هرمان باري
ترجمة : محمد أسيداه
يكتنف هذا الحد التباسمفهومي شديد، فهو لا مرادف له في معظم اللغات غير الرومانية؛ كالإنجليزية والجرمانية،أو له معنى منزاح عن المعنى الذي في الفرنسية(كما في الألمانية مثلا؛ حيث يشير، علىالأصح، حد مشابه تقريباً إلى تسلسل استدلالي أو عقلي). ولعل السبب في ذلك يعود من جهةإلى أن الخطاب يقع خارج الثنائيات التقليدية في النظرية اللسانية : كثنائية اللغة والكلام،أو النسق والإعمال، أو القدرة والإنجاز، ومن جهة أخرىإلى كون اللسانيين البنيويين، من قبيل سوسير ويالمسلف، لم يقدموا مفهوما إجرائياللخطاب؛ فكما غاب التركيب غاب الخطاب عن مذهب سوسير الرسمي، الذي استشعر، معذلك، وبنوع من الأسى، أن موقفه الإبستمولوجي اختزالي لصدوره عن نزعة تقوم أساسا علىالاشتغال بالثنائيات، فقد كتب، بحسب ما تفيد الأصول المخطوطة لدروس في اللسانيات العامة[1] في سياق مناقشة منزلة المركب : "يوجدهاهنا، في الواقع، شيء ما عويص يتعلق بالحدالفاصل بين مجالات اللغة والكلام، فالحد الفاصل بين اللغة والكلام هو درجة من التأليف"(شذرة د.266). وعلى هذا يكون إدراك الخطاب قد تم بوصفه حدا ثالثا بين اللغةوالكلام، وظيفته نقض الثنائيات. ويمكن أن نفترض أن للخطاب الوضعية نفسها إزاء ثنائيتيالنسق والإعمال (عند يالمسلف) أو القدرة والإنجاز (عندشومسكي). إن المسألة التي ينبغي طرحها إذن، يمكن صياغتها باختصار كالآتي : هل من الإمكانوصف الخطاب باعتباره موضوعَ نظرية لسانية وخاضعاً لبنية نحوية؟ إن هذا السؤال حار فيهالبنيويون جوابا، بل إن ما قدم من جواب في أغلب الحالات لا يعدو كونه مجرد مماهاة للخطاببالكلام، أو بكل بساطة، بتَمَظْهُر اللغة (على السطح)؛ فقد بلغ الأمر باللساني مارتنيإلى حد القول : "إن الخطاب لا شيء فيه مما لا يوجد في الجملة"[2]. والواقع أنه كان بإمكان تعديلين اثنينأن يكسبا مفهوم الخطاب اتساقا ابستمولوجيا حتى داخل تصور بنيوي للظاهرة اللغوية : أولاً،بـربط الخطاب بـالملكة اللغوية، تلكم القدرة الاجتماعية المعرفية على الإنتاجاللغوي. ثم ثانياً، بـتأويل الخطاب بوصفه بنية مركبية ذات نظم أولي على الأقل. بمثلهذه الطريقة تمكن بويسنز(1943)[3]من إعادة تقويم الخطاب باعتباره موضوعا صالحا لنظرية لسانية. كان الأمر في الواقع يتعلقباستثمار بعض ملاحظات "دروس في اللسانيات العامة"، التي كانت وظيفيةعلى نحو مسبق وصريح. فقد أفسح هذا التصور الوظيفي للغة المجال فسحا أمام قيام لسانياتللخطاب، صارت في يومنا هذا فرعا رائدا في التداوليات، ومعنى ذلك أن بيان الأصلالنفسي الاجتماعي لفعل الكلام مكن مفهوم الخطاب من حيازة وجاهته الإبستمولوجية.
