ففي قصيدته (النبوءة) يقول البياتي(11):
تأكل الحرة ثدييها إذا جاعت، وفي أرض الملوك الفقراء
زهرة الدفلى على جدول ماء
تتعرى في حياء.
والبياتي
في المقطع الشعري السابق، يقتبس مثلاً معروفاً: ((تجوع الحرة، ولا تأكل
بثدييها))(12). بعد أن يحور صياغته اللغوية بما يتلاءم والمغزى الذي يريد
أن يثبته، فعلى مستوى البنية اللغوية، نجد أن التركيب النحوي للمثل قد حصل
فيه تقديم وتأخير، وحذف وإضافة. فقد حذف البياتي من المثل كلاً من (ولا)،
و(الباء) في كلمة بثدييها. كما أضاف البياتي الأداة (إذا)، وتغيرت صيغة
الفعل (تجوع) إلى الماضي (جاعت). أما على مستوى الدلالة فقد حاول البياتي
أن يعمق الدلالة القديمة للمثل، فقام بتوليد دلالة جديدة أشد قوة وعمقاً،
فإذا كانت المرأة الحرة قديماً، والتي تتمتع بالطهر والعفاف، تجوع ولا تلجأ
إلى ما يجلب لها العار، فإن المرأة لدى البياتي تفعل ما هو اشد من ذلك، إذ
تأكل نفسها من جوعها، ولا تبيع جسدها، تفني هذا الجسد وتدمره ولا تهينه،
أي إنها في النهاية تعمد إلى الانتحار حفاظاً على شرفها.
ويبرع
البياتي في اقتباس بعض الأشطر الشعرية التي تتساوق مع مواقفه، ورؤيته
الخاصة، فيحاول إخضاعها للغته الخاصة، من دون أن يكون هنالك تغيير كبير
لصياغتها النحوية الأولى، يقول البياتي في سياق عرضه لمشاهد متنوعة من (سوق
القرية)، وإبرازه للتناقضات الاجتماعية التي تسيطر هناك (13)
وبائع الأساور والعطورْ
كالخنفساء تدبُّ: ((قبرتي العزيزة)) يا سدوم!
لن يصلحَ العطارُ ما قد أفسدَ الدهر الغشومْ.
والبياتي في المقطع السابق، يقتبس عجز بيت شعري قديم، مضيفاً إليه بعض الكلمات، وحاذفاً منه بعضها الآخر(14):
عجوز ترجي أن تكون فتية
وقد لُحبَ الجنبان واحدودب الظهر
تدسُّ إلى العطار سلعة أهلها
وهل يصلح العطار ما أعطب الدهر
وقد
أضاف البياتي إلى هذا الشطر الشعري، الأداتين (لن) و(قد)، وكلمة (الغشوم)
كما حذف منه الأداة (هل)، وقام باستبدال كلمة (أفسد) بكلمة (أعطب). كما
تحولت دلالة التركيب النحوي من الاستفهام الإنكاري في النص القديم، إلى
الإثبات المؤكد في نص البياتي. ودلالة المعنى في كل من النصين القديم
والجديد متساوقة، حيث يؤكد النص القديم أن ما فات لا يمكن إعادته إلى ما
كان عليه، كما أنه لا يمكن إصلاح هذا الواقع الفاسد، كما يؤكد نص البياتي.
وتتنوع الطرق الفنية التي يستخدمها البياتي في اقتباس النصوص القديمة، ففي قصيدته (الموت والقنديل) يقتبس البياتي بيت المتنبي(15):
كان الروم أمامي وسوى الروم ورائي، وأنا كنت
أميل على سيفي منتحراً تحت الثلج، وقبل أفول
النجم القطبي وراء الأبراجْ
فلماذا سيف الدولة ولى الأدبارْ؟
فعلى
مستوى التركيب النحوي، أضاف البياتي إلى بيت المتنبي جملتي: (كان الروم
أمامي)، و(أنا كنت أميل على سيفي منتحراً تحت الثلج). كما أضاف كلمة
(ورائي). وحذف من البيت جملة (خلف ظهرك روم) وجملة (فعلى أي جانبيك تميل).
