إذا أردنا الكشف عن ماهية التناص
-كمصطلح نقدي- لابد ابتداءً من معرفة وظيفته السيميائية والدلالية التي من
خلالها يخدم النص عبر المساحات التفاعلية المتوقعة مع غيره من النصوص
السابقة عليه، الأمر الذي يعطي النص خلفية انفتاحية على عوالم نصية ذات
بعد عجائبي،وفانتازي ، أو تاريخي وديني في الكثير من الأحيان , وهنا
تكمن أهمية تبيان العلائق النصية المختلفة للنصوص فيما بينها اللاحق منها
والسابق ,وهو ما يمكن تسميته بـ(التعالق النصي) الذي عبره يحاول النص تمثل
واستيعاب نصوص سابقة علية زمنياً , وتحويلها إلى مكون ضمني في بنيته النصية
, لتصبح عنصراً
أساسياً في بنائه الفسيفيسائي المتمازج ؛ فإذا كان النص بنية دلالية تُنتج
ضمن بنية أوسع من السياقات النصية المنتجة ؛ فإن هذه البنية الأخيرة سابقة
زمنياً على النص الذي أدخلت في بنائه سواءً أكان هذا السبق بعيداً أم
قريباً أم معاصراً ,ورغم اختلاف النقاد حول تسمية هذه الآلية التفاعلية بين
النصوص , إلا أنها تعتبر من الأدوات النقدية والتحليلية المهمة في الكشف عن
مساحات التداخل بين النصوص السردية خاصة ً؛ وهدفها الأساس بيان صحة القول
الذي فحواه أن كل نص يمكن قراءته على أساس انه فضاء مفتوح لتسرب وتحول نص
أو أكثر من النصوص الأخرى التي تصبح حنئذٍ –بدورها- جزءاً من تكوينه الفني
والدلالي.
فالتناص إذن حسب المعجم السردي لـ(جيرالد برنس) هو : العلاقة أو العلاقات القائمة بين نص ما والنصوص التي يتضمنها , أو يعيد كتابتها
, أو يستوعبها , أو يبسطها , أو بعامة يحولها , والتي وفقاً لها يصبح
مفهوماً . فنص الأوذيسا لهوميروس – مثلا – هو النص المرجعي لرواية
(يوليسيس) لـ(جيمس جويس) مما خلق بنية تفاعلية بينهما عبر توظيف النص
السابق (الأوذيسا) في نسيج النص اللاحق (يوليسيس) وكما يرى الناقد
(ريفاتير) أن النصين المتداخلين لابد أن يكونا متشابهين , والأول يترك في
اللاحق دلالات تتحكم – إلى حد كبير- في تأويله.
وهنا لا يمكن الحديث بحال من الأحوال عن فكرة التناص دون ذكر الأعمال النظرية لجماعة(تيل كيل-Tel Quel)
ومجلتها الحاملة للاسم نفسه، التي تأسست سنة 1960، وقد استطاعت الناقدة
البلغارية (جوليا كريستيفا) عبرها في أواسط الستينيات ترسيخ تصورها عن النص كـ(أيديولوجيم) باعتباره وظيفة تناصية تتقاطع فيه نصوص عديدة في المجتمع و التاريخ ، فالتناص عندها
هو ترحل النصوص وتداخلها، ففي فضاء نص معين تتقاطع نصوص عدة؛ وتجدر
الإشارة هنا إلى أن الرواية تعتر الجنس الأدبي الأمثل للكشف السيميائي عن المسارات التفاعلية المشكلة للبناء الفسيفسائي للنص.وبهذا تعددت دلالات التناص، وأصبح مفهوماً مركزياً ينتقل من مجال دراسي إلى آخر، ومن جنس أدبي إلى آخر، بل إنه صار(بؤرة) تتولد عنه
المصطلحات التي تعددت السوابق فيها واللواحق التي تدور حول(النص) وقد
استفادت كريستيفا في ترسيخها لهذا العلم من أبحاث الناقد الروسي (ميخائيل
باختين) الذي يُقر بأن كل نص يقع عند
ملتقى مجموعة من النصوص الأخرى؛ يعيد قراءتها ويؤكدها ويكثفها ويحولها
ويعمقها في الوقت نفسه، فـ(باختين) يُعتبر أول من أدخل هذا المفهوم إلى
النظرية الأدبية، وهو أن كل نص يتشكل من فسيفساء من الاستشهادات، وكل نص
امتصاص وتحويل لنص آخر.وهكذا يحل مفهوم التناص محل تواصل المعارف، حيث لا يستعمل باختين مصطلح التناص، ولكن الفكرة كامنة في المفهوم الباختيني للحوارية(Dialogic)
ويوضح باختين بأن الرواية مهيأة مسبقاً ببنيتها الخاصة لدمج عدد
كبير من المكونات اللسانية، والأسلوبية، والثقافية المختلفة على شكل تعدد
الأصوات(Polyphonic).إن العناصر المستمدة مباشرة من باختين (اللغات، التحويل عبر ارتباط الأصوات المتعددة، الحوارية، الوحدات الخطابية للثقافة) هي العناصر التي تكون مفهوم التناص.
وقد تكلل هذا الجهد في تشييد هذا المصطلح (التناص) وبناء إطاره المفهومي.بالعمل الذي قام به الناقد الفرنسي (جيرار جينيت) في كتابه
(أطراس) 1983،حيث يقترح تحديداً جديداً وشاملاً للمجال النظري الذي يمكن
أن ينحصر فيه بوضوح الفضاء المميز للتناص.ومن خلال نظرة خارجية للنص تتبلور
وجهة نظر واضحة وموضوعية هي التي تميز مفهوم(ما وراء النصية) الذي يجعل
منه جيرار جينيت موضوع (الشعرية) ويحدده كمتعالية نصية للنص و يؤطر كل ما
يجعل نصاً ما في علاقة ظاهرة أو خفية بنصوص أخرى؛ ومن خلال ذلك قام جينيت
بترسيخ مقولة(المتعاليات النصية) ومعناها
أن كل نص يمكن تعالقه مع نصوص أخرى ضمن علاقة مباشرة أو غير مباشرة؛ ومن
هنا يقترح جيرار جينيت التمييز بين خمسة أنواع من العلاقات الماوراء نصية،
ويرتبها وفق نظام تصاعدي من التجريد إلى التضمين إلى الإجمال، وهذه الأنواع
هي:
- التناص: وهو يعني عنده حضور نص في آخر كالاستشهاد والسرقة وما شابه.
- المناص أو(التوازي النصي):وهي العلاقة التي يُنشئها النص مع محيطه النصي المباشر، وهو يتمثل في ما يضعه الكاتب من العناوين الرئيسة والفرعية، و التصدير والتنبيه، والملاحق، وكلمات الناشر…
- الميتانص أو(النصية الواصفة):وهي علاقة التفسير التي تربط نصاً بآخر؛ بحيث يتحدث عنه دون أن يتلفظ به بالضرورة.وبتعبير أفضل هي علاقة نقد.
-النص اللاحق أو(النصية المتفرعة):
وهي العلاقة التي من خلالها يمكن لنص ما أن يُشتق من نص سابق عليه بوساطة
التحويل البسيط أو المحاكاة، وفي هذا النوع ينبغي تصنيف المحاكاة الساخرة
والمعارضات، وقد كرس جينيت كتاب العتبات لهذا النوع من الماوراء نصية.
- معمارية النص أو(النصية الجامعة): إنه النمط الأكثر تجريداً وتضمناً، إنه علاقة صماء، تأخذ بعداً مناصياً، وتتصل بالنوع: شعر-رواية- بحث…
وبناءً على ما تقدم فمصطلح (التناص) أصبح مع جرار جينيت أكثر وضوحاً وتحديداً، فهو عنده
يتمثل في علاقة حضور متزامن بين نصين أو أكثر، أو هو الحضور الفعلي لنص
داخل نص آخر، سواء كان هذا الحضور حرفياً في الاستشهاد الموثق بين مزدوجين،
أو بشكل أقل وضوحاً في حال التضمين.
وقد انتقل هذا المصطلح –كغيره من مصطلحات نظريات الحداثة وما بعدها- إلى
ساحة النقد العربي حيث تلقفه العديد من النقاد، راسمين له مساراً ضمن
المنظومة النقدية العربية الحديثة، فقد خصصت له مجلة(ألف) المصرية عدداً
خاصاً تحت عنوان (التناص:تفاعلية النصوص)، كما نجد سيزا قاسم تتحدث عن (التضمين) كمقابل للمتعاليات النصية عند جينيت في دراسة لها حول (المفارقة في القص العربي)، ولعل أهم الدراسات العربية في هذا الإطار هي كتاب(تحليل الخطاب الشعري"إستراتجية التناص") للناقد المغربي محمد مفتاح، الذي يقدم فيه محاولة لتعريف النص، والتناص
بمختلف أنماطه وأنواعه نظرياً، ويمارس ذلك من خلال التطبيق على قصيدة ابن
عبدون.وكما لا يمكن إغفال الدراسة المتميزة للناقد المغرب –أيضاً- سعيد
يقطين، التي هي بعنوان: (انفتاح النص "النص والسياق) التي عبرها حاول تجسيد رؤية موازية لتصور جيرار جينيت، لهذا المصطلح السردي.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الكثير من نقاد العرب المحدثين من يذهب إلى أن هذا المصطلح (التناص)
كان حاضراً وبقوة في الممارسات النقدية والبلاغية للعرب القدامى ولكن عبر
مسميات أخرى، فقد ورد في الموروث النقدي مصطلحات عدة تقارب مصطلح التناص
شكلاً ومضموناً، كـ(المناقضات والسرقات والمعارضات…إلخ)، وكما ورد ما
يشابهه في ميدان البلاغة القديمة، كـ(التضمين، والتلميح، والإشارة….إلخ)،
وكلها تقترب قليلاً، أو كثيراً من مفهوم التناص. ولعل عبارة أبي الطيب المتنبي تجسد هذا التعالق النصي بوضوح عندما
قال:" الشعر جادة وربما وقع حافر على حافر" وذلك في معرض رده على من اتهمه
بالسرقة الشعرية، فأرد بقولته هذه البرهنة على جواز تداخل النصوص
وتعالقها،ولا يكون ذلك بالضرورة نوعاً من السرقات الأدبية.
ومن هنا يتم الكشف عن
المصادر الواعية واللاواعية التي تسهم في معمار بنية النص، وعبر هذه
الرؤية يتم ربط بنية النص بالسياق الثقافي الذي أنتج وتشكل في إطارها هذا
النص، فمهمة الباحث في أشكال التفاعلات النصية معرفة هذه المصادرة الكامنة
وراء بنية النص و المتداخلة مع نسيجه، والمشاركة في تشكيله.
ومن خلال هذا الحديث عن التناص
يجب التفريق في هذا المقام بينه، وبين نوع آخر من التفاعل النصي، والمتمثل
في المناص بنوعيه: الداخلي والخارجي، فالتفاعل النصي عبر آلية التناص يأخذ بعد التضمين، كأن تتضمن بنية نصية ما عناصر سردية، أو تيمية من بنيات نصية سابقة، وتبدو وكأنها جزء منها، لكنها تدخل معها في علاقة. ، فالتناص- والحالة هذه- يكون النص الموظف فيه(المتناص) مندمجاً ضمن النص اللاحق، بحيث يصعب على القارئ غير المتخصص تبيان وجود التناص أحياناً، إذا لم يُحدد المتناص كبنية نصية مدمجة في إطار بنية نصية أخرى هي أصل.
أما المناص أو(المناصة) فهي البنية النصية التي تشترك وبنية نصية أصل في
مقام وسياق معينين، وتجاورها محافظة على بنيتها كاملة ومستقلة. وهذه البنية
النصية قد تكون شعراً أو نثراً، وقد تنتمي إلى خطابات عديدة، كما أنها قد
تأتي هامشاً أو تعليقاً على مقطع سردي أو حواري و ما شابه. وفي هذا الإطار
تستعمل (المناصة) كتفاعل نصي داخلي أي داخل النص، ويُسمى ما يدخل في نطاق
المقدمة والذيول، والملاحق، وكلمات الناشر، والكلمات على ظهر الغلاف، وما
شابه ذلك بـ(المناصات الخارجية).
إن طرفي المناصة الرئيسين هما النص والمناص، تتحدد العلاقة بينهما من خلال
مجيء المناص كبنية نصية مستقلة ومتكاملة بذاتها. وتأتي مجاورة لبنية النص
الأصل كشاهد تربط بينهما نقطتا التفسير، أو شغلهما لفضاء واحد في الصفحة عن
طريق التجاور، كأن تنتهي بنية النص الأصل بنقطة ويكون الرجوع إلى السطر،
لنجد أنفسنا أمام بنية نصية جديدة لا علاقة لها بالأولى إلا من خلال البحث
والتأمل. ويمكن تقسيم المناص حسب موقعه من متن النص عامةً، و متن الرواية خاصةً، إلى قسمين خارجي وداخلي:
- المناص الخارجي(عتبات النص):ويتمثل في العناوين
التي تُصدر بها الفقرات السردية، والهوامش، والملاحق التي تذيل بها
الروايات والقصائد، أو الكلمات المأثورة التي تصدر بها الفقرات السردية،
والكلمات التي تكتب على ظهر الغلاف.إن هذه المناصات الخارجية مهمة جداً
لتحليل متن النص- لاسيما الرواية- لأنها تعتبر(عتبات) لهذا المتن، وعبرها
يتم التدليل والإيحاء بالتيمة (الموضوعة) العامة التي سيتم تناولها في
الفقرة السردية التالية لها، وبهذا تسهم هذه العتبات في إعطاء نص الرواية
دلالات يعجز المتن نفسه عن الإيحاء بها في الكثير من الأحيان.
- المناص الداخلي:أما
المناصات الداخلية هي المقاطع التي توضع ضمن النص (الرواية) دون أن تتمازج
معه، إذ أن الكاتب يحاول وضعها في الأغلب داخل مزدوجين حتى تظل مستقلة
ومتمايزة عن متن الرواية، وبهذا تكون نصوص مجاورة لنص الرواية وليس مضمنة له، كما هو الحال مع(التناص)،
وتجيء المناصات كشواهد، أو أدلة تعزز من فكرة يسوقها الروائي عبر متنه
السردي. ومن يتتبع أغلب المتون الروائية العربية، يجد أن هذين النوعين
السابقين أكثر حضوراً وتداخلاً مع هذه المتون، الأمر الذي جعلهما أكثر
اشتغالاً كبنيات نصية حرة، وأكثر تفاعلاً مع نسج الرواية، مما أعطى نص
الرواية دلالات أوسع على مستوى التأويل، وجعله أكثر انفتاحاً على معالم
أسطورية، وتاريخية، ودينية مما أضفى على الرواية العربية أبعاداً جمالية
تلغي إمكانية استعمال هذه التناصات والمناصات كحشو،أو شيء زائد مفرغ من محتواه الدلالي.
نقلاً عن مدونة : فضاء السرد الليبي
[/center]