من النافل القول إن هذا التشكيك في منزلةالخطاب الإبستمولوجية لم يتم رفعه بأية طريقة. لنتذكر التوتر الحاصل بين مفهوم الخطابوالنص، فإن الذي يتعين تسجيله، بادئ ذي بدء، هو أن الخطاب يمثل في الآن نفسهالفعلَ ونتيجةَ هذا الفعل، فعلَ الإنتاج الكلامي والنتيجةَ الملموسةَ المرئيةأو المسموعة، ثم زد على هذا الالتباس الأول، أن الخطاب قول[4] ذو خصائص نصية لكنه يمثل في الآن نفسه نشاطايجب أن يخصص انطلاقا من بعض شروط الإنتاج الموجهة سياقيا. إن الخطاب إذن،"نص موجَّهبسياق". والنص، من هذا المنظور، كاللغة عند سوسير بنيةٌ مجردة، "موضوعٌ"معادٌ بناؤه ومفترض، ناتجٌ عن بحثنا العلمي. وإذا كان الأمر كذلك، أفلا يكون الخطابسوى تمظهر سطحي لنص تحتي؟ أن يكون ذلك، معناه الوقوع مرة أخرى في شرك المماهاة المغلوطةبين الخطاب والكلام، مماهاةٍ طالما هددت النسق الأكسيومي البنيوي. الخطاب إذن، ليسالنص ولا تمظهر النص : ليس قولاً نصِّياً، أو حتى نستعمل اصطلاح غريماص، ليس الخطابنصا قوليا بل نصا مَقاليا : فالمقال هو السياق الذي ينتج الخطاب. من هنا فإنكل شيء رهين الآن بالموقع الذي سيحدد للمقال، إذا ما أريد وصفُ، وبخاصةٍ، تفسيرُ النشاطاللغوي في كل ثرائه الأصلي.
إن للخطاب خصائصَ علاقيةً ونسقيةً ليست هيخصائص"النص" التحتي الذي يعيد بناءه اللسانيون من شيعة البنيوية. فهو، بخلافالكلام الذي لا يمكن الإمساك بتلابيبه، العابرِ وغيرِ المبنين ذو "نحو" واطرادات.إن تنزيله بين النص والكلام- ومن ثم النظر إليه من جديد بوصفه "حدا ثالثا"يتوسط زوجا مثنويا- يصبح معقولا إذا ما استعمل نموذج للتفسير" على مستويات العمق"أينموذجٌ يكون في صورة "مسار توليدي"[5] . يميز السميائيون في هذا الخطاب التوليديبين القدرة السيميائية السردية والقدرة الخِطابية. فالأشكال السيميائية السردية ذاتمنزلة متعالية[6] : إنها ملك لكل الجماعات اللغوية، أي كلية،ويتم الحفاظ عليها عبر الترجمات التي تتم من لغة إلى أخرى، وبالإمكان تعرفها حتى في"الموضوعات" السيميائية غير اللغوية(المتعلقة بالعالم المسمى بالطبيعي أوبأسنان ثقافية وفنية أخرى)؛ فهذه الأشكال السيميائية السردية، هي في الواقع، أشكالالذكاء البشري في شموليته. أما القدرة الخِطابية فتقع، في المقابل، في مرحلة تالية : إنها تتكون أثناءالمقال الذي يصوغ الأقوال. وبحسْب السيميائيات التقليدية، فإن ما يدعى بـالتخطيبأو بالتشكيل الخِطابي يقوم على اعتمادالبنيات السيميائية السردية وتحويلها إلى بنيات خطابية. ومن المفيد أن نسجل أنه لايوجد، في هذا المنظور،أيُّ تقابل ممكن بين الخطاب باعتباره نجوى انفرادية والتواصل باعتبارهحواريا، فبنية التواصل لا ينظر إليها البتة باعتبارها محكومة بوسائط خارجيةعن الخطاب (الأسيقة النفسية والإحالية والمقامية، إلخ) بل ينظر إليها باعتبارها بنيةداخلية، ذات قدرة يتم إعمالها أثناء توليد خطاب ما انطلاقا من عالم سيميائيسردي عميق، يمكن استعادته بالتمام في نموذج سيميائي[7]. وعلى الرغم منأن هذا الاقتراح يقدم حلا للمشكل الإبستمولوجي العويص المتعلق بمنزلة الخطابالمخصوصة، بوصفه حدا أوسط بين النص(أو اللغة)والكلام، بين العمق والكلية المجردة منجهة، والسطح الحدثي العابر الذي لا يمكن استعادته من جهة أخرى، فإنه لا يشفي غليل فلاسفةاللغة واللسانيين التداوليين. لنُعَدد أولاً الحدود التي يدور حولها النقاش المفهوميالذي يضفي على إشكال الخطاب استغلاقا في غاية الاستعصاء.