أما على مستوى الدلالة، فقد ظهر سيف الدولة في بيت المتنبي قائداً شجاعاً،
يحاربه الروم وغير الروم من الأعراب، وهو في كل ذلك يتصدى لكلا الطرفين،
ويعمل فيهم القتل. وفي نص البياتي يتحول سيف الدولة إلى مجرد قائد مهزوم،
يفر من المعارك، ويولي الأدبار. ولعل البياتي أراد من خلال ذلك أن يصور
موقف المثقف الذي يثبت أمام العدو، ويتصدى له وحيداً بقلمه وكلمته، ويموت
شهيد موقفه، على حين يفر السياسي والحاكم.
وتصل
بعض نماذج الاقتباسات المحورة، عند البياتي حدوداً واضحة جداً، بحيث تبدو
النصوص المقتبسة، وكأنها استشهادات من نصوص سابقة، نقلت من مواضعها
الأصلية، ووضعت في سياقات جديدة.
وهذا
ما نجده في قصيدته (عذاب الحلاج)، ففي المقطع الثاني منه (رحلة حول
الكلمات)، يقتبس البياتي قولاً مشهوراً للحلاج هو(17): ((يامن أسكرني بحبه،
وحيرني في ميادين قربه)) يقول البياتي(18):
يا مسكري بحبه
محيري في قربه
يا مغلق الأبواب.
ويبدو
واضحاً مدى التشابه أو التطابق اللفظي والتركيبي بين النصين، فالفعلان
(أسكرني) و(حيرني) في بيت الحلاج، تتحول صيغتاهما إلى اسم الفاعل في نص
البياتي، فيصبحان (مسكري) و(محيري)، كما يحذف البياتي كلمتي (من)
و(ميادين). ويتحقق التطابق بين النصين على مستوى الدلالة أو المعنى أيضاً،
فكلاهما يتحدث عن حالة العشق والهيام أو السكر الصوفي، التي يعيشها الحلاج،
والبياتي هنا يتخذ من شخصية الحلاج قناعاً يتحدث من خلاله عما يريد أن
يعبر عنه.
وتتجلى
بعض صور الاقتباس الكامل المحور، لدى البياتي في قصيدته (سفر الفقر
والثورة)، حيث يقتبس البياتي عبارة الإمام علي ((لو كان الفقر رجلاً
لقتلته))(19). ويضعها في صلب قصيدته التي تتحدث عن مشكلة الفقر ومعاناة
الفقراء، يقول البياتي(20):
لو أنّ الفقر إنسان
إذن لقتلته وشربتُ من دمهِ
لو أنّ الفقر إنسان.
ويلحظ
المتلقي أن التحوير الذي أحدثه البياتي في عبارة الإمام علي، تحوير بسيط
غير معقد، فقد حذف كلمة (رجلاً) ووضع مكانها كلمة (إنسان)، كما وضع الحرف
المشبه بالفعل (أنّ) مكان الفعل الناقص (كان)، وأضاف كلمة (إذن) إلى نصه
الشعري الجديد. ويلاحظ تكرار (لو) للتعبير عن الشعور بالخيبة، وعدم تحقق
الرغبة، كما يلاحظ اللجوء إلى المبالغة بشرب الدم تعبيراً عن مرارة
المعاناة.
ويلجأ
البياتي إلى المقولة النقدية العربية القديمة التي تعرض فهم النقد العربي
القديم لأفضلية الشعر ووظيفته، وهي: ((أعذب الشعر أكذبه)، فيحورها على
مستوى اللفظ، يقول البياتي في قصيدته (12 قصيدة إلى العراق / الشعر
والثورة)(21):
((الشعر أعذبهُ الكذوب))
قالوا
وما صدقوا
لأنهم تنابلة وعُورُ
كانوا حذاءً للسلاطين الغزاة
بلا قلوب.
ويلحظ
المتلقي أن الغرض من هذا التحوير البسيط، الذي لا يغير معنى تلك المقولة
النقدية، أو ينقصه، هو غرض عروضي بحت، كيما تستقيم تلك الجملة في سياق
قصيدة البياتي، هذا من ناحية الوزن والموسيقا، أما من ناحية الدلالة
فالقصيدة ـ كما هو واضح ـ فيها تعريض بتلك المقولة النقدية، كما أنها تشن
حملة شعواء على أولئك الداعين إلى فصل الشعر عن قضايا الناس وهمومهم، على
حين يرى البياتي أن غاية الشعر هي الالتزام بهموم الناس وقضاياهم، فالبياتي
هنا يورد المقولة النقدي بمعناها القديم لينقضها ويرد عليها بأسلوب واضح
مباشر.
وفي قصيدته (النبوءة) يقول البياتي(22):
عندما ينفخ في الصور، ولا يستيقظ الموتى ولا يلمع نورْ
ويصيح الديك في أطلال أور
آه ماذا للمغني سأقول؟
وجلي
أن البياتي في المقطع السابق يجتزئ تركيباً من الآية الكريمة: ((وله الملك
يوم ينفخ في الصور، عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير))(23). وهذا
التركيب مكون من الفعل (ينفخ) والجار والمجرور (في الصور). والبياتي يوظف
النفخ في الصور والتماع النهار للتعبير عن الثورة، التي يؤذن كل شيء
باندلاعها، ولكن الناس لا ينهضون ولا يثورون، وهو يحس بالخيبة عندئذ، فلا
يعرف ماذا سيقول للمغني الشاعر الذي تنبأ بالثورة ودعا لها، وإذن فإن هذا
الاقتباس هنا جاء رمزاً لقيام الثورة وتحققها.
وفي
بعض الأحايين يلجأ البياتي إلى تحوير مقتبساته، دون أن يكون له هدف محدد
من وراء هذا التحوير، اللهم إلا محاكاة الشعر القديم والتلاعب بصياغته
اللغوية، ففي قصيدته (محنة أبي العلاء)، وفي المقطع السادس منها (قمر
المعرة)، يقتبس البياتي بيت المعري الشهير(24):
ليلتي هذه عروس من الز
نج عليها قلائد من جمان
حيث يصوغ البياتي هذا البيت صياغة جديدة، فيقوم بتفكيك بنيته اللغوية، ويعيد تشكليه في بناء جديد، يقول البياتي(25):
الليل في معرة النعمانْ
زنجيةٌ على رخام جيدها قلائد الجمان.
ويلحظ
المتلقي أن عملية التحوير هنا، قد تمت على مستوى الحذف والإضافة، فقد أضاف
البياتي إلى نصه شبه الجملة (في معرة النعمان)، و(على رخام جيدها) مع
المضاف إليه في كل منهما. وحذف من البيت القديم كلمتي (هذه)، و(عروس) كما
حور في الكلمات والتراكيب: (من الزنج ç زنجية). و(قلائد من جمان ç قلائد
الجمان).
ويتضح
مما سبق أن طبيعة التناص الاقتباس الكامل المحور تقوم على اقتباس جملة أو
جمل تامة المعنى وكاملة، تشكل بحد ذاتها نصاً مستقلاً، ولكن حصل فيها بعض
التغيير أو التحوير من حذف أو إضافة، وسواء أكانت هذه الجملة أو الجمل
شعراً أم نثراً.
جـ ـ التناص الاقتباسي الجزئي:
وهو
أن يعمد الشاعر إلى نص نثري أو شعري، فيتقطع منه عبارات، أو جملاً، أو
تراكيب جزئية غير مكتملة، ويضعها في نصه اللاحق. وبعض هذه الاقتباسات
الجزئية ترد في شعر البياتي عفو الخاطر، وانسياباً لمختزنات الذاكرة
الشعرية البياتية، من دون أن تحمل أية دلالات فكرية محددة وواضحة.
وهذا
النوع من التناص الاقتباسي موجود لدى البياتي بكثرة، ففي قصيدته (الجرادة
الذهبية) يقتبس البياتي جزءاً من عجز بيت المعري المشهور(26):
إن حزناً في ساعة الموت
أضعاف سرور في ساعة الميلاد
يقول البياتي(27):
بكى أبو العلاء
وهو يراني ميتاً حياً، وحياً ميتاً في ساعة الميلاد.
فالاقتباس هنا، مكون من شبه الجملة (في ساعة) والمضاف إليه (الميلاد).
ويقول البياتي في قصيدته (كتابة على قبر السياب)(28):
أبكي على الحسين
وسوف أبكيه، إلى أن يجمع الله الشتيتين، وأن يسقط سور البين.
والمقطع السابق يقتبس فيه البياتي، شطراً من صدر بيت للمجنون، يقول فيه(29):
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
والاقتباس
هنا ينصب على جملة كاملة، مكونة من فعل وفاعل ومفعول به، وهي (يجمع الله
الشتيتين). ولعل البياتي يهدف من وراء هذا التناص تأكيد استمرارية حزنه على
الحسين، الذي يمثل لديه رمزاً لصاحب المبدأ أو القضية، الذي يموت في سبيل
الدفاع عن قضيته.
وثمة نص شعري يقتطع فيه البياتي عجز بيت شعري لعمر بن أبي ربيعة، يقول البياتي في قصيدته (محنة أبي العلاء/ سقط الزند)(30):
ـ مولاي، هل يخفى القمر؟
فجملة (هل يخفى القمر؟) مقتبسة من بيت عمر بن أبي ربيعة القائل(31):
قلن: تعرفن الفتى؟ قلن: نعم
قد عرفناه، وهل يخفى القمر؟
وفي قصيدته (البحث عن الكلمة المفقودة)، يقتبس البياتي تركيباً جزئياً من بيت المعري(32):
رب لحد قد صار لحدا مراراً
ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
يقول البياتي(33):
الزمن الضائع في تزاحم الأضداد
يخلع عن كاهله عباءة الرماد.
والاقتباس هنا مكون من شبه الجملة (من تزاحم) مع استبدال حرف الجر (في) بـ (من)، والمضاف إليه (الأضداد).
ويتضح
من خلال النماذج السابقة، أن التناص الاقتباسي الجزئي يقوم على اقتباس بعض
المفردات، أو الكلمات أو أشباه الجمل، أو الجمل غير التامة.
ونستنتج مما سبق:
1ـ
غالباً ما تكون الوظيفة الفنية للتناص الاقتباسي الكامل المنصص كامنة في
نقل تجربة شعرية كاملة، يرى البياتي في مبدعها مماثلاً أو مشابهاً له، بحيث
يحمل كل منهما صفات متقاربة كالتمرد والثورية....، وقد ظهر ذلك من خلال
عدة قصائد (كلمات إلى الحجر/ قال طرفة بن العبد) و (محنة أبي العلاء /
لزومية)... وغيرهما.. أما الوظيفة الفنية والفكرية للتناص الاقتباسي الكامل
المحور، فهي غالباً ما تحقق إحدى غايتين: الأولى: تعميق الدلالة القديمة
للنصوص المقتبسة، ومن ثم إسقاطها على التجربة المعاصرة، كما في قصيدة
(النبوءة). والثانية: عكس الدلالة القديمة، وتقديم رؤية جديدة، مناقضة لها:
كما في قصيدتي (الموت والقنديل) و(12 قصيدة إلى العراق / الشعر والثورة).
وأما التناص الاقتباسي الجزئي، فمعظمه لا يحمل أي دلالات فكرية أو فنية إذ
يأتي عفو الخاطر، أو انسياباً لمختزنات الذاكرة الشعرية للبياتي.
2ـ جميع تلك الأنواع من التناص الاقتباسي موجودة بكثرة في شعر البياتي، غير أن أكثرها حضوراً هو التناص الاقتباسي الجزئي.
