التناص الصوفي في شعر البياتي
أحمد طعمة حلبي
توجه الشعر العربي المعاصر إلى التصوف، هرباً من واقع مادي واجتماعي
وسياسي مأزوم، وبحثاً عن عالم أكثر روحانية وشفافية وصفاءً، تنحسر فيه قوة
المادة أو تذوب. والتصوف عنصر مهم من عناصر التجربة الشعرية المعاصرة،
وذلك لارتباط التجربة الشعرية المعاصرة بالتجربة الصوفية، إذ أن هنالك
علائق وشيجة، بين كلتا التجربتين الإبداعيتين، الصوفية والمعاصرة، حيث
شكلت التجربة المعاصرة مجالاً ملائماً لمواقف الرفض والتضحية، كما فعلت
التجربة الصوفية من قبل، كما أن التجربة الصوفية إنسانية عامة تهدف إلى
تجاوز الأشياء الخارجية، للوصول إلى جوهر الأشياء، أي إلى الحقيقة، وهو
الهدف نفسه الذي تسعى إليه التجربة الشعرية المعاصرة. وقد أكد صلاح عبد
الصبور أن كلتا التجربتين، الصوفية والمعاصرة، تبحثان عن غاية واحدة، وهي
العودة بالكون إلى صفائه وانسجامه(1).
ولعل الشاعر المعاصر قد وجد في محنة الشاعر الصوفي قبله ـ في معاناته
واضطرابه ومكابدته، وبحثه الدائب عن الحقيقة، وتأمله واغترابه ووحدته،
وانتظاره للحظة الإلهام أو الكشف ـ شيئاً من محنته هو، في معاناته
ومكابدته واغترابه وتأمله..، في هذا الواقع. وتتجلى مظاهر التصوف في الشعر
العربي المعاصر في عدة نقاط، أبرزها(2): ((1ـ الحزن العام. 2ـ الإحساس
بالغربة والضياع والنفي والحاجة إلى العكوف على النفس. 3ـ ارتياح الشاعر
لعالم الأرواح. 4ـ اتحاد الصوفي والشهيد والشاعر. 5ـ الحلولية الكونية أو
معانقة الشاعر للكون. 6ـ الظمأ النفسي لمعانقة الذي يأتي ولا يأتي. 7ـ
المزج المحسوس والمتخيّل…)).
ولقد قرأ البياتي منذ يفاعته الشعرية أشعار كبار الصوفية، بحيث شكلت تلك
الأشعار المصدر الأول في تكوينه الثقافي، وقد اعترف البياتي بذلك. إذ
يقول: ((ومن الشعراء الذين قرأتهم باهتمام بالغ: الجامي، وجلال الدين
الرومي، وفريد الدين العطار، والخيّام، وطاغور. لقد عانى هؤلاء محنة
استبطان العالم، ومحاولة الكشف عن حقائقه الكلية، من خلال تجربة التصوف
الممتزجة بالرؤية الشعرية النافذة))(3). وإذن فقد ولج البياتي عالم
التصوف، فتعمق في لغة القوم ومصطلحاتهم، واطلع على كثير من تجاربهم
الشعرية، فتأثر بالفكر الحلولي عند أصحاب وحدة الوجود، كابن عربي،
والحلاج، وغيرهما، وقد انعكس ذلك في قصائد كثيرة له فقد اتكأ على اللغة
الصوفية من خلال استخدام مفردات أو تعابير أو عبارات صوفية، أو من خلال
لغة الإيحاء والإشعاع والرمز، التي تميز بها الصوفية. كما استحضر بعض
الشخصيات الصوفية، معبراً من خلالها عن بعض جوانب تجربته هو.
ولقد أدرك البياتي عمق الصلة التي تربط تجربته الشعرية الخاصة بالتجربة
الصوفية، مما دعاه إلى تمثّل بعض النماذج من تلك التجربة، وتجلّى ذلك من
خلال اقتباس بعض عبارات ابن عربي، والحلاج وغيرهما، يقول البياتي في
قصيدته (عين الشمس أو تحولات محيي الدين بن عربي)(4):
فكل اسم شارد، ووارد أذكره، عنها أكنّي، واسمَها أعني
وكل دار في الضحى أندبها، فدارها أعني
توحد الواحد في الكل
والظل في الظل.
يتحقق التناص في المقطع السابق، من خلال توظيف عبارة محيي الدين بن عربي:
((فكل اسم أذكره، في هذا الجزء، فعنها أكنّي، وكل دار أندبها، فدارها
أعني))(5). ويلحظ المتلقي شدة التقارب والتشابه بين النصين: نص البياتي
الشعري، ونص ابن عربي النثري، ولا عجب في ذلك، فالبياتي في تلك القصيدة،
يتقنّع بقناع ابن عربي، وهو هنا يورد الكلام على لسان ابن عربي نفسه، من
خلال حديثه عن محبوبته (عين الشمس).
ويعمد البياتي في نص شعري آخر له إلى امتصاص بعض أبيات مثنوي جلال الدين
الرومي، التي تتحدث عن الناي وما يرمز إليه من دلالات وإشارات، حيث يثير
هذا الناي، عند الصوفية، مشاعر الحب والعشق، ويزيد من اشتعال نار الحب
ولواعجه، يقول البياتي في قصيدته (مرثية إلى ناظم حكمت)(6):
((اصغ إلى الناي يئن راوياً…))
قال جلال الدينْ
النار في الناي
وفي لواعج المحبِّ والحزينْ
الناي يحكي عن طريق طافحٍ بالدمِ
يحكي مثلما السنين
(شيرينُ)) يا حبيبتي
(شيرينُ))
دار الزمانُ
احترقتْ فراشتي..
تغضَّن الجبين
وانطفأ المصباح، لكني مع السارين
مع المحبين، مع الباكين
أحمل أكفاني.
يستحضر البياتي في المقطع الشعري السابق ثلاثة أبيات لجلال الدين الرومي،
وذلك بعد أن امتصها، وأعاد صياغتها من جديد، يقول جلال الدين(7):
استمع للناي كيف يقص حكايته،
إنه يشكو آلام الفراق.
إن صوت الناي هذا نارٌ لا هواء،
فلا كان من لم تضطرم في قلبه مثل هذه النار.
إن الناي يروي لنا حديث الطريق،
الذي ملأته الدماء،
ويقص علينا قصص عشق المجنون)).
