2ـ التناص الإشاري:
وهو
أن يستحضر الشاعر نصاً، أياً كان مصدره أو نوعه، سواء أكان قصيدة شعرية،
أم نصاً نثرياً، أم أسطورة، أم حادثة تاريخية معينة، أم نصاً من التراث
الشعبي أو الصوفي،... عن طريق الإشارة المركزة، بحيث تغدو هذه الإشارة،
بمثابة الاستحضار الكامل لتلك النصوص، من دون أن يكون هنالك حضور لفظي
كامل، أو محور، أو جزئي لها في النصوص اللاحقة، وغالباً ما يعتمد هذا النوع
من التناص على لفظة واحدة أو اثنتين.
ويتميز
هذا النوع من التناص، بقدرة كبيرة على التكثيف والإيجاز، مع الدقة في
التعبير، حيث تثير المفردة المستحضرة وجدان المتلقي ومشاعره، وتنقله إلى
أجواء النص المستحضر بسرعة فائقة، وبأقل قدر ممكن من الكلمات. يقول البياتي
في المقطع الأول (المريد)، من قصيدته (عذاب الحلاج)(34):
صَمْتُكَ بيتُ العنبكوت، تاجك الصبَّار.
يلحظ
المتلقي أن التناص الإشاري في المقطع السابق, يتبدى من خلال امتياح الصورة
الشعرية المتحققة، من القرآن الكريم، حيث يقفز إلى الذهن مباشرة، صورة بيت
العنكبوت الواهن في الآية القرآنية(35): ?مثل الذين اتخذوا من دون الله
أولياء، كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً, وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو
كانوا يعلمون?. وتتخذ قصيدة البياتي صفة المونولوج الداخلي، حيث يخاطب
الحلاج نفسه، واصفاً موقفه بالوهن والضعف والهشاشة، حيث تتنازعه الرغبة،
بين أن يقف موقفاً سلبياً فيدير ظهره للفقراء ويتخلى عنهم، وبين أن يقف في
صفهم، ويناضل من أجلهم، فهو في صمته وتخليه عن الفقراء يكون قد صنع لنفسه
بيتاً مثل بيت العنكبوت.
ويتحقق
التناص الإشاري، في قصيدة (سفر الفقر والثورة)، من خلال اعتماد البياتي
على مفردة (الصخرة)، التي وردت في القرآن الكريم، يقول البياتي(36):
أتنطق هذه الصخرة؟
وتفتح في غد فاها
ويجري الماءُ منها قطرةً قطرة
وتنبت فوقها زهرة.
وواضح
أن المقطع السابق، يستدعي الآية القرآنية التي تشير إلى حصول بني إسرائيل
على الخير والخصب، بعد الجدب والقحط، وذلك من خلال ضرب موسى الحجر، التي
تفجَّرت ينابيع وأنهاراً، فشرب منها قوم موسى، وكثرت الخيرات بين أيديهم/
تقول الآية(37): ?وإذ استسقى موسى لقومه، فقلنا اضرب بعصاك الحجر، فانفجرت
منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كلُّ أناسٍ مشربَهم، كلوا واشربوا من رزق
الله، ولا تعثَوا في الأرض مفسدين?. ويلحظ المتلقي أن مفردة (الصخرة)
المستدعاة من النص القرآني، قد لعبت دوراً مهماً في تأكيد ضرورة الثورة،
وفعلها العجيب، إذ إن نطق الصخرة وانفتاحها لدى البياتي، رمز لحدوث الثورة،
وما تحمله من معاني استمرارية الحياة والنماء والخصب، حيث ينسال الماء من
الصخرة، وترتوي الأرض، فينبت الزهر، ويعم الخير.
ولعل مفردتي (الصخرة) و(قطرة) تستدعيان أيضاً، بشكل مباشر، قصيدة (الأرض اليباب) للشاعر الأمريكي ت.س.إليوت, التي يقول فيها(38):
الصخور بلا ماء
نعم، الصخرة جافة والطريق مليء بالرمال
.......
آه لو أسمع صوت الماء
لا صوت الجرادة
أو حفيف الحشائش الجافة
بل صوت الماء فوق الصخور
هنالك حيث العصفور يغرّد للناسك
على أشجار الصنوبر
قطرة قطرة قطرة قطرة قطرة قطرة قطرة
دون أي أثر للماء.
وعلى
الرغم من تأثر البياتي الواضح بإليوت، فإن المفارقة بين نصيهما تكمن في أن
قصيدة إليوت تشير إلى استمرارية الجدب والجفاف، وانحسار الحلم بالماء، أما
قصيدة البياتي ففيها تفاؤل قوي بالمطر/ الخصب، وفيها تأكيد قوي لحصوله.
وثمة
نماذج شعرية بياتية كثيرة، تحيلنا إلى أقوال شعرية أو نثرية متعددة،
فالمقطع الآتي من قصيدة البياتي (يوميات العشاق الفقراء)، يشير إلى عدد من
الآيات القرآنية التي تتحدث عما يفعله بنو إسرائيل، من تحريف للكتب
السماوية، بما يوافق أهواءهم الخاصة، ومصالحهم الذاتية، وذلك من مثل قوله
تعالى(39): ?أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله،
ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه، وهم يعلمون? وقولـه(40): ?يحرّفون الكلم عن
مواضعه?. يقول البياتي(41):
لم يظهرِ النجمُ ولكنْ ظهر السادة واللصوص
وشعراءُ الحلم المأجور
وأغمدوا سيوفهم في جثث الأطفال
وفقراء المدن الجياع
وحرَّفوا شهادة الأموات
والكتب المقدسة.
وتظهر
القراءة التحليلية للمقطع السابق، تحقق التناص الإشاري من خلال قول
البياتي: (وحرّفوا شهادة الأموات/ والكتب المقدسة)، حيث يسهم النص القرآني
الذي يستحضره البياتي، في تعرية لصوص هذا العصر من الأغنياء، الذين
يستغلّون الفقراء، ويأكلون حقوقهم، ويقتلون براءة الأطفال، ويتحكمون في
مصائر الناس، ويفعلون ما يحبون.
وتتركز الإشارة في قصيدة البياتي (العبير المسعور) على نصين شعريين، يقول البياتي(42):
هبطت بصحرائي فقلت حمامةٌ
عادت مع الليل الحزينِ لوكرها
حتى إذا علّمتها لغةَ الهوى
وأغثت ملهوفَ الحنين بصدرها
طارتْ بأجنحة السّراب وخلّفت
صحرائيَ الظمأى تلوبُ بأسرها.
يحيلنا المقطع الشعري السابق إلى قول الشيخ الرئيس ابن سينا(43):
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاءُ ذات تعزز وتمنّعِ
كما يحيلنا إلى قول معن بن أوس المزني(44):
أعلّمه الرماية كل يوم
فلما اشتدَّ ساعِدُه رماني
----------------
يتبع
وهو
أن يستحضر الشاعر نصاً، أياً كان مصدره أو نوعه، سواء أكان قصيدة شعرية،
أم نصاً نثرياً، أم أسطورة، أم حادثة تاريخية معينة، أم نصاً من التراث
الشعبي أو الصوفي،... عن طريق الإشارة المركزة، بحيث تغدو هذه الإشارة،
بمثابة الاستحضار الكامل لتلك النصوص، من دون أن يكون هنالك حضور لفظي
كامل، أو محور، أو جزئي لها في النصوص اللاحقة، وغالباً ما يعتمد هذا النوع
من التناص على لفظة واحدة أو اثنتين.
ويتميز
هذا النوع من التناص، بقدرة كبيرة على التكثيف والإيجاز، مع الدقة في
التعبير، حيث تثير المفردة المستحضرة وجدان المتلقي ومشاعره، وتنقله إلى
أجواء النص المستحضر بسرعة فائقة، وبأقل قدر ممكن من الكلمات. يقول البياتي
في المقطع الأول (المريد)، من قصيدته (عذاب الحلاج)(34):
صَمْتُكَ بيتُ العنبكوت، تاجك الصبَّار.
يلحظ
المتلقي أن التناص الإشاري في المقطع السابق, يتبدى من خلال امتياح الصورة
الشعرية المتحققة، من القرآن الكريم، حيث يقفز إلى الذهن مباشرة، صورة بيت
العنكبوت الواهن في الآية القرآنية(35): ?مثل الذين اتخذوا من دون الله
أولياء، كمثل العنكبوت اتخذت بيتاً, وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو
كانوا يعلمون?. وتتخذ قصيدة البياتي صفة المونولوج الداخلي، حيث يخاطب
الحلاج نفسه، واصفاً موقفه بالوهن والضعف والهشاشة، حيث تتنازعه الرغبة،
بين أن يقف موقفاً سلبياً فيدير ظهره للفقراء ويتخلى عنهم، وبين أن يقف في
صفهم، ويناضل من أجلهم، فهو في صمته وتخليه عن الفقراء يكون قد صنع لنفسه
بيتاً مثل بيت العنكبوت.
ويتحقق
التناص الإشاري، في قصيدة (سفر الفقر والثورة)، من خلال اعتماد البياتي
على مفردة (الصخرة)، التي وردت في القرآن الكريم، يقول البياتي(36):
أتنطق هذه الصخرة؟
وتفتح في غد فاها
ويجري الماءُ منها قطرةً قطرة
وتنبت فوقها زهرة.
