منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    الخطاب الصوفي

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    الخطاب الصوفي Empty الخطاب الصوفي

    مُساهمة   السبت ديسمبر 12, 2009 8:30 am

    المقدمة

    حين فكرت في الخطاب الصوفي موضوعاً للبحث، لم أكن حينها وقفت عند الإشكالية الجوهرية التي يثيرها، فقد بدت لي الإشكاليات كثيرة إلى حدّ يصبح فيه كل ما له علاقة بالخطاب الصوفي وتاريخ التصوف والمتصوفة إشكالية، بدءاً من أزمة التواصل التي رافقت التصوف وما نتج عنها من تنحية الخطاب الصوفي من دائرة الاتصال الأدبي ولقد استوقفتني أسئلة كثيرة متعلقة بأزمة التواصل تلك، مثل دور المتصوفة فيها وعلاقتهم بالسلطة السياسية والدينية، وطبيعة نصوصهم وأشكالها، وعلاقتها بنصوص الثقافة الرسمية، وبالقرآن الكريم ومرجعياتها الحقيقية، وكيف كان دور الثقافة العربية الإسلامية في الحكم على الخطاب الصوفي والارتقاء به إلى مرتبة النصّ.‏

    ولقد أثارني خلو كتب تاريخ الأدب العربي من ذكر الأدب الصوفي، وكنت قرأت نصوصاً منه في النثر والشعر تفوق في أدبيتها كثيراً من النصوص التي شغلت الناس، فتساءلت: هل الاعتراف بأدبية نص ما هو مجرّد إقرار تاريخي واجتماعي؟ وهل يمكن ألا يُعترف بظاهرة أدبية لعصرها في عصر متأخر؟ وهل الخطاب الصوفي الذي ولد دينياً وأخلاقياً، يمكن أن ينظر إليه على أنه أدبي؟ وهل يمكن لنصوص تبدأ حياتها تاريخاً أو ديناً أو فلسفة- مثلما ذهب إلى ذلك yvancos إيفانكوس في كتابه نظرية اللغة الأدبية- أن يتم تصنيفها كأدب؟‏

    ثم إنني تصفحت بعض الكتب التي تناولت الشعر الصوفي، فلم أجد إلا كلاماً مكروراً عن رموز المرأة والخمرة عند المتصوفة دون تعليل علمي لسبب لجوء المتصوفة لنصوص الثقافة الرسمية، خاصة أنهم كانوا خارج تلك الثقافة، وجرّني هذا التساؤل عن المنهجية التي نظر بها إلى هذا الخطاب، فتبين لي قصور تؤكده الأحكام الأيديولوجية نفسها التي تكررت منذ قرون.‏

    إن التقدم الواضح في تحليل الخطابات وبمناهج مختلفة، والاهتمام بالخطابات التراثية كقصص ألف ليلة وليلة، والمقامات والشعر الجاهلي والتي تجنب فيها أصحابها من أمثال جمال الدين بن شيخ، وعبد الفتاح كيليطو وكمال أبو ديب وغيرهم القراءة الأيديولوجية، لم يكن للخطاب الصوفي حظ منه، وبقي محصوراً في الدراسات الأيديولوجية وهي جهود متراكمة عبر التاريخ، تجلت تلك الشروحات الكثيرة التي واكبت التصوف ذاته، وهي شروحات لغوية وصوفية، كانت في الغالب تهتم بالمتصوفة أكثر من النصوص رداً على من كفّر وتحامل أو اتهم المتصوف في عقيدته، باستثناء دراسات معرفية عميقة تندرج في محاولة البحث في العقل العربي كأعمال الجابري وطه عبد الرحمان وحسن حنفي وغيرهم. ولم ألحظ في هذه الدراسات ما يبرر كيفية اشتغال النصوص الصوفية، وتولد المعنى فيها على الرغم من إشارات المستشرق ماسنيون L.Massignon المبكرة لبعض مظاهر الأدبية في أسلوب الحلاج، وتحليل كوربان H.Corbin نظرية الخيال عند ابن عربي.‏