كل نموذج كيفماكان، سواء أكان مبسوطا في "مسار توليدي" (في النحو التوليدي لشومسكي أو فياللسانيات التي من النمط الغريماصي) أم كان آلة(كما في اللسانيات البنيوية أو في المنطق الأرسطي)، يجب أن يتصدى لخصائصالخطاب الآتية :
أ- الخطاب موسوم إشاريا :إنه" تاريخي"، بمعنى أن الذات القائلة محددة في الزمان والمكان، وخاضعة لتأثيرالقوى النفسية الاجتماعية التي تميز عصراًً ما. ولقد أدرك فوكو، على نحو فريد،هذه الخاصية عندما رأى أن الخطاب "مجموعة من القواعد مجهولة الإسم والتاريخيةوالمحكومة دائما بالزمان والمكان، تحدد لعصر أو مجال اجتماعي أو اقتصادي أو جغرافيأو لغوي شروط ممارسة الوظيفة المقالية"[8]. ولذلك، إذا كانتاللغة(السوسيرية) "أزلية" وكان الشكل السيميائي- السردي"متعاليا"(كماقد يفترض إذا ما تابع المرء غريماص)، فإن ذلك معناه، في الواقع، الفصل نهائيا بين كيانيالخطاب هذين اللذين يحملان سمات الإشارة الفاعلية (الشخص)، والزمانية، والمكانية.
ب- يشف الخطاب عن مجموعة من الاطرادات،ولذلك فهو خاضع لــقواعد منزلتها لا تزال تحتاج إلى تحديد، ذلك بأن الأمر لايتعلق بقواعد نحوية تحكم سلامة تكوين الجمل تركيبيا، بل يتعلق بالأحرى بــاستراتيجياتيجب أن تكون مقبولة تداوليا في جماعة مقالية، ثم زد على ذلك أن الاطرادات الخطابيةمتنافرة تنافر مختلف أنماط الأسيقة التي تولد الدلالة؛ فعلاقة مقطع خطابي بسياقه الإحالي،أو بسياقه المقامي، أو بسياقه النفسي، أو بسياقه الجماعي، محكومة دائما بطائفة أخرىمن "الاستراتيجيات" التي تظل، في مجموعها وتنوعها قابلة لأن تُبلَّغ وتُعرَف.
ت- الخطاب الحواري[9] هو النموذج الأمثللكل سمة خِطابية، لذلك فإن كل خطاب يعد، من حيث المبدأ، تَخاطُباً، أو بعبارةأفضل : إن التخاطب سابق على الخطاب[10]، لأن الخطابات وهيمتفرقة ليست سوى عناصر تستعيد هويتها عند التخاطب، ولأن المعنى الخِطابي مقيد وخاضعلتأثير وحدة المعنى الواسعة التي يمكن إسقاطها انطلاقا من المقطع الذي يتعلق به الأمر.وبما أن كل خطاب هو دائما استجوابي أو استدعائي، بل و نتيجة استجواب خطاب آخر أو استدعائه،فـإن المعنى الخطابي لا يحسب عن طريق جمع معاني الوحدات المكوِّنة، وإنما يحسب انطلاقامن معنى كل الخطابات التي تشتغل بوصفها أفقا للخطاب ذي الصلة.
ث- إن هذه الخاصية التخاطبية التييمثلها كل خطاب لا يمكن أن تؤدي إلى نسيان كون العلاقة بين الخطابات علاقة ترجمة،علاقة لا تُنَال بسهولة بل تؤخذ غِلابا وسجالا(مقتضية بذلك إمكان تعدد التآويل والترجمات).غير أن قابلية الخطابات للتواصل لا تعني البتة غياب سوء التفاهم، والمناورة والبحثعن توازن القوى خاصة؛ فلا وجود، من حيث المبدأ، لأية شفافية في تطور التخاطب : ليسثمة سوى استغلاق حِرَابي ناتج عن حضور الذاتية القائلة في خطابها.
ج- إن هيئات المقال التي تتلبسالخطاب بسبب قيود التخاطب الحاسمة تعود في أصلها إلى الذاتية القائلة[11]ولا تحضر البتة بشكلجوهري، بل يعاد بناؤها دائما نتيجة إثارة مُحفِّز، حتى نستعمل مصطلح اللساني يالمسلف،فلا يوجد خطاب دونما ذات (بما هي أثر للخطاب) تماما كما لا يوجد تحليل للخطاب دونماإعادة بناء الشروط (الذاتية) لإنتاج الخطابات وفهمها.
ح- كل ممارسة خِطابية هي عملياممارسة لسميائية بينية : لذلك لايوجد أي تنافر بين مختلف أنماط التوجيه السيميائي، فالتفاعل بين سيميائيتين متسقتينأو أكثر هو ما يميز أكثر من ممارسة ثقافية وفنية ضمن الأشد كثافة وتعقيدا : إنها ظاهرةتلفيق الأسنان (لنفكر مثلا في المسرح الذي يعالق بين سيميائيات مختلفة كالأوبرا، ولملا "الحياة اليومية").