-----------
يتبع
تأكل الحرة ثدييها إذا جاعت، وفي أرض الملوك الفقراء
زهرة الدفلى على جدول ماء
تتعرى في حياء.
والبياتي
في المقطع الشعري السابق، يقتبس مثلاً معروفاً: ((تجوع الحرة، ولا تأكل
بثدييها))(12). بعد أن يحور صياغته اللغوية بما يتلاءم والمغزى الذي يريد
أن يثبته، فعلى مستوى البنية اللغوية، نجد أن التركيب النحوي للمثل قد حصل
فيه تقديم وتأخير، وحذف وإضافة. فقد حذف البياتي من المثل كلاً من (ولا)،
و(الباء) في كلمة بثدييها. كما أضاف البياتي الأداة (إذا)، وتغيرت صيغة
الفعل (تجوع) إلى الماضي (جاعت). أما على مستوى الدلالة فقد حاول البياتي
أن يعمق الدلالة القديمة للمثل، فقام بتوليد دلالة جديدة أشد قوة وعمقاً،
فإذا كانت المرأة الحرة قديماً، والتي تتمتع بالطهر والعفاف، تجوع ولا تلجأ
إلى ما يجلب لها العار، فإن المرأة لدى البياتي تفعل ما هو اشد من ذلك، إذ
تأكل نفسها من جوعها، ولا تبيع جسدها، تفني هذا الجسد وتدمره ولا تهينه،
أي إنها في النهاية تعمد إلى الانتحار حفاظاً على شرفها.
ويبرع
البياتي في اقتباس بعض الأشطر الشعرية التي تتساوق مع مواقفه، ورؤيته
الخاصة، فيحاول إخضاعها للغته الخاصة، من دون أن يكون هنالك تغيير كبير
لصياغتها النحوية الأولى، يقول البياتي في سياق عرضه لمشاهد متنوعة من (سوق
القرية)، وإبرازه للتناقضات الاجتماعية التي تسيطر هناك (13)
وبائع الأساور والعطورْ
كالخنفساء تدبُّ: ((قبرتي العزيزة)) يا سدوم!
لن يصلحَ العطارُ ما قد أفسدَ الدهر الغشومْ.
والبياتي في المقطع السابق، يقتبس عجز بيت شعري قديم، مضيفاً إليه بعض الكلمات، وحاذفاً منه بعضها الآخر(14):
عجوز ترجي أن تكون فتية
وقد لُحبَ الجنبان واحدودب الظهر
تدسُّ إلى العطار سلعة أهلها
وهل يصلح العطار ما أعطب الدهر
وقد
أضاف البياتي إلى هذا الشطر الشعري، الأداتين (لن) و(قد)، وكلمة (الغشوم)
كما حذف منه الأداة (هل)، وقام باستبدال كلمة (أفسد) بكلمة (أعطب). كما
تحولت دلالة التركيب النحوي من الاستفهام الإنكاري في النص القديم، إلى
الإثبات المؤكد في نص البياتي. ودلالة المعنى في كل من النصين القديم
والجديد متساوقة، حيث يؤكد النص القديم أن ما فات لا يمكن إعادته إلى ما
كان عليه، كما أنه لا يمكن إصلاح هذا الواقع الفاسد، كما يؤكد نص البياتي.
وتتنوع الطرق الفنية التي يستخدمها البياتي في اقتباس النصوص القديمة، ففي قصيدته (الموت والقنديل) يقتبس البياتي بيت المتنبي(15):
كان الروم أمامي وسوى الروم ورائي، وأنا كنت
أميل على سيفي منتحراً تحت الثلج، وقبل أفول
النجم القطبي وراء الأبراجْ
فلماذا سيف الدولة ولى الأدبارْ؟
فعلى
مستوى التركيب النحوي، أضاف البياتي إلى بيت المتنبي جملتي: (كان الروم
أمامي)، و(أنا كنت أميل على سيفي منتحراً تحت الثلج). كما أضاف كلمة
(ورائي). وحذف من البيت جملة (خلف ظهرك روم) وجملة (فعلى أي جانبيك تميل).
أما على مستوى الدلالة، فقد ظهر سيف الدولة في بيت المتنبي قائداً شجاعاً،
يحاربه الروم وغير الروم من الأعراب، وهو في كل ذلك يتصدى لكلا الطرفين،
ويعمل فيهم القتل. وفي نص البياتي يتحول سيف الدولة إلى مجرد قائد مهزوم،
يفر من المعارك، ويولي الأدبار. ولعل البياتي أراد من خلال ذلك أن يصور
موقف المثقف الذي يثبت أمام العدو، ويتصدى له وحيداً بقلمه وكلمته، ويموت
شهيد موقفه، على حين يفر السياسي والحاكم.
وتصل
بعض نماذج الاقتباسات المحورة، عند البياتي حدوداً واضحة جداً، بحيث تبدو
النصوص المقتبسة، وكأنها استشهادات من نصوص سابقة، نقلت من مواضعها
الأصلية، ووضعت في سياقات جديدة.
وهذا
ما نجده في قصيدته (عذاب الحلاج)، ففي المقطع الثاني منه (رحلة حول
الكلمات)، يقتبس البياتي قولاً مشهوراً للحلاج هو(17): ((يامن أسكرني بحبه،
وحيرني في ميادين قربه)) يقول البياتي(18):
يا مسكري بحبه
محيري في قربه
يا مغلق الأبواب.
ويبدو
واضحاً مدى التشابه أو التطابق اللفظي والتركيبي بين النصين، فالفعلان
(أسكرني) و(حيرني) في بيت الحلاج، تتحول صيغتاهما إلى اسم الفاعل في نص
البياتي، فيصبحان (مسكري) و(محيري)، كما يحذف البياتي كلمتي (من)
و(ميادين). ويتحقق التطابق بين النصين على مستوى الدلالة أو المعنى أيضاً،
فكلاهما يتحدث عن حالة العشق والهيام أو السكر الصوفي، التي يعيشها الحلاج،
والبياتي هنا يتخذ من شخصية الحلاج قناعاً يتحدث من خلاله عما يريد أن
يعبر عنه.
وتتجلى
بعض صور الاقتباس الكامل المحور، لدى البياتي في قصيدته (سفر الفقر
والثورة)، حيث يقتبس البياتي عبارة الإمام علي ((لو كان الفقر رجلاً
لقتلته))(19). ويضعها في صلب قصيدته التي تتحدث عن مشكلة الفقر ومعاناة
الفقراء، يقول البياتي(20):
لو أنّ الفقر إنسان
إذن لقتلته وشربتُ من دمهِ
لو أنّ الفقر إنسان.
ويلحظ
المتلقي أن التحوير الذي أحدثه البياتي في عبارة الإمام علي، تحوير بسيط
غير معقد، فقد حذف كلمة (رجلاً) ووضع مكانها كلمة (إنسان)، كما وضع الحرف
المشبه بالفعل (أنّ) مكان الفعل الناقص (كان)، وأضاف كلمة (إذن) إلى نصه
الشعري الجديد. ويلاحظ تكرار (لو) للتعبير عن الشعور بالخيبة، وعدم تحقق
الرغبة، كما يلاحظ اللجوء إلى المبالغة بشرب الدم تعبيراً عن مرارة
المعاناة.
ويلجأ
البياتي إلى المقولة النقدية العربية القديمة التي تعرض فهم النقد العربي
القديم لأفضلية الشعر ووظيفته، وهي: ((أعذب الشعر أكذبه)، فيحورها على
مستوى اللفظ، يقول البياتي في قصيدته (12 قصيدة إلى العراق / الشعر
والثورة)(21):
((الشعر أعذبهُ الكذوب))
قالوا
وما صدقوا
لأنهم تنابلة وعُورُ
كانوا حذاءً للسلاطين الغزاة
بلا قلوب.
ويلحظ
المتلقي أن الغرض من هذا التحوير البسيط، الذي لا يغير معنى تلك المقولة
النقدية، أو ينقصه، هو غرض عروضي بحت، كيما تستقيم تلك الجملة في سياق
قصيدة البياتي، هذا من ناحية الوزن والموسيقا، أما من ناحية الدلالة
فالقصيدة ـ كما هو واضح ـ فيها تعريض بتلك المقولة النقدية، كما أنها تشن
حملة شعواء على أولئك الداعين إلى فصل الشعر عن قضايا الناس وهمومهم، على
حين يرى البياتي أن غاية الشعر هي الالتزام بهموم الناس وقضاياهم، فالبياتي
هنا يورد المقولة النقدي بمعناها القديم لينقضها ويرد عليها بأسلوب واضح
مباشر.
وفي قصيدته (النبوءة) يقول البياتي(22):
عندما ينفخ في الصور، ولا يستيقظ الموتى ولا يلمع نورْ
ويصيح الديك في أطلال أور
آه ماذا للمغني سأقول؟
وجلي
أن البياتي في المقطع السابق يجتزئ تركيباً من الآية الكريمة: ((وله الملك
يوم ينفخ في الصور، عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير))(23). وهذا
التركيب مكون من الفعل (ينفخ) والجار والمجرور (في الصور). والبياتي يوظف
النفخ في الصور والتماع النهار للتعبير عن الثورة، التي يؤذن كل شيء
باندلاعها، ولكن الناس لا ينهضون ولا يثورون، وهو يحس بالخيبة عندئذ، فلا
يعرف ماذا سيقول للمغني الشاعر الذي تنبأ بالثورة ودعا لها، وإذن فإن هذا
الاقتباس هنا جاء رمزاً لقيام الثورة وتحققها.
وفي
بعض الأحايين يلجأ البياتي إلى تحوير مقتبساته، دون أن يكون له هدف محدد
من وراء هذا التحوير، اللهم إلا محاكاة الشعر القديم والتلاعب بصياغته
اللغوية، ففي قصيدته (محنة أبي العلاء)، وفي المقطع السادس منها (قمر
المعرة)، يقتبس البياتي بيت المعري الشهير(24):
ليلتي هذه عروس من الز
نج عليها قلائد من جمان
حيث يصوغ البياتي هذا البيت صياغة جديدة، فيقوم بتفكيك بنيته اللغوية، ويعيد تشكليه في بناء جديد، يقول البياتي(25):
الليل في معرة النعمانْ
زنجيةٌ على رخام جيدها قلائد الجمان.
ويلحظ
المتلقي أن عملية التحوير هنا، قد تمت على مستوى الحذف والإضافة، فقد أضاف
البياتي إلى نصه شبه الجملة (في معرة النعمان)، و(على رخام جيدها) مع
المضاف إليه في كل منهما. وحذف من البيت القديم كلمتي (هذه)، و(عروس) كما
حور في الكلمات والتراكيب: (من الزنج ç زنجية). و(قلائد من جمان ç قلائد
الجمان).
ويتضح
مما سبق أن طبيعة التناص الاقتباس الكامل المحور تقوم على اقتباس جملة أو
جمل تامة المعنى وكاملة، تشكل بحد ذاتها نصاً مستقلاً، ولكن حصل فيها بعض
التغيير أو التحوير من حذف أو إضافة، وسواء أكانت هذه الجملة أو الجمل
شعراً أم نثراً.
جـ ـ التناص الاقتباسي الجزئي:
وهو
أن يعمد الشاعر إلى نص نثري أو شعري، فيتقطع منه عبارات، أو جملاً، أو
تراكيب جزئية غير مكتملة، ويضعها في نصه اللاحق. وبعض هذه الاقتباسات
الجزئية ترد في شعر البياتي عفو الخاطر، وانسياباً لمختزنات الذاكرة
الشعرية البياتية، من دون أن تحمل أية دلالات فكرية محددة وواضحة.
وهذا
النوع من التناص الاقتباسي موجود لدى البياتي بكثرة، ففي قصيدته (الجرادة
الذهبية) يقتبس البياتي جزءاً من عجز بيت المعري المشهور(26):
إن حزناً في ساعة الموت
أضعاف سرور في ساعة الميلاد
يقول البياتي(27):
بكى أبو العلاء
وهو يراني ميتاً حياً، وحياً ميتاً في ساعة الميلاد.
فالاقتباس هنا، مكون من شبه الجملة (في ساعة) والمضاف إليه (الميلاد).
ويقول البياتي في قصيدته (كتابة على قبر السياب)(28):
أبكي على الحسين
وسوف أبكيه، إلى أن يجمع الله الشتيتين، وأن يسقط سور البين.
والمقطع السابق يقتبس فيه البياتي، شطراً من صدر بيت للمجنون، يقول فيه(29):
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما
يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
والاقتباس
هنا ينصب على جملة كاملة، مكونة من فعل وفاعل ومفعول به، وهي (يجمع الله
الشتيتين). ولعل البياتي يهدف من وراء هذا التناص تأكيد استمرارية حزنه على
الحسين، الذي يمثل لديه رمزاً لصاحب المبدأ أو القضية، الذي يموت في سبيل
الدفاع عن قضيته.
وثمة نص شعري يقتطع فيه البياتي عجز بيت شعري لعمر بن أبي ربيعة، يقول البياتي في قصيدته (محنة أبي العلاء/ سقط الزند)(30):
ـ مولاي، هل يخفى القمر؟
فجملة (هل يخفى القمر؟) مقتبسة من بيت عمر بن أبي ربيعة القائل(31):
قلن: تعرفن الفتى؟ قلن: نعم
قد عرفناه، وهل يخفى القمر؟
وفي قصيدته (البحث عن الكلمة المفقودة)، يقتبس البياتي تركيباً جزئياً من بيت المعري(32):
رب لحد قد صار لحدا مراراً
ضاحكٍ من تزاحم الأضداد
يقول البياتي(33):
الزمن الضائع في تزاحم الأضداد
يخلع عن كاهله عباءة الرماد.
والاقتباس هنا مكون من شبه الجملة (من تزاحم) مع استبدال حرف الجر (في) بـ (من)، والمضاف إليه (الأضداد).
ويتضح
من خلال النماذج السابقة، أن التناص الاقتباسي الجزئي يقوم على اقتباس بعض
المفردات، أو الكلمات أو أشباه الجمل، أو الجمل غير التامة.
ونستنتج مما سبق:
1ـ
غالباً ما تكون الوظيفة الفنية للتناص الاقتباسي الكامل المنصص كامنة في
نقل تجربة شعرية كاملة، يرى البياتي في مبدعها مماثلاً أو مشابهاً له، بحيث
يحمل كل منهما صفات متقاربة كالتمرد والثورية....، وقد ظهر ذلك من خلال
عدة قصائد (كلمات إلى الحجر/ قال طرفة بن العبد) و (محنة أبي العلاء /
لزومية)... وغيرهما.. أما الوظيفة الفنية والفكرية للتناص الاقتباسي الكامل
المحور، فهي غالباً ما تحقق إحدى غايتين: الأولى: تعميق الدلالة القديمة
للنصوص المقتبسة، ومن ثم إسقاطها على التجربة المعاصرة، كما في قصيدة
(النبوءة). والثانية: عكس الدلالة القديمة، وتقديم رؤية جديدة، مناقضة لها:
كما في قصيدتي (الموت والقنديل) و(12 قصيدة إلى العراق / الشعر والثورة).
وأما التناص الاقتباسي الجزئي، فمعظمه لا يحمل أي دلالات فكرية أو فنية إذ
يأتي عفو الخاطر، أو انسياباً لمختزنات الذاكرة الشعرية للبياتي.
2ـ جميع تلك الأنواع من التناص الاقتباسي موجودة بكثرة في شعر البياتي، غير أن أكثرها حضوراً هو التناص الاقتباسي الجزئي.
-----------
يتبع