    ليس هناك-حسب اطلاعي- اهتمام واضح بالنثر الصوفي ولا بأخبار المتصوفة وحكاياتهم من منظور منهجي حديث، على الرغم ممّا أعطاه علم السرد الحديث من إمكانات هائلة للاقتراب من مختلف أشكال السرود في العالم، أمّا الدراسات التي اهتمت بالشعر الصوفي الذي كان له الحظ الأوفر، فلم يتعد فيها أصحابها استخلاص ما هو فلسفي أيديولوجي (صوفي)، مثل الحلول ووحدة الوجود والفناء والحقيقة المحمدية والمقامات والأحوال، ممّا هو شعري. ومن حاول الكشف عن أسلوب الكتابة الشعرية الصوفية بقي يحوم حول أنواع الرموز، كالمرأة والخمرة والطلل، على غرارها فعل جودت نصر الذي له السبق الأكاديمي في تحليل تلك الرموز، ولا أعتقد أن أحداً حاول أن يتجاوز هذا الطرح التقليدي في تحليل الشعر الصوفي مع الكثير الذي يمنحه المنهح البنيوي والأسلوبي ونظرية القراءة من آليات لرصد ظواهر مثل التفاعلات النصية في الخطاب الصوفي وتحليلها.‏

    لقد بدا لي بعد معاينة هذا القصور المنهجي في التعامل مع الخطاب الصوفي، أن حل الإشكالية المنهجية هو بداية الشرعية للأدبية الصوفية، لأنه ثبت أن التعامل الأيديولوجي مع الخطاب الصوفي لم يعد كافياً، على الرغم من أهميته، وليس في وسع تعامل كهذا أن يكشف عن البنى النصية والمظاهر الخطابية وكيفية تشكل المعنى في الخطاب الصوفي، وقد أثارني الوعي بهذا التوجه في السنوات الأخيرة عند بعض الباحثين كأدونيس في بعض كتبه، ومنصف عبد الحق في كتاب "الكتابة والتجربة الصوفية"، ومحمد مفتاح في كتابَيه: "دينامية النص"، و"التلقي والتأويل"، وإن كانت لم تتعدَّ- كما هو الحال عند أدونيس- الدعوة إلى الاهتمام بالكتابة الصوفية، ونصوص عبد الجبار النفري خاصّة، حيث أشار في أكثر من موضع من كتبه إلى الظاهرة الصوفية في الكتابة، ووصفها وأعطى نتائج مهمة- وإن كانت مختزلة- عن تحليلات ودراسات كان يجب أن تتم، لكنه اكتفى بوصفها ومقارنتها بما تتشابه فيه مع الكتابة السريالية، مثلما وضح ذلك في كتابه"الصوفية والسريالية".‏

    أمّا محمد مفتاح فقد نوّه بالكتابة الصوفية ورصد نماذج منها في كتابه "دينامية النص" وحلل بعض الكرامات بإجراءات سيميائية، وهو الأمر الذي فعله في كتابه "التلقي والتأويل"، غير أن الانتقائية التي اعتمدها في اختيار النماذج، طبعت تحليلاته بنوع من الاختزالية.‏

    وتبقى لملاحظات الباحثَين يوسف زيدان ووليد منير في مجلة "فصول" قيمة كبيرة في توجيه التعامل مع الخطاب الصوفي التوجه المرجو. ولا شك أن كتاب نصر حامد أبو زيد "فلسفة التأويل عند ابن عربي" يفتح آفاقاً ثرية في توظيف آلية التأويل لتحليل الشعر الصوفي خاصة. وإن تصنيف طه عبد الرحمان الخطاب الصوفي ضمن أعلى مراتب الحوارية في كتابه "في أصول الحوار وتجديد علم الكلام" يعد إشارة طيبة لتجديد منهجية التعامل مع الخطاب الصوفي، كما أن كتابه "العمل الديني وتجديد العقل" بادرة جيدة في قلب المسلَّمة التي تصف الخطاب الصوفي بالغموض، والمتصوفة بأهل الباطن وأصحاب ذوق لا عقل، مما يفتح المجال واسعاً لإعادة النظر وإعادة طرح إشكالية الخطاب الصوفي.‏

    لا شكّ أنّ هذه الدعوات والملاحظات تكون قد وجدت آذاناً صاغية قبلي للعمل بها، وهذا ما لمسته من خلال كتاب سعيد الوكيل "تحليل الخطاب السردي معارج ابن عربي نموذجاً"، وقد نحا فيه منحى جديداً في التعامل مع نصوص ابن عربي السردية، مستعيناً بما منحته البنيوية والسيميائية من إجراءات ثرية في هذا المجال.‏

    كان-إذن- همُّ الخطاب الصوفي والمنهج معاً داعياً لمحاولة الإلمام بأهم الظواهر النصية فيه، فكان لابدّ أن أتتبع التجربة التي أنتجت هذه الظواهر، ولكي تكون النماذج ممثلة، فضلت أن أرصد هذه الظواهر من أكثر الوجوه تمثيلاً كأبي يزيد البسطامي والحلاج في القرن الثالث، والنفري والتوحيدي في القرن الرابع، ولما كان القرن الخامس فارغاً إلا من الأخبار والكرامات، والتي مثّلت لها بعبد القادر الجيلاني، وقفت عند ابن عربي ومن عاصره كابن الفارض، بعدما تأكّد لي أن التجربة والكتابة الصوفية بلغت ذروتها عند هذا الصوفي المتميز (ابن عربي).‏

    ولقد امتحنت هذا الاختيار مراراً، ولم أجد بديلاً عنه، خاصة وأنا أعد هذا البحث مؤسّساً، ويمكن أن يكون مدخلاً للتعمق في هذه النماذج والظواهر، وتبين لي بعد امتحان الاختيار، أن سعة الموضوع وشموليته عدة قرون على الرغم من المزالق التي يمكن أن توقفني فيها، ستسمح لي بدراسة كشفية لمظاهر الخطاب وأشكاله، واعتبرت المنحى الكشفي هذا أحد أقطاب البحث المهمة بالنسبة إلي.‏

    إنّ هذه السعة ستحدد موقع هذا البحث في حقل المعارف، وبفضله ستقيَّم قدراتي في البحث.‏

    لقد مكنني هذا الاختيار من التساؤل عن الدلالة التاريخية لهذا النوع من البحوث، وتبين لي أنني أسهم في بعث جانب مغيب من تراثنا الذي سبقنا إليه المستشرقون وبثوا فيه ما شاؤوا من أفكار.‏

    لم يكن التنوع في النماذج والبعد الزمني بينها، وتنوع أجناس الكلام من شعر وحديث وخبر، ليسمح لي بأن أجد العنوان المناسب، كما لم يكن هذا التنوع ذاته ليسمح بتوحيد آليات معينة فأوظف منهجاً واحداً يمكن أن يسهل لي عملية صوغ العنوان؛ لذلك رأيت أن مصطلح الخطاب يمكن أن يختزل الموضوع والمنهج في آن واحد، خاصة أنني نظرت إليه بكل المفاهيم التي ألحقت به منذ دو سوسير، حيث كان معادلاً للكلام (parole)، باعتباره حوادث لفظية، إلى البعد الذي يتجاوز فيه الجملة، والذي منحه إياه نحو النص، وما أسبغته نظريات الحديث والتداولية عليه باعتباره حدثاً تلفظياً له سلطته الفعلية على الآخر، لأنه نظام من الضوابط التي تنظم وتحكم إنتاج مجموع غير محدد من الملفوظات، انطلاقاً من موقع اجتماعي أو أيديولوجي معين. لذلك فضلته على مصطلح النص لبعده المحايث الذي يتجاوزه الخطاب في تجسيده دورة التواصل بكل عناصرها من مرسل ومتلق ورسالة وشفرة خاصة وسياق، غير أن ذلك لم يمنع من استعمال مصطلح النص، وأنا أعاين المظاهر النصية من خلال الخطاب الذي يحملها، والبعد الخطابي للتواصل الذي يلخّص جوهر إشكالية البحث، وجسّدتها في الحركية التواصلية، التي تُعرِّف بالوضع الاتصالي والتغيير الذي طرأ عليه والنتائج التي برزت من خلال تحليل الخطاب. لذلك كان العنوان:‏