خ- وأخيرا فإنه على الرغم من أنهناك، طبعاً، علاقة تبعية بين المحيط أو السياق المُولِّد، والخطاب المولَّد، فإنهلا يمكن فصل التخاطب ومكوناته عن ذلك المحيط، لأن التخاطب ليس نتيجة للأسيقة فقط، بلمقوما للتوجيه السياقي أيضا، فالخطابات تخلق بدورها أسيقة ومحيطات، وهذا معناه أنهاغير منفعلة بشكل صرف إزاء الأسيقة.
تلكم هي المطالب الإبستمولوجية السبعة الملزمة لكلمقاربة كافية للخطابية. ويمكن، في الواقع، تلخيصها في عنوانين كبيرين سأستعرضهما فيالفقرات اللاحقة : توجد سمة الخِطابية ما أن يوجد توجيه ذاتي وتوجيه سياقي لمقاطع لغوية.
إن التوجيه الذاتي للنشاط اللغوي ضروري لإعادة بناء معنى المتواليات الخطابيةالشامل والغني، ما دام الخطاب، كما قلنا، ليس نصا فحسب، بل "نصا مقاليا".يتجسد هذا التذويت في عمليات التعيين أو التغييب التي تؤطر زمانيا ومكانيابرنامج الأحداث المنطوية تحت الخطاب الخطي(أو المتجلي في بنية مركبية). فلأجل تحليل المياسم الذاتية في الخطاب،أدخل اللساني ياكبسون مفهوم الخالفة[12]، كان الأمر يتعلقأساسا بالإشاريات (وهي فئة عامة تضم الأسماء الموصولة، وأسماء الإشارة ). لكن لائحةالإشاريات هذه تظل ناقصة، لذلك ينبغي تتميمهاوبَنْيَنَتُها، انطلاقا من ياكبسون، عن طريق بيان صلات المؤشرات الدالة على الشخص بالمؤشرات الدالة على الزمان والمكان،بل ينبغي أن تضاف إلى آليات التعيين آلياتُ التغييب أيضا، أي تغييب الذات عن خطابها(وسيكون لهذا النمط الأخير من الآليات أهمية بالغة بالنسبة إلى وصف فئة معينة من الخطاب،كالخطاب العلمي أو الفلسفي أو التعليمي).ومع ذلك فإن التعيين والتغييب لا يستنفدانكل تذويت النشاط الخطابي، فـالخطاب بما هو"نص مقالي" يَشِفُّ عن عناصر أخرىكثيرة للذاتية التحتية؛ ذاتية تحضر في خطابها باعتبارها قدرة موجهة، تنتج وتنجز،انطلاقا من موالاة موجَّهة ومخصوصة، متواليات من الأفعال قصديتُها يجب أن تكون قابلةلأن يتعرفها المخاطب(وهذا طبعا إذا قبلنا أن التواصل حول المقاصد ونقلها بين الذوات،يشتغلان بوصفهما قيدا لكل نشاط خطابي ). وعلاوة على ما سبق، ينبغي أن نضيف كذلك أنهذه القدرة الموجَّهة للذات القائلة ليسـت أَنَوِية، فالقائل(يتخيل) أو (يتمثل) دائماالمقول له، بل إن التواصل لا يتحقق إلا على أساس هذه التمثلات المتبادلة بين الذواتالقائلة(بوصفها قائلة أو مقولا لها).كل تواصل إذن، يقتضي"تعرفا واعترافا"(سواء بالمعنى الإبستمولوجيأو بالمعنى الأخلاقي)) متبادلا لقدرات الذوات القائلة(الموجهة توجيها خاصا). يرجع أصلمقاربة الخطاب هذه إلى تقليد عريق في فلسفة اللغة، أعاد بنفنست إحياءه في اللسانياتالمعاصرة، (فيما سمي بــ"لسانيات المقال")، حيث استثمر حدوسا تعود إلى بوهلر وعبره إلى الفلسفة المتعالية في جوهرها(كانطوهوسيرل) تمنح الذاتَ الدورَ الأساس في شرط إمكان كل تجل لظاهرية خطابية. ويبقىتذويت الخطاب الاستراتيجية الفُضلى التي تحرك أغلب التداوليين المنعوتين بـ"القاريين"[13].
