت مثل جميع الشباب أريد أن أدافع عن لبنان، وبعد ذلك اكتشفت إنني أحارب فقراء مثلي". [13]
وفي السجن يكتب يالو قصة حياته مرات عديدة، فيكتشف الكلمة التي أعادت خلقه من جديد، لذا يكتب قصة حياته لتكون عبرة لمن يعتبر، يكتبها من أولها لآخرها. ومع توالي القراءة يشف النص عن محتواه مضيئاً عنوانه " حكاية يالو يا سيدي حكاية أسمها الحرب". [14] حكاية يلخص فيها الواقع، واقع الحرب الأهلية في لبنان، فيغدو النص عنواناً، والعنوان نصاً في دلالة كل منهما على الآخر.
فالحكاية لا تخص يالو وحده، فهو فرد ضمن أسرته ومجتمعه وبيئته التي يعيش فيها، إنها بيئة الحرب التي خطت المستقبل الأسود للشباب اللبنانيين، فيالو صار مقاتلاً مثل آلاف الشباب الذين تركوا دراستهم، وذهبوا إلى المصير الذي صنعته لهم الحرب. [15]
وحين يكتب يالو حكايته يكتبها بالتفصيل، يكتب كل شيء عن "جده وأمه، وإلياس الشامي، حكايات بلونة وعشاقها، والمتفجرات…". يكتب يالو حكايته من أولها لآخرها أسود على أبيض. [16] هذه المفارقة في الألوان تتضح أكثر من خلال لوحة الغلاف البيضاء كنص موازٍ، يساهم في إضاءة العنوان، فالعنوان "يالو" يتوسط صفحة الغلاف البيضاء باللون الأسود الداكن، وإن لم تكن الصفحة خالصة البياض.
ومفارقة اللون هذه تمنح العنوان بعداً إيحائياً، فالأسود يشير إلى حياة يالو الصعبة، حياة الحرب والموت والدمار، بكل تفاصيلها وآلامها، حياة سوداء، وزمن أسود، سُطر على صفحة بيضاء. وتلك هي الحياة الجديدة التي يحلم بها يالو بعد أن قرر التوبة. "إنني صرت إنساناً آخر لم أتعلم من الماضي سوى الحب". [17] وهكذا يستمر النص في إضاءة دلالات العنوان، مع تواصل القراءة، فقد كان اعتقاد يالو بانتهاء حكايته خاطئاً، فقد أبلغه المحقق باكتشاف عصابة المتفجرات واعترافها. وبعد كل المعاناة والعذاب الذي تعرض له يالو يقول المحقق: "ما تآخذنا مسيو يالو، عذبناك معنا، قصتك سخيفة، وما بتستاهل". [18]عندها رأى يالو حكايته على الأرض، الماء والحبر والحكاية التي تسـيل. ومع توالي تقليبنا لصفحات الرواية، وما بين النص ولوحة غلافه، تتضح دلالات أخرى للعنوان، حينما يقرر يالو كتابة قصة حياته من جديد بعد الحكم عليه بالسجن، يكتبها هذه المرة لنفسه متراجعاً عما سبق وقاله بشأنها، فهو لم يعد يريدها عبرة لمن يعتبر. "قررت أن أكتب قصة حياتي بخط صغير بحيث تكون الكلمات مثل النمل، لا يستطيع أحد قراءتها، لا أريد أن يقرأ أحد سواي هذه القصة". [19]وهكذا هي صفحة الغلاف، صفحة بيضاء كتب عليها كلمـات صغيرة غير مقروءة، يتخللها كلمات ممحوة تدفعنا للبحث عن دلالاتها في جسد النص، فنجدها في قوله: "أمي زارتني مرة واحدة فقط، بالي مشغول عليها، أخبارها انقطعت من سنة، ولا أعرف وسيلة للاتصال بها". [20] تلك الكلمات تلقي الضوء على نفسية يالو المحطمة وذاكرته المشتتة، فهو غير قادر على التركيز، لم يكتب سوى صفحة واحدة "سنة كاملة لم أكتب خلالها سوى صفحة واحدة". [21] وهكذا، إذا كان العنوان علامة سيميائية، تعلو النص وتمنحه النور اللازم، فالنص بالمقابل له نفـس التأثير على العنوان. فالتعالق بين النص وعنوانه، يعطينا الحق أن نسمي "يالو" عنوان الدلالة المولدة.
حواشي
[1] انظر، حليفي، شعيب: النص الموازي للرواية " إستراتيجية العنوان، الكرمل، بيسان للصحافة والنشر، قبرص، عدد 46، 1992، ص82.
[2] انظر/ حمداوي، جميل: السيموطيقا والعنونة، عالم الفكر، الكويت، مج 25، عدد3، 1997، ص107.
[3] انظر، حليفي، شعيب: النص الموازي للرواية، ص90.
[4] يالو هي إحدى القرى الفلسطينية المدمرة عام1967، فقد قام الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، بتدمير ثلاث قرى في منطقة القدس هي: عمواس، بيت نوبا، ويالو.
[5] انظر، حمداوي، جميل: السيموطيقا والعنونة، ص 106.
[6] انظر، خوري، إلياس، ط 1، بيروت، دار الآداب، 2002، ص 9.
[7] انظر، ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد: مقدمة العلامة بن خلدون، القاهرة، المكتبة التجارية الكبرى، د.ت، ص 417.
[8] انظر، فرشوخ، أحمد: جمالية النص الروائي، الرباط، دار الأمان، 1996، ص 15.
[9] انظر، خوري، إلياس: يالو، ص 93.
[10] انظر، خوري، إلياس: يالو، ص93.
[11] انظر، المصدر السابق، ص 231.
[12] انظر، الأسطة، عادل: إلياس خوري يواصل لعبه الروائي " قراءة في روايته الجديدة يالو " الأيام، 24/6/2003 م.
[13] انظر، خوري، إلياس: يالو، ص263.
[14] انظر، المصدر السابق، ص 290.
[15] انظر، المصدر السابق، ص 201.
[16] انظر، المصدر السابق، ص 364.
[17] انظر، المصدر السابق، ص 262.
[18] انظر، المصدر السابق، ص 360.
[19] انظر، المصدر السابق، ص 378.
[20] انظر، المصدر السابق، ص 379.
[21] انظر، المصدر السابق، ص 379.
منقول.