بشير ضيف الله
سيميائية العنونة في رواية : ” سيّدة المقام ” لواسيني الأعرج..
إمدادات هذا الكاتب بشير ضيف الله 13 مارس 2009
بشير ضيف الله
يقف القارئ مستشرفا تحولات العنونة، وتشكلاتها من رواية إلى أخرى في أعمال الروائي الجزائري “واسيني الأعرج” لأنَّ النَص عنده حالة متغيرة باستمرار لها خصوصيتها كما لو أنَّ الكاتب يجدد متنه المشتغل عليه في كل مرة بحيث يصعب فهم هذا التحول الذي يكاد يكون خاصية ” واسينية ” بامتياز، فمن ” وقائع رجل غامر صوب البحر” إلى ” ما تبقـَّى من سيرة الأخضر حمروش ” إلى ” نوّار اللوز” إلى ” مصرع أحلام مريم الوديعة ” إلى ” ضمير الغائب ” إلى ” فاجعة الليلة السابعة بعد الألف ” إلى ” سيدة المقام ” إلى ” شرفات بحر الشمال ” إلى ” كتاب الأمير” إلى “سراب الشرق”، ينفتح المتلقي على مجموعة من القامات العتباتية – إنْ صح َّ التعبير- المحددة للنَّص الروائي، ويجد نفسه بحاجة إلى إعادة تشكيل معطياته ليلامس حرير العنونة، ويفك خفاياها..
- مدخل نظري:
نشير أوَّلا إلى مرادف ” العنوان ” كمصطلح لغوي” حيث جاء في” لسان العرب ” عن ” ابن سيده ” قوله: (( العنوان والعِنوان سمة الكتاب، وعنونه عنونة َََ، وعنَّاه إذا وسمه بعنوان وقال أيضا:العنوان سمة الكتاب، وقد عنَّاه وأعناه، وعنونت الكتاب.. قال يعقوب: وسمعت من يقول: أطنْ وأعنْ أي عنونْه وختمه، قال ابن سيده: وفي جبهته عنوان من كثرة السجود أيْ أثر.. ))(1).
وفي الجانب الاصطلاحي يمثل جزءا، أو مقطعا يحيل على النَّص أو يفضي إليه بما هو(مقطع لغويُُّ أقل من الجملة يمثل نصََّا أو عملا فنيا ويمكن النظر إلى العنوان من زاويتين:
– في سياق.
– خارج السياق.
والعنوان السياقي يكون وحدة مع العمل على المستوى السّيميائي، ويملك وظيفة مرادفة للتأويل عامَّة.))(2).
إلا أنَّه لا يمكن الاعتداد بحد ما للعناوين فأحيانا تكون طويلة وأحيانا قصيرة بل قد تكون حرفا أو عددا، فالعنونة يمكن حملها على خصوصية النَّص أوَّلا، ومحمولات الكاتب ثانيا.
أما عن تركيبته النحوية فقد يكون اسما، أو حرفا، أو جملة، أو إضافة، فالعنوان (( له الصدارة ،ويبرز متميزا بشكله وحجمه،فهو أول لقاء بالقارئ والنص.. حيث صار هو آخر أعمال الكاتب، وأول أعمال القارئ )) (3)..
لذلك كله انصبَّ اهتمام والسيمولوجيا،أو علم السيمياء بالعناوين والعنونة( titrologie ) باعتباره منهجا نصّيا مشتغلا على المفاتيح الأساسية للنصوص، والعنوان واحد من أهم المفاتيح التي تخضع للتحليل والمساءلة.