ويمثل تسييق المقطع اللغوي ضرورة أخرى لتحليلالخطاب، إذ من خلاله يتصدى التداوليون الأنجلوساكسون، وبخاصة الذين هم من شيعة فتجنشتاينوأوستين، لدراسة الخطاب وخصوصياته، فعلى عكس سيميائيي مدرسة غريماص، فإن التداوليينفي فلسفة اللغة أو في اللسانيات سواء بسواء، الذين يقبلون وجاهة تسييق المقاطع الخِطابيةيدافعون عن الدعوى التي تقضي بأن السياق لا يوجد في النص، وأن ما يوجد هو التوتر التكوينيبين الخطاب وسياقه. ففي هذه الأفق المعرفي لا يُقدَّم نموذجٌ"عميقٌ" أو"ذو طبقات متعددة" بل يُقدَّم بالأحرى نموذجٌ يعيد بناء ثراءِ المعاني وتَغيُّرِهافي توزيعها، لكنْ باعتبارها ممارسات متنافرة. وأما الخطاب فينظر إليه فيه بوصفهسيرورة استعمال في سياق اجتماعي ومعرفي، غير أن ذلك لن تكون نتيجته فصلا جذريا بين "الخطاب" و"السياق"، من حيث إنهما مفهومان متمايزان؛فالخطاب، في هذا المنظور ليس البتة شيئا سكونيا وخاضعا للثبات، بل نشاطا يشف عن فعلاجتماعي محدد، وهو علاوة على ذلك، قادر حتى على تغيير هذا السياق نفسه؛ فقد ذكَّرنا أوستين بأن"القولفعل"، وهذا معناه، إذا أخذنا هذا الشعار بمدلوله الأقصى، أن "حياة الخطاب"هي، في نهاية المطاف، محرك "حياةِ الجماعةِالقائلةِ" والوقائعِ النفسية الاجتماعيةِ التي تترتب عليها. ينبغي التسليم إذن،بأن ثمة، على الرغم من أن الخطاب وسياقه هما في توتر دائم، تعالُقاً ضروريا وجدلا تكوينياللحدين المتقابلين : الخطاب والسياق. والحديث عن السياقيجر عادة إلى التمييز بين أنماط مختلفة من الأسيقة : السياق الإحالي(عالم الموضوعات،حالات الأشياء والأحداث، وبالنسبة إلى الأُنطولوجيات الموسعة : العوالم الفعلية والممكنة)، ثم السياق النفسي، والسياق الفعلي، والسياق المقامي. وهذه النمطية من الأسيقة تتناسبو أنماطاً مختلفة من التداوليات، بل يمكن القول حتى عن نظرية النماذج و المنطق الموجَّهاللذين يستخلصان معنى مقطع خطابي من سياق وجودي(مثلا، الممكن والخيالي بوصفهما مرجعا،الواقع الموجه في ذاته inse)، إنهما نمط من التداوليات أوتحليل الخطاب(تداوليات يطلق عليها أحيانا"التداوليات الإشارية"). فإذا نظرنافي السياق الفعلي حيث يتجسد الخطاب بوصفه الفعل الأشمل والحاسم في تحديد معنى كل مقطعخطابي، تَبَيَّنَ كيفَ ولِمَ يكون الـجدل تكوينياً في الخطابِ وسياقِه، أقصد أن الخطابيخلق، في الواقع، سياقَه الخاص. إنه المبدأ الذي فكر في إطاره فتجنشتاين وأوستينوغرايس-وكل من لف لفهم في فلسفة اللغة واللسانيات التجريبية- في التوتر بينالخطاب والسياق. غير أن التوجيهات السياقية التي نالت الحظ الأوفر من الدراسة، منذصيحة التداوليات، هي الأسيقة النفسية والمقامية، فقد أصبح الخطاب عملية معرفية تنهضفيها "معرفة العالم" بالدور الأساس، لكن المعرفة ليست وحدها العامل الحاسم،فهناك أنساق معرفية أخرى لا تقل شأنا في هذا المجال، كأنساق الاعتقادات(أو بالأحرىأنساقها الزائفة) والقناعات والافتراضات، وفي أقصى حد أنساق الإيديولوجيا؛ فهذه الأنساقالمعرفية، التي هي في الغالب الأعم قوالب جاهزة، تتعلق بأطوار عُرفية في ثقافة ما.