عريف الفرَض اصطلاحا:
الفرض - أو الفرضية، أو الافتراض في مناهج البحث العلمي - يعرَّف بعدَّة تعريفات، فحواها واحد، وصيغها مختلفة، من هذه التعريفات:
*الفرض"تخمين أو استنتاج ذكيٌّ، يصوغه ويتبنَّاه الباحث مؤقَّتا، لشرح بعض مايلاحظه من الحقائق والظواهر، وليكون له - هذا الفرض - كمرشد في البحثوالدراسة التي يقوم بها. ويمكن أن يشبَّه الفرَض الذي يضعه الباحث فيدراسته، بالرأي الذي يعتنقه الشخص في حياته اليومية... فعلى الرغم من أنَّالحقائق تعتبر مقدِّمة لكلٍّ منهما، إلاَّ أنَّ الفرض وحده – كقاعدة – هوالذي يتمُّ اختباره من خطوات البحث التالية، بالبيانات، والمعلومات، ومزيدمن الحقائق" (بدر، 97).
*الفرض"هو مقترح جواب للإشكالية المطروحة في البحث، دورها يكمن في إيجاد علاقاتبين الحقائق الدالَّة، حتى ولو لم تكن واضحة تمام الوضوح في البداية،ويساعد الفرض في الاختيار ما بين الحقائق التي تمت ملاحظتها، ثم يتمتفسيرها، والفرَض يكوِّن بداية لنظرية ممكنة" (Grawitz, 360)
*وقريبامن هذا التعريف تعريف الفرض بأنَّه "إجابة مؤقَّتة على مشكلة البحث،يعبَّر عنها من خلال علاقة واضحة بين متغيِّرات مستقلَّة وتابعة... وهيإجابات مؤقَّتة لأنه لا يمكن التحقق منها إلاَّ بعد اختبارها تجريبيا" (شافا وناشيماز، 75).
*وثمةمقارنة بين التجربة والفرضية توضِّح معنى الفرضية بشيء من التبسيط، ومماجاء فيها: "إذا كانت الملاحظة هي نقل للظاهرة من المجال الطبيعي الخام إلىالمجال العلمي، لتتحول الظاهرة إلى حادث علميٍّ، فإنَّ الفرضية هي نقلالظاهرة من المجال الحسيِّ إلى المجال العقليِّ، ولذا تعرف الفرضية بأنهافكرة عقلية مؤقتة أو حل مؤقت للظاهرة، أو كما يقول غوبلو: الفرضية قفزةنحو المجهول"... يقول ماخ "إنَّ هذه الفكرة (الفرضية) ضرورية، ولولاها لمااستطاع العالِم أن يجرِّب؛ لأنَّ التجربة تتبع الفكرة، والفكرة تعينالاتجاه العلمي وتقود المجرب فيسترشد بها في عمل التجربة" (موقع philo6te.net).
*يعرِّفبقردج الفرَض تعريفا إجرائيا، فيقول: "الفرَض هو الأداة الذهنية الرئيسةفي الأبحاث، مهمَّته فتح الطريق أمام تجارب ومشاهدات جديدة، ولذلك فهويؤدِّي إلى كشوف، حتى لو كان هو ذاته غير صحيح"
(بقردج، ص93). وبذلك يكون هذا التعريف نوعا من تفسير مقولة نوفاليس الأدبية: "الفرضيات شبكاتٌ، من يرمي بها يجني ثمارها" (بوبر، ص31).
*قد يعرَّف الفرض حسب مجال البحث، ففي البحوث المفهومية (recherche conceptuelle)، يكون الفرض غالبا على شكل تعريف (définition)، أو هو وصف للعلاقة بين المفهوم محلَّ البحث ومفاهيم أخرى.
أمَّا في البحوث النظرية (recherche théorique)فتبنى الفروض على نظريات سابقة، سواء لغرض إحداث تطبيقات جديدة عليها، أوإعادة صياغتها بما يتلاءم وتطور المعرفة، أو بهدف إحلال نظرية جديدة مكانهذه النظرية، التي تمثل الأرضية.