إنَّ العناوين كانت ولاتزال مصبَّّ اهتمام النقاد والدارسين، وليس الأمر جديدا بالمرَّة، فقد استوقفت الأقدمين في الشعر العربي خصوصا،ورافقت جميع مراحل تطوّره إلى أن ظهر علم العلامات ” والسيمولوجيا ” حيث أفاضت الدراسات في العناوين وظهر مصطلح العتبة(seuil)، حيث تعددت المفاهيم وتعابرت وارتكز فكر النقاد وأبحاثهم على تقصّي حيثيات العناوين بوصفها مفاتيح إجرائية غير قابلة للتجاوز في منظور النَّص المقروء:
(( إنَّه ” العنوان ” المفتاح الإجرائي الذي يمدنا بمجموعة من المعاني التي تساعدنا في فك رموز النَّص وتسهيل مأمورية الدُّخول في أغواره وتشعبا ته الوعرة )). (4)
سيميائية العنوان الخارجي:
– ” سيِّدة ُ المقام “.. “فيزا ” النَّص: اعتمد الكاتب الروائي تركيبا إضافيا مكوَّنا من “مضاف + مضاف إليه ” ليكون الأصل ” سيدة ” والمضاف ” المقام ” مما يبرز فضل الأول على الثاني وليس العكس،إن ” السيِّدة ” لقب كلّ امرأة في الأصل ،غير أنَّ توظيفها هنا له دلالة أكبر وإحالة على اسم بطلة الرواية ” مريم ” لأنَّ لقب ” السيدة ” أساسا كان يطلق على البتول ” مريم العذراء ” وهو ما يبرز بوضوح مدى تعلق العنوان بالمتن السَّردي ، فالأمر ليس متروكا للصدفة بقدر ماهو ممارسة نصية كاملة ، وما يؤكد ذلك القسم الثاني من العنوان لفظة ” المقام ” التي تحتمل معنيين أحدهما ” مكان الإقامة ” وهو إحالة مكانية على محور أحداث الرواية ، أمَّا الثاني فهو” مقطع موسيقي ” يوحي باشتغال النَّص على هذا الهامش، وبالعودة إلى المتن تتضح الصورة وتتعالق فبطلة الرواية ( القطب الثاني في الرواية باعتبارها ثنائية القطب ” السَّارد و مريم ” في تفعيل الأحداث ) راقصة باليه من طراز رفيع، وعليه فالعنوان ” سيدة المقام ” يطلق على المرأة الأولى المتسيدة لعالم الرقص و فنونه ، وارتباط السيدة بالاسم ” مريم ” له وقعه المتفرد ودلالته ومكانته الخاصَّة لتجتمع الحيثيات الدلالية بأنساقها وإحالاتها الدينية والفنية والمكانية في شخص بطلة الرواية سيدة المقام ” مريم “، وهو ما يوضِّحه الرسم التالي:
لقب امرأة.. مكان الإقامة
سيدة: المقام:
” مريم العذراء” المقام الفني و الموسيقي
” رسم يوضح دلالة الوحدتين المكونتين للعنوان الخارجي ”
وبتركيب العناصر الأربعة ، أو تقاطعها يبقى العنوان فعلا عتبة أساسية تحيل على محمولات الرواية وأجوائها باحترافية عالية دون تعارض أو اهتزاز في الشكل النهائي للعنوان.
2- ” مراثي اليوم الحزين “.. أو عضد العنوان المركزي:
يبدو أنَّ الروائي ” واسيني الأعرج ” بحاجة إلى تعضيد عنوان الرواية لحاجة تتعلق ربَّما بضرورة المتن السردي ما يستحقه من تقرير وإشهاد حتى يضع المتلقي أمام الصُّرة كاملة غير مجزَّأة، ففي:
(( بعض الأحيان يجد الروائي أنَّ العنوان المركزي لا يشبع إحساسه بتمثيل العمل تمثيلاً كافياً وخصباً، فيتجه إلى رفده بعنوان ثانوي يضاعف من قوة العنوان المركزي ويقرّبه من مرحلة الاستواء والتكامل )) (5)
وبالعودة إلى تركيب العنوان الثانوي ، نجده يتكون من ثلاث وحدات دالة ” مراثي (مرثيات)/(الجمعة) اليوم/الحزين “، وهذا العامل الإجرائي المتمثل في وحدات العنوان الثانوي لم يخرج عن التركيب السابق للعنوان المركزي بإضافة الصفة “الحزين” ليتشكل في النهاية من ” مضاف(مبتدأ) في صيغة جمع تكسير+ مضاف إليه+ صفة ” مما يحيلناعلى ذلك الامتداد الزماني والهامش الواغل في الانكسار والتشتت، المفتوح على أحزان مشرعة تغلف فضاء المتن المحكي، وليس حدثا أن يكتشف القارئ فضاء الرواية ومحمولاتها من خلال الإطلالة التي يتيحها العنوان الثانوي بعد التصعيد المسجَّـل في العنوان الرئيسي ” سيدة المقام ” الانحدار المفاجئ ” مراثي اليوم الحزين ” أو لنقل الانكسار المفجع.
سيميائية العناوين الداخلية: نميز في الرواية زمرا ثلاثا مقسمة وفقا لترتيبها ولتركيب وحداتها الدلالية ،وهي:
1 – التركيب الإضافي: مكاشفات المكان ، ظلال المدينة ، فتنة البربرية ، حنين الطفولة، محنة الاغتصاب.
2 – التركيب الوصفي: الجمعة الحزين،الجنون العظيم،البحر المنسيُّ.
3- التركيب الإضافي مرةَّ أخرى: حراس النوايا،إغفاءات الموت،نهايات المطاف.