ولعل أمرا كهذا هو ما جعل الباحثين في الذكاء الصناعي وهم يهتمون باستنساخ، أو علىالأقل، بتـَمثُّل حياة الخطاب يبلورون مفهوم الإطار أو السيناريو (المدونة)،الذي يتيح فهم السبب الذي يجعل المتخاطبين قادرين على تحديد علاقات تحفيز وقصد وغرض،في متواليات الفعل الخطابي. لذلك تتوقف معالجة الخطاب، سواء عند الإنتاج أو الفهم،على قدرة المخاطب على بناء هياكل معرفية "ذاتية" واكتشافها[14]. وأما نمط السياقالأخير الذي نعرض له في هذا الموضع فهو السياق المقامي أو السوسيوثقافي (بوصفهمجموع المحددات المجتمعية والسوسيولوجية)؛ يتعلق الأمر هنا بإطار مجتمعي أو سوسيولوجي(مستشفى، فصل دراسي، محكمة) أو بظروف الحياة اليومية(مطعم، محادثة غير رسمية، إلخ)التي تحدد العادات الفكرية وتوزيع الأدوار التي يؤديها المشاركون في التخاطب، وعلىهذا الأساس لا يمكن أن ننسى، على سبيل المثال، أن المراتب الاجتماعية، وسلطة القائلبالدرجة الأولى لهما أهمية بالغة في التوجيه السياقي، إذا ما أريد فهم معنى مقطع خطابيما، ففي هذا الميدان تتوقف الاختيارات الأسلوبية، والإجراءات البلاغية على نوعية القيودالسياقية (خطاب مهذب، رسمي، أو غير رسمي). إن مجموع أنماط التوجيهات السياقية – مجموع فضفاض وغير قار- يحدد معنى مقاطع الخطابتبعا لتجذره في السياق الذي وَلَّدَه، لذلك فإن التذويت والتسييق عمليتان تكامليتانتسمان خصوصية الخطاب الدلالية، وهما العمليتان اللتان تميزان مفهوم الخطاب عن النصوالكلام.
إن تحليل الخطاب الذي لا يمكن أن يطابق بشكل تام بـالتداوليات بما هي كذلك،ليتجلى في صور متعددة، ومهما كانت الصِّنَافة المقدمة فإنها تظل غير شافية، لأن الميولات"التخصصية " في تحليل الخطاب جميعها ذات نزعة اختزالية بالضرورة. ومع ذلكيمكن بحسب شارودو(1983) التمييز بين أربعة أصناف في نظام الخطاب : الصنف المقالي، والصنف الحجاجي، والصنفالسردي والصنف البلاغي. كل صنف من هذه الأصناف رهين بـ" قدرة سيميائية لغوية"،وبما إذا وُظِّف نموذجٌ "عميقٌ" (كالسيميائيات الغريماصية) باعتباره نموذجاتحليليا إلى أقصى حد، أم وُظِّف نموذجٌ"سطحي"(كالفلسفة التحليلية ما بعدالفتجنشتاينية). وعلى أية حال، فإن الأصناف الأربعة التي يقترحها شارودو ليستمتنابذة بل متداخلة؛ لذلك فإن ما ينبغي استنتاجه بالأحرى من هذه الصنافة(هو أحقية كثيرمن مباحث المعرفة أو "الميولات التخصصية" المتنافرة، في الإدلاء بدلوها فيمجال تحليل الخطاب : كلسانيات المقال ونظرية الحجاج والنحو السيميائي السردي من النمطالغريماصي والبلاغة(القديمة والجديدة). ولكن سلسلة التخصصات الفرعية لا تقف عند هذاالحد، إذ يجب أن نضيف إلى هذه اللائحة : نظرية الأفعال اللغوية(أو"أفعال الخطاب"مشايعة لأوستين وسيرل)، المنطق التخاطبي (الذي فعَّله هـ.ب.غرايس)[15]، وتحليل الخطاب بمفهومه الأشد ضيقا والأكثر تقنية (نقصدهنا هاليداي، والدراسات المنتسبة إلى السوسيولوجيا)، وكذلك ما يدعى بـ"التحليلالتخاطبي"(الذي يعود في أصله إلى جوفمان وإلى الإثنومنهجية الأمريكية[16] ). تقدم هذه المقارباتنظريات جزئية (غالبا ما تَتَشَكَّلُ في فلسفات للغة) ونتائج تجريبية مجزأة (غالبا ماترد نُتَفا داخل منهجية واحدة) ومع ذلك فـإن لها مستقبلا أكيدا ودالا من الناحية الفلسفية.
إحالات المؤلف:
§ E.Benveniste,Problèmes de linguistique générale, Paris,Gallimard, 1966.
§ E. Buyssens, Les langages et le discours. Essais delinguistique fonctionnelle dans le cadre de la sémiologie,Bruxelles, ULB,1943.
§ P.Charaudeau, langage et discours.Eléments desémiolinguistique,Paris, Hachette, 1983.
§ O.Ducrot, Les mots du discours, Paris, Ed. de Minuit,1980.
§ M.Foucault, L'archéologie du savoir, Paris, Gallimard,1969.
§ A.J.Greimas et J.Courtés, Sémiotique. Dictionnaireraisoné de la théorie du langage,t.I.Paris,Hachette, 1979 et t.II,Paris,Hachette, 1985.
§ D.Mainagueneau, Genèse du discours, Bruxelles,Mardaga,1984.
§ H.Parret,language and Discourse, The Hague,Mouton Publishers, 1971.
§ T.VanDijk, Studies in the pragmatics of discourse, The Hague, Mouton Publishers,1981.
[1] ـ R.Godel. Les sources manuscrites de cours de linguistiquegénérale.Paris.1957.Genève.
[2] - انظر: Parret,1971,233s
[3] - Buyssens(1943)
[4] - من المناسبنقل الحدين(énonce) و(énonciation) على التوالي بـ" قول" و" مقال"خلافا لما درج على ترجمتهما بـ" ملفوظ" و" تلفظ". وذلك لأن حد"لفظ" المشتق منه "ملفوظ" و "تلَفُّظ" لا يتضمن في ذاتهشرط الدلالة، فمن الجائز أن يلفظ المرء أو يتلفظ بأصوات أو ملفوظات لا معنى لها، كأنيتلفظ بالمهمل لا المستعمل. وهذا بخلاف "القول" و"المقال" المشتقينمن "قال" فإنهما وإن كانا يحيلان استنادا إلى ما تفيد به المعاجم العربيةوكتب النحو على المفرد تارة وعلى المركب طورا،فإن المعنى أو مبدأ الإفادة يبقى شرطا حاسما فيه، يقول ابن هشام، على سبيل المثال(في شرح شذور الذهب ص 14: "المراد بالقول : اللفظ الدال على معنى كرجل وفرس...بخلاف المهمل نحو ديز مقلوب زيد فإنه وإن كان لفظا لكنه لا يدل على معنى")
استجابة حد القول لقيد الإفادة تتأكد فيما يذكره ابنمنظور في لسانه(مدخل قول،ج11، ط3، 1999 ، ص : 350 وما يلي. دار إحياء التراث العربي، بيروت) من جواز تسمية الاعتقاداتوالآراء قولا؛ لأن" الاعتقاد يخفى فلا يعرف إلا بالقول"، وبماأنه لا يمكن تصور أي رأي أو اعتقاد من دون ذات/فاعل، فإن هذه الذات يؤشر عليها بضميرأو بخالفة، ولأن الرأي أو الاعتقاد لا بد له من سياق أو مقام حتى تُعرف جهته ووجاهته،فإن المقال يصبح عندئذ هو إحداث قول بتوجيه من الذات (آراء واعتقادات ، قصد ، ضمير..)ومن المقام (ظروف الزمان والمكان، السياق الاجتماعي والمؤسسي برمته).
ومن نافل القول التذكير بأن تمثيل الذاتية في اللغة(أو كيف تحضر بصمة إحداث المقال في القول) كما يقول تودورف في القاموس الموسوعي(ص 405) وما يستدعي ذلك من إحالة على المقال ( ولكل مقام مقال)، كان السياق المعرفي الذي أفرز نظرية المقال في اللسانيات.
انظر على سبيل المثال مقالة بنفنست E. Benvenisteعن الذاتية في اللغة (De la subjectivité dans le langage ) التي نشرها سنة 1958 وضمنها في كتابه:
Problèmesde linguistique Générale ,1.Gallimard.1966.
وانظر كذلك عن القول والمقال : Oswald Ducrot & Tzvetan todorov
Dictionnaire encyclopédique des sciences dulangage.E.Seuil.1972.p : 405-410.
وانظر كذلك المقالة الهامة التيحررتها جماعة ريلبريد (Groupe Replred)، حيث بينت كيف تطورت في قرن ونصف التصورات التي انبثقت عنها نظرية المقال، معبيان المفاهيم الأساس التي تقيم أود هذه النظرية القديمة وشكلها الحديث، وكيف تطورتلتقترب من مفاهيم مجالات أخرى ولاسيما الذكاء الصناعي.
Encyclopédie Philosophique Universelle, Vol. Notions,tome1, PUF, Paris. 1990. p: 792-796.
[5] - Greimas et Courtès, 1979,103
[6] - Greimas et Courtès, 1979,103
[7] - انظر كذلك Greimas et Courtès,1985,69s.