أمَّا في البحوث الأمبريقية الكيفية (recherche empirique qualitative) فتعرَّفالفروض على أساس العلاقة بين متغيرين أو أكثر، في ظاهرة معينة محلَّالدراسة، بافتراض كون أحد المتغيرين سببا للآخر، أو نتيجة له، لكننا فيهذا النوع لا يمكننا أن نصف الظاهرة كميًّا، أو عدديا، أو رقيما... ولذافالفروض تكون كيفية غير كمية، مثلما يحدث في بحوث علم النفس، وعلمالاجتماع، والتاريخ... غالبا.
وفي البحوث الأمبريقية الكمية (recherche empirique quantitative) تكون الفروض خاضعة للتجربة، والنتيجة إما قبول الفرض كميا، أو رفضه، وأغلب مجالات العلوم التجريبية تندرج ضمن هذا النوع. (موقع جامعة جنيف).
وننتهيإلى تعريف نرتضيه، يحاول أن يجمع شتات التعاريف السابقة، ويستبعد ما يراهغير ملائم، هو "أنَّ الفرض هو جواب مؤقَّت لإشكالية البحث محلَّ الدراسة،يصاغ بناء على الاستقراء في البحوث التجريبية الكلاسيكية، وبناء علىالاستنباط في البحوث الفرضية المعاصرة، حتى وإن كانت تجريبية؛ فإذا ماتحقَّق الفرض وحمل صفة الشمولية تحوَّل إلى نظرية، أو قانون؛ وإذا ما تبينخطأه كان دافعا لفروض أخرى أقرب إلى الصدق". وهو مع ذلك وسيلة فعالةللاقتراب من الحقيقة، وتخصيب الفكر، وتنمية العلم والمعرفة، في جميعالمستويات والتخصصات، بلا استثناء.
أساس الفروض العلمية:
يستند العلم، والفروض العلمية بالخصوص، إلى جملة من الخصائص التي تميز عقل الإنسان، وتنير سبل تفكيره، من أبرزها ما يلي:
*مبدأ العلية (السببية):يقول المفكر محمد باقر الصدر: "إنَّ من أوليات ما يدركه البشر في حياتهالاعتيادية، مبدأ العلية، القائل: لكلِّ شيء سببا. وهو من المبادئ العقليةالضرورية؛ لأنَّ الإنسان يجد في صميم طبيعته الباعث الذي يبعثه إلى محاولةتعليل ما يجد من أشياء، وتبرير وجودها، باستكشاف أسبابها. وهذا الباعثموجود بصورة فطرية في الطبيعة الإنسانية، بل قد يوجد عند عدَّة أنواع منالحيوان أيضا. فهو يلتفت إلى مصدر الحركة غريزيا، ليعرف سببها، ويفحص عنمنشأ الصوت ليدرك علَّته. وهكذا يواجه الإنسان دائما سؤال: لماذا...؟مقابل كلِّ موجود وظاهرة يحسُّ بها، حتى إنَّه إذا لم يجد سببا معيَّنا،اعتقد بوجود سبب مجهول، انبثق عن الحادث.
وعلى أساس مبدأ العلية يتوقف:
*أ- إثبات الواقع الموضوعي للإحساس.
*ب- كلُّ النظريات (ومن باب أولى الفروض)، أو القوانين العلمية، المستندة إلى التجربة.
*ج- جواز الاستدلال وإنتاجه، في أيِّ ميدان من الميادين الفلسفية أو العلمية" (فلسفتنا، ص279).
وعلىالرغم من أنَّ بعض الفلسفات حاولت بوسيلة أو بأخرى التشكيك في هذا المبدأ،والتقليل من قيمته، إلاَّ أنَّها لا تستقيم في ميدان البحث العلميِّالمنهجيِّ الدقيق، ولذا فإنَّنا سنعتبر مبدأ العلية من أبرز المبادئ التيتنشأ الفروض على ظلها – من أبسطها إلى أعقدها – وكذا النظريات – في جميعالعلوم والفنون.
ولقد قلَّل كارل بوبر من شأن هذا المبدأ، واعتبره مبدأ ثانويا وليس أساسيا في العلم؛ لكن نفي العموم لا يعني عموم النفي.
*مبدأ عدم التناقض:وهو "المبدأ القائل بأنَّ التناقض مستحيل، فلا يمكن أن يتفق النفيوالإثبات، في حال من الأحوال. وهذا واضح. ولكن ما هو هذا التناقض الذييرفضه هذا المبدأ، ولا يمكن للعقل قبوله؟ فهل هو كلُّ نفي و إثبات؟ كلاَّ.فإنَّ كلَّ نفي لا يناقض أيَّ إثبات، وكلَّ إثبات لا يتعارض مع كلِّ نفي،وإنما يتناقض الإثبات مع نفيه بالذات لا مع نفي إثبات آخر، ووجود الشيءيتعارض بصوره أساسية مع عدم ذلك الشيء، لا مع عدم شيء آخر. ومعنى تعارضهماأنهما لا يمكن أن يتوحدا أو يجتمعا" (الصدر، 228).
*مبدأ التذكر:إذا كان مبدأ العلية يميز الأشياء، ويسير عملية العقل، فإنَّ مبدأ التذكريسمح بالبناء والتراكم، ولولاه لبات العقل ساذجا بسيطا، يعيد التجاربدائما ولا يبني على شيء مضى، ولا على خبرة ذاتية، أو خبرة سبق بها الغير؛ولولا مبدأ التذكر لاستحال العلم كلية، ولبقيت البشرية في مرحلة الطفولةالأولى، بل إنَّ الطفل الصغير في أولى مراحل حياته يوظِّف ذاكرته، ويبنيعليها ليستكمل الخبرة والتجريب، فقد يخاف من صوت أفزعه مرَّة، وهو فيالشهر الأول من عمره، فإذا ما سمع ذلك الصوت بكى، موظفا بذلك ذاكرته، ومنثم يرتبط الصوت بالخوف، وما ذلك إلاَّ بفضل الذاكرة.
والمعروف أنَّللحيوان نفسه ذاكرة، فهو يميز بذاكرته بين الصديق والعدوِّ، بين الحيواناتمن جنسه والحيوانات التي تتهدَّده، والمؤكَّد علميا أنَّ "ذاكرة الفيلتتميَّز بأنها قوية، وتفوق معظم باقي الحيوانات، فمثلاً لو أسأت إلى الفيلمرَّة، وعدت إليه بعد سنوات، ستجده لا يزال يذكر شكلك وهيئتك ويشرع فيمهاجمتك" (http://pr.sv.net)، وقد شاهدتُ مقطعا مصورا بالفيديو، لفيل تذكَّر طفلا أغاضه في الصغر، فانتقم منه بعد سنوات (www.youtube.com).
وما من شكٍّ أنَّ ثمَّة فرق جوهريٌّ بين مبدأ التذكر لدى الإنسان، والتذكر الغريزي لدى الحيوان (باباعمي، مفهوم، 184)، ولا تزال البحوث حول أسرار الذاكرة تستهوي العلماء من مختلف الاختصاصات، مع اختلاف في تفسير حقيقتها (بورتر، تاريخ الزمان، 47) (انظر- Kandel جائزة نوبل، وبحوثه حول الذاكرة)، غير أنها ستبقى الأساس الذي تبنى عليه المعرفة.
وأودُّأن أنبِّه أنَّ الذاكرة هي الأساس الذي تجرى به البحوث حول الذاكرة نفسها،فلا يمكن أن يؤسَّس بحث حول الذاكرة إلاَّ باستعمال الذاكرة، ومن هنا لميمكن أن نضعها محلَّ اختبار حقيقيٍّ.
*مبدأ التوقع: منأخصب عمليات العقل، فرغم أنَّ التوقع لا يكون دوما صادقا، فقد تكذِّبهالتجربة، أو الزمن، أو الحقائق العلمية الأكثر متانة، غير أنَّه لا غنىللعقل عن التوقع، يقول بوانكاريه: "خير لنا أن نتوقَّع من دون يقين، من أنلا نتوقَّع أبداً" (ص220).والفرض دوما يكون نوعا من التوقع الذي يحاول الباحث باختباره أن يثبت صدقهمن كذبه، وصحته من غيرها. فإذا ما كان صادقا قد يتحوَّل إلى نظرية، وإلاَّكان سببا ومدخلا لفروض أخرى.
*مبدأ "وحدة الطبيعة"، وقد نسميه بـ"مبدأ التجانس"، أو "مبدأ الخَلْق السوي" بالمصطلح القرآني، اعتمادا على آية "الذي خلق فسوَّى"،يقول بوانكاريه: إنَّ مبدأ الوحدة لا إشكال فيه، "إذ لو لم تكن مختلفأجزاء الكون مثل أعضاء الجسد الواحد، لما كان لبعضها أن يفعل في البعضالآخر، وما كان لصلة ما أن تقوم بينها، وأمَّا نحن بالأخصِّ فلن نعرفإلاَّ جزءا واحدا منها، ولذلك لم يكن علينا أن نتساءل عما إذا كانتالطبيعة واحدة، بل عن الكيفية التي هي بها واحدة" (ص221)
*مبدأ البساطة:رغم أنَّ هذا المبدأ ليس من اليسير إثباته، شأن مبدأ الوحدة، غير أنَّنالا نعدم الصواب إذا ما حاولنا افتراض الكون بسيطا ليسهل علينا دراسته،وإلاَّ لما أمكن أن نتقدَّم خطوة واحدة في طريق العلم " ولو أننا درسناتاريخ العلوم – كما يقول بوانكاريه لوقفنا على ظاهرتين متعاكستين تقريبا،فتارة تتخفَّى البساطة تحت مظاهر معقدَّة، وتارة تتجلَّى البساطة ظاهريا،وتتخفَّى خلفها وقائع غاية في التعقيد... والأقرب إلى الحقيقة أنه لوأصبحت وسائل البحث عندنا أكثر نفاذا، لاكتشفنا البسيط طيَّ المعقَّد، ثمَّالمعقَّد طيَّ البسيط، وهكذا دواليك من دون أن نتوقَّع لأيِّ الحدَّينستكون الغلبة في الأخير، ولا بدَّ لنا أن نتوقَّف عند موضع ما، فوجبالتوقف - ليكون العلم ممكنا – عند العثور على البسيط، فهو المجال الوحيدالذي يمكن أن نشيد عليه صرح تعميماتنا" (ص226)
ومنالمؤكَّد أنَّ كلَّ فرضية تعميم، ولذا لكي نبني فرضيات، ثم نؤسس نظريات،علينا أن نتفق على قاعدة هي: "أنَّ كلَّ قانون يعتبر بسيطا، حتى يأتي مايخالف ذلك" (ص223).
وبلغة الأصوليين نقول: الأصل في العلم البساطة، والتعقيد عارض. ومن المؤكَّد أنَّ العلم لا يقوم على العارض بل على الأصل.
ويحاولبوبر أن يعالج "معيار البساطة"، فيصل إلى أنه ليس من السهولة بمكانتحديده، كما يعتقد البعض، بل إنَّ المعيار نفسه معقَّد، وهو مع ذلك يسايرهذا المبدأ مواضعة (ص165-174).
*مبدأ النظام:أكاد أجزم إنَّ جميع المبادئ السابقة، والتي هي أساس للعقل في جميععملياته، من أبسطها إلى أعقدها، إنَّما تعود إلى مبدأ واحد نطلق عليه اسم:"مبدأ النظام"، أو "مبدأ عدم التفاوت في خلق الله"، المستمدِّ من أوائل سورة الملك، في قوله تعالى: "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت" (الملك، 2)، ولقد حاولت في "مفهوم الزمن" (ص182-184)أن ألج إلى هذا المبدأ في العلاقة بالزمن، وأعتقد أنَّ من المفيد إجراءبحوث في مناهج البحث العلمي، تربط بين الملاحظة، والإشكال، والفرض،والنظرية... وغيرها من مداخل علم المناهج، وبين "مبدأ النظام" في الخلق،من جميع جوانبه، المادية، والفكرية، والاجتماعية، والحضارية... الخ.
وبفهمناالعميق لهذا المبدأ نكون قد خطونا خطوة جريئة في طريق البحث العلميِّ،وخرجنا من دائرة الدور العقيم، والمادية المفرطة، والروحية المفتعلة...إلى حقيقة العلم، ومستويات العلمي، وروح العلم، كلُّ ذلك مستمدًّا منالقرآن الكريم، المصدر الأساس للعلم والمعرفة، وللفروض والنظريات، موضوعاومنهجا.
الفرض - أو الفرضية، أو الافتراض في مناهج البحث العلمي - يعرَّف بعدَّة تعريفات، فحواها واحد، وصيغها مختلفة، من هذه التعريفات:
*الفرض"تخمين أو استنتاج ذكيٌّ، يصوغه ويتبنَّاه الباحث مؤقَّتا، لشرح بعض مايلاحظه من الحقائق والظواهر، وليكون له - هذا الفرض - كمرشد في البحثوالدراسة التي يقوم بها. ويمكن أن يشبَّه الفرَض الذي يضعه الباحث فيدراسته، بالرأي الذي يعتنقه الشخص في حياته اليومية... فعلى الرغم من أنَّالحقائق تعتبر مقدِّمة لكلٍّ منهما، إلاَّ أنَّ الفرض وحده – كقاعدة – هوالذي يتمُّ اختباره من خطوات البحث التالية، بالبيانات، والمعلومات، ومزيدمن الحقائق" (بدر، 97).
*الفرض"هو مقترح جواب للإشكالية المطروحة في البحث، دورها يكمن في إيجاد علاقاتبين الحقائق الدالَّة، حتى ولو لم تكن واضحة تمام الوضوح في البداية،ويساعد الفرض في الاختيار ما بين الحقائق التي تمت ملاحظتها، ثم يتمتفسيرها، والفرَض يكوِّن بداية لنظرية ممكنة" (Grawitz, 360)
*وقريبامن هذا التعريف تعريف الفرض بأنَّه "إجابة مؤقَّتة على مشكلة البحث،يعبَّر عنها من خلال علاقة واضحة بين متغيِّرات مستقلَّة وتابعة... وهيإجابات مؤقَّتة لأنه لا يمكن التحقق منها إلاَّ بعد اختبارها تجريبيا" (شافا وناشيماز، 75).
*وثمةمقارنة بين التجربة والفرضية توضِّح معنى الفرضية بشيء من التبسيط، ومماجاء فيها: "إذا كانت الملاحظة هي نقل للظاهرة من المجال الطبيعي الخام إلىالمجال العلمي، لتتحول الظاهرة إلى حادث علميٍّ، فإنَّ الفرضية هي نقلالظاهرة من المجال الحسيِّ إلى المجال العقليِّ، ولذا تعرف الفرضية بأنهافكرة عقلية مؤقتة أو حل مؤقت للظاهرة، أو كما يقول غوبلو: الفرضية قفزةنحو المجهول"... يقول ماخ "إنَّ هذه الفكرة (الفرضية) ضرورية، ولولاها لمااستطاع العالِم أن يجرِّب؛ لأنَّ التجربة تتبع الفكرة، والفكرة تعينالاتجاه العلمي وتقود المجرب فيسترشد بها في عمل التجربة" (موقع philo6te.net).
*يعرِّفبقردج الفرَض تعريفا إجرائيا، فيقول: "الفرَض هو الأداة الذهنية الرئيسةفي الأبحاث، مهمَّته فتح الطريق أمام تجارب ومشاهدات جديدة، ولذلك فهويؤدِّي إلى كشوف، حتى لو كان هو ذاته غير صحيح"
(بقردج، ص93). وبذلك يكون هذا التعريف نوعا من تفسير مقولة نوفاليس الأدبية: "الفرضيات شبكاتٌ، من يرمي بها يجني ثمارها" (بوبر، ص31).
*قد يعرَّف الفرض حسب مجال البحث، ففي البحوث المفهومية (recherche conceptuelle)، يكون الفرض غالبا على شكل تعريف (définition)، أو هو وصف للعلاقة بين المفهوم محلَّ البحث ومفاهيم أخرى.
أمَّا في البحوث النظرية (recherche théorique)فتبنى الفروض على نظريات سابقة، سواء لغرض إحداث تطبيقات جديدة عليها، أوإعادة صياغتها بما يتلاءم وتطور المعرفة، أو بهدف إحلال نظرية جديدة مكانهذه النظرية، التي تمثل الأرضية.
أمَّا في البحوث الأمبريقية الكيفية (recherche empirique qualitative) فتعرَّفالفروض على أساس العلاقة بين متغيرين أو أكثر، في ظاهرة معينة محلَّالدراسة، بافتراض كون أحد المتغيرين سببا للآخر، أو نتيجة له، لكننا فيهذا النوع لا يمكننا أن نصف الظاهرة كميًّا، أو عدديا، أو رقيما... ولذافالفروض تكون كيفية غير كمية، مثلما يحدث في بحوث علم النفس، وعلمالاجتماع، والتاريخ... غالبا.
وفي البحوث الأمبريقية الكمية (recherche empirique quantitative) تكون الفروض خاضعة للتجربة، والنتيجة إما قبول الفرض كميا، أو رفضه، وأغلب مجالات العلوم التجريبية تندرج ضمن هذا النوع. (موقع جامعة جنيف).
وننتهيإلى تعريف نرتضيه، يحاول أن يجمع شتات التعاريف السابقة، ويستبعد ما يراهغير ملائم، هو "أنَّ الفرض هو جواب مؤقَّت لإشكالية البحث محلَّ الدراسة،يصاغ بناء على الاستقراء في البحوث التجريبية الكلاسيكية، وبناء علىالاستنباط في البحوث الفرضية المعاصرة، حتى وإن كانت تجريبية؛ فإذا ماتحقَّق الفرض وحمل صفة الشمولية تحوَّل إلى نظرية، أو قانون؛ وإذا ما تبينخطأه كان دافعا لفروض أخرى أقرب إلى الصدق". وهو مع ذلك وسيلة فعالةللاقتراب من الحقيقة، وتخصيب الفكر، وتنمية العلم والمعرفة، في جميعالمستويات والتخصصات، بلا استثناء.
أساس الفروض العلمية:
يستند العلم، والفروض العلمية بالخصوص، إلى جملة من الخصائص التي تميز عقل الإنسان، وتنير سبل تفكيره، من أبرزها ما يلي:
*مبدأ العلية (السببية):يقول المفكر محمد باقر الصدر: "إنَّ من أوليات ما يدركه البشر في حياتهالاعتيادية، مبدأ العلية، القائل: لكلِّ شيء سببا. وهو من المبادئ العقليةالضرورية؛ لأنَّ الإنسان يجد في صميم طبيعته الباعث الذي يبعثه إلى محاولةتعليل ما يجد من أشياء، وتبرير وجودها، باستكشاف أسبابها. وهذا الباعثموجود بصورة فطرية في الطبيعة الإنسانية، بل قد يوجد عند عدَّة أنواع منالحيوان أيضا. فهو يلتفت إلى مصدر الحركة غريزيا، ليعرف سببها، ويفحص عنمنشأ الصوت ليدرك علَّته. وهكذا يواجه الإنسان دائما سؤال: لماذا...؟مقابل كلِّ موجود وظاهرة يحسُّ بها، حتى إنَّه إذا لم يجد سببا معيَّنا،اعتقد بوجود سبب مجهول، انبثق عن الحادث.
وعلى أساس مبدأ العلية يتوقف:
*أ- إثبات الواقع الموضوعي للإحساس.
*ب- كلُّ النظريات (ومن باب أولى الفروض)، أو القوانين العلمية، المستندة إلى التجربة.
*ج- جواز الاستدلال وإنتاجه، في أيِّ ميدان من الميادين الفلسفية أو العلمية" (فلسفتنا، ص279).
وعلىالرغم من أنَّ بعض الفلسفات حاولت بوسيلة أو بأخرى التشكيك في هذا المبدأ،والتقليل من قيمته، إلاَّ أنَّها لا تستقيم في ميدان البحث العلميِّالمنهجيِّ الدقيق، ولذا فإنَّنا سنعتبر مبدأ العلية من أبرز المبادئ التيتنشأ الفروض على ظلها – من أبسطها إلى أعقدها – وكذا النظريات – في جميعالعلوم والفنون.
ولقد قلَّل كارل بوبر من شأن هذا المبدأ، واعتبره مبدأ ثانويا وليس أساسيا في العلم؛ لكن نفي العموم لا يعني عموم النفي.
*مبدأ عدم التناقض:وهو "المبدأ القائل بأنَّ التناقض مستحيل، فلا يمكن أن يتفق النفيوالإثبات، في حال من الأحوال. وهذا واضح. ولكن ما هو هذا التناقض الذييرفضه هذا المبدأ، ولا يمكن للعقل قبوله؟ فهل هو كلُّ نفي و إثبات؟ كلاَّ.فإنَّ كلَّ نفي لا يناقض أيَّ إثبات، وكلَّ إثبات لا يتعارض مع كلِّ نفي،وإنما يتناقض الإثبات مع نفيه بالذات لا مع نفي إثبات آخر، ووجود الشيءيتعارض بصوره أساسية مع عدم ذلك الشيء، لا مع عدم شيء آخر. ومعنى تعارضهماأنهما لا يمكن أن يتوحدا أو يجتمعا" (الصدر، 228).
*مبدأ التذكر:إذا كان مبدأ العلية يميز الأشياء، ويسير عملية العقل، فإنَّ مبدأ التذكريسمح بالبناء والتراكم، ولولاه لبات العقل ساذجا بسيطا، يعيد التجاربدائما ولا يبني على شيء مضى، ولا على خبرة ذاتية، أو خبرة سبق بها الغير؛ولولا مبدأ التذكر لاستحال العلم كلية، ولبقيت البشرية في مرحلة الطفولةالأولى، بل إنَّ الطفل الصغير في أولى مراحل حياته يوظِّف ذاكرته، ويبنيعليها ليستكمل الخبرة والتجريب، فقد يخاف من صوت أفزعه مرَّة، وهو فيالشهر الأول من عمره، فإذا ما سمع ذلك الصوت بكى، موظفا بذلك ذاكرته، ومنثم يرتبط الصوت بالخوف، وما ذلك إلاَّ بفضل الذاكرة.
والمعروف أنَّللحيوان نفسه ذاكرة، فهو يميز بذاكرته بين الصديق والعدوِّ، بين الحيواناتمن جنسه والحيوانات التي تتهدَّده، والمؤكَّد علميا أنَّ "ذاكرة الفيلتتميَّز بأنها قوية، وتفوق معظم باقي الحيوانات، فمثلاً لو أسأت إلى الفيلمرَّة، وعدت إليه بعد سنوات، ستجده لا يزال يذكر شكلك وهيئتك ويشرع فيمهاجمتك" (http://pr.sv.net)، وقد شاهدتُ مقطعا مصورا بالفيديو، لفيل تذكَّر طفلا أغاضه في الصغر، فانتقم منه بعد سنوات (www.youtube.com).
وما من شكٍّ أنَّ ثمَّة فرق جوهريٌّ بين مبدأ التذكر لدى الإنسان، والتذكر الغريزي لدى الحيوان (باباعمي، مفهوم، 184)، ولا تزال البحوث حول أسرار الذاكرة تستهوي العلماء من مختلف الاختصاصات، مع اختلاف في تفسير حقيقتها (بورتر، تاريخ الزمان، 47) (انظر- Kandel جائزة نوبل، وبحوثه حول الذاكرة)، غير أنها ستبقى الأساس الذي تبنى عليه المعرفة.
وأودُّأن أنبِّه أنَّ الذاكرة هي الأساس الذي تجرى به البحوث حول الذاكرة نفسها،فلا يمكن أن يؤسَّس بحث حول الذاكرة إلاَّ باستعمال الذاكرة، ومن هنا لميمكن أن نضعها محلَّ اختبار حقيقيٍّ.
*مبدأ التوقع: منأخصب عمليات العقل، فرغم أنَّ التوقع لا يكون دوما صادقا، فقد تكذِّبهالتجربة، أو الزمن، أو الحقائق العلمية الأكثر متانة، غير أنَّه لا غنىللعقل عن التوقع، يقول بوانكاريه: "خير لنا أن نتوقَّع من دون يقين، من أنلا نتوقَّع أبداً" (ص220).والفرض دوما يكون نوعا من التوقع الذي يحاول الباحث باختباره أن يثبت صدقهمن كذبه، وصحته من غيرها. فإذا ما كان صادقا قد يتحوَّل إلى نظرية، وإلاَّكان سببا ومدخلا لفروض أخرى.
*مبدأ "وحدة الطبيعة"، وقد نسميه بـ"مبدأ التجانس"، أو "مبدأ الخَلْق السوي" بالمصطلح القرآني، اعتمادا على آية "الذي خلق فسوَّى"،يقول بوانكاريه: إنَّ مبدأ الوحدة لا إشكال فيه، "إذ لو لم تكن مختلفأجزاء الكون مثل أعضاء الجسد الواحد، لما كان لبعضها أن يفعل في البعضالآخر، وما كان لصلة ما أن تقوم بينها، وأمَّا نحن بالأخصِّ فلن نعرفإلاَّ جزءا واحدا منها، ولذلك لم يكن علينا أن نتساءل عما إذا كانتالطبيعة واحدة، بل عن الكيفية التي هي بها واحدة" (ص221)
*مبدأ البساطة:رغم أنَّ هذا المبدأ ليس من اليسير إثباته، شأن مبدأ الوحدة، غير أنَّنالا نعدم الصواب إذا ما حاولنا افتراض الكون بسيطا ليسهل علينا دراسته،وإلاَّ لما أمكن أن نتقدَّم خطوة واحدة في طريق العلم " ولو أننا درسناتاريخ العلوم – كما يقول بوانكاريه لوقفنا على ظاهرتين متعاكستين تقريبا،فتارة تتخفَّى البساطة تحت مظاهر معقدَّة، وتارة تتجلَّى البساطة ظاهريا،وتتخفَّى خلفها وقائع غاية في التعقيد... والأقرب إلى الحقيقة أنه لوأصبحت وسائل البحث عندنا أكثر نفاذا، لاكتشفنا البسيط طيَّ المعقَّد، ثمَّالمعقَّد طيَّ البسيط، وهكذا دواليك من دون أن نتوقَّع لأيِّ الحدَّينستكون الغلبة في الأخير، ولا بدَّ لنا أن نتوقَّف عند موضع ما، فوجبالتوقف - ليكون العلم ممكنا – عند العثور على البسيط، فهو المجال الوحيدالذي يمكن أن نشيد عليه صرح تعميماتنا" (ص226)
ومنالمؤكَّد أنَّ كلَّ فرضية تعميم، ولذا لكي نبني فرضيات، ثم نؤسس نظريات،علينا أن نتفق على قاعدة هي: "أنَّ كلَّ قانون يعتبر بسيطا، حتى يأتي مايخالف ذلك" (ص223).
وبلغة الأصوليين نقول: الأصل في العلم البساطة، والتعقيد عارض. ومن المؤكَّد أنَّ العلم لا يقوم على العارض بل على الأصل.
ويحاولبوبر أن يعالج "معيار البساطة"، فيصل إلى أنه ليس من السهولة بمكانتحديده، كما يعتقد البعض، بل إنَّ المعيار نفسه معقَّد، وهو مع ذلك يسايرهذا المبدأ مواضعة (ص165-174).
*مبدأ النظام:أكاد أجزم إنَّ جميع المبادئ السابقة، والتي هي أساس للعقل في جميععملياته، من أبسطها إلى أعقدها، إنَّما تعود إلى مبدأ واحد نطلق عليه اسم:"مبدأ النظام"، أو "مبدأ عدم التفاوت في خلق الله"، المستمدِّ من أوائل سورة الملك، في قوله تعالى: "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت" (الملك، 2)، ولقد حاولت في "مفهوم الزمن" (ص182-184)أن ألج إلى هذا المبدأ في العلاقة بالزمن، وأعتقد أنَّ من المفيد إجراءبحوث في مناهج البحث العلمي، تربط بين الملاحظة، والإشكال، والفرض،والنظرية... وغيرها من مداخل علم المناهج، وبين "مبدأ النظام" في الخلق،من جميع جوانبه، المادية، والفكرية، والاجتماعية، والحضارية... الخ.
وبفهمناالعميق لهذا المبدأ نكون قد خطونا خطوة جريئة في طريق البحث العلميِّ،وخرجنا من دائرة الدور العقيم، والمادية المفرطة، والروحية المفتعلة...إلى حقيقة العلم، ومستويات العلمي، وروح العلم، كلُّ ذلك مستمدًّا منالقرآن الكريم، المصدر الأساس للعلم والمعرفة، وللفروض والنظريات، موضوعاومنهجا.