والقراءة الأولى لهذه المعطيات تبرز التركيز على التركيب الإضافي في فعل العنونة حيث يمثل النسبة الأكبر (8/11) ،والباقي تركيب وصفي (3/11) و لاتفسير له إلا بحالة اللا َّ تواجد،حالة التيهان اللصيقة بالسارد/البطل ، فهو بحاجة ملحة إلى إضافة (مريم) التي يشعر مسبَّقا أنه سيفتقدها – لامحالة – وأنها في النهاية عالم أشبه بالحلم المستحيل أوقعه في مطبَّة
” الوعي الشقيّ ” – حسب هابر ماس- ،الوعي بالنهاية المحتومة،وأية نهاية؟
أوّلا :
- التركيب الإضافي:
- ” مكاشفات /المكان “: تركيب مكون من ” مبتدأ(مضاف)، ومضاف إليه ” في شكل ثنائية فيها الكثير من المفارقة وحدتها الأولى جمع مؤنث، والثانية مفرد، فالمكان” موقع / موضع” مكشوف أصلا ولايحتاج إلى مكاشفات، والمكاشفة هنا استباقية غير أن دلالة المكان هنا لا تقوم على المعنى السطحي بل هو فضاء متعدد لا إحداثيات له، فضاء مفتوح على هوامش استذكارية لامحدودة ، والمتن كله يسير في هذا الاتجاه.
– ” ظلال المدينة “: تركيب إضافي ثان مكون من وحدتين دلاليتين، ظلال(مضاف) + المدينة (مضاف إليه) ، لايختلف عن السابق في كون الوحدة لأولى زمانية، والثانية “مكانية ” فالمدينة مكان، والمكاشفة والظلال يجمعهما هامش زمني رفيع، غير أن الظلال توحي بالقتامة والانحدار، والحزن ،الانحدار نحو الحتف المحتوم :
” لا شيء تغير في هذه المدينة الحزينة التي تموت يوميا. تموت مثل ريف قديم وتتحول إلى قرية صغيرة.تتهاوى مثل الورق اليابس.كل شيء بدأ يفقد معناه، الشوارع، السيارات، الناس…” (6)
ثمة ارتباط تلازمي وثيق بين العنوان والمتن ينكشف بفعل القراءة الواعية للهوامش المحكية، هوامش النص” الواسيني ” المنسجم مع خياراته.
– “فتنة البربرية “: لم يخرج عن التركيب الإضافي السَّابق شكلا، وإنما عرف تحوُّلا تصاعديا نحو تعرية حماقات ما، حماقات كانت سببا في تكثيف الفعل الحكائي وتناميه لأنَّ ” الفتنة / البربرية ” محور الأحداث، فالرصاصة التي أصابت ” مريم ” في الرأس بوحشية صارمة ترتبط بالمكونين السابقين اللذين يرادفهما ” المحنة / الظلم “، محنة قتل الأشياء الجميلة في هذا الوطن، وبربرية التصرفات الحمقاء التي جعلت من العشق / الأنثى رمادا لتفاهاتها، وغرورها الأعمى.
– حنين / الطفولة: يشعر القارئ حالة من الهبوط والانشراح الذي يحمله تركيب العنوان ” حنين الطفولة ” بعد تصعيد متنام لأنَّ محمول الوحدتين الدلاليتين فيه نوع من الهروب إلى مرحلة مضيئة، شفافة هي مرحلة الطفولة ” وللطفولة المبكرة شأن خاص ” -كما يقول محمد ناصف – والحال أنها حالة رفض لواقع راه، واقع شبيه بالموت منه إلى الحياة، واقع مقرف يجعل السارد/ البطل أكثر رغبة في الهروب إلى البدايات الأولى، إلى الطفولة المشرقة،فثمة حاجة ملحة، بل هي أكثر إلحاحا في هذه اللحظة..
– محنة / الاغتصاب:
يصعّد الكاتب مستوى الخطاب بما يحمله مدلولا ” محنة / الاغتصاب ” فلهما محمولات كثيرة: ” الفتنة، الحقد، الغدر، الإكراه، العنف، الفظاظة ، الغلظة…”
لقد نقلنا الروائي من حالة شبيهة بالفرح إلى حالة أغم ّ تحيل على السواد والحمرة في آن واحد ، فنشتم رائحة الدّم ، و التوحش ، والحماقات البشرية المجنونة واللاَّ محدودة التي تتعرض لها ” مريم ” المغتصبة ن المذبوحة كعصفورة نادرة..ثمة شيء من الامتعاض والحقد، شيء يجمع بين المحنة والاغتصاب إنْ لم يكونا من جنس واحد .