وواضح
أن المقطع السابق، يستدعي الآية القرآنية التي تشير إلى حصول بني إسرائيل
على الخير والخصب، بعد الجدب والقحط، وذلك من خلال ضرب موسى الحجر، التي
تفجَّرت ينابيع وأنهاراً، فشرب منها قوم موسى، وكثرت الخيرات بين أيديهم/
تقول الآية(37): ?وإذ استسقى موسى لقومه، فقلنا اضرب بعصاك الحجر، فانفجرت
منه اثنتا عشرة عيناً، قد علم كلُّ أناسٍ مشربَهم، كلوا واشربوا من رزق
الله، ولا تعثَوا في الأرض مفسدين?. ويلحظ المتلقي أن مفردة (الصخرة)
المستدعاة من النص القرآني، قد لعبت دوراً مهماً في تأكيد ضرورة الثورة،
وفعلها العجيب، إذ إن نطق الصخرة وانفتاحها لدى البياتي، رمز لحدوث الثورة،
وما تحمله من معاني استمرارية الحياة والنماء والخصب، حيث ينسال الماء من
الصخرة، وترتوي الأرض، فينبت الزهر، ويعم الخير.
ولعل مفردتي (الصخرة) و(قطرة) تستدعيان أيضاً، بشكل مباشر، قصيدة (الأرض اليباب) للشاعر الأمريكي ت.س.إليوت, التي يقول فيها(38):
الصخور بلا ماء
نعم، الصخرة جافة والطريق مليء بالرمال
.......
آه لو أسمع صوت الماء
لا صوت الجرادة
أو حفيف الحشائش الجافة
بل صوت الماء فوق الصخور
هنالك حيث العصفور يغرّد للناسك
على أشجار الصنوبر
قطرة قطرة قطرة قطرة قطرة قطرة قطرة
دون أي أثر للماء.
وعلى
الرغم من تأثر البياتي الواضح بإليوت، فإن المفارقة بين نصيهما تكمن في أن
قصيدة إليوت تشير إلى استمرارية الجدب والجفاف، وانحسار الحلم بالماء، أما
قصيدة البياتي ففيها تفاؤل قوي بالمطر/ الخصب، وفيها تأكيد قوي لحصوله.
وثمة
نماذج شعرية بياتية كثيرة، تحيلنا إلى أقوال شعرية أو نثرية متعددة،
فالمقطع الآتي من قصيدة البياتي (يوميات العشاق الفقراء)، يشير إلى عدد من
الآيات القرآنية التي تتحدث عما يفعله بنو إسرائيل، من تحريف للكتب
السماوية، بما يوافق أهواءهم الخاصة، ومصالحهم الذاتية، وذلك من مثل قوله
تعالى(39): ?أفتطمعون أن يؤمنوا لكم، وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله،
ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه، وهم يعلمون? وقولـه(40): ?يحرّفون الكلم عن
مواضعه?. يقول البياتي(41):
لم يظهرِ النجمُ ولكنْ ظهر السادة واللصوص
وشعراءُ الحلم المأجور
وأغمدوا سيوفهم في جثث الأطفال
وفقراء المدن الجياع
وحرَّفوا شهادة الأموات
والكتب المقدسة.
وتظهر
القراءة التحليلية للمقطع السابق، تحقق التناص الإشاري من خلال قول
البياتي: (وحرّفوا شهادة الأموات/ والكتب المقدسة)، حيث يسهم النص القرآني
الذي يستحضره البياتي، في تعرية لصوص هذا العصر من الأغنياء، الذين
يستغلّون الفقراء، ويأكلون حقوقهم، ويقتلون براءة الأطفال، ويتحكمون في
مصائر الناس، ويفعلون ما يحبون.
وتتركز الإشارة في قصيدة البياتي (العبير المسعور) على نصين شعريين، يقول البياتي(42):
هبطت بصحرائي فقلت حمامةٌ
عادت مع الليل الحزينِ لوكرها
حتى إذا علّمتها لغةَ الهوى
وأغثت ملهوفَ الحنين بصدرها
طارتْ بأجنحة السّراب وخلّفت
صحرائيَ الظمأى تلوبُ بأسرها.
يحيلنا المقطع الشعري السابق إلى قول الشيخ الرئيس ابن سينا(43):
هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاءُ ذات تعزز وتمنّعِ
كما يحيلنا إلى قول معن بن أوس المزني(44):
أعلّمه الرماية كل يوم
فلما اشتدَّ ساعِدُه رماني
----------------
يتبع