ويلحظ المتلقي أن التجربة الصوفية القديمة قد تحولت عن مسارها الأول، بعد
أن دخلت تجربة البياتي، فقد تغيّرت رموزها ومعانيها، واكتسبت معاني
ودلالات جديدة. تتفق وطبيعة التجربة الخاصة للبياتي. فهذا الناي الذي يحكي
لواعج الحب، والعشق، واضطرام نار الحب في قلب المحبين، والذي يحكي قصص
المئات الذين قضوا في سبيل الحب، هذا الناي يثير في البياتي الحنين، إلى
رمز من رموز الثورة والرفض، هو رفيق دربه في النضال ناظم حكمت، كما إن
الناي هنا ((رمز للروح المحترق، على طريق الكفاح))(. فقد احترقت فراشة
البياتي، مما يعني ذوبان البشارة بالثورة واختفاءها إلى الأبد، لذا فليرحل
البياتي مع الراحلين، حاملاً كفنه وجسده.
ويستدعي البياتي تجربة واحد من أبرز الشخصيات الصوفية المعروفة في تاريخ
التصوف العربي الإسلامي، وهي شخصية الحلاج. ولعل البياتي قد وجد في تلك
الشخصية الثائرة شيئاً من نفسه هو، فكلا الشاعرين الحلاج والبياتي ثائر،
الحلاج ثائر في وجه السلطة التي اتهمته بالزندقة، والبياتي ثائر في وجه
السلطة الجائرة التي طاردته، وأخرجته من وطنه، وكلا الشاعرين عانى آلام
الغربة والنفي والمطاردة، وكلاهما وقف مدافعاً عن حرية الكلمة وقداستها،
ولعل المشهد الآتي، الذي يصوّر أحداث محاكمة الحلاج، والذي يستحضره
البياتي مقتبساً فيه بعض كلام الحلاج نفسه، يؤكد دفاع الحلاج/ البياتي
المستميت، عن المبادئ والقيم، وعن الكلمة التي بدأت تفقد قيمتها في هذا
العصر، يقول البياتي في قصيدته (عذاب الحلاج ـ المحاكمة) على لسان
الحلاج(9):
بُحتُ بكلمتين للسلطانْ
قلت له: جبان
قلت لكلب الصيد كلمتينْ
ونمت ليلتين
حلمتُ فيهما بأني لم أعد لفظين
توحدتْ
تعانقت
وباركتْ أنتَ أنا
تعاستي
ووحشتي.
وواضح أن للبياتي عالمه الصوفي المبتكر لا المتكرر، حيث يستدعي في مقطعه الشعري السابق قول الحلاج(10):
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا * * * * * نحن روحان حللنا بدنا
وقوله(11):
عجبت منكَ ومني * * * * * يا منية المتمني
أدنيتَني منك حتى * * * * * ظننتُ أنك أني
فالبياتي هنا يصوغ أقوال الحلاج صياغة معاصرة، تستفيد من المفردات
الصوفية، دون أن تنسخها نسخاً: توحدت/ تعانقت/ وباركت أنتَ أنا.
ويستلهم البياتي تجربة الصوفي الإشراقي السّهروردي، محاولاً تقديم صور، أو
مشاهد من حياته الحافلة بالمعاناة، معاناة البحث الدائب عن الحقيقة،
وانتظار الكشف الإلهي. ولعل البياتي أراد، من خلال حديثه عن السهروردي،
تقديم مشهد من مشاهد معاناته هو، إذ يسيطر عليه الشعور بالعجز، العجز عن
الخروج من ربقة الجسد، والوصول إلى عالم الكشف الإلهي، حتى يتخطى حدود هذا
العالم الضيق، يقول البياتي في قصيدته (صورة للسهروردي في شبابه)(12):
يا من أوقفني ما بين الجسد المشدود كقوس والمطلقْ
يا من أوقعني في هذا المأزق
حطّم هذا الزورق
بصخور شواطئ يم الليل الأزرق,
وربما قصد البياتي من وراء تلك المناجاة البحث عن الخلاص من هذا العالم،
الذي تُنتهك فيه الحريّات، وتصفّد فيه العقول والأفكار، وتصادر فيه كلمة
الحق. وخير دليل على ذلك: القمعُ، والظلمُ الأبديان، اللذان يمارسان ضد كل
من يحاول التفكير، أو يدعو إليه: أرسطو، وأفلاطون، والمتنبي..، يقول
البياتي في القصيدة السابقة(13):
أوقفني في باب الممنوعات
((منها)) قال: ((الكلمات))
((فتعقلْ في هذا الباب)) وغاب.
ممنوع: أفلاطون
وأرسطو والمتنبي وجلال الدين
في هذا الجحر الملعون.
وتزخر مجموعات البياتي الشعرية بالكثير من المفردات الصوفية، كالخمر،
والساقي، والثمل، والسكر، والغزالة، والخرقة.. التي تغلغلت في أعماق لغته
الشعرية الخاصة، لتشكل معها مزيجاً من تجربته هو، وتجربة أولئك الصوفية،
ولتعبر عن جوانب مختلفة من تجربته الشعرية، ففي قصيدته (عين الشمس) يقول
البياتي/ ابن عربي(14):
كلمني السيد والعاشق والمملوك
والبرق والسحابة
والقطب والمريد
وصاحب الجلالة
أهدى إليّ بعد أن كاشفني غزالَه.
إن الغزالة في الاصطلاح الصوفي كناية عن الوصول إلى الحقيقة، أو الكشف
الإلهي، أو هي: ((صورة من صور تجلي المحبوب))(15). وتتخذ دلالة الغزالة
لدى البياتي، مساراً آخر، إذ يرمز بها إلى المحبوبة الغائبة عائشة/ عشتار،
أو إلى لحظة تحقق الثورة/ الحرية.
وفي قصيدته (رسائل إلى الإمام الشافعي) يمتاح البياتي الكثير من المعاني
والرموز والاصطلاحات الصوفية، ليصور من خلالها معاناته هو في البحث عن
محبوبته، وانتظاره لحظة الإشراق أو التجلي، التي تتحقق فيها آماله، وتظهر
فيها محبوبته عائشة/ الثورة. لكنّ هذا الترقّب لا يؤدي في النهاية إلى
شيء، إذ تتوارى المحبوبة، وتحتجب عنه، مما يعني استمرارية المعاناة،
وتواصل الألم الممزوج باليأس، من قدوم الذي يأتي ولا يأتي، يقول
البياتي(16):
صرخت في منازل مقفرةٍ، دارت بها الرياح
أكلت برتقالة الشمس، وفي دمي توضأتُ، وصلّيت إلى الصحراء
عمودُ نور لاح لي، وواحة خضراء
يرتع في قيعانها سِرب من الظباء
وعندما فوّقت سَهمي كي أصيبَ مقتلاً منها، ومن بقية الأشباح
توارت الواحة والظباء في السراب
وارتفع النور إلى السماء
واكتنفتني ظلمةٌ، وصاح بي صوت من القيعان أتيتَ قبل موعد الوليمة
تنتظر الموت لكي تموت.
وتتبدى فاعلية التناص في المقطع الشعري السابق، من خلال استحضار مصطلح
(النور) من المعجم الصوفي، الذي يعني عند الصوفية: ((كل وارد إلهي يَطردُ
الكون عن القلب))(17)، وبحيث يكون قلب الإنسان في حالة شهود دائم، أو أن
تكون الحقيقة في حالة تجلٍ دائم ونجد مفردات: الواحة الخضراء، الظباء،
مقتل، سهم، أشباح.. وهي كلها مفردات من المعجم الصوفي. ويشير قول
البياتي:
توارت الواحة والظباء في السراب وارتفع النور إلى السماء
واكتنفتني ظلمة وصاح بي صوت من القيعان
أتيت قبل موعد الوليمة.
إلى حالة الحجب التي تعني عند الصوفية: ((كل ما ستر المطلوب عن
العين))(18)، أو: ((انطباع الصور الكونية في القلب، المانعةِ لقبول تجلي
الحقائق))(19). فالبياتي قد حُكم عليه بألا يرى محبوبته نهائياً، ولذا بات
ينتظر الموت المحقق.
وتغصّ قصيدة البياتي (مقاطع من عذابات فريد الدين العطار) بالمصطلحات
والمفردات الصوفية، التي تعبّر عن حالة الاتحاد بالمطلق، التي يصل إليها
الصوفي بعد المجاهدة والمكابدة، يقول البياتي(20):
بادرني بالسكر وقال: أنا الخمر وأنت الساقي،
فلتصبح ياأنتَ أنا محبوبي،
يرهن خرقته للخمر،
ويبكي مجنوناًبالعشق،
عراه غبارٌ،
قلبي من فرط الأسفار إليك ومنك،
فناولني الخمر،
ووسَّدني تحت الكرمة مجنوناً ولتبحثَ عن
ياقوت فمي،
تحت الأفلاك السبعة،
ولتُشعِل بالقبلات الظمأى،
في لحم الأرض حريقاً.
مرآة لي كنتَ فصرتُ أنا
المرآة،
أعرِّيك أمامي وأرى عُريي.
أبحث في سكري عنك وفي صحوي،
ما دامت أقداح الساقي تتحدث دون لسانْ.
وواضح أن المقطع الشعري السابق يعبر عن تجربة صوفية خالصة، إذ تزدحم فيها
المفردات الصوفية: السكر، الخمر، الساقي، الخرقة، العشق، فرط، تشعل،
الصحو، أقداح.. ويمثل المقطع السابق مقدمة، يحاول البياتي من خلالها إعطاء
صورة لحالات القلق، والوجد، والهيام التي مرَّ بها فريد الدين العطار ومن
بعده البياتي، غير أن ما يريد البياتي أن يعبر عنه، من خلال استحضار تجربة
العطار الصوفية، يكمن في المقاطع التي تلي ذلك المقطع، يقول البياتي في
القصيدة السابقة(21):
أقول: سيأتي عصر أو زمن يصبح فيه الإنسان
سديماً لأخيه الإنسانْ
أقول: سيأتي لكن الريح
وراء الأبواب تراقص أجساد الأشجار العارية الصفراء
وتلقي بمصابيح الشعراء
في قاع الآبار.
البياتي يطمح، بل ينشد عالماً آخر مغايراً تماماً لهذا العالم الفاسد، هو
يريد عالماً يصبح فيه الإنسان سديماً لأخيه الإنسان، عالماً يشعر فيه
الإنسان بذاته، بإنسانيته. ويلحظ المتلقي أن البياتي سرعان ما ينكفئ، لأنه
يدرك أن حلمه بذلك العالم لا يلبث أن يذهب أدراج الرياح، وسرعان ما تذوب
أحلامه الذهبية. لكنّ البياتي، الذي ظل يناضل في سبيل حرية الإنسان
وكرامته، لا يفقد الأمل، بعد كل هذا اليأس، ويبقى مصراً على متابعة الطرق
الذي بدأ، حتى تتحقق آماله في انتصارالإنسان، يقول البياتي في قصيدته
السابقة(22):
لن أهزم حتى آخرِ بيت أكتبه،
فلنشرب في قبة هذا الليل الزرقاء
حتى يدركنا الليل الأبدي ونغفو في بطن الغبراء.
ويحاول البياتي إخضاع تجربة جلال الدين الرومي الصوفية لتجربته هو، إذ
تغدو عائشة البياتي/ رمز الحب الأبدي عنده محبوبةَ جلال الدين الأثيرة،
التي تأخذ عليه لبه وعقله، وتجعله في حالة من الوجد، والعشق، يغيب بسببها
عن الوجود، مما يثير شفقة عائشة عليه، فتطلب له الخلاص من هذا الحب،يقول
البياتي في قصيدته (قراءة في ديوان شمس تبريز)(23):
قالت عائشة للناي الباكي:
مَنْ يقتل هذا الشاعر أو يعتقه
من نار الحب الأبدية.
هاهو ذا أوغل في السكروأصبح بي مجنوناً،
وأنا أصبحت به… أيضاً.
وكلانا مجنون سكرانْ
يبحث عن وجه الآخر في الحان.
ويلحظ المتلقي غلبة المفردات الصوفية: الناي، نار، الحب، السكر، مجنون،ألحان.
ولعل ما ذهبنا إليه من أن حالة الكشف عند الصوفي/ البياتي مرتبطة بتجلي
المحبوب/ عائشة/ عشتار، يظهر أكثر ما يظهر في قصيدته (قصائد حب إلى
عشتار)، حيث تتجلى عشتار على البياتي مَلاكاً، يحمل تباشير الخير والخصب
والوصال (في الاصطلاح الصوفي)، ويركن الصوفي/ البياتي إلى السكينة
والطمأنينة، بعد حالة الكشف تلك، فيذوق خمرة المحبوب، وتتحقق له رؤية
الذات العلية في اليقظة والمنام، ويصل إلى حالة الشهود الحقّة، وذلك كله
كان لن يتحقق ما لم تظهر عشتار، بعد طول غياب، يقول البياتي في تلك
القصيدة(24):
من تُرى ذاق،
فجاعت روحه حلوَ النبيذ
وروابي القارة الخضراء
والمطاطَ والعاجَ
طعمَ الزنجبيل
وعبيرَ الورد في نار الأصيل
ورأى الله بعينه،
ولم يملك على الرؤيا دليل
فأنا في النوم واليقظة من هذا وذاك
ذقت لمّا هبطت عشتار في الأرض ملاك.
ولعلنا من كل ما سبق نستنتج ما يلي:
أ- استحضار شخصيات صوفية من خلال الحديث عنها، أو التحدث إليها، أو عن طريق القناع.
ب- استحضار نصوص صوفية نثرية أو شعرية، سواء عن طريق الاقتباس أم الامتصاص.
لقد استطاع البياتي أن يستوعب ملامح التجربة الصوفية ودلالتها، وأن يستخلص
السمات الدالة والفاعلة في هذه التجربة، وأن يتمثلها جيداً في شعره،
محملاً إياها بعض جوانب تجربته الشعرية الخاصة، كما كان تصوف البياتي
انعكاساً لاستمرارية الغربة والنفي، وانكفاءً إلى الذات، التي طالما
انتظرت الخلاص من هذا الواقع، وبحثت عن عالم الضياء، الذي تتحقق فيه كرامة
الإنسان وحريته، وتسود فيه العدالة. وقد استطاع البياتي من خلال قصائده
الصوفية المكتنزة بالدلالات الروحية أن يتحرر من ربقة الجسد، ليصل إلى
عالم المطلق، وأن يتجاوز المرئي إلى اللامرئي، وأن يتحرر من قيد الذات،
ليصِلَ همَّه بهموم الآخرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي :
(1) عبد الصبور، صلاح (حياتي في الشعر) دار العودة، بيروت، ط1، 1969، ص119.
(2) يردّ إحسان عباس تلك المظاهر، إلى اثنتي عشرة، وقد حاولنا ذكر أبرزها.
ينظر: عباس. إحسان (اتجاهات الشعر العربي المعاصر) دار الشروق، عمّان، ط2،
1992، ص 159 ـ 160.
(3) البياتي، (تجربتي الشعرية) ص19.
(4) الديوان 2/ 238.
(5) ابن عربي. محيي الدين (ترجمان الأشواق) دار صادر، بيروت، ط1، 1966، ص 9 المقدمة.
(6) الديوان 1/ 485.
(7) الرومي. جلال الدين (المثنوي) ترجمة وشرح ودراسة: محمد عبد السلام
كفافي، المكتبة العصرية، صيدا ـ بيروت. ط1، 1، 1966/ 73 ـ 74.
( إسماعيل. عز الدين (الشعر العربي المعاصر) ص 221.
(9) الديوان 2/ 15.
(10) الحلاج. الحسين بن منصور (الديوان) صنعه وأصلحه أبو طريف الشيبي.
كامل بن مصطفى بن محمد حسين الكاظمي المكي العبدري، منشورات الجمل،
ألمانيا، ط1، 1997، ص 62.
(11) المصدر السابق، ص63.
(12) الديوان 2/ 427.
(13) الديوان 2/ 239.
(14) الديوان 2/ 239.
(15) صبحي. محيي الدين (الرؤيا في شعر البياتي) ص 370.
(16) الديوان 2/ 254.
(17) ابن عربي. محيي الدين (اصطلاح الصوفية) ضمن كتاب (رسائل ابن عربي)،
دار إحياء التراث العربي، بيروت (نسخة مصورة عن نسخة حيدر أباد الدكن
1948) د. تا ص 14.
(18) المصدر السابق، ص 13.
(19) الكاشاني، عبد الرزاق (معجم اصطلاحات الصوفية) تحقيق وتقديم وتعليق: عبد العال شاهين، دار المنار، القاهرة، ط1، 1992، ص 81.
(20) الديوان 2/ 413.
(21) الديوان 2/ 414.
(22) الديوان 2/ 415.
(23) الديوان 2/ 451.
(24) الديوان 2/ 208.
المصادر والمراجع:-
ـ إسماعيل. عز الدين (الشعر العربي المعاصر) دار الثقافة، بيروت، بلا تاريخ.
ـ البياتي. عبد الوهاب (تجربتي الشعرية) منشورات نزار قباني، بيروت، 1968.
ـ الحلاج. الحسين بن منصور (الديوان) تح. أبو طريف الشيبي كامل بن مصطفى
الكاظمي العبدري، منشورات الجمل، ألمانية، 1997. ـ الرومي. جلال الدين
(المثنوي) ترجمة وشرح ودراسة: محمد عبد السلام كفافي، المكتبة العصرية،
صيدا، بيروت، 1966.
ـ صبحي. محيي الدين (الرؤيا في شعر البياتي) اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1986.
ـ عباس. إحسان (اتجاهات الشعر العربي المعاصر) دار الشروق، عمّان، ط. ثانية، 1992.
ـ عبد الصبور. صلاح (حياتي في الشعر) دار العودة، بيروت، 1969.
ـ ابن عربي. محيي الدين (ترجمان الأشواق) دار صادر، بيروت، 1966.
-(الرسائل) دار إحياء التراث العربي، بيروت نسخة مصورة عن طبعة حيدر آباد الدكن 1948).
ـ الكاشاني. عبد الرزاق (معجم اصطلاحات الصوفية) تحقيق وتقديم وتعليق: عبد العال شاهين، دار المنار، القاهرة، 1992.
1ـ ينحصر التصوف الذي يتمثّله البياتي في قصائده، بالتصوف الإسلامي، ولا وجود للتصوف البوذي أو المسيحي أو غيرهما لديه.
2ـ يتخذ البياتي في استحضاره للشعر الصوفي أو الشخصيات الصوفية إحدى طريقتين:
3ـ لعل أكثر المواضيع ظهوراً من خلال استحضار البياتي للشخصيات الصوفية أو
مأثوراتها، موضوعا المعاناة والألم، الناشئان عن حالة الترقب وانتظار الذي
يأتي ولا يأتي، والبياتي ذو النزعة الماركسية لا يترقب الكشف بالمعنى
الصوفي لـه، وإنما يترقب عشتار/ ا لثورة/ الخصب.
أحمد طعمة حلبي
توجه الشعر العربي المعاصر إلى التصوف، هرباً من واقع مادي واجتماعي
وسياسي مأزوم، وبحثاً عن عالم أكثر روحانية وشفافية وصفاءً، تنحسر فيه قوة
المادة أو تذوب. والتصوف عنصر مهم من عناصر التجربة الشعرية المعاصرة،
وذلك لارتباط التجربة الشعرية المعاصرة بالتجربة الصوفية، إذ أن هنالك
علائق وشيجة، بين كلتا التجربتين الإبداعيتين، الصوفية والمعاصرة، حيث
شكلت التجربة المعاصرة مجالاً ملائماً لمواقف الرفض والتضحية، كما فعلت
التجربة الصوفية من قبل، كما أن التجربة الصوفية إنسانية عامة تهدف إلى
تجاوز الأشياء الخارجية، للوصول إلى جوهر الأشياء، أي إلى الحقيقة، وهو
الهدف نفسه الذي تسعى إليه التجربة الشعرية المعاصرة. وقد أكد صلاح عبد
الصبور أن كلتا التجربتين، الصوفية والمعاصرة، تبحثان عن غاية واحدة، وهي
العودة بالكون إلى صفائه وانسجامه(1).
ولعل الشاعر المعاصر قد وجد في محنة الشاعر الصوفي قبله ـ في معاناته
واضطرابه ومكابدته، وبحثه الدائب عن الحقيقة، وتأمله واغترابه ووحدته،
وانتظاره للحظة الإلهام أو الكشف ـ شيئاً من محنته هو، في معاناته
ومكابدته واغترابه وتأمله..، في هذا الواقع. وتتجلى مظاهر التصوف في الشعر
العربي المعاصر في عدة نقاط، أبرزها(2): ((1ـ الحزن العام. 2ـ الإحساس
بالغربة والضياع والنفي والحاجة إلى العكوف على النفس. 3ـ ارتياح الشاعر
لعالم الأرواح. 4ـ اتحاد الصوفي والشهيد والشاعر. 5ـ الحلولية الكونية أو
معانقة الشاعر للكون. 6ـ الظمأ النفسي لمعانقة الذي يأتي ولا يأتي. 7ـ
المزج المحسوس والمتخيّل…)).
ولقد قرأ البياتي منذ يفاعته الشعرية أشعار كبار الصوفية، بحيث شكلت تلك
الأشعار المصدر الأول في تكوينه الثقافي، وقد اعترف البياتي بذلك. إذ
يقول: ((ومن الشعراء الذين قرأتهم باهتمام بالغ: الجامي، وجلال الدين
الرومي، وفريد الدين العطار، والخيّام، وطاغور. لقد عانى هؤلاء محنة
استبطان العالم، ومحاولة الكشف عن حقائقه الكلية، من خلال تجربة التصوف
الممتزجة بالرؤية الشعرية النافذة))(3). وإذن فقد ولج البياتي عالم
التصوف، فتعمق في لغة القوم ومصطلحاتهم، واطلع على كثير من تجاربهم
الشعرية، فتأثر بالفكر الحلولي عند أصحاب وحدة الوجود، كابن عربي،
والحلاج، وغيرهما، وقد انعكس ذلك في قصائد كثيرة له فقد اتكأ على اللغة
الصوفية من خلال استخدام مفردات أو تعابير أو عبارات صوفية، أو من خلال
لغة الإيحاء والإشعاع والرمز، التي تميز بها الصوفية. كما استحضر بعض
الشخصيات الصوفية، معبراً من خلالها عن بعض جوانب تجربته هو.
ولقد أدرك البياتي عمق الصلة التي تربط تجربته الشعرية الخاصة بالتجربة
الصوفية، مما دعاه إلى تمثّل بعض النماذج من تلك التجربة، وتجلّى ذلك من
خلال اقتباس بعض عبارات ابن عربي، والحلاج وغيرهما، يقول البياتي في
قصيدته (عين الشمس أو تحولات محيي الدين بن عربي)(4):
فكل اسم شارد، ووارد أذكره، عنها أكنّي، واسمَها أعني
وكل دار في الضحى أندبها، فدارها أعني
توحد الواحد في الكل
والظل في الظل.
يتحقق التناص في المقطع السابق، من خلال توظيف عبارة محيي الدين بن عربي:
((فكل اسم أذكره، في هذا الجزء، فعنها أكنّي، وكل دار أندبها، فدارها
أعني))(5). ويلحظ المتلقي شدة التقارب والتشابه بين النصين: نص البياتي
الشعري، ونص ابن عربي النثري، ولا عجب في ذلك، فالبياتي في تلك القصيدة،
يتقنّع بقناع ابن عربي، وهو هنا يورد الكلام على لسان ابن عربي نفسه، من
خلال حديثه عن محبوبته (عين الشمس).
ويعمد البياتي في نص شعري آخر له إلى امتصاص بعض أبيات مثنوي جلال الدين
الرومي، التي تتحدث عن الناي وما يرمز إليه من دلالات وإشارات، حيث يثير
هذا الناي، عند الصوفية، مشاعر الحب والعشق، ويزيد من اشتعال نار الحب
ولواعجه، يقول البياتي في قصيدته (مرثية إلى ناظم حكمت)(6):
((اصغ إلى الناي يئن راوياً…))
قال جلال الدينْ
النار في الناي
وفي لواعج المحبِّ والحزينْ
الناي يحكي عن طريق طافحٍ بالدمِ
يحكي مثلما السنين
(شيرينُ)) يا حبيبتي
(شيرينُ))
دار الزمانُ
احترقتْ فراشتي..
تغضَّن الجبين
وانطفأ المصباح، لكني مع السارين
مع المحبين، مع الباكين
أحمل أكفاني.
يستحضر البياتي في المقطع الشعري السابق ثلاثة أبيات لجلال الدين الرومي،
وذلك بعد أن امتصها، وأعاد صياغتها من جديد، يقول جلال الدين(7):
استمع للناي كيف يقص حكايته،
إنه يشكو آلام الفراق.
إن صوت الناي هذا نارٌ لا هواء،
فلا كان من لم تضطرم في قلبه مثل هذه النار.
إن الناي يروي لنا حديث الطريق،
الذي ملأته الدماء،
ويقص علينا قصص عشق المجنون)).
ويلحظ المتلقي أن التجربة الصوفية القديمة قد تحولت عن مسارها الأول، بعد
أن دخلت تجربة البياتي، فقد تغيّرت رموزها ومعانيها، واكتسبت معاني
ودلالات جديدة. تتفق وطبيعة التجربة الخاصة للبياتي. فهذا الناي الذي يحكي
لواعج الحب، والعشق، واضطرام نار الحب في قلب المحبين، والذي يحكي قصص
المئات الذين قضوا في سبيل الحب، هذا الناي يثير في البياتي الحنين، إلى
رمز من رموز الثورة والرفض، هو رفيق دربه في النضال ناظم حكمت، كما إن
الناي هنا ((رمز للروح المحترق، على طريق الكفاح))(. فقد احترقت فراشة
البياتي، مما يعني ذوبان البشارة بالثورة واختفاءها إلى الأبد، لذا فليرحل
البياتي مع الراحلين، حاملاً كفنه وجسده.
ويستدعي البياتي تجربة واحد من أبرز الشخصيات الصوفية المعروفة في تاريخ
التصوف العربي الإسلامي، وهي شخصية الحلاج. ولعل البياتي قد وجد في تلك
الشخصية الثائرة شيئاً من نفسه هو، فكلا الشاعرين الحلاج والبياتي ثائر،
الحلاج ثائر في وجه السلطة التي اتهمته بالزندقة، والبياتي ثائر في وجه
السلطة الجائرة التي طاردته، وأخرجته من وطنه، وكلا الشاعرين عانى آلام
الغربة والنفي والمطاردة، وكلاهما وقف مدافعاً عن حرية الكلمة وقداستها،
ولعل المشهد الآتي، الذي يصوّر أحداث محاكمة الحلاج، والذي يستحضره
البياتي مقتبساً فيه بعض كلام الحلاج نفسه، يؤكد دفاع الحلاج/ البياتي
المستميت، عن المبادئ والقيم، وعن الكلمة التي بدأت تفقد قيمتها في هذا
العصر، يقول البياتي في قصيدته (عذاب الحلاج ـ المحاكمة) على لسان
الحلاج(9):
بُحتُ بكلمتين للسلطانْ
قلت له: جبان
قلت لكلب الصيد كلمتينْ
ونمت ليلتين
حلمتُ فيهما بأني لم أعد لفظين
توحدتْ
تعانقت
وباركتْ أنتَ أنا
تعاستي
ووحشتي.
وواضح أن للبياتي عالمه الصوفي المبتكر لا المتكرر، حيث يستدعي في مقطعه الشعري السابق قول الحلاج(10):
أنا من أهوى، ومن أهوى أنا * * * * * نحن روحان حللنا بدنا
وقوله(11):
عجبت منكَ ومني * * * * * يا منية المتمني
أدنيتَني منك حتى * * * * * ظننتُ أنك أني
فالبياتي هنا يصوغ أقوال الحلاج صياغة معاصرة، تستفيد من المفردات
الصوفية، دون أن تنسخها نسخاً: توحدت/ تعانقت/ وباركت أنتَ أنا.
ويستلهم البياتي تجربة الصوفي الإشراقي السّهروردي، محاولاً تقديم صور، أو
مشاهد من حياته الحافلة بالمعاناة، معاناة البحث الدائب عن الحقيقة،
وانتظار الكشف الإلهي. ولعل البياتي أراد، من خلال حديثه عن السهروردي،
تقديم مشهد من مشاهد معاناته هو، إذ يسيطر عليه الشعور بالعجز، العجز عن
الخروج من ربقة الجسد، والوصول إلى عالم الكشف الإلهي، حتى يتخطى حدود هذا
العالم الضيق، يقول البياتي في قصيدته (صورة للسهروردي في شبابه)(12):
يا من أوقفني ما بين الجسد المشدود كقوس والمطلقْ
يا من أوقعني في هذا المأزق
حطّم هذا الزورق
بصخور شواطئ يم الليل الأزرق,
وربما قصد البياتي من وراء تلك المناجاة البحث عن الخلاص من هذا العالم،
الذي تُنتهك فيه الحريّات، وتصفّد فيه العقول والأفكار، وتصادر فيه كلمة
الحق. وخير دليل على ذلك: القمعُ، والظلمُ الأبديان، اللذان يمارسان ضد كل
من يحاول التفكير، أو يدعو إليه: أرسطو، وأفلاطون، والمتنبي..، يقول
البياتي في القصيدة السابقة(13):
أوقفني في باب الممنوعات
((منها)) قال: ((الكلمات))
((فتعقلْ في هذا الباب)) وغاب.
ممنوع: أفلاطون
وأرسطو والمتنبي وجلال الدين
في هذا الجحر الملعون.
وتزخر مجموعات البياتي الشعرية بالكثير من المفردات الصوفية، كالخمر،
والساقي، والثمل، والسكر، والغزالة، والخرقة.. التي تغلغلت في أعماق لغته
الشعرية الخاصة، لتشكل معها مزيجاً من تجربته هو، وتجربة أولئك الصوفية،
ولتعبر عن جوانب مختلفة من تجربته الشعرية، ففي قصيدته (عين الشمس) يقول
البياتي/ ابن عربي(14):
كلمني السيد والعاشق والمملوك
والبرق والسحابة
والقطب والمريد
وصاحب الجلالة
أهدى إليّ بعد أن كاشفني غزالَه.
إن الغزالة في الاصطلاح الصوفي كناية عن الوصول إلى الحقيقة، أو الكشف
الإلهي، أو هي: ((صورة من صور تجلي المحبوب))(15). وتتخذ دلالة الغزالة
لدى البياتي، مساراً آخر، إذ يرمز بها إلى المحبوبة الغائبة عائشة/ عشتار،
أو إلى لحظة تحقق الثورة/ الحرية.
وفي قصيدته (رسائل إلى الإمام الشافعي) يمتاح البياتي الكثير من المعاني
والرموز والاصطلاحات الصوفية، ليصور من خلالها معاناته هو في البحث عن
محبوبته، وانتظاره لحظة الإشراق أو التجلي، التي تتحقق فيها آماله، وتظهر
فيها محبوبته عائشة/ الثورة. لكنّ هذا الترقّب لا يؤدي في النهاية إلى
شيء، إذ تتوارى المحبوبة، وتحتجب عنه، مما يعني استمرارية المعاناة،
وتواصل الألم الممزوج باليأس، من قدوم الذي يأتي ولا يأتي، يقول
البياتي(16):
صرخت في منازل مقفرةٍ، دارت بها الرياح
أكلت برتقالة الشمس، وفي دمي توضأتُ، وصلّيت إلى الصحراء
عمودُ نور لاح لي، وواحة خضراء
يرتع في قيعانها سِرب من الظباء
وعندما فوّقت سَهمي كي أصيبَ مقتلاً منها، ومن بقية الأشباح
توارت الواحة والظباء في السراب
وارتفع النور إلى السماء
واكتنفتني ظلمةٌ، وصاح بي صوت من القيعان أتيتَ قبل موعد الوليمة
تنتظر الموت لكي تموت.
وتتبدى فاعلية التناص في المقطع الشعري السابق، من خلال استحضار مصطلح
(النور) من المعجم الصوفي، الذي يعني عند الصوفية: ((كل وارد إلهي يَطردُ
الكون عن القلب))(17)، وبحيث يكون قلب الإنسان في حالة شهود دائم، أو أن
تكون الحقيقة في حالة تجلٍ دائم ونجد مفردات: الواحة الخضراء، الظباء،
مقتل، سهم، أشباح.. وهي كلها مفردات من المعجم الصوفي. ويشير قول
البياتي:
توارت الواحة والظباء في السراب وارتفع النور إلى السماء
واكتنفتني ظلمة وصاح بي صوت من القيعان
أتيت قبل موعد الوليمة.
إلى حالة الحجب التي تعني عند الصوفية: ((كل ما ستر المطلوب عن
العين))(18)، أو: ((انطباع الصور الكونية في القلب، المانعةِ لقبول تجلي
الحقائق))(19). فالبياتي قد حُكم عليه بألا يرى محبوبته نهائياً، ولذا بات
ينتظر الموت المحقق.
وتغصّ قصيدة البياتي (مقاطع من عذابات فريد الدين العطار) بالمصطلحات
والمفردات الصوفية، التي تعبّر عن حالة الاتحاد بالمطلق، التي يصل إليها
الصوفي بعد المجاهدة والمكابدة، يقول البياتي(20):
بادرني بالسكر وقال: أنا الخمر وأنت الساقي،
فلتصبح ياأنتَ أنا محبوبي،
يرهن خرقته للخمر،
ويبكي مجنوناًبالعشق،
عراه غبارٌ،
قلبي من فرط الأسفار إليك ومنك،
فناولني الخمر،
ووسَّدني تحت الكرمة مجنوناً ولتبحثَ عن
ياقوت فمي،
تحت الأفلاك السبعة،
ولتُشعِل بالقبلات الظمأى،
في لحم الأرض حريقاً.
مرآة لي كنتَ فصرتُ أنا
المرآة،
أعرِّيك أمامي وأرى عُريي.
أبحث في سكري عنك وفي صحوي،
ما دامت أقداح الساقي تتحدث دون لسانْ.
وواضح أن المقطع الشعري السابق يعبر عن تجربة صوفية خالصة، إذ تزدحم فيها
المفردات الصوفية: السكر، الخمر، الساقي، الخرقة، العشق، فرط، تشعل،
الصحو، أقداح.. ويمثل المقطع السابق مقدمة، يحاول البياتي من خلالها إعطاء
صورة لحالات القلق، والوجد، والهيام التي مرَّ بها فريد الدين العطار ومن
بعده البياتي، غير أن ما يريد البياتي أن يعبر عنه، من خلال استحضار تجربة
العطار الصوفية، يكمن في المقاطع التي تلي ذلك المقطع، يقول البياتي في
القصيدة السابقة(21):
أقول: سيأتي عصر أو زمن يصبح فيه الإنسان
سديماً لأخيه الإنسانْ
أقول: سيأتي لكن الريح
وراء الأبواب تراقص أجساد الأشجار العارية الصفراء
وتلقي بمصابيح الشعراء
في قاع الآبار.
البياتي يطمح، بل ينشد عالماً آخر مغايراً تماماً لهذا العالم الفاسد، هو
يريد عالماً يصبح فيه الإنسان سديماً لأخيه الإنسان، عالماً يشعر فيه
الإنسان بذاته، بإنسانيته. ويلحظ المتلقي أن البياتي سرعان ما ينكفئ، لأنه
يدرك أن حلمه بذلك العالم لا يلبث أن يذهب أدراج الرياح، وسرعان ما تذوب
أحلامه الذهبية. لكنّ البياتي، الذي ظل يناضل في سبيل حرية الإنسان
وكرامته، لا يفقد الأمل، بعد كل هذا اليأس، ويبقى مصراً على متابعة الطرق
الذي بدأ، حتى تتحقق آماله في انتصارالإنسان، يقول البياتي في قصيدته
السابقة(22):
لن أهزم حتى آخرِ بيت أكتبه،
فلنشرب في قبة هذا الليل الزرقاء
حتى يدركنا الليل الأبدي ونغفو في بطن الغبراء.
ويحاول البياتي إخضاع تجربة جلال الدين الرومي الصوفية لتجربته هو، إذ
تغدو عائشة البياتي/ رمز الحب الأبدي عنده محبوبةَ جلال الدين الأثيرة،
التي تأخذ عليه لبه وعقله، وتجعله في حالة من الوجد، والعشق، يغيب بسببها
عن الوجود، مما يثير شفقة عائشة عليه، فتطلب له الخلاص من هذا الحب،يقول
البياتي في قصيدته (قراءة في ديوان شمس تبريز)(23):
قالت عائشة للناي الباكي:
مَنْ يقتل هذا الشاعر أو يعتقه
من نار الحب الأبدية.
هاهو ذا أوغل في السكروأصبح بي مجنوناً،
وأنا أصبحت به… أيضاً.
وكلانا مجنون سكرانْ
يبحث عن وجه الآخر في الحان.
ويلحظ المتلقي غلبة المفردات الصوفية: الناي، نار، الحب، السكر، مجنون،ألحان.
ولعل ما ذهبنا إليه من أن حالة الكشف عند الصوفي/ البياتي مرتبطة بتجلي
المحبوب/ عائشة/ عشتار، يظهر أكثر ما يظهر في قصيدته (قصائد حب إلى
عشتار)، حيث تتجلى عشتار على البياتي مَلاكاً، يحمل تباشير الخير والخصب
والوصال (في الاصطلاح الصوفي)، ويركن الصوفي/ البياتي إلى السكينة
والطمأنينة، بعد حالة الكشف تلك، فيذوق خمرة المحبوب، وتتحقق له رؤية
الذات العلية في اليقظة والمنام، ويصل إلى حالة الشهود الحقّة، وذلك كله
كان لن يتحقق ما لم تظهر عشتار، بعد طول غياب، يقول البياتي في تلك
القصيدة(24):
من تُرى ذاق،
فجاعت روحه حلوَ النبيذ
وروابي القارة الخضراء
والمطاطَ والعاجَ
طعمَ الزنجبيل
وعبيرَ الورد في نار الأصيل
ورأى الله بعينه،
ولم يملك على الرؤيا دليل
فأنا في النوم واليقظة من هذا وذاك
ذقت لمّا هبطت عشتار في الأرض ملاك.
ولعلنا من كل ما سبق نستنتج ما يلي:
أ- استحضار شخصيات صوفية من خلال الحديث عنها، أو التحدث إليها، أو عن طريق القناع.
ب- استحضار نصوص صوفية نثرية أو شعرية، سواء عن طريق الاقتباس أم الامتصاص.
لقد استطاع البياتي أن يستوعب ملامح التجربة الصوفية ودلالتها، وأن يستخلص
السمات الدالة والفاعلة في هذه التجربة، وأن يتمثلها جيداً في شعره،
محملاً إياها بعض جوانب تجربته الشعرية الخاصة، كما كان تصوف البياتي
انعكاساً لاستمرارية الغربة والنفي، وانكفاءً إلى الذات، التي طالما
انتظرت الخلاص من هذا الواقع، وبحثت عن عالم الضياء، الذي تتحقق فيه كرامة
الإنسان وحريته، وتسود فيه العدالة. وقد استطاع البياتي من خلال قصائده
الصوفية المكتنزة بالدلالات الروحية أن يتحرر من ربقة الجسد، ليصل إلى
عالم المطلق، وأن يتجاوز المرئي إلى اللامرئي، وأن يتحرر من قيد الذات،
ليصِلَ همَّه بهموم الآخرين.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الحواشي :
(1) عبد الصبور، صلاح (حياتي في الشعر) دار العودة، بيروت، ط1، 1969، ص119.
(2) يردّ إحسان عباس تلك المظاهر، إلى اثنتي عشرة، وقد حاولنا ذكر أبرزها.
ينظر: عباس. إحسان (اتجاهات الشعر العربي المعاصر) دار الشروق، عمّان، ط2،
1992، ص 159 ـ 160.
(3) البياتي، (تجربتي الشعرية) ص19.
(4) الديوان 2/ 238.
(5) ابن عربي. محيي الدين (ترجمان الأشواق) دار صادر، بيروت، ط1، 1966، ص 9 المقدمة.
(6) الديوان 1/ 485.
(7) الرومي. جلال الدين (المثنوي) ترجمة وشرح ودراسة: محمد عبد السلام
كفافي، المكتبة العصرية، صيدا ـ بيروت. ط1، 1، 1966/ 73 ـ 74.
( إسماعيل. عز الدين (الشعر العربي المعاصر) ص 221.
(9) الديوان 2/ 15.
(10) الحلاج. الحسين بن منصور (الديوان) صنعه وأصلحه أبو طريف الشيبي.
كامل بن مصطفى بن محمد حسين الكاظمي المكي العبدري، منشورات الجمل،
ألمانيا، ط1، 1997، ص 62.
(11) المصدر السابق، ص63.
(12) الديوان 2/ 427.
(13) الديوان 2/ 239.
(14) الديوان 2/ 239.
(15) صبحي. محيي الدين (الرؤيا في شعر البياتي) ص 370.
(16) الديوان 2/ 254.
(17) ابن عربي. محيي الدين (اصطلاح الصوفية) ضمن كتاب (رسائل ابن عربي)،
دار إحياء التراث العربي، بيروت (نسخة مصورة عن نسخة حيدر أباد الدكن
1948) د. تا ص 14.
(18) المصدر السابق، ص 13.
(19) الكاشاني، عبد الرزاق (معجم اصطلاحات الصوفية) تحقيق وتقديم وتعليق: عبد العال شاهين، دار المنار، القاهرة، ط1، 1992، ص 81.
(20) الديوان 2/ 413.
(21) الديوان 2/ 414.
(22) الديوان 2/ 415.
(23) الديوان 2/ 451.
(24) الديوان 2/ 208.
المصادر والمراجع:-
ـ إسماعيل. عز الدين (الشعر العربي المعاصر) دار الثقافة، بيروت، بلا تاريخ.
ـ البياتي. عبد الوهاب (تجربتي الشعرية) منشورات نزار قباني، بيروت، 1968.
ـ الحلاج. الحسين بن منصور (الديوان) تح. أبو طريف الشيبي كامل بن مصطفى
الكاظمي العبدري، منشورات الجمل، ألمانية، 1997. ـ الرومي. جلال الدين
(المثنوي) ترجمة وشرح ودراسة: محمد عبد السلام كفافي، المكتبة العصرية،
صيدا، بيروت، 1966.
ـ صبحي. محيي الدين (الرؤيا في شعر البياتي) اتحاد الكتاب العرب، دمشق، 1986.
ـ عباس. إحسان (اتجاهات الشعر العربي المعاصر) دار الشروق، عمّان، ط. ثانية، 1992.
ـ عبد الصبور. صلاح (حياتي في الشعر) دار العودة، بيروت، 1969.
ـ ابن عربي. محيي الدين (ترجمان الأشواق) دار صادر، بيروت، 1966.
-(الرسائل) دار إحياء التراث العربي، بيروت نسخة مصورة عن طبعة حيدر آباد الدكن 1948).
ـ الكاشاني. عبد الرزاق (معجم اصطلاحات الصوفية) تحقيق وتقديم وتعليق: عبد العال شاهين، دار المنار، القاهرة، 1992.
- الكود:
1ـ ينحصر التصوف الذي يتمثّله البياتي في قصائده، بالتصوف الإسلامي، ولا وجود للتصوف البوذي أو المسيحي أو غيرهما لديه.
2ـ يتخذ البياتي في استحضاره للشعر الصوفي أو الشخصيات الصوفية إحدى طريقتين:
3ـ لعل أكثر المواضيع ظهوراً من خلال استحضار البياتي للشخصيات الصوفية أو
مأثوراتها، موضوعا المعاناة والألم، الناشئان عن حالة الترقب وانتظار الذي
يأتي ولا يأتي، والبياتي ذو النزعة الماركسية لا يترقب الكشف بالمعنى
الصوفي لـه، وإنما يترقب عشتار/ ا لثورة/ الخصب.