فتنة البربرية محنة الاغتصاب
مكاشفات المكان ( هبوط)
ظلال المدينة (صعود) حنين الطفولة ( صعود)
(استقرار قاتم ) ( تصعيد عنيف ) ( استرخاء محفوف ) ( تصعيد دام)
” رسم يوضح مسار عناوين التركيب الإضافي ،وتجلياته ”
ثانيا:
– التركيب الوصفي:
-” الجمعة/ الحزين ” : يتركب من وحدتين دلاليتين ” الجمعة( مبتدأ موصوف )+ الحزين (خبر صفة ) ” وكلاهما مُعرَّف ،ومدلول التعريف ب ” أل” هنا يشكل معلما زمنيا / تاريخيا يمثل رقما مهما في مسار ومعمار وأحداث الرواية ، فالجمعة يوم قامت فيه قيامة البلد ،وحدث لمريم فيه ما حدث ، والراجح أن َّ اختيار” الجمعة ” ليس اعتباطيا بحكم ما يحتمله من إحالات لأنَّ أحداث الخامس أكتوبر 1988 كانت يوم ” الثلاثاء ” والجمعة يمثل السابع منه، وما أرجحه احتمال الاختيار المدروس والقصدي للجمعة بصفته يوما مفصليا في حياة الجزائريين الملتصقين بالموروث الديني / العقائدي فهو يوم خلق الكون ، ويوم تقوم القيامة ، غير أنه لم يمر على بطلة السارد عاديا ، بل كان قيامة جذذت حريريتها وفتحت جرحا مشرعا ، وكبيرا ، مفتوحا على أسئلة بائسة ، فالحزن صفة لصيقة بالموصوف ” جمعة 7 أكتوبر 1988″ ولا قدرة للروائي على إضاءته أو تبييض قتامته.
-”الجنون / العظيم ” : حالة تهور رهيب امتداد لما خلفه “الجمعة الحزين ” ، ولم يختلف التركيب عما سبقه بل يكاد يكون نفسه تعريفا وصيغةََ ً ووصفا ( على وزن فعيل) مما يؤكد مدى تلاصق الصفة والموصوف فكأنهما واحد ، فالجنون في سيدة المقام ” إرادي تجسده “مريم ” بطلاقة رغم إصابتها البليغة في تحدّ سافر للموت ، الموت الذي رسمه “الجمعة الأسود” ولن يكون هذا الفعل – التحدي إلا عظيما خارقا ،عظمة وجنون صاحبته.
-” البحر/ المنسيّ” : البحر تيمة أخرى تثري المتن السردي للرواية بما تتركه من فواصل وإيحاءات تصنع الفرحة في أشد لحظات حياتنا تعاسة ووحدة، وهو هنا منسي، منسي ، لكنه مفجع أيضا : ” ما أوحدك أيها البحر في عزلتك المفجعة ” (7) ،”البحر المنسيُّ ” فاجعة أخرى تحمل ما تحمل من إفضاءات محفورة في مسار النّص /السارد ،واسترجاعات اللحظات المهربة التي تقبع شاهدة محفورة ، والنسيان (الصفة) وحدة آنية ، ولحظية وليست دائمة – كما يتوهم القارئ – بل أن تضافر الأشياء الموحشة يشعر بالفقدان، بالضياع و الوحشة ، كذا كان البحر منسيا في عرف السارد، ولو إلى حين.
“الجنون / العظيم”
(حالة انبثاق وتواصل)
” الجمعة/ الحزين ” ” البحر/ المنسيّ ”
( حالة انكسار) (حالة افتقاد)
” مخطط المسار الحركي لعناوين التركيب الوصفي ”
ثالثا:
– التركيب الإضافي مرة أخرى: عودة أخرى إلى تركيب البدايات “الإضافي” فيما يشه الهبوط الاضطراري، فالنص يقف عند نهاياته المحتومة عبر نوافذ ثلاث هي:
– “حراس النوايا ” : الوحدة الأولى جمع تكسير(حراس ج/حارس) ، وكذلك الوحدة الثانية ( النوايا ج/ النية ) جمع غير مكتمل ، جمع ناقص في شكل رسالة مشفرة تقف عند حدود المعركة القائمة بين طرفين أحدهما عاجز عن فهم ذاته وموقعه ، والآخر محكوم بجملة من التعقيدات التي تقف حجر عثرة في طريق تمرده ، ونضاله المستميت من أجل قضيته الأسمى ، في وجود “حرس النوايا ” والإسناد هنا فيه نوع من السخرية المرة،فالأصل أن تكون الحراسة للممتلكات والأشياء غير أنها في هذا المستوى منصبة على ” النوايا ” أي المقاصد ، وتلك مشكلة أقسى وأخطر.(( أعرف بل صار مألوفا أن “حراس النوايا ” لا يتدخلون عادة بعنف إلا عندما يكون الرجل مصحوبا بامرأة.أو يشمون رائحة الأجساد التي تعيش لحظة عنفوان شائقة. من صفاتهم أنهم يقرأون في عينيك ما تفكر به ