مفهوم الحداثة :
قبلأن نخوض في مفهوم الحداثة الاصطلاحي ، نرى من المفيد أن نعرج على مضمونهااللغوي ، فهي مصدر من الفعل " حَدَثَ " ، وتعني نقيض القديم ، والحداثةأول الأمر وابتداؤه ، وهي الشباب وأول العمر .
وبهذا المفهوم اللغويسطعت شمس الحداثة في عالمنا العربي المعاصر ، وتوافقت مع ما يحمل عصرنا منعقد نفسية ، وقلق ذاتي من القديم الموروث ، ومحاولة الثورة عليه ، والتخلصمنه ، والبحث عن كل ما هو جديد يتوافق وروح عصر التطور العلمي والمادي ،ويواكب الايدولوجيات الوافد على عالمنا العربي .
أما ما تعنيه الحداثةاصطلاحا فهي : " اتجاه فكري أشد خطورة من اللبرالية والعلمانية والماركسية، وكل ما عرفته البشرية من مذاهب واتجاهات هدامة ، ذلك أنها تضمن كل هذهالمذاهب الفكرية ، وهي لا تخص مجالات الإبداع الفني ، والنقد الأدبي ،ولكنها تخص الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المادية والفكرية على حد سواء" ، وهي بهذا المفهوم الاصطلاحي
" اتجاه جديد يشكل ثورة كاملة على كلما كان وما هو كائن في المجتمع " . الحداثة في الأدب المعاصر ـ هل انفضسامرها ، د . محمد مصطفى هدارة ، مجلة الحرس الوطني ربيع الآخر 1410 هـ .
ويقول أحد الباحثين في معرض حديثه عن الحداثة كمنهج فكري يسعى لتغييرالحياة " إن من دعاوى أهل الحداثة أن الأدب يجب أن ينظر إليه من الناحيةالشكلية والفنية فقط بغض النظر عما يدعوا إليه ذلك الأدب من أفكار ،وينادي به من مبادئ وعقائد وأخلاق ، فما دام النص الأدبي عندهم جميلا منالناحية الفنية ، فلا يضير أن يدعو للإلحاد أو الزنا أو اللواط أوالخمريات أو غير ذلك " عوض القرني ، الحداثة في ميزان الإسلام ص 47 .
ويقول د . عدنان النحوي في كتابه الحداثة من منظور إسلامي ص 13 : " لم تعدلفظة الحداثة في واقعنا اليوم تدل على المعنى اللغوي لها ن ولم تعد تحملفي حقيقتها طلاوة التجديد ، ولا سلامة الرغبة ، إنها أصبحت رمزا لفكر جديد، نجد تعريفة في كتابات دعاتها وكتبهم ن فالحداثة تدل اليوم على مذهب فكريجديد يحمل جذوره وأصوله من الغرب ، بعيدا عن حياة المسلمين ن بعيدا عنحقيقة دينهم ، ونهج حياتهم ، وظلال الإيمان والخشوع للخالق الرحمن " .
فالحداثة إذن من منظور إسلامي عند كثير من الدعاة تتنافى مع دينناوأخلاقنا الإسلامية ، وهي معول هدم جاءت لتقضي على كل ما هو إسلامي ديناولغة وأدبا وتراثا ، وتروج لأفكار ومذاهب هدامة ، بل هي أخطر تلك المذاهبالفكرية ، وأشدها فتكا بقيم المجتمع العربي الإسلامية ومحاولة القضاء عليهوالتخلص منه ، وإحلال مجتمع فكري عربي محله يعكس ما في هذه المجتمعاتالغربية من حقد وحنق على العالم الإسلامي ، ويروجون بكل اهتمام وجديه منخلال دعاتها ممن يدعون العروبة لهذه المعتقدات والقيم الخبيثة بغرض قتلروح الإسلام ولغته وتراثه .وتقول الكاتبة سهيلة زين العابدين في مقالةنشرت لها في جريدة الندوة السعودية الغدد 8424 في 14 / 3 / 1407 هـ ص 7 :" الحداثة من أخطر قضايا الشعر العربي المعاصر لأنها أعلنت الثورة والتمردعلى كل ما هو ديني وإسلامي وأخلاقي ، فهي ثورة على الدين على التاريخ علىالماضي على التراث على اللغة على الأخلاق ، واتخذت من الثورة على الشكلالتقليدي للقصيدة الشعرية العربية بروازا تبروز به هذه الصورة الثوريةالملحدة " .
ويذكر د . محمد خضر عريف في معرض حديثه عن الحداثة وتعليقهعلى بعض الدراسات التي صدرت حولها من غير مفكريها وروادها في الوطن العربيفي كتابه الحداثة مناقشة هادئة لقضية ساخنة ص 11 و 12 قائلا : " إننا بصددفكر هدام يتهدد أمتنا وتراثنا وعقيدتنا وعلمنا وعلومنا وقيمنا ، وكل شيءفي حاضرنا وماضينا ومستقبلنا " ، ويفرق الدكتور / خضر عريف في كتابةالحداثة مناقشة هادئة لقضية ساخنة بين مصطلح الحداثة والتجديد والمعاصرفيقول : " والذي يدفع إلى ذلك الظن الخاطئ هو الخلط بين مصطلح الحداثة (modernism ) ، والمعاصرة ( modernity ) ، والتحديث ( modernization )وجميع تلك المصطلحات كثيرا ما تترجم إلى " الحداثة " على ارعم من اختلافهاشكلا ومضمونا وفلسفة وممارسة . والواقع أن الاتجاه الفكري السليم يتفق معالتحديث ، ولكنه لا يتفق مع الحداثة . وإن يكن مصطلحا modernity وmodernization يمكن الجمع بينهما ليعنيا المعاصرة أو التجديد ، فإن مصطلحmodernism يختلف عنهما تماما . إذ ينبغي أن نفرق بين مصطلحين أجنبيين ، منالمؤسف أن كليهما يترجم ترجمة واحدة وهي ( الحداثة ) أما المصطلح الأولفهو : modernity الذي يعني إحداث تجديد وتغيير في المفاهيم السائدةالمتراكمة عبر الأجيال نتيجة وجود تغيير اجتماعي أو فكري أحدثه اختلافالزمن .
أما الاصطلاح الثاني فهو modernism ويعني مذهبا أدبيا ، بلنظريه فكرية لا تستهدف الحركة الإبداعية وحدها ، بل تدعو إلى التمرد علىالواقع بكل جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية . . . وهو المصطلحالذي انتقل إلى أدبنا العربي الحديث ، وليس مصطلح modernity الذي يحسن أننسميه المعاصرة ، لأنه يعني التجديد بوجه عام دون الارتباط بنظرية ترتبطبمفاهيم وفلسفات متداخلة متشابكة .
ونحن في تعريفنا لمفهوم الحداثةلا نريد أن نتوقف عند ما قال به خصومها ، ولكن لا بد أن نتعرف عليه مماقال به أصحابها ومفكروها وسدنتها أيضا . يقول على أحمد سعيد الملقببأودنيس وهو من رواد الحداثة العربية ومفكريها رابطا بينها وبين الحريةالماسونية : " إن الإنسان حين يحرق المحرم يتساوى بالله " . ثم يتنامىالمفهوم الماسوني لكلمة الحرية إلى صيغته التطبيقية الكاملة في قوله " :إن التساوي بالله يقود إلى نفيه وقتله ، فهذا التساوي يتضمن رفض العالمكما هو ، أو كما نظمه الله ن والرفض هنا يقف عند حدود هدمه ، ولا يتجاوزهاإلى إعادة بنائه ، ومن هنا كان بناء عالم جديد يقتضي قتل الله نفسه مبدأالعالم القديم ، وبتعبير آخر لا يمكن الارتفاع إلى مستوى الله إلا بأنيهدم صورة العالم الراهن وقتل الله نفسه " محاضرة الحداثة والتراث د .محمد هدارة .
وقد عرف رولان بارت الحداثة بأنها انفجار معرفي لميتوصل الإنسان المعاصر إلى السيطرة عليه فيقول : " في الحداثة تنفجرالطاقات الكامنة ، وتتحرر شهوات الإبداع في الثورة المعرفية مولدة في سرعةمذهلة ، وكثافة مدهشة أفكارا جديدة ، وأشكالا غير مألوفة ، وتكوينات غريبة، وأقنعة عجيبة ، فيق بعض الناس منبهرا بها ، ويقف بعضهم الآخر خائفا منها، هذا الطوفان المعرفي يولد خصوبة لا مثيل لها ، ولكنه يغرق أيضا " محاضرةالحداثة والتراث د . محمد هدارة .
ويتابع الدكتور هدارة قائلا : كمايصفها بعض الباحثين الغربيين " بأنها زلزلة حضارية عنيفة ، وانقلاب ثقافيشامل ، وأنها جعلت الإنسان الغربي يشك في حضارته بأكملها ، ويرفض حتى أرسخمعتقداته الموروثة " .
جذور الحداثة في الغرب
ظهر تيار الحداثة فيالغرب نتيجة للمد الطبيعي الذي دخلته أوروبا منذ العصور الوثنية فيالعهدين اليوناني والروماني ، امتدادا إلى عصر الظلمات ، مرورا بالعصورالمتلاحقة التي تزاحمت بكل أنواع المذاهب الفكرية ، والفلسفات الوثنيةالمتناقضة والمتلاحقة ، وقد كان كل مذهب عبارة عن ردة فعل لمذهب سابق ،وكل مذهب من هذه المذاهب كان يحمل في ذاته عناصر اندثاره وفنائه .
لقد عشق الغرب شتى المذاهب والتيارات الفكرية بدءا من اعتناق الوثنية ،وانتهاء بالانفجار الفكري اليائس الذي عرف بالحداثة ، مرورا بالمسيحية وماترتب عليها من مفاسد الكنيسة وظلمها وظلامها ، وبالطبيعة التي هجرهاشعراؤها وكتابها ليعشقوا الواقعية المزيفة التي ما لبثوا أن هجروها هرباإلى الكفر والإلحاد بالله كفرا صريحا جاهرا ، ثم تحولوا بكفرهم حاملينه منبعد يأس على كواهلهم باحثين عن الخلاص الذي ينتشلهم من غرقهم الإلحاديليجدوا أنفسهم يغوصون في وحول المادية التاريخية ، والجدلية السفسطائية ،غير أنهم لم يجدوا ضالتهم فيما بحثوا عنه فارتدوا هاربين ليلقوا بأنفسهمفي أحضان الفن للفن ، ولكنهم لم تستقر لهم حال فتخبطوا خبط عشواء حتىاستقر بهم السبيل إلى مهاوي الوجودية التي كشفت عن كل شيء فجعلت الحريةفوضى ، والالتزام تفلتا ، والإيمان بالأشياء كفرا " فلم يعد في حياةالغربي إلا أن تنفجر هذه المذاهب انفجارا رهيبا يحطم كل شيء ، يحطم كلقيمة ، لتعلن يأس الإنسان الغربي وفشله في أن يجد أمنا أو أمانا " الحداثةمن منظور إيماني ص 17 .
وقد جاءت الحداثة لتمثل هذا الانفجار الفكريالرهيب اليائس ، انفجار الإنسان الذي لا يعرف الأمن والأمان في ذاته آلافالسنين .
وقد اختلف كثير من الذين أرخوا ونظروا للحداثة الغربية حولبداياتها الأولى ، وعلى يد من من كتابهم ظهرت ونشأت ، ورغم ذلك يتفق بعضهمعلى أن إرهاصاتها المبكرة بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي علىيدي " بودلير " الفرنسي صاحب ديوان " أزهار الشر " . ولكنها لم تنشأ منفراغ ، بل هي امتداد لإفرازات المذاهب والتيارات الفكرية ولاتجاهاتالأدبية والايدلوجية المتعاقبة التي عاشتها أوروبا في القرون الخوالي ،والتي قطعت فيها صلتها بالدين والكنيسة وتمردت عليه ، وقد ظهر ذلك جليامنذ ما عرف بعصر النهضة في القرن الخامس عشر الميلادي ، عندما انسلخالمجتمع الغربي عن الكنيسة وثار علي سلطاتها الروحية ، التي كانت بالنسبةلهم كابوسا مخيفا ، وسيفا مسلطا على رقابهم محاربا لك دعوة للعلم الصحيح ،والاحترام لعقل الإنسان وتفكيره ، وفكره .
وكان من الطبيعي أن نرىتخبط الغرب ، وتقلباته وثوراته على كل شيء من حوله ، ما دام لا توجد أرضيةصلبة مستوية ينطلق منها ، لتصور مقبول للحياة والإنسان والكون عامة ولاتوابث قوية لهم لتكون مرتكزا يتكئون عليه نحو تقدمهم المادي ، ورقيهمالفكري والحضاري ، مما أدى إلى ظهور كثير من المتناقضات والتضاد ، وأنيهدموا اليوم بمعاول التمرد والثورة ما بنوه بالأمس ، إضافة إلى انعدامالروابط المتينة بين هذه الأفكار على اختلاف مشاربها وتباين اتجاهاتها سوىأنها تلتقي في مستنقع المادية الملحدة ، لذا نجدهم يتقلبون خلال المذاهبالفكرية والأدبية التي ووسمتهم بخاتمها ، وطبعتهم بطابعها ، ولونتهمباتجاهاتها فتولدت عندهم الكلاسيكية التي كانت امتدادا طبيعيا لنظريةالمحاكاة والتقليد التي أطلقها أرسطو ، والتي تعني أن الإنسان محدودالطاقات ، متمسك بأهداب التقليد ، مع الميل إلى التحفظ واللياقة ، ومراعاةالمقام ، والخيال المركزي المجند في خدمة الواقع .
تم تأسس الاتجاهالرومانسي على أنقاض الكلاسيكية التي وقفت عاجزة أمام تحقيق ما كان يصبوإليه الغرب من التخلص من آثار القديم ومحاكاته ، فوجدوا ضالتهم في مذهبتوري متمرد على كل أشكال القديم وآثاره ، فقدست الرومانسية الذات ، ورفضتالواقع ، وثارت على الموروث ، وادعت أن الشرائع والعادات والتقاليد هيالتي أفسدت المجتمع ، ويجب العمل على تحطيمها ، والتخلص منها ، ولكن الأمرغير المتوقع مع ما نادت به الرومانسية ، وجاهدت من أجل تحقيقه أنها قدفشلت فشلا ذريعا في تعيير الواقع ، فأوغل دعاتها في الخيال والأحلام ،والتحليق نحو المجهول .
وقد تحول الغرب كما هي طبيعته فرارا منالمجهول إلى المجهول ، ومن الضلال إلى الضلال ، ومن اللاواقع إلى ما هوأبعد من اللاواقع وكان ذلك ديدنهم على مدى قرون طوال يبحثون عن لا شيءلعلهم يجدون ذواتهم الضائعة في اتجاه جديد يخلصهم من معاناتهم وضياعهموتيه نفوسهم ، فاتجهوا نحو ما عرف بالبرناسية ، ثم فروا منها لإلى ما عرفبالواقعية التي تطورت فيما بعد إلى الرمزية التي كانت حلقة الوصل بين تلكالمذاهب الفكرية والأدبية وبين ما عرف اليوم بالحداثة ، وعلاقتها بالجانبالأدبي على أقل تقدير ، وكان على رأس المذهب الرمزي الكاتب والأديبالأمريكي المشهور " إدغار آلان بو " الذي تأثر به رموز الحداثة وروادها فيالعرب أمثال مالاراميه ، وفاليري ، وموبسان ، كما كان المؤثر الأولوالمباشر في فكر وشعر عميد الحداثيين في الغرب والشرق على حد سواء الشاعرالفرنسي المشهور " بودلير " كما ذكرنا آنفا .
وقد نادى إدغار بأنيكون الأدب كاشفا عن الجمال ، ولا علاقة له بالحق والأخلاق ، وهذا ماانعكس على حياته بشكل عام ، حيث كان موزعا بين القمار والخمر والفشلالدراسي والعلاقات الفاسدة ، ومحاولة الانتحار . وعلى خطا إدغار سارتلميذه بودلير ممعنا في الضلال ومجانبا للحق والفضيلة .
ويعد بودليرمؤسس تيار الحداثة من الناحية الفنية الأدبية ، والذي نادى بالغموض فيالأحاسيس والمشاعر ، والفكر والأخلاق ، كما قام المذهب الرمزي الذي أرادهعلى تغيير وظيفة اللغة الوضعية بإيجاد علاقات لغوية جديدة تشير إلى مواضعلم تعهدها من قبل . . . ويطمح أيضا إلى تغيير وظيفة الحواس عن طريق اللغةالشعرية ، لذا لا يستطيع القارئ ، أو السامع أن يجد المعنى الواضح المعهودفي الشعر الرمزي . كما يذكر د . عبد الحميد جيدة في كتابه الاتجاهاتالجديدة في الشعر العربي المعاصر ص 121 .
ومما لا جدال فيه أنالحداثة كمذهب أدبي تجديدي قامت في أساسها الأول على الغموض وتغيير اللغة، والتخلص من الموروث بكل أشكاله ، وأجناسه ، وتجاوزهم للسائد والنمطي .
وكانبودلير الذي نمت وترعرعت على يديه بذرة الحداثة من أسوأ ما عرفت الآدابالعالمية خلقا وإمعانا في الرذيلة ، وممارسة لكل ما يتنافي مع الأخلاقوالعقيدة . يقول عنه مصطفى السحرتي في مقدمة ترجمة ديوان أزهار الشرلبودلير " لقد كانت مراحل حياته منذ الطفولة نموذجا للضياع والشذوذ ، ثمبعد نيل الشهادة الثانوية قضى فترة في الحي اللاتيني ، حيث عاش عيشة فسوقوانحلال ، وهناك أصيب بداء الزهري ، وعاش في شبابه عيشة تبذل ، وعلاقاتشاذة مع مومسات باريس ، ولاذ في المرحلة الأخيرة من حياته بالمخدراتوالشراب " .
ويقول عنه الشاعر إبراهيم ناجي مترجم ديوان أزهار الشر "لإن بودلير كان يحب تعذيب الآخرين ويتلذذ به ، وكان يعيش مصابا بمرضانفصام الشخصية " .
ولم يكن الطعن على شخصية بودلير متوقفة على بعضالشعراء والنقاد العرب الذين عرفوه من خلال شعره ، وعايشوه في مرحلة زمنيةمعينة في النصف الأول من القرن العشرين ، بل كان لأبناء جلدته أقوالاوآراء كثيرة حول هذه الشخصية الحية الميتة ، يقول عنه أحد كتاب الغرب : "إن بودلير شيطان من طراز خاص " . ويقول عنه آخر : " إنك لا تشم في شعرهالأدب والفن ، وإنما تشم منه رائحة الأفيون " عوض القرني : الحداثة فيميزان الإسلام ص 23 .
وقد عرف بودلير إضافة إلى ما عرف عن شخصيتهالذاتية بنزعته الماركسية الثورية الفردية التي لا تنسجم مع المثلوالمبادئ التي ينادي بها عصره آنذاك . يقول عنه محمد برادة في مجلة فصولالعدد الثالث ص 13 ، 14 : " إن الخيبة التي انتهى إليها بودلير من مراهنتهعلى حداثته ، ليس فقط أنه يعاني موت الجمال ويبكيه ، بل يعاني كذلك غيابا، لا غياب الله ، أو موته ، بل أكثر من ذلك ، فالحداثة تغلف ، وتقنّع غيابالبراكسيس وإخفاقه بمعناه الماركسي ، الباركسيسي الثوري الشامل ، وأنهاتكشف هذا الغياب ، وستكون الحداثة داخل المجتمع البرجوازي هي ظل الثورةالممكنة " . كما يقول عنه غالي شكري في كتابه شعرنا الحديث إلى أين ص 16 "وقديما كان بودلير نبيا للشعر الحديث ، حيث تبلور إحساسه المفاجئ العليلبحياة فردية لا تنسجم مع المثل الذي ينادي بها العصر الذي يعيش فيه " .
ثم أعقب بودلير رائد من رواد الحداثة في الغرب وهو رامبو الذي لا يقل شأناعنه في المناداة إلى الهدم العقلاني لكل الحواس ، وأشكال الحب والعذابوالجنون ، ودعا إلى أن يكون الشعر رؤية ما لا يرى ، وسماع ما لا يسمع ،وفي رأيه أن الشاعر لا بد أن يتمرد على التراث ن وعلى الماضي ، ويقطع أيصلة مع المبادئ الأخلاقية والدينية ، وتميز شعره بغموضه ، وتغييره لبنيةالتراكيب ، والصياغة اللغوية عما وضعت عليه ، وتميز أيضا بالصور المتباعدةالمتناقضة الممزقة كما يذكر د . عبد الحميد جيدة في كتابه الاتجاهاتالحديثة في الشعر العربي المعاصر ص 148 .
وقد تعاقب ركب الحداثيينفي الغرب ، وسلكوا نفس الطريق الذي بدأه بودلير ، ورامبو ، وساروا علىنهجهما ، ومن هؤلاء مالارمييه ، وبول فاليري ، حتى وصلت الحداثة الغربيةشكلها المتكامل النهائي على يد الأمريكي اليهودي عزرا باوند ، والإنجليزيتوماس اليوت .
وغدت الحداثة الغربية سلسلة متصلة الحلقات يتناقلهااللاحقون عن السابقين ، وهي إلى جانب ذلك متصلة شديدة الاتصال بما سبقهامن وجودية ورمزية وسريالية ومادية جدلية ومادية تاريخية وواقعية واشتراكيةعلمية وبرناسية ، ورومانسية ، وبكثير من الأفكار والمبادئ والتيارات التيكانت قاعدة لها ، ومنطلقا فكريا مدها بكل ما حملته تلك المذاهب من فكروأيدلوجيات ، وتمرد على كل ما هو سائد وموروث ، وتجاوزت حدود الأدب واللغةليطال الدين والأخلاق والقيم والعلم . فهي تحطيم للماضي والحاضر والمستقبل.
وهكذا نمت الحداثة الغربية وترعرعت في أوحال الرذيلة ، ومستنقعاتاللاأخلاق ، وأينعت ثمارها الخبيثة على أيدي الشيوعيين من أمثال نيرودا ،ولوركا ، وناظم حكمت ، وفتشنكو ، والوجوديين أمثال سارتر ، وسيمون ديبوفوار ، وألبير كامو ، وآتت أكلها على أيدي الجيل المنظر والداعم لهاوالمحفز على السير في ركابها من أمثال ألوي أراجون ، وهنري لوفيفر ،وأوجين جراندال ، ورولان بارت ، ورومان ياكوبسون ، وليفي شترواس ، وبياجيه، وغيرهم كثر .
الحداثة العربية
تسللت الحداثة الغربيةإلى أدبنا ولغتنا العربية وفكرنا ومعتقداتنا وأخلاقياتنا كما تتسلل الأفعىالناعمة الملمس لتقتنص فريستها ، أن تشعر الفريسة بها إلا وهي جثة هامدةتزدردها رويدا رويدا ، هكذا كان تسلل الحداثة إلى عقول معتنقيها وروادهاوسدنتها من أدباء ونقاد ومفكرين على امتداد الوطن العربي . وهي كغيرها منالمذاهب الفكرية ، والتيارات الأدبية التي سبقتها إلى البيئة العربيةكالبرناسة ، والواقعية ، والرمزية ، والرومانسية ، والوجودية ، وجدت لهافي فكرنا وأدبنا العربي تربة خصبة ، سرعان ما نمت وترعرعت على أيدي روادهاالعرب ، أمثال غالي شكري ، وكاهنها الأول والمنظر لها على أحمد سعيدالمعروف " بأدونيس " ، وزوجته خالدة سعيد من سوريا ، وعبد الله العروي منالمغرب ، وكمال أبو ديب من فلسطين ، وصلاح فضل ، وصلاح عبد الصبور من مصر، وعبد الوهاب البياتي من العراق ، وعبد العزيز المقالح من اليمن ، وحسينمروة من لبنان ، ومحمود درويش ، وسميح القاسم من فلسطين ، ومحمد عفيفي مطر، وأمل دنقل من مصر ، وعبد الله القذامي ، وسعيد السريحي من السعودية ،وغيرهم .
وقد أشار غالي شكري في كتابه الشعر الحديث إلى أين إلىالروافد التي غذت بذرة الحداثة العربية فقال : " كانت هذه المجموعة منالكشوف تفصح عن نظرة تاريخية تستضيء بالماضي لتفسر الحاضر ، وتنبئبالمستقبل . فالمنهج الجدلي ، والمادية التاريخية يتعرفان على أصل المجتمع، ثم يفسران أزمة العصر ، أو النظام الرأسمالي ، ثم يتنبآن بالمجتمعالاشتراكي الذي ينعدم فيه الصراع الطبقي " .
ويقول أدونيس في كتابهالتابث والمتحول كما ذكر الدكتور محمد هدارة في مقال له نشر في مجلة الحرسالوطني السعودي : " لا يمكن أن تنهض الحياة العربية ، ويبدع الإنسانالعربي إذا لم تنهدم البنية التقليدية السائدة للفكر العربي ، ويتخلص منالمبنى الديني التقليدي الاتباعي " . وهذه الدعوة الصريحة والخبيثة في حدذاتها دعوة جاهرة للثورة على الدين الإسلامي ، والقيم والأخلاق العربيةالإسلامية ، والتخلص منها ، والقضاء عليها .
ثم يقول أدونيس أيضا فيمقابلة أجرتها معه مجلة فكر وفن عام 1987 م : " إن القرآن هو خلاصة ثقافةلثقافات قديمة ظهرت قبله . . . وأنا أتبنى التمييز بين الشريعة والحقيقة ،إن الشريعة هي التي تتناول شؤون الظاهر ، والحقيقة هي التي يعبرون عنهابالخفي ، والمجهول ، والباطن ، ولذلك فإن اهتمامي بالمجهول ربما يأتي ،ويتغير باستمرار ، وهذا ما يتناقض مع الدين " .
مما سبق يتضح أن روادالحداثة لم يكونوا دعاة للتجديد بمفهومه المتعارف عليه في اللغة ولا يعنيبالأدب والشعر كما يدعون ، وإنما هم دعاة للهدم والتخريب ، كما يعلنون عنذلك صراحة في كتبهم النقدية ودواوينهم الشعرية ومؤلفاتهم بشكل عام . فقدضل كثير منهم يخلط بين الحداثة كمنهج فكري ، يدعو إلى الثورة والتمرد علىالموروث والسائد والنمطي بأنواعه المختلفة عقيدا ولغة وأدبا وأخلاقا ،وبين المعاصرة والتجديد الذي يدعو إلى تطوير ما هو موجود من ميراث أدبيولغوي ، والإضافة عليه بما يواكب العصر ، ويتواءم مع التطور ، منطلقا منذلك الإرث الذي لا يمكن تجاوزه بحال من الأحوال ، فهو عنوان الأمة ، ورمزحضارتها ، والأمة التي لا موروث لها لا حضارة لها ، وجديدها زائف ممجوج .
وقد تسللت الحداثة الغربية إلى فكرنا العربي في غفلة دينية لدى الكثيرينمن المثقفين العرب المسلمين ، وإن كان القلة منهم هم الذين تنبهوا لهذاالخطر الداهم للغتهم وعقيدتهم وأدبهم على حد سواء ، فحاولوا التصدي لهابشتى الطرق والوسائل المتاحة والممكنة ، ولكن سدنتها كانوا أسرع إلىالتحايل على الجهلة وأنصاف المثقفين ممن يدعون أنهم منفتحون على الفكرالغربي وثقافته ، ولا بد أن يواكبوا هذا التطور ويتعاملوا معه بما يقتضيهالواقع ، وإن كان واقعا مزيفا لا يخطف بريقه إلا عقول الجهلاء والأتباع .فأخذ دعاتها على عواتقهم تمرير هذه البدعة الجديدة ، وجاهدوا في الوصولإلى أغراضهم الزائفة حتى استطاعوا أن يقنعوا الكثيرين بها باعتبارها دعوةإلى التجديد والمعاصرة تهدف إلى الانتقال بالأدب العربي المتوارث نقلةنوعية جديدة تخلصه مما علق به من سمات الجمود والتخلف ليواكب التطورالحضاري الذي يفرضه واقع العصر الذي نعيشه ، والذي تفرضه سنن الحياة .لذلك نجد أدونيس يقول في كتابه الثابت والمتحول ج 3 ص 9 : " ومبدأ الحداثةهو الصراع القائم بين السلفية والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام ن وقدتأسس هذا الصراع في أثناء العهدين الأموي والعباسي ، حيث نرى تيارينللحداثة : الأول سياسي فكري ، ويتمثل من جهة في الحركات الثورية ضد النظامالقائم ، بدءا من الخوارج ، وانتهاء بثورة الزنج ، مرورا بالقرامطة ،والحركات الثورية المتطرفة ، ويتمثل من جهة ثانية في الاعتزال والعقلانيةالإلحادية وفي الصوفية على الأخص " .
ثم يواصل أدونيس حديثة قائلا : "هكذا تولدت الحداثة تاريخيا من التفاعل والتصادم بين موقفين وعقليتين فيمناخ تغير ، ونشأت ظروف وأوضاع جديدة ، ومن هنا وصف عدد من مؤسسي الحداثةالشعرية بالخروج " المرجع السابق ج3 ص11 .
ويعتبر أدونيس المنظرالفكري للحداثيين العرب الذي أخذ على عاتقه نبش كتب التراث ليستخرج منهاكل شاذ ومنحرف من الشعراء والأدباء والمفكرين من أمثال بشار بن برد وأبينواس ، لأن في شعرهم كثير من المروق على الإسلام ، والتشكيك في العقائد ،والسخرية منها ، والدعوة للانحلال الجنسي كما يذكر عوض القرني في كتابهالحداثة في ميزان الإسلام ص 28 . ويواصل القرني حديثه : " وهكذا بعد أنحاول الحداثيون العرب أن يوجدوا لهم جذورا تاريخية عند فساق وزنادقة ،وملاحدة العرب في الجاهلية والإسلام ، انطلقت سفينتهم غير الموفقة فيالعصر الحديث تنتقل من طور إلى آخر متجاوزة كل شيء إلى ما هو أسوء منه ،فكان أول ملامح انطلاقتهم الحديثة هو استبعاد الدين تماما من معاييرهموموازينهم بل مصادرهم ، إلا أن يكون ضمن ما يسمونه بالخرافة ، أو الأسطورة، ويستشهد على صحة قوله بما نقله عن الكاتبة الحداثية خالد سعيد في مجلةفصول بعنوان الملامح الفكرية للحداثة حيث تقول : " إن التوجهات الأساسيةلمفكري العشرينات تقدم خطوطا عريضة تسمح بالمقول إن البداية الحقيقيةللحداثة من حيث هي حركة فكرية شاملة ، قد انطلقت يوم ذاك ، فقد مثل فكرالرواد الأوائل قطيعة مع المرجعية الدينية والتراثية كمعيار ومصدر وحيدللحقيقة ، وأقام مرجعين بديلين : العقل والواقع التاريخي ، وكلاهما إنساني، ومن ثم تطوري ، فالحقيقة عن رائد كجبران ، أو طه حسين لا تلمس بالعقل ،بل تلمس بالاستبصار عند جبران ، والبحث المنهجي العقلاني عند طه حسين "الحداثة في ميزان الإسلام ص 29 ، 30 عوض القرني .
ومن دعاة الحداثةالعربية ـ وهم كثر ـ نذكر منهم على سبيل المثال ، علي أحمد سعيد " أدونيس" وزوجته خالدة سعيد ، وعبد الله العروي ، وكمال أبوديب ، وصلاح فضل ،وصلاح عبد الصبور ، وعبد العزيز المقالح ، وحسين مروة ، ومحمد عفيفي مطر ،وأمل دنقل وعبد الوهاب البياتي ، واحمد مطر ، ومحمود درويش ، وسميح القاسم، وعبد الله الغذامي ، وسعيد السريحي ، وعبد الله الصيخان ، ومحمد التبيتي، وأحمد نائل فقيه من المملكة العربية السعودية ، وهؤلاء منهم الشعراء ،ومنهم النقاد ، والكاتبون
مفهوم الحداثة
إن تعريفمفهوم الحداثة في القاموس (أنظر قاموس روبير) يجرّده من كل مدلول عملياتيفي علم الاجتماع التاريخي. وإذا كانت كلمة "حداثة" تُردّ إلى كل "ما هو منزمن المتكلم" يصبح من المستحيل تخصيص "الحداثة" بزمن وبفضاء تاريخي محدد.والساعي وراء فهم كيف تتحد علاقة "الاسلام بالحداثة" يتعين عليه بصورةأساسية أن يعرف كيف يدرك ظاهرة الحداثة دون أن يتحيز لتجلياتها في الغرب.ويبدو لنا أن هناك خطين يفرضان نفسيهما في مسار البحث هما: 1_ لابد فيالمنطلق، من تصحيح المنظور التاريخي حول نشأة الحداثة في النطاق الأغريقيالسامي. (2) ثم إنه من الضرورة بمكان، اخضاع الحداثة الراهنة _في مكوناتهاالتكنولوجية والفكرية الاساسية _ لتحليل نقدي في ضوء ما يسميه ج.بالانديهبـ "انثروبولوجيا التنازع والخصام". هذه المهمة المزدوجة المشار اليها هناهي من اللزوم إذ أنها تتضمن استباق اعتراض شائع ومحق من جانب المسلمين،خصوصاً في الاوضاع الراهنة: فهؤلاء المسلمون يرفضون بشدة، كل اولئك الذينيقولون، بتبسيط، بتعارض اسلام متداخل مع تقليد القدماء وتراث تكراري ونزعةمحافظة، مع الحداثة المنبثقة والنامية في الغرب، باعتبارها مسيرة حثيثةنحو التقدم، وقبول لا تحفظ فيه للتجديد، ودينامية تاريخية. كثير منالمفكرين المسلمين أقرّوا ويقرّون بالتمثيلات المفروضة بفعل مناورات أوالاعيب ايديولوجية حول العلاقة بين التراث والحداثة. ولهذا يجب أن نوضح،أن ادراك هذه العلاقة محكوم إلى حد بعيد، ومنذ القرن التاسع عشر، بوعيمتنام، للاختلال الفاضح، في كل مستويات الوجود التاريخي، بين المجتمعاتالاسلامية والمجتمعات الغربية. وبدلاً من أن تعمل المقالات الاسلامية علىادراك الظروف الواقعية لوجود الاسلام، في اطار من العداء لا تتكافأ فيهالأسلحة، عمدت هذه المقالات الى الاسترسال في التقريظ الدفاعي أو إلىالهجوم، تغذيها مقالات في علم الاسلاميات تحوي الكثير من الاطروحاتالعرقية. وسوف نرى كيف نستطيع وكيف يجب أن نتجاوز عصوراً من الخصومات ومنسوء الفهم.
_ مقاربة للحداثة في المجال الاغريقي السامي
إن الموقفالذي وقفه الغرب من خط نموه التاريخي الخاص، كان له آثار أكثر ظلماً فيمايتعلق بالتصور التاريخي للحضارة العربية الاسلامية. إذ لم يُكتفَ بطرح هذهالحضارة ضمن "ظلمات" العصر الوسيط، بل كان عليها أن تتحمل الآثارالمتفاعلة للأحكام المسبقة المسيحية، وللأهواء المغرضة التي خلقتها "عمليةالاسترداد" الاسبانية، ولتعصب الفرق (الاخويات) المتكاثرة داخل الاسلامعقب القرن الثالث عشر. وانمحت الوظيفة الابداعية والتوسطية للحضارةالعربية الاسلامية التي قامت بين القرنين السابع والثاني عشر، بصورةتدريجية من المؤلفات التاريخية الغربية: وكانت النتيجة أنه حتى في أيامناهذه، قليلون هم المفكرون والعلماء العرب المسلمون الذين يُشار إليهم حتىفي الكتب الأكثر توثيقاً وإسناداً".
ويصبح من المفهوم، ضمن هذه الشروط،سخط العرب _المسلمون عندما يكتشفون أن الحقبة المنتجة "الحديثة" من عدةاعتبارات، في تاريخهم، تُدرس تحت الاسم "المهين": العصر الوسيط. وتتجلىردة الفعل الأعنف في المغرب وبصورة خاصة في الجزائر، ضد هذا المفهوم، لأنعدداً كبيراً من المغاربة تمثّلوا في المدرسة، وفي الكلية، مقتطفاتوتعاريف التأريخ الرسمي الفرنسي المختصر في كتاب "ماله وايزاك" الشهير.ولكن في المناخ السياسي للصراع ضد الامبريالية، تصل ردة الفعل، المبررةعلمياً، إلى درجات مفرطة ومسرفة في ايديولوجيتها أو في تقريظها الدفاعي:إن فورة الحداثة الفكرية، والعلمية، والتقنية، في الغرب، انطلاقاً منالقرن السادس عشر، تجد أصولها في الجهد الخلاق للفكر وللعلم العربيين،خلال "العصر الذهبي". بل إن الثورة الاجتماعية ذاتها، وبواكير الديمقراطيةقد تحققت أو دوّنت في القرآن، وفي سُنّة النبي، وفي نهج الصحابة.
إنالتجديدات التي ولّدت الحداثة في الغرب، لم تتوصل حتى اليوم الى الاستبعادالكامل لكل مسلمات المدرك الاغريقي السامي (الميتافيزيقية الكلاسيكيةبمكوناتها المتعددة منذ أفلاطون + الميتافيزيقا التوراتية بصيغها اليهوديةالمسيحية والاسلامية). لقد ظلّ علم الاثنولوجيا يعتقد أنه يستطيع أن يميزالمجتمعات الغربية بأنها ذات تاريخانية دينامية عن المجتمعات البدائيةالجامدة المتقوقعة ضمن اعادة الانتاج الطقوسي لميكانيزماتها. واليوم،نكتشف تاريخانية ضمن المجتمعات الأكثر قدماً، ونشهد، بدهشة أو بخيبة أمل،احياء للاعقلاني، وللنزعات المهدية الخلاصية والخرافات والأوهام، والفرق.الخ في المجتمعات حيث تكون جميع صفات الحداثة هي الأعرق والأكثر نشاطا. فيحين أن ما نلحظه ونصفه اليوم بفضل ما قدمته أوجه العلوم المرنة، والفعالةوالمنفتحة، يصح، بصورة اولى، بالنسبة إلى كل مراحل المجتمعات السابقة.
وإذاكانت كل هذه الاشارات صائبة، فلا بدّ من التسليم بأن الحداثة ينبغي أنتُحدّد في المناخ الاسلامي كما في المناخ الغربي المسيحي، بالنسبة إلىقطبين: قطب الماضي وبه يتعلّق، العتيق والقديم، والتقليدي، والعرفي،والكلاسيكي؛ ثم قطب المستقبل وبه يتعلّق التجديد، والمبادهة، والقرارالتطلعي الاستكشافي.
من وجهة النظر التي تهمنا، يجب أن نعلم أن من آثارالقرآن وتعاليم محمد، التاريخية، وضع وتطوير، (في اللغة العربية اولا، ثمفي اللغات الاسلامية الأخرى كالفارسية والتركية، والاوردية، الخ) النواةالميتافيزيقية للتحالف القديم: فالشعوب التي تأثرت قليلاً أو لم تتأثر،حتى القرن السابع، بتيارات الفكر الأغريقي _ اليهودي _ المسيحي، تحوّلتبدورها، إلى هذه "الحداثة" التي يمكن تعريفها كارادة القضاء على الانسانالقديم (الموصوف بالكافر = الخائن للميثاق الأساسي في القرآن) لصالحالانسان الجديد أو المؤمن.
مرفوض في الاسلام عموماً، وما يزال، التمثلالتاريخي والسوسيولوجي، الذي بموجبه يُعتبر الشرع المسمى بالاسلامي بأنهقانون وضعي أضفيت عليه الشرعية بنظرية من نظريات أصول الفقه، ربطت الحلولالعملية التي وضعها القضاة الأول (خلال القرن الأول للهجرة)، بمنابع دينيةأصولية (القرآن والحديث). وكذلك، ما يزال بعض المؤلفين من السنة والشيعة،يقدّمون الخلافة أو الامامة وكأنهما مؤسستان ترتكزان منذ البداية، علىأساس ديني أصيل، في حين أن إضفاء هذه الشرعية، هنا أيضاً، هو عمل لاحق.وقد نجد في اليهودية وفي المسيحية المعاصرتين، مواقف وممارسات مشابهة.وينعقد التوتر بين لغات العصر الكلاسيكي واللغات التي تحاول أن تفرضنفسها، في، وبواسطة العلوم الانسانية، من جراء صراع الايديولوجياتالمتحاربة: فهذه تطرح مزيجاً ناشطاً ومحركاً، من الرسيمات التفسيريةالكلاسيكية ومن بديهيات جدلية اجتماعية تحاول اعادة توزيع السلطاتوالممتلكات. وهذا ما يبدو بوضوح، من خلال أدب كاسح حول لاهوتية الثورة،والتحرير، والثقافة... الخ، عند المسيحيين. ولاهوتية الأرض الموعودة،والشعب المختار، والهجرة، عند اليهود؛ واضفاء الشرعية على الاشتراكية،وعلى معارك التحرير، وعلى السلوكات العصرية، بالقرآن، وسنة النبي وصحابتهعند المسلمين. وينتج عن ذلك مناخ من الفوضى الفكرية وحرب توصف بأنهاأيديولوجية في الأوساط السياسية، وبالابستيمولوجية في الأوساط "العلمية".
منالمهم التعمق أكثر في تحليل هذه الظروف الجديدة، حيث تُدعى كل فكرة إلىالتطبيق اليوم. يجب أن نفهم تماماً بأن المعارضات والخلافات، والانشقاقاتالتي نقوم بوصفها، لا تُعزى فقط إلى مفكرين أسرهم التفكير والبحث المجرد.إن العلم والتكنولوجيا الحديثين يفرضان في كل مكان الاضطراب الذي يلامسالوجود البشري بالذات: فالراديو الترانزيستور، والتلفزيون، والطائرة،والصواريخ العابرة للقارات، وحبة الدواء، وأسلوب الانتاج الصناعي،والمطالبة بنظام اقتصادي جديد وعالمي.. الخ. تحطم بنيات نفسانيةوسيكولوجية، واجتماعية وسياسية رافقت، حتى الآن، نوعاً من اللغة الدينية،وبعض الممارسات الثقافية. ووفقاً لوتائر مختلفة بحسب المجتمع المدروس يقومالانسان المعاصر بتجربة، وإن لم تكن جديدة، بصورة أصلية، في تاريخالحضارة، ولكنها تفرض نفسها بزخمها، وعمقها، وتعميمها السريع على كلالمجتمعات، وعلى كل طبقات المجتمع، وكل الأفراد: والأمر الذي ظلّ، لقرونمعروضاً ومعاشاً، ومدموجاً، سيكولوجياً على أنه واقع محكوم بقواعد طبيعيةتكشف بعنف، وكأنه امكانات محتملة، متكررة بصورة تحكمية (سلطة سياسية،لاهوتية، فلسفية، علمية...) محكومة بتقنينات ثقافية. ولهذا يتم البحثحالياً في فكفكة كل الثقافات التقليدية من أجل كشف أوالياتها التمويهية،وقناعها الواقعي الحق وبمقدار ما لعبت الأديان دوراً مؤثراً في نموومراقبة الثقافات مراقبة ادراكية، أصبح من المحتم أن تكون مستهدفة بصورةخاصة من قبل الاستقصاء التفكيكي. في الاسلام، مثلاً من الضروري المستعجلتبيان، لأول مرة، كيف تحولت مجالات تحقيقية في الوجود الانساني، أي مظاهرمعنوية، إلى مقولات أيديولوجية، متراتبة، بحسب اختيار طبقة حاكمة، وبحسبمقتضيات، ظروف تاريخية، أو ثقل تراث نموذجي: تلك هي حالة الروحي والزمني،وحالة المقدس والمبتذل، وحالة الخرافة والتاريخ، واللاعقلاني والعقلاني،والخيالي والواقعي والأصيل والدخيل.
إن المعطى المسيطر أكثر من غيرهعلى الفكر الاسلامي هو أن الاسلام أسمى من غيره من الديانات كلها.وبالامكان إن طبقنا تعاليمه بدقة، فبالامكان تفادي كل الضلالات، وكل أزماتالحضارة الغربية المزعومة. بل وبالعكس بالامكان بناء حضارة مثالية بالنسبةإلى البشرية جمعاء. وكل محاولة تهدف إلى حصر الاسلام ضمن مشكلة كالتييعاني منها الغرب بصورة خصوصية، هي بالتالي مرفوضة قبل أي فحص أو تدقيق.
-----------------------------
المصدر : الاسلام.. الأمس والغد
* محمد أركون / لوي غارديه / ترجمة : علي المقلد
قبلأن نخوض في مفهوم الحداثة الاصطلاحي ، نرى من المفيد أن نعرج على مضمونهااللغوي ، فهي مصدر من الفعل " حَدَثَ " ، وتعني نقيض القديم ، والحداثةأول الأمر وابتداؤه ، وهي الشباب وأول العمر .
وبهذا المفهوم اللغويسطعت شمس الحداثة في عالمنا العربي المعاصر ، وتوافقت مع ما يحمل عصرنا منعقد نفسية ، وقلق ذاتي من القديم الموروث ، ومحاولة الثورة عليه ، والتخلصمنه ، والبحث عن كل ما هو جديد يتوافق وروح عصر التطور العلمي والمادي ،ويواكب الايدولوجيات الوافد على عالمنا العربي .
أما ما تعنيه الحداثةاصطلاحا فهي : " اتجاه فكري أشد خطورة من اللبرالية والعلمانية والماركسية، وكل ما عرفته البشرية من مذاهب واتجاهات هدامة ، ذلك أنها تضمن كل هذهالمذاهب الفكرية ، وهي لا تخص مجالات الإبداع الفني ، والنقد الأدبي ،ولكنها تخص الحياة الإنسانية في كل مجالاتها المادية والفكرية على حد سواء" ، وهي بهذا المفهوم الاصطلاحي
" اتجاه جديد يشكل ثورة كاملة على كلما كان وما هو كائن في المجتمع " . الحداثة في الأدب المعاصر ـ هل انفضسامرها ، د . محمد مصطفى هدارة ، مجلة الحرس الوطني ربيع الآخر 1410 هـ .
ويقول أحد الباحثين في معرض حديثه عن الحداثة كمنهج فكري يسعى لتغييرالحياة " إن من دعاوى أهل الحداثة أن الأدب يجب أن ينظر إليه من الناحيةالشكلية والفنية فقط بغض النظر عما يدعوا إليه ذلك الأدب من أفكار ،وينادي به من مبادئ وعقائد وأخلاق ، فما دام النص الأدبي عندهم جميلا منالناحية الفنية ، فلا يضير أن يدعو للإلحاد أو الزنا أو اللواط أوالخمريات أو غير ذلك " عوض القرني ، الحداثة في ميزان الإسلام ص 47 .
ويقول د . عدنان النحوي في كتابه الحداثة من منظور إسلامي ص 13 : " لم تعدلفظة الحداثة في واقعنا اليوم تدل على المعنى اللغوي لها ن ولم تعد تحملفي حقيقتها طلاوة التجديد ، ولا سلامة الرغبة ، إنها أصبحت رمزا لفكر جديد، نجد تعريفة في كتابات دعاتها وكتبهم ن فالحداثة تدل اليوم على مذهب فكريجديد يحمل جذوره وأصوله من الغرب ، بعيدا عن حياة المسلمين ن بعيدا عنحقيقة دينهم ، ونهج حياتهم ، وظلال الإيمان والخشوع للخالق الرحمن " .
فالحداثة إذن من منظور إسلامي عند كثير من الدعاة تتنافى مع دينناوأخلاقنا الإسلامية ، وهي معول هدم جاءت لتقضي على كل ما هو إسلامي ديناولغة وأدبا وتراثا ، وتروج لأفكار ومذاهب هدامة ، بل هي أخطر تلك المذاهبالفكرية ، وأشدها فتكا بقيم المجتمع العربي الإسلامية ومحاولة القضاء عليهوالتخلص منه ، وإحلال مجتمع فكري عربي محله يعكس ما في هذه المجتمعاتالغربية من حقد وحنق على العالم الإسلامي ، ويروجون بكل اهتمام وجديه منخلال دعاتها ممن يدعون العروبة لهذه المعتقدات والقيم الخبيثة بغرض قتلروح الإسلام ولغته وتراثه .وتقول الكاتبة سهيلة زين العابدين في مقالةنشرت لها في جريدة الندوة السعودية الغدد 8424 في 14 / 3 / 1407 هـ ص 7 :" الحداثة من أخطر قضايا الشعر العربي المعاصر لأنها أعلنت الثورة والتمردعلى كل ما هو ديني وإسلامي وأخلاقي ، فهي ثورة على الدين على التاريخ علىالماضي على التراث على اللغة على الأخلاق ، واتخذت من الثورة على الشكلالتقليدي للقصيدة الشعرية العربية بروازا تبروز به هذه الصورة الثوريةالملحدة " .
ويذكر د . محمد خضر عريف في معرض حديثه عن الحداثة وتعليقهعلى بعض الدراسات التي صدرت حولها من غير مفكريها وروادها في الوطن العربيفي كتابه الحداثة مناقشة هادئة لقضية ساخنة ص 11 و 12 قائلا : " إننا بصددفكر هدام يتهدد أمتنا وتراثنا وعقيدتنا وعلمنا وعلومنا وقيمنا ، وكل شيءفي حاضرنا وماضينا ومستقبلنا " ، ويفرق الدكتور / خضر عريف في كتابةالحداثة مناقشة هادئة لقضية ساخنة بين مصطلح الحداثة والتجديد والمعاصرفيقول : " والذي يدفع إلى ذلك الظن الخاطئ هو الخلط بين مصطلح الحداثة (modernism ) ، والمعاصرة ( modernity ) ، والتحديث ( modernization )وجميع تلك المصطلحات كثيرا ما تترجم إلى " الحداثة " على ارعم من اختلافهاشكلا ومضمونا وفلسفة وممارسة . والواقع أن الاتجاه الفكري السليم يتفق معالتحديث ، ولكنه لا يتفق مع الحداثة . وإن يكن مصطلحا modernity وmodernization يمكن الجمع بينهما ليعنيا المعاصرة أو التجديد ، فإن مصطلحmodernism يختلف عنهما تماما . إذ ينبغي أن نفرق بين مصطلحين أجنبيين ، منالمؤسف أن كليهما يترجم ترجمة واحدة وهي ( الحداثة ) أما المصطلح الأولفهو : modernity الذي يعني إحداث تجديد وتغيير في المفاهيم السائدةالمتراكمة عبر الأجيال نتيجة وجود تغيير اجتماعي أو فكري أحدثه اختلافالزمن .
أما الاصطلاح الثاني فهو modernism ويعني مذهبا أدبيا ، بلنظريه فكرية لا تستهدف الحركة الإبداعية وحدها ، بل تدعو إلى التمرد علىالواقع بكل جوانبه السياسية والاجتماعية والاقتصادية . . . وهو المصطلحالذي انتقل إلى أدبنا العربي الحديث ، وليس مصطلح modernity الذي يحسن أننسميه المعاصرة ، لأنه يعني التجديد بوجه عام دون الارتباط بنظرية ترتبطبمفاهيم وفلسفات متداخلة متشابكة .
ونحن في تعريفنا لمفهوم الحداثةلا نريد أن نتوقف عند ما قال به خصومها ، ولكن لا بد أن نتعرف عليه مماقال به أصحابها ومفكروها وسدنتها أيضا . يقول على أحمد سعيد الملقببأودنيس وهو من رواد الحداثة العربية ومفكريها رابطا بينها وبين الحريةالماسونية : " إن الإنسان حين يحرق المحرم يتساوى بالله " . ثم يتنامىالمفهوم الماسوني لكلمة الحرية إلى صيغته التطبيقية الكاملة في قوله " :إن التساوي بالله يقود إلى نفيه وقتله ، فهذا التساوي يتضمن رفض العالمكما هو ، أو كما نظمه الله ن والرفض هنا يقف عند حدود هدمه ، ولا يتجاوزهاإلى إعادة بنائه ، ومن هنا كان بناء عالم جديد يقتضي قتل الله نفسه مبدأالعالم القديم ، وبتعبير آخر لا يمكن الارتفاع إلى مستوى الله إلا بأنيهدم صورة العالم الراهن وقتل الله نفسه " محاضرة الحداثة والتراث د .محمد هدارة .
وقد عرف رولان بارت الحداثة بأنها انفجار معرفي لميتوصل الإنسان المعاصر إلى السيطرة عليه فيقول : " في الحداثة تنفجرالطاقات الكامنة ، وتتحرر شهوات الإبداع في الثورة المعرفية مولدة في سرعةمذهلة ، وكثافة مدهشة أفكارا جديدة ، وأشكالا غير مألوفة ، وتكوينات غريبة، وأقنعة عجيبة ، فيق بعض الناس منبهرا بها ، ويقف بعضهم الآخر خائفا منها، هذا الطوفان المعرفي يولد خصوبة لا مثيل لها ، ولكنه يغرق أيضا " محاضرةالحداثة والتراث د . محمد هدارة .
ويتابع الدكتور هدارة قائلا : كمايصفها بعض الباحثين الغربيين " بأنها زلزلة حضارية عنيفة ، وانقلاب ثقافيشامل ، وأنها جعلت الإنسان الغربي يشك في حضارته بأكملها ، ويرفض حتى أرسخمعتقداته الموروثة " .
جذور الحداثة في الغرب
ظهر تيار الحداثة فيالغرب نتيجة للمد الطبيعي الذي دخلته أوروبا منذ العصور الوثنية فيالعهدين اليوناني والروماني ، امتدادا إلى عصر الظلمات ، مرورا بالعصورالمتلاحقة التي تزاحمت بكل أنواع المذاهب الفكرية ، والفلسفات الوثنيةالمتناقضة والمتلاحقة ، وقد كان كل مذهب عبارة عن ردة فعل لمذهب سابق ،وكل مذهب من هذه المذاهب كان يحمل في ذاته عناصر اندثاره وفنائه .
لقد عشق الغرب شتى المذاهب والتيارات الفكرية بدءا من اعتناق الوثنية ،وانتهاء بالانفجار الفكري اليائس الذي عرف بالحداثة ، مرورا بالمسيحية وماترتب عليها من مفاسد الكنيسة وظلمها وظلامها ، وبالطبيعة التي هجرهاشعراؤها وكتابها ليعشقوا الواقعية المزيفة التي ما لبثوا أن هجروها هرباإلى الكفر والإلحاد بالله كفرا صريحا جاهرا ، ثم تحولوا بكفرهم حاملينه منبعد يأس على كواهلهم باحثين عن الخلاص الذي ينتشلهم من غرقهم الإلحاديليجدوا أنفسهم يغوصون في وحول المادية التاريخية ، والجدلية السفسطائية ،غير أنهم لم يجدوا ضالتهم فيما بحثوا عنه فارتدوا هاربين ليلقوا بأنفسهمفي أحضان الفن للفن ، ولكنهم لم تستقر لهم حال فتخبطوا خبط عشواء حتىاستقر بهم السبيل إلى مهاوي الوجودية التي كشفت عن كل شيء فجعلت الحريةفوضى ، والالتزام تفلتا ، والإيمان بالأشياء كفرا " فلم يعد في حياةالغربي إلا أن تنفجر هذه المذاهب انفجارا رهيبا يحطم كل شيء ، يحطم كلقيمة ، لتعلن يأس الإنسان الغربي وفشله في أن يجد أمنا أو أمانا " الحداثةمن منظور إيماني ص 17 .
وقد جاءت الحداثة لتمثل هذا الانفجار الفكريالرهيب اليائس ، انفجار الإنسان الذي لا يعرف الأمن والأمان في ذاته آلافالسنين .
وقد اختلف كثير من الذين أرخوا ونظروا للحداثة الغربية حولبداياتها الأولى ، وعلى يد من من كتابهم ظهرت ونشأت ، ورغم ذلك يتفق بعضهمعلى أن إرهاصاتها المبكرة بدأت منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي علىيدي " بودلير " الفرنسي صاحب ديوان " أزهار الشر " . ولكنها لم تنشأ منفراغ ، بل هي امتداد لإفرازات المذاهب والتيارات الفكرية ولاتجاهاتالأدبية والايدلوجية المتعاقبة التي عاشتها أوروبا في القرون الخوالي ،والتي قطعت فيها صلتها بالدين والكنيسة وتمردت عليه ، وقد ظهر ذلك جليامنذ ما عرف بعصر النهضة في القرن الخامس عشر الميلادي ، عندما انسلخالمجتمع الغربي عن الكنيسة وثار علي سلطاتها الروحية ، التي كانت بالنسبةلهم كابوسا مخيفا ، وسيفا مسلطا على رقابهم محاربا لك دعوة للعلم الصحيح ،والاحترام لعقل الإنسان وتفكيره ، وفكره .
وكان من الطبيعي أن نرىتخبط الغرب ، وتقلباته وثوراته على كل شيء من حوله ، ما دام لا توجد أرضيةصلبة مستوية ينطلق منها ، لتصور مقبول للحياة والإنسان والكون عامة ولاتوابث قوية لهم لتكون مرتكزا يتكئون عليه نحو تقدمهم المادي ، ورقيهمالفكري والحضاري ، مما أدى إلى ظهور كثير من المتناقضات والتضاد ، وأنيهدموا اليوم بمعاول التمرد والثورة ما بنوه بالأمس ، إضافة إلى انعدامالروابط المتينة بين هذه الأفكار على اختلاف مشاربها وتباين اتجاهاتها سوىأنها تلتقي في مستنقع المادية الملحدة ، لذا نجدهم يتقلبون خلال المذاهبالفكرية والأدبية التي ووسمتهم بخاتمها ، وطبعتهم بطابعها ، ولونتهمباتجاهاتها فتولدت عندهم الكلاسيكية التي كانت امتدادا طبيعيا لنظريةالمحاكاة والتقليد التي أطلقها أرسطو ، والتي تعني أن الإنسان محدودالطاقات ، متمسك بأهداب التقليد ، مع الميل إلى التحفظ واللياقة ، ومراعاةالمقام ، والخيال المركزي المجند في خدمة الواقع .
تم تأسس الاتجاهالرومانسي على أنقاض الكلاسيكية التي وقفت عاجزة أمام تحقيق ما كان يصبوإليه الغرب من التخلص من آثار القديم ومحاكاته ، فوجدوا ضالتهم في مذهبتوري متمرد على كل أشكال القديم وآثاره ، فقدست الرومانسية الذات ، ورفضتالواقع ، وثارت على الموروث ، وادعت أن الشرائع والعادات والتقاليد هيالتي أفسدت المجتمع ، ويجب العمل على تحطيمها ، والتخلص منها ، ولكن الأمرغير المتوقع مع ما نادت به الرومانسية ، وجاهدت من أجل تحقيقه أنها قدفشلت فشلا ذريعا في تعيير الواقع ، فأوغل دعاتها في الخيال والأحلام ،والتحليق نحو المجهول .
وقد تحول الغرب كما هي طبيعته فرارا منالمجهول إلى المجهول ، ومن الضلال إلى الضلال ، ومن اللاواقع إلى ما هوأبعد من اللاواقع وكان ذلك ديدنهم على مدى قرون طوال يبحثون عن لا شيءلعلهم يجدون ذواتهم الضائعة في اتجاه جديد يخلصهم من معاناتهم وضياعهموتيه نفوسهم ، فاتجهوا نحو ما عرف بالبرناسية ، ثم فروا منها لإلى ما عرفبالواقعية التي تطورت فيما بعد إلى الرمزية التي كانت حلقة الوصل بين تلكالمذاهب الفكرية والأدبية وبين ما عرف اليوم بالحداثة ، وعلاقتها بالجانبالأدبي على أقل تقدير ، وكان على رأس المذهب الرمزي الكاتب والأديبالأمريكي المشهور " إدغار آلان بو " الذي تأثر به رموز الحداثة وروادها فيالعرب أمثال مالاراميه ، وفاليري ، وموبسان ، كما كان المؤثر الأولوالمباشر في فكر وشعر عميد الحداثيين في الغرب والشرق على حد سواء الشاعرالفرنسي المشهور " بودلير " كما ذكرنا آنفا .
وقد نادى إدغار بأنيكون الأدب كاشفا عن الجمال ، ولا علاقة له بالحق والأخلاق ، وهذا ماانعكس على حياته بشكل عام ، حيث كان موزعا بين القمار والخمر والفشلالدراسي والعلاقات الفاسدة ، ومحاولة الانتحار . وعلى خطا إدغار سارتلميذه بودلير ممعنا في الضلال ومجانبا للحق والفضيلة .
ويعد بودليرمؤسس تيار الحداثة من الناحية الفنية الأدبية ، والذي نادى بالغموض فيالأحاسيس والمشاعر ، والفكر والأخلاق ، كما قام المذهب الرمزي الذي أرادهعلى تغيير وظيفة اللغة الوضعية بإيجاد علاقات لغوية جديدة تشير إلى مواضعلم تعهدها من قبل . . . ويطمح أيضا إلى تغيير وظيفة الحواس عن طريق اللغةالشعرية ، لذا لا يستطيع القارئ ، أو السامع أن يجد المعنى الواضح المعهودفي الشعر الرمزي . كما يذكر د . عبد الحميد جيدة في كتابه الاتجاهاتالجديدة في الشعر العربي المعاصر ص 121 .
ومما لا جدال فيه أنالحداثة كمذهب أدبي تجديدي قامت في أساسها الأول على الغموض وتغيير اللغة، والتخلص من الموروث بكل أشكاله ، وأجناسه ، وتجاوزهم للسائد والنمطي .
وكانبودلير الذي نمت وترعرعت على يديه بذرة الحداثة من أسوأ ما عرفت الآدابالعالمية خلقا وإمعانا في الرذيلة ، وممارسة لكل ما يتنافي مع الأخلاقوالعقيدة . يقول عنه مصطفى السحرتي في مقدمة ترجمة ديوان أزهار الشرلبودلير " لقد كانت مراحل حياته منذ الطفولة نموذجا للضياع والشذوذ ، ثمبعد نيل الشهادة الثانوية قضى فترة في الحي اللاتيني ، حيث عاش عيشة فسوقوانحلال ، وهناك أصيب بداء الزهري ، وعاش في شبابه عيشة تبذل ، وعلاقاتشاذة مع مومسات باريس ، ولاذ في المرحلة الأخيرة من حياته بالمخدراتوالشراب " .
ويقول عنه الشاعر إبراهيم ناجي مترجم ديوان أزهار الشر "لإن بودلير كان يحب تعذيب الآخرين ويتلذذ به ، وكان يعيش مصابا بمرضانفصام الشخصية " .
ولم يكن الطعن على شخصية بودلير متوقفة على بعضالشعراء والنقاد العرب الذين عرفوه من خلال شعره ، وعايشوه في مرحلة زمنيةمعينة في النصف الأول من القرن العشرين ، بل كان لأبناء جلدته أقوالاوآراء كثيرة حول هذه الشخصية الحية الميتة ، يقول عنه أحد كتاب الغرب : "إن بودلير شيطان من طراز خاص " . ويقول عنه آخر : " إنك لا تشم في شعرهالأدب والفن ، وإنما تشم منه رائحة الأفيون " عوض القرني : الحداثة فيميزان الإسلام ص 23 .
وقد عرف بودلير إضافة إلى ما عرف عن شخصيتهالذاتية بنزعته الماركسية الثورية الفردية التي لا تنسجم مع المثلوالمبادئ التي ينادي بها عصره آنذاك . يقول عنه محمد برادة في مجلة فصولالعدد الثالث ص 13 ، 14 : " إن الخيبة التي انتهى إليها بودلير من مراهنتهعلى حداثته ، ليس فقط أنه يعاني موت الجمال ويبكيه ، بل يعاني كذلك غيابا، لا غياب الله ، أو موته ، بل أكثر من ذلك ، فالحداثة تغلف ، وتقنّع غيابالبراكسيس وإخفاقه بمعناه الماركسي ، الباركسيسي الثوري الشامل ، وأنهاتكشف هذا الغياب ، وستكون الحداثة داخل المجتمع البرجوازي هي ظل الثورةالممكنة " . كما يقول عنه غالي شكري في كتابه شعرنا الحديث إلى أين ص 16 "وقديما كان بودلير نبيا للشعر الحديث ، حيث تبلور إحساسه المفاجئ العليلبحياة فردية لا تنسجم مع المثل الذي ينادي بها العصر الذي يعيش فيه " .
ثم أعقب بودلير رائد من رواد الحداثة في الغرب وهو رامبو الذي لا يقل شأناعنه في المناداة إلى الهدم العقلاني لكل الحواس ، وأشكال الحب والعذابوالجنون ، ودعا إلى أن يكون الشعر رؤية ما لا يرى ، وسماع ما لا يسمع ،وفي رأيه أن الشاعر لا بد أن يتمرد على التراث ن وعلى الماضي ، ويقطع أيصلة مع المبادئ الأخلاقية والدينية ، وتميز شعره بغموضه ، وتغييره لبنيةالتراكيب ، والصياغة اللغوية عما وضعت عليه ، وتميز أيضا بالصور المتباعدةالمتناقضة الممزقة كما يذكر د . عبد الحميد جيدة في كتابه الاتجاهاتالحديثة في الشعر العربي المعاصر ص 148 .
وقد تعاقب ركب الحداثيينفي الغرب ، وسلكوا نفس الطريق الذي بدأه بودلير ، ورامبو ، وساروا علىنهجهما ، ومن هؤلاء مالارمييه ، وبول فاليري ، حتى وصلت الحداثة الغربيةشكلها المتكامل النهائي على يد الأمريكي اليهودي عزرا باوند ، والإنجليزيتوماس اليوت .
وغدت الحداثة الغربية سلسلة متصلة الحلقات يتناقلهااللاحقون عن السابقين ، وهي إلى جانب ذلك متصلة شديدة الاتصال بما سبقهامن وجودية ورمزية وسريالية ومادية جدلية ومادية تاريخية وواقعية واشتراكيةعلمية وبرناسية ، ورومانسية ، وبكثير من الأفكار والمبادئ والتيارات التيكانت قاعدة لها ، ومنطلقا فكريا مدها بكل ما حملته تلك المذاهب من فكروأيدلوجيات ، وتمرد على كل ما هو سائد وموروث ، وتجاوزت حدود الأدب واللغةليطال الدين والأخلاق والقيم والعلم . فهي تحطيم للماضي والحاضر والمستقبل.
وهكذا نمت الحداثة الغربية وترعرعت في أوحال الرذيلة ، ومستنقعاتاللاأخلاق ، وأينعت ثمارها الخبيثة على أيدي الشيوعيين من أمثال نيرودا ،ولوركا ، وناظم حكمت ، وفتشنكو ، والوجوديين أمثال سارتر ، وسيمون ديبوفوار ، وألبير كامو ، وآتت أكلها على أيدي الجيل المنظر والداعم لهاوالمحفز على السير في ركابها من أمثال ألوي أراجون ، وهنري لوفيفر ،وأوجين جراندال ، ورولان بارت ، ورومان ياكوبسون ، وليفي شترواس ، وبياجيه، وغيرهم كثر .
الحداثة العربية
تسللت الحداثة الغربيةإلى أدبنا ولغتنا العربية وفكرنا ومعتقداتنا وأخلاقياتنا كما تتسلل الأفعىالناعمة الملمس لتقتنص فريستها ، أن تشعر الفريسة بها إلا وهي جثة هامدةتزدردها رويدا رويدا ، هكذا كان تسلل الحداثة إلى عقول معتنقيها وروادهاوسدنتها من أدباء ونقاد ومفكرين على امتداد الوطن العربي . وهي كغيرها منالمذاهب الفكرية ، والتيارات الأدبية التي سبقتها إلى البيئة العربيةكالبرناسة ، والواقعية ، والرمزية ، والرومانسية ، والوجودية ، وجدت لهافي فكرنا وأدبنا العربي تربة خصبة ، سرعان ما نمت وترعرعت على أيدي روادهاالعرب ، أمثال غالي شكري ، وكاهنها الأول والمنظر لها على أحمد سعيدالمعروف " بأدونيس " ، وزوجته خالدة سعيد من سوريا ، وعبد الله العروي منالمغرب ، وكمال أبو ديب من فلسطين ، وصلاح فضل ، وصلاح عبد الصبور من مصر، وعبد الوهاب البياتي من العراق ، وعبد العزيز المقالح من اليمن ، وحسينمروة من لبنان ، ومحمود درويش ، وسميح القاسم من فلسطين ، ومحمد عفيفي مطر، وأمل دنقل من مصر ، وعبد الله القذامي ، وسعيد السريحي من السعودية ،وغيرهم .
وقد أشار غالي شكري في كتابه الشعر الحديث إلى أين إلىالروافد التي غذت بذرة الحداثة العربية فقال : " كانت هذه المجموعة منالكشوف تفصح عن نظرة تاريخية تستضيء بالماضي لتفسر الحاضر ، وتنبئبالمستقبل . فالمنهج الجدلي ، والمادية التاريخية يتعرفان على أصل المجتمع، ثم يفسران أزمة العصر ، أو النظام الرأسمالي ، ثم يتنبآن بالمجتمعالاشتراكي الذي ينعدم فيه الصراع الطبقي " .
ويقول أدونيس في كتابهالتابث والمتحول كما ذكر الدكتور محمد هدارة في مقال له نشر في مجلة الحرسالوطني السعودي : " لا يمكن أن تنهض الحياة العربية ، ويبدع الإنسانالعربي إذا لم تنهدم البنية التقليدية السائدة للفكر العربي ، ويتخلص منالمبنى الديني التقليدي الاتباعي " . وهذه الدعوة الصريحة والخبيثة في حدذاتها دعوة جاهرة للثورة على الدين الإسلامي ، والقيم والأخلاق العربيةالإسلامية ، والتخلص منها ، والقضاء عليها .
ثم يقول أدونيس أيضا فيمقابلة أجرتها معه مجلة فكر وفن عام 1987 م : " إن القرآن هو خلاصة ثقافةلثقافات قديمة ظهرت قبله . . . وأنا أتبنى التمييز بين الشريعة والحقيقة ،إن الشريعة هي التي تتناول شؤون الظاهر ، والحقيقة هي التي يعبرون عنهابالخفي ، والمجهول ، والباطن ، ولذلك فإن اهتمامي بالمجهول ربما يأتي ،ويتغير باستمرار ، وهذا ما يتناقض مع الدين " .
مما سبق يتضح أن روادالحداثة لم يكونوا دعاة للتجديد بمفهومه المتعارف عليه في اللغة ولا يعنيبالأدب والشعر كما يدعون ، وإنما هم دعاة للهدم والتخريب ، كما يعلنون عنذلك صراحة في كتبهم النقدية ودواوينهم الشعرية ومؤلفاتهم بشكل عام . فقدضل كثير منهم يخلط بين الحداثة كمنهج فكري ، يدعو إلى الثورة والتمرد علىالموروث والسائد والنمطي بأنواعه المختلفة عقيدا ولغة وأدبا وأخلاقا ،وبين المعاصرة والتجديد الذي يدعو إلى تطوير ما هو موجود من ميراث أدبيولغوي ، والإضافة عليه بما يواكب العصر ، ويتواءم مع التطور ، منطلقا منذلك الإرث الذي لا يمكن تجاوزه بحال من الأحوال ، فهو عنوان الأمة ، ورمزحضارتها ، والأمة التي لا موروث لها لا حضارة لها ، وجديدها زائف ممجوج .
وقد تسللت الحداثة الغربية إلى فكرنا العربي في غفلة دينية لدى الكثيرينمن المثقفين العرب المسلمين ، وإن كان القلة منهم هم الذين تنبهوا لهذاالخطر الداهم للغتهم وعقيدتهم وأدبهم على حد سواء ، فحاولوا التصدي لهابشتى الطرق والوسائل المتاحة والممكنة ، ولكن سدنتها كانوا أسرع إلىالتحايل على الجهلة وأنصاف المثقفين ممن يدعون أنهم منفتحون على الفكرالغربي وثقافته ، ولا بد أن يواكبوا هذا التطور ويتعاملوا معه بما يقتضيهالواقع ، وإن كان واقعا مزيفا لا يخطف بريقه إلا عقول الجهلاء والأتباع .فأخذ دعاتها على عواتقهم تمرير هذه البدعة الجديدة ، وجاهدوا في الوصولإلى أغراضهم الزائفة حتى استطاعوا أن يقنعوا الكثيرين بها باعتبارها دعوةإلى التجديد والمعاصرة تهدف إلى الانتقال بالأدب العربي المتوارث نقلةنوعية جديدة تخلصه مما علق به من سمات الجمود والتخلف ليواكب التطورالحضاري الذي يفرضه واقع العصر الذي نعيشه ، والذي تفرضه سنن الحياة .لذلك نجد أدونيس يقول في كتابه الثابت والمتحول ج 3 ص 9 : " ومبدأ الحداثةهو الصراع القائم بين السلفية والرغبة العاملة لتغيير هذا النظام ن وقدتأسس هذا الصراع في أثناء العهدين الأموي والعباسي ، حيث نرى تيارينللحداثة : الأول سياسي فكري ، ويتمثل من جهة في الحركات الثورية ضد النظامالقائم ، بدءا من الخوارج ، وانتهاء بثورة الزنج ، مرورا بالقرامطة ،والحركات الثورية المتطرفة ، ويتمثل من جهة ثانية في الاعتزال والعقلانيةالإلحادية وفي الصوفية على الأخص " .
ثم يواصل أدونيس حديثة قائلا : "هكذا تولدت الحداثة تاريخيا من التفاعل والتصادم بين موقفين وعقليتين فيمناخ تغير ، ونشأت ظروف وأوضاع جديدة ، ومن هنا وصف عدد من مؤسسي الحداثةالشعرية بالخروج " المرجع السابق ج3 ص11 .
ويعتبر أدونيس المنظرالفكري للحداثيين العرب الذي أخذ على عاتقه نبش كتب التراث ليستخرج منهاكل شاذ ومنحرف من الشعراء والأدباء والمفكرين من أمثال بشار بن برد وأبينواس ، لأن في شعرهم كثير من المروق على الإسلام ، والتشكيك في العقائد ،والسخرية منها ، والدعوة للانحلال الجنسي كما يذكر عوض القرني في كتابهالحداثة في ميزان الإسلام ص 28 . ويواصل القرني حديثه : " وهكذا بعد أنحاول الحداثيون العرب أن يوجدوا لهم جذورا تاريخية عند فساق وزنادقة ،وملاحدة العرب في الجاهلية والإسلام ، انطلقت سفينتهم غير الموفقة فيالعصر الحديث تنتقل من طور إلى آخر متجاوزة كل شيء إلى ما هو أسوء منه ،فكان أول ملامح انطلاقتهم الحديثة هو استبعاد الدين تماما من معاييرهموموازينهم بل مصادرهم ، إلا أن يكون ضمن ما يسمونه بالخرافة ، أو الأسطورة، ويستشهد على صحة قوله بما نقله عن الكاتبة الحداثية خالد سعيد في مجلةفصول بعنوان الملامح الفكرية للحداثة حيث تقول : " إن التوجهات الأساسيةلمفكري العشرينات تقدم خطوطا عريضة تسمح بالمقول إن البداية الحقيقيةللحداثة من حيث هي حركة فكرية شاملة ، قد انطلقت يوم ذاك ، فقد مثل فكرالرواد الأوائل قطيعة مع المرجعية الدينية والتراثية كمعيار ومصدر وحيدللحقيقة ، وأقام مرجعين بديلين : العقل والواقع التاريخي ، وكلاهما إنساني، ومن ثم تطوري ، فالحقيقة عن رائد كجبران ، أو طه حسين لا تلمس بالعقل ،بل تلمس بالاستبصار عند جبران ، والبحث المنهجي العقلاني عند طه حسين "الحداثة في ميزان الإسلام ص 29 ، 30 عوض القرني .
ومن دعاة الحداثةالعربية ـ وهم كثر ـ نذكر منهم على سبيل المثال ، علي أحمد سعيد " أدونيس" وزوجته خالدة سعيد ، وعبد الله العروي ، وكمال أبوديب ، وصلاح فضل ،وصلاح عبد الصبور ، وعبد العزيز المقالح ، وحسين مروة ، ومحمد عفيفي مطر ،وأمل دنقل وعبد الوهاب البياتي ، واحمد مطر ، ومحمود درويش ، وسميح القاسم، وعبد الله الغذامي ، وسعيد السريحي ، وعبد الله الصيخان ، ومحمد التبيتي، وأحمد نائل فقيه من المملكة العربية السعودية ، وهؤلاء منهم الشعراء ،ومنهم النقاد ، والكاتبون
مفهوم الحداثة
إن تعريفمفهوم الحداثة في القاموس (أنظر قاموس روبير) يجرّده من كل مدلول عملياتيفي علم الاجتماع التاريخي. وإذا كانت كلمة "حداثة" تُردّ إلى كل "ما هو منزمن المتكلم" يصبح من المستحيل تخصيص "الحداثة" بزمن وبفضاء تاريخي محدد.والساعي وراء فهم كيف تتحد علاقة "الاسلام بالحداثة" يتعين عليه بصورةأساسية أن يعرف كيف يدرك ظاهرة الحداثة دون أن يتحيز لتجلياتها في الغرب.ويبدو لنا أن هناك خطين يفرضان نفسيهما في مسار البحث هما: 1_ لابد فيالمنطلق، من تصحيح المنظور التاريخي حول نشأة الحداثة في النطاق الأغريقيالسامي. (2) ثم إنه من الضرورة بمكان، اخضاع الحداثة الراهنة _في مكوناتهاالتكنولوجية والفكرية الاساسية _ لتحليل نقدي في ضوء ما يسميه ج.بالانديهبـ "انثروبولوجيا التنازع والخصام". هذه المهمة المزدوجة المشار اليها هناهي من اللزوم إذ أنها تتضمن استباق اعتراض شائع ومحق من جانب المسلمين،خصوصاً في الاوضاع الراهنة: فهؤلاء المسلمون يرفضون بشدة، كل اولئك الذينيقولون، بتبسيط، بتعارض اسلام متداخل مع تقليد القدماء وتراث تكراري ونزعةمحافظة، مع الحداثة المنبثقة والنامية في الغرب، باعتبارها مسيرة حثيثةنحو التقدم، وقبول لا تحفظ فيه للتجديد، ودينامية تاريخية. كثير منالمفكرين المسلمين أقرّوا ويقرّون بالتمثيلات المفروضة بفعل مناورات أوالاعيب ايديولوجية حول العلاقة بين التراث والحداثة. ولهذا يجب أن نوضح،أن ادراك هذه العلاقة محكوم إلى حد بعيد، ومنذ القرن التاسع عشر، بوعيمتنام، للاختلال الفاضح، في كل مستويات الوجود التاريخي، بين المجتمعاتالاسلامية والمجتمعات الغربية. وبدلاً من أن تعمل المقالات الاسلامية علىادراك الظروف الواقعية لوجود الاسلام، في اطار من العداء لا تتكافأ فيهالأسلحة، عمدت هذه المقالات الى الاسترسال في التقريظ الدفاعي أو إلىالهجوم، تغذيها مقالات في علم الاسلاميات تحوي الكثير من الاطروحاتالعرقية. وسوف نرى كيف نستطيع وكيف يجب أن نتجاوز عصوراً من الخصومات ومنسوء الفهم.
_ مقاربة للحداثة في المجال الاغريقي السامي
إن الموقفالذي وقفه الغرب من خط نموه التاريخي الخاص، كان له آثار أكثر ظلماً فيمايتعلق بالتصور التاريخي للحضارة العربية الاسلامية. إذ لم يُكتفَ بطرح هذهالحضارة ضمن "ظلمات" العصر الوسيط، بل كان عليها أن تتحمل الآثارالمتفاعلة للأحكام المسبقة المسيحية، وللأهواء المغرضة التي خلقتها "عمليةالاسترداد" الاسبانية، ولتعصب الفرق (الاخويات) المتكاثرة داخل الاسلامعقب القرن الثالث عشر. وانمحت الوظيفة الابداعية والتوسطية للحضارةالعربية الاسلامية التي قامت بين القرنين السابع والثاني عشر، بصورةتدريجية من المؤلفات التاريخية الغربية: وكانت النتيجة أنه حتى في أيامناهذه، قليلون هم المفكرون والعلماء العرب المسلمون الذين يُشار إليهم حتىفي الكتب الأكثر توثيقاً وإسناداً".
ويصبح من المفهوم، ضمن هذه الشروط،سخط العرب _المسلمون عندما يكتشفون أن الحقبة المنتجة "الحديثة" من عدةاعتبارات، في تاريخهم، تُدرس تحت الاسم "المهين": العصر الوسيط. وتتجلىردة الفعل الأعنف في المغرب وبصورة خاصة في الجزائر، ضد هذا المفهوم، لأنعدداً كبيراً من المغاربة تمثّلوا في المدرسة، وفي الكلية، مقتطفاتوتعاريف التأريخ الرسمي الفرنسي المختصر في كتاب "ماله وايزاك" الشهير.ولكن في المناخ السياسي للصراع ضد الامبريالية، تصل ردة الفعل، المبررةعلمياً، إلى درجات مفرطة ومسرفة في ايديولوجيتها أو في تقريظها الدفاعي:إن فورة الحداثة الفكرية، والعلمية، والتقنية، في الغرب، انطلاقاً منالقرن السادس عشر، تجد أصولها في الجهد الخلاق للفكر وللعلم العربيين،خلال "العصر الذهبي". بل إن الثورة الاجتماعية ذاتها، وبواكير الديمقراطيةقد تحققت أو دوّنت في القرآن، وفي سُنّة النبي، وفي نهج الصحابة.
إنالتجديدات التي ولّدت الحداثة في الغرب، لم تتوصل حتى اليوم الى الاستبعادالكامل لكل مسلمات المدرك الاغريقي السامي (الميتافيزيقية الكلاسيكيةبمكوناتها المتعددة منذ أفلاطون + الميتافيزيقا التوراتية بصيغها اليهوديةالمسيحية والاسلامية). لقد ظلّ علم الاثنولوجيا يعتقد أنه يستطيع أن يميزالمجتمعات الغربية بأنها ذات تاريخانية دينامية عن المجتمعات البدائيةالجامدة المتقوقعة ضمن اعادة الانتاج الطقوسي لميكانيزماتها. واليوم،نكتشف تاريخانية ضمن المجتمعات الأكثر قدماً، ونشهد، بدهشة أو بخيبة أمل،احياء للاعقلاني، وللنزعات المهدية الخلاصية والخرافات والأوهام، والفرق.الخ في المجتمعات حيث تكون جميع صفات الحداثة هي الأعرق والأكثر نشاطا. فيحين أن ما نلحظه ونصفه اليوم بفضل ما قدمته أوجه العلوم المرنة، والفعالةوالمنفتحة، يصح، بصورة اولى، بالنسبة إلى كل مراحل المجتمعات السابقة.
وإذاكانت كل هذه الاشارات صائبة، فلا بدّ من التسليم بأن الحداثة ينبغي أنتُحدّد في المناخ الاسلامي كما في المناخ الغربي المسيحي، بالنسبة إلىقطبين: قطب الماضي وبه يتعلّق، العتيق والقديم، والتقليدي، والعرفي،والكلاسيكي؛ ثم قطب المستقبل وبه يتعلّق التجديد، والمبادهة، والقرارالتطلعي الاستكشافي.
من وجهة النظر التي تهمنا، يجب أن نعلم أن من آثارالقرآن وتعاليم محمد، التاريخية، وضع وتطوير، (في اللغة العربية اولا، ثمفي اللغات الاسلامية الأخرى كالفارسية والتركية، والاوردية، الخ) النواةالميتافيزيقية للتحالف القديم: فالشعوب التي تأثرت قليلاً أو لم تتأثر،حتى القرن السابع، بتيارات الفكر الأغريقي _ اليهودي _ المسيحي، تحوّلتبدورها، إلى هذه "الحداثة" التي يمكن تعريفها كارادة القضاء على الانسانالقديم (الموصوف بالكافر = الخائن للميثاق الأساسي في القرآن) لصالحالانسان الجديد أو المؤمن.
مرفوض في الاسلام عموماً، وما يزال، التمثلالتاريخي والسوسيولوجي، الذي بموجبه يُعتبر الشرع المسمى بالاسلامي بأنهقانون وضعي أضفيت عليه الشرعية بنظرية من نظريات أصول الفقه، ربطت الحلولالعملية التي وضعها القضاة الأول (خلال القرن الأول للهجرة)، بمنابع دينيةأصولية (القرآن والحديث). وكذلك، ما يزال بعض المؤلفين من السنة والشيعة،يقدّمون الخلافة أو الامامة وكأنهما مؤسستان ترتكزان منذ البداية، علىأساس ديني أصيل، في حين أن إضفاء هذه الشرعية، هنا أيضاً، هو عمل لاحق.وقد نجد في اليهودية وفي المسيحية المعاصرتين، مواقف وممارسات مشابهة.وينعقد التوتر بين لغات العصر الكلاسيكي واللغات التي تحاول أن تفرضنفسها، في، وبواسطة العلوم الانسانية، من جراء صراع الايديولوجياتالمتحاربة: فهذه تطرح مزيجاً ناشطاً ومحركاً، من الرسيمات التفسيريةالكلاسيكية ومن بديهيات جدلية اجتماعية تحاول اعادة توزيع السلطاتوالممتلكات. وهذا ما يبدو بوضوح، من خلال أدب كاسح حول لاهوتية الثورة،والتحرير، والثقافة... الخ، عند المسيحيين. ولاهوتية الأرض الموعودة،والشعب المختار، والهجرة، عند اليهود؛ واضفاء الشرعية على الاشتراكية،وعلى معارك التحرير، وعلى السلوكات العصرية، بالقرآن، وسنة النبي وصحابتهعند المسلمين. وينتج عن ذلك مناخ من الفوضى الفكرية وحرب توصف بأنهاأيديولوجية في الأوساط السياسية، وبالابستيمولوجية في الأوساط "العلمية".
منالمهم التعمق أكثر في تحليل هذه الظروف الجديدة، حيث تُدعى كل فكرة إلىالتطبيق اليوم. يجب أن نفهم تماماً بأن المعارضات والخلافات، والانشقاقاتالتي نقوم بوصفها، لا تُعزى فقط إلى مفكرين أسرهم التفكير والبحث المجرد.إن العلم والتكنولوجيا الحديثين يفرضان في كل مكان الاضطراب الذي يلامسالوجود البشري بالذات: فالراديو الترانزيستور، والتلفزيون، والطائرة،والصواريخ العابرة للقارات، وحبة الدواء، وأسلوب الانتاج الصناعي،والمطالبة بنظام اقتصادي جديد وعالمي.. الخ. تحطم بنيات نفسانيةوسيكولوجية، واجتماعية وسياسية رافقت، حتى الآن، نوعاً من اللغة الدينية،وبعض الممارسات الثقافية. ووفقاً لوتائر مختلفة بحسب المجتمع المدروس يقومالانسان المعاصر بتجربة، وإن لم تكن جديدة، بصورة أصلية، في تاريخالحضارة، ولكنها تفرض نفسها بزخمها، وعمقها، وتعميمها السريع على كلالمجتمعات، وعلى كل طبقات المجتمع، وكل الأفراد: والأمر الذي ظلّ، لقرونمعروضاً ومعاشاً، ومدموجاً، سيكولوجياً على أنه واقع محكوم بقواعد طبيعيةتكشف بعنف، وكأنه امكانات محتملة، متكررة بصورة تحكمية (سلطة سياسية،لاهوتية، فلسفية، علمية...) محكومة بتقنينات ثقافية. ولهذا يتم البحثحالياً في فكفكة كل الثقافات التقليدية من أجل كشف أوالياتها التمويهية،وقناعها الواقعي الحق وبمقدار ما لعبت الأديان دوراً مؤثراً في نموومراقبة الثقافات مراقبة ادراكية، أصبح من المحتم أن تكون مستهدفة بصورةخاصة من قبل الاستقصاء التفكيكي. في الاسلام، مثلاً من الضروري المستعجلتبيان، لأول مرة، كيف تحولت مجالات تحقيقية في الوجود الانساني، أي مظاهرمعنوية، إلى مقولات أيديولوجية، متراتبة، بحسب اختيار طبقة حاكمة، وبحسبمقتضيات، ظروف تاريخية، أو ثقل تراث نموذجي: تلك هي حالة الروحي والزمني،وحالة المقدس والمبتذل، وحالة الخرافة والتاريخ، واللاعقلاني والعقلاني،والخيالي والواقعي والأصيل والدخيل.
إن المعطى المسيطر أكثر من غيرهعلى الفكر الاسلامي هو أن الاسلام أسمى من غيره من الديانات كلها.وبالامكان إن طبقنا تعاليمه بدقة، فبالامكان تفادي كل الضلالات، وكل أزماتالحضارة الغربية المزعومة. بل وبالعكس بالامكان بناء حضارة مثالية بالنسبةإلى البشرية جمعاء. وكل محاولة تهدف إلى حصر الاسلام ضمن مشكلة كالتييعاني منها الغرب بصورة خصوصية، هي بالتالي مرفوضة قبل أي فحص أو تدقيق.
-----------------------------
المصدر : الاسلام.. الأمس والغد
* محمد أركون / لوي غارديه / ترجمة : علي المقلد