    "الحركية التواصلية في الخطاب الصّوفي من القرن الثالث إلى القرن السابع هـ"، وبذلك وضعت المفهوم المفتاح (التواصل) في سياق أعمّ من ذلك الذي يختزل فيه إلى مجرّد إيصال معرفة على محور أنا وأنت، وذلك بالنظر إليه، باعتباره تنظيماً داخلياً خاصاً للخطاب، والاهتمام بشروط تأديته، آخذة بعين الاعتبار أنّ النشاط الإبداعي يتمركز عند محوري الإنتاج والتأثير في الآخرين، ولذلك أصبح مجال اهتمام أغلب النظريات الحديثة في تحليل الخطاب.‏

    انطلقت من افتراضات أهمّها عدم التسليم بلا نصية الخطاب الصوفي ولا أدبيته، وبذلك تولد لديّ همّ أولي هو اكتشاف كيف يشتغل المعنى في الخطاب الصوفي وكيف تعالج مظاهره التواصلية؟ فتناولت أهم مظاهر الخطاب والمكونات النصية في علاقتها بما هو تواصلي، مثلما تعرض إليه نظرية التلقي، سواء من حيث الكفاءة التلفظية من جانب المرسل، أو الكفاءة التأويلية من جانب المتلقي، وسواء في إطار المكون الشعري أو التداولي، السردي أو التناصي، وبين الكشف عن طبيعة التواصلي وتحليل المكونات الخطابية، تساءلت عن الكيفية التي يمكن لتحليل الخطاب أن يضيء بها الجانب التواصلي، وأي المكونات المذكورة أكثر قدرة على عكسه، وكان الاستقرار بجعل كلّ مكون يجيب على جانب من الإشكالية، الأمر الذي منح لي مبرر الاعتماد على آليات مختلفة من المناهج الحديثة فرضتها الإشكالية والأجناس المعتمدة ذاتها، لكنها تستند كلّها إلى مبادئ مشتركة منحتها إياها اللسانيات كمفهوم البنية والنظام والنسق، وما أسفرت عنه مورفولوجية roppp من تطور فيما يسمى بالسيميائية وإسهاماتها في الكشف عن مبادئ تنظيم الخطابات، وما أفرزته البنيوية التي تتجاوز البنية إلى بنى أخرى، وأخيراً ما تمنحه نظرية التواصل التي تعتبر الخطاب رسالة بين مرسل ومتلقٍ تنجز بوسائل داخل سياق محدد في المكان والزمان قصد التبادل والتبليغ والتأثير.‏

    لقد فُرِضَت عليَّ هذه التوليفة المنهجية للاختيارات الرئيسية للآليات الأساسية في النقد المعاصر، ولم يكن التنسيق بين هذه الخيارات كالتداولية والسيميائية والبنيوية ونظرية التلقي سهلاً، ولكن بعد معاينة الإشكالية المنهجية، وغياب منهج مكتمل للتعامل مع مختلف الخطابات أدركت أنّه الخيار الوحيد، نظراً لطبيعة الخطاب الصوفي والإشكالية معاً. وخاصة بعد التردد بين الخيارين المنهجيين المهيمنين في تحليل الخطاب عندنا اليوم؛ حيث يندفع الأول بموضوع إجراءات البنيوية، وخاصة السيميائيات السردية، فيقوم بوصف النصوص وأجزاء الكلام بطريقة محايثة أسقطت الكثير في نوع من الآلية والتقنية التي تعادل بين النصوص المختلفة.‏

    أمّا الثاني فهو الذي يشق طريقه من المناهج التقليدية ليطل قليلاً على ما يتناسب مع الآليات الحديثة كالشعرية والتأويل. ولكن دفعاً للتعارض المفتعل بين التقليد والحداثة اقتربت من الخطاب الصوفي، وفي نيتي تجاوز المنهج الوحيد والمهيمن والمنظور الأحادي الأيديولوجي الذي يعتبر الخطاب الصوفي تصوفاً ليس له من المظاهر سوى الأخلاقي أو التربوي النفسي.‏

    إنّ هذا التصوّر المنهجي الذي منحه إياي الخطاب الصوفي، وبعد التطور الهائل في المناهج، أوقفني على الإشكالات التي تثيرها التسمية، فالسيميائية اليوم سميائيات، وكذلك التداولية والأسلوبية وغيرها، وبعدما كانت البنيوية ترى أنها منظومة شاملة لتحليل النصوص وإضفاء صفة الموضوعية، رأينا وفي عز ازدهارها أصواتاً ترتفع من داخلها لتعلن أن الشمولية والموضوعية التي تدعيها البنيوية نوع من الوهم، ولعله المصير نفسه الذي تعانيه اليوم الاتجاهات التي حلت محلها في ظل العولمة الثقافية، التي جعلت الأصوات ترتفع لتعلن عما يسمى بالمنهج الشمولي الذي لا أدعي إدراكه، ولكن أمام الكمّ الهائل من الآليات المختلفة وجدت نفسي مضطرة لهذا الاختيار الذي سمح لي بتجاوز المحايثة في التحليل، واعتمدت طريقة أشبه ما تكون بالدراسة النسقية التي تنظر إلى الخطاب الأدبي على أنه نسق من الاتصال السيميولوجي، والخطاب الصوفي نسق من الاتصال الأدبي، وتحقيق لإمكانات أنساق اللغة العربية. لكن هذا لا يجعلني أدعي الحيادية في التحليل الذي يبدو أنها شرط صعب احترامه بالنسبة للباحث، الذي ما هو إلا قارئ يمارس قراءة مفتوحة على خطاب مفتوح قابل لأن تكون قراءاته لا نهائية.‏

    فدراستي هذه تتجاوز في أهم جوانبها وصف البنيات المحايثة للدلالة، ووصف العلاقات بين المكونات مع أخرى خارجية كالتلقي الفعلي ونصوص الثقافة المركزية.‏

    لقد كان الفصل الأول الذي عنونته "وضع التلقي في خطاب فعل الحب" من جهة محاولة لرصد طبيعة الخطاب الصوفي في بداياته من خلال الشعر، ومن جهة أخرى رصد تداوله بين المتلقين، وردود أفعالهم بإزائه وكيف كان التواصل مع هذا النوع من الخطابات، ووقفت عند ضغوط التلقي التي عبرت عن التفاعل السلبي بينهم وبين المتصوفة الذي انتهى بمصرع الحلاج، ثم رصدت في هذا الخطاب آليات التواصل التي وضعها المتصوفة المتأخرون من أجل تفاعل إيجابي، كاعتماد الغزل واتخاذ التأويل وسيلة لتبرير طبيعة التفاعل والتي كانت ثمرتها تأسيس مفهوم للكتابة انطلاقاً من مفهوم الجوهر الأنثوي وفعل الحب ذاته. فكان النموذج الشعري في المرحلة الثانية عند المتصوفة المتأخرين ينضوي على أفعال كامنه تعبّر عن ردود أفعال متنوعة في التلقي هو ما كشف عنه ابن عربي في تأويله شعره. ولقد استعنت بأهم مفاهيم نظرية التلقي في صيغها المتميزة عند . H.R.Jaus و W. Iser كمفهوم التفاعل، وأفق الانتظار والمسافة الجمالية.‏