[8] - Foucault,1969,154
[9] - Jacques, 1979
[10] - Maingueneau,1984, 11
[11] - انظر مدخل Enonciation( في هذه الموسوعة)
[12] - ننقل بالخالفة الحد الإنجليزي Shifter"" الذي استعاره ياكبسون من ياسبرسن(Jaspersen)،والذي اقترح نيكولا روفي (NicolasRuwet) نقله إلى الفرنسية بحد (Embrayeur).يرى ياكبسون أن كل سنن لغوي يتضمن عناصر لغوية ووحدات نحوية و معجمية لا يمكن تحديددلالتها العامة خارج الإحالة على الرسالة، فوحدات أو عناصر السنن هذه تصل وتربط الرسالةبالموقف التواصلي، أو مقتضى الحال؛ فالضمير المنفصل "هــــو" يُعدعنده في الآن نفسه رمزا أي دليلا لغويا، وإشارة (index)،والضمير المنفصل " أنا" في جملة من قبيل: الدولة هي أنا، المنسوبةإلى لويس XIV، لا يمكن تحديد مرجعه (مفسره)، ومن ثم فهمُ دلالة هذا القول العامة، إلا إذا أخذنافي الحُسبان مقام المقال. فكأي خالفة يعيِّن ضمير المتكلم أنا الشخص الذي يقول:أنا؛ فهوية القائل لا يمكن تحديدها خارج السياق المقالي ومقتضى الحال الذي يطابقالمقال، ويذهب ياكبسون إلى أن " الخاصية المميزة للخوالف لا تكمن في غياب مفترضللدلالة الوحيدة والثابتة، بل في واقع كونها تحيل لزاما على الرسالة (Message)، فكل ما ينتمي إلى السنن ويحيل على الرسالة يشكلجزءا لا يتجزأ من فئة الخوالف هذه كالجهة والزمان والشخص، وباختصار نتحدث عن الخـالفةعندما يتعلق الأمر بعناصر تربط السنن بالرسالة وبالموقف التواصلي.
انظر :-George Mounin.1974.Dictionnaire de la linguistique,Quadrige/PUF.1reéd, 1993.
- CollecionMicrosoft.Encarta 2005.- 1993- 2004. Microsoft Corporation.
والخالفة مفهوم وظفه الفلاسفة العرب للدلالة على الضمائر والإشاريات والموصولات،يقول الفارابي(ت 950 م) "الخوالف هي كل حرف معجم أو كل لفظ قام مقام الإسممتى لم يصرح به، وذلك مثل حرف الهاء من قولنا (ضربه) والياء من قولنا(ثوبي) وأشباه ذلك من الحروف المعجمة التي تخلف الإسم وتقوم مقامه.." ( د.جعفر آل ياسين. الفارابي في حدوده ورسومه، عالم الكتب، بيروت، ط 1،1405هـ/1985م.ص: 238). ويقول الخوارزمي الكاتب" الخوالف هي التي يسميها النحويونالأسماء المبهمة والمضمرة وإبدال الأسماء، مثل: أنا ، وأنت، وهو..." ( الدكتور،عبد الأمير الأعسم، رسائل منطقية في الحدود والرسوم للفلاسفة العرب( أبي حيان، الكندي،الخوارزمي، ابن سينا، الغزالي) دار المناهل،ط 1، 1993، ص: 100)
[13] - يعد ديكرو النموذج الأمثل. انظر: Ducrot 1980 et Benveniste 1966
[14] Van Dijk, 1981
[15] - انظر مدخل الانعكاسية Réciprocité (في هذه الموسوعة
[16] - الإثنومنهجية : مصطلح الإثنومنهجية اقترحه غارفينكلGarfinkel لوصف وتحليل العملية التي يملكها الفاعلون الاجتماعيون عن ثقافتهم، والمناهج التييستخدمونها لمعالجة ممارستهم المشتركة.
تهتم الإثنومنهجية بمجال التبادلاتالرمزية؛ المجال الذي لا تقارب فيه اللغة بوصفها بنية، بل بوصفها فعلا، وذلك بغية فهمالكيفية التي يتبعها المتخاطبون لأجل مباشرة حديث أو بنائه أو إنهائه(Gumperz 1989).
انظر : بيار أنصار. العلوم الاجتماعيةالمعاصرة، ترجمة نخلة فريفر، المركز الثقافي العربي بيروت / الدار البيضاء، ط 1. 1992.صص : 290-291 .