    ومن منطلق التواصل ذاته الذي هو جوهر نظرية التلقي تعرضت في الفصل الثاني "البديل الخطابي للتواصل" إلى المظهر التداولي لخطاب المعرفة في الحديث الصوفي. وكيف عمد كل من النفري والتوحيدي في القرن الرابع في وقت بلغت أزمة التواصل ذروتها بعد مقتل الحلاج سنة 309هـ. إلى تجسيد التفاعل والتواصل من خلال أفعال الكلام واستراتيجية التحاور التي تلخص العلاقة "عبد / رب"، وتحقق التفاعل بين الخطاب الصوفي والمتلقي.‏

    احتكمت في الفصل الثالث الذي عنونته "تمفصلات فعل الحكي" إلى السيميائيات السردية التي ساعدتني في الكشف عن موجهات تشكل الحكي وكيفية اتساع دائرة الاتصال بين المتصوفة والآخرين من خلال تلك الموجهات كالشطح والرؤيا، والتي أسهمت في شيوع جو الحكي وتنوّع مظاهر النوع القصصي وتجليه في خصائص معيّنة ألحقت بعض النصوص الصوفية بجنس محدد هو السرد (الخبر)؛ ودوره في تفعيل العقد التواصلي مع المتلقي. ولقد أردت بكلمة تمفصلات (Articulations) دلالتها العامة على النشاط السيميائي للمتلفّظ بمراعاة نتيجة ذلك النشاط، وفي الوقت نفسه اعتماد مفهوم هيمسليف Hjelmslev للتمفصل، باعتباره تحليلاً للنظام.‏

    ولقد كان اكتشاف الفعل التواصلي من خلال نصوص كالكرامة الصوفية تمكيناً لي من الإجابة على الجانب المهم من الإشكالية، وهو أن التغييب الرسمي للخطاب الصوفي وازته ممارسة تأثير في جماهير عريضة، وأدّت إلى نشأة الطرق الصوفية التي مازالت حتى عصرنا هذا.‏

    وكان الفصل الرابع والأخير الذي عنوانه "العلائقية النصية" بمثابة الإجابة عن الجزء الأخير من الإشكالية، وهي علاقة الخطاب الصوفي بالدين الإسلامي والثقافة العربية الإسلامية. فوقفت عند الهوية الخطابية التي لا تعرف إلا من خلال تداخل الخطابات. وتتبعت التفاعل الذي أقامه المتصوفة مع النص القرآني استنباطاً وتأويلاً، وبالحديث القدسي، وأشرت إلى ظاهرة التفاعل مع الغزل والخمرة، ولم أُفَصِّل، لأنه كان يهمني من النماذج ما يجيب على بعض التساؤلات المرتبطة بلجوء المتصوفة إلى الغزل، والتواصل الذي نتج عنه، وقد كانت هناك سوابقُ في هذا المجال عند عاطف جودت نصر، ومن تعرضوا لشعر ابن الفارض، وما كنت أريد تأكيده هو أن التناص عنصر مكون للخطاب الصوفي، كما هو شأن الأدب عامة، وأن هذه الظاهرة كفيلة بأن تجيبنا على كثير من الأسئلة والطروحات التي تشكك في أصالة الخطاب الصوفي والتصوف باعتبارهما جزءاً من الثقافة العربية الإسلامية. ووجدت في بنيوية الباحث الفرنسي جيرار جونيت Gerard Genette ما ساعدني في كشف وتعليل هذه الظاهرة دون إسقاط أيديولوجي ولا تأويل ذاتي. ولأنني راعيت التدرج في الإجابة على الإشكالية المطروحة كانت خطة البحث خطيّة، راعيت فيها التسلسل الزمني في عرض الظاهرة وأردت أن تؤدي بعض الوظائف، كالوظيفة الكشفية التي مكنتني من الكشف عن كثير من القضايا المغيّبة والغامضة وتحليلها، والوظيفة الإعلامية التي عرضت بفضلها فعالية المعطيات والأفكار التي تداولها المتصوفة، وطبيعة تجربتهم الروحية والمعرفية والجمالية.‏

    والوظيفة البرهانية التي مكنتني من تأكيد بعض الفرضيات التي انطلقت منها ودحض بعضها الآخر.‏

    وأنهيت البحث بخاتمة ذكّرت فيها بأهم النتائج العامة، وفسحت فيها المجال لأعرض بعض التساؤلات التي لم أجب عنها، والاقتراحات التي رأيت أنها بدايات طيبة لموضوعات مهمة لمن يريد أن يبحث في الخطاب الصوفي.‏

    ولم تواجهني صعوبة العثور على المصادر والمراجع التي تتحدث عن التصوف وهي كثيرة ولها قيمتها، كما أنها تحوي إشكاليات لو استغلها الباحثون لشكلت مشروعاً يعيد النظر في كل ما قيل عن التصوف، لكن الصعوبة تجلت في فقر المكتبة العربية لدراسات أكاديمية عن الأدب الصوفي شعراً ونثراً، وبمناهج حديثة، على الرغم من وجود بعض البحوث الأكاديمية التي اشتغل فيها أصحابها على المتن الشعري الصوفي كبحث مختار حبار الموسوم: "الشعر الصوفي في الجزائر في العهد العثماني"، دراسة موضوعية وفنية (1991). وبحث قدور رحماني، "البناء الفني في ديوان ترجمان الأشواق "للشاعر الصوفي محي الدين بن عربي، 1999.‏

    لكنها جهود أرى-من الموقع الذي وضعت فيه نفسي في هذا البحث- أنها تنويع على الدراسات السابقة، فتبدو العلاقة بين الهاجس العلمي ومعرفة التراث الصوفي فيها بعيدة إلى حد ما، ما دام تطوير البحث العلمي لا يتم إلا عبر تجديد آلياته وإجراءاته.‏

    إنّ الإجراءات التي اشتغلت بها في هذا البحث كان الفضل في توجيهي إليها أجناس الكلام الصوفي ذاته من شعر في الفصل الأول، وحديث فضلت التعامل فيه بمصطلحي المحاورة والمخاطبة في الفصل الثاني، والخبر أو السرد في الفصل الثالث. ولذلك عمدت في الفصل الأخير بعد تحليل هذه النصوص واستخلاص مظاهرها النصية، إلى ربط نماذج منها مجتمعة-وبغض النظر عن جنسها- بغيرها من النصوص جنساً ونوعاً، من القرآن الكريم والحديث القدسي وقصة المعراج وشعر الغزل.‏

    وكان أملي في كل هذا أن أسهم في إعادة قراءة الأدب الصوفي، من أجل تشكيل معرفة ووعي جديد بتراثنا ومن ثم بذواتنا، وخاصة أمام ما كتب عنه من دراسات تتكاثر دون أن تضيف شيئاً إلى فهمه والاقتراب من طبيعة ورصد أشكاله وتصنيف أنواعه وأنماطه، وإدراك علاقته بباقي نصوص الثقافة الإسلامية.‏



    وبعد، فإني أعتبر هذا البحث-مع النقائص والهفوات التي يمكن أن تلاحظ فيه- مدخلاً للخطاب الصوفي، رسمت معالمه أفكار وملاحظات وتوجيهات المشرفين المتميزين: الدكتور الأخضر جمعي باعتباره مشرفاً أساسياً بالجزائر، والدكتور الأخضر سوامي مساعداً بفرنسا، لما أبدياه من اهتمام بالموضوع، وتشجيع أكسبني ثقة بالنفس، ودافعاً لمواصلة البحث، فلهما كل الشكر وفائق التقدير، وإلى أستاذي الفاضل الدكتور عبد الله العشي بجامعة باتنة الذي يرجع له الفضل في توجيهي إلى التصوف، وتزويدي بأهم المراجع المعتمدة، ولم يبخل علي بملاحظاته واقتراحاته القيمة.‏

    تيزي وزو في 19 شوال 1420هـ الموافق 26 جانفي 2000م‏
    منقول Sleep

      الوقت/التاريخ الآن هو السبت نوفمبر 23, 2024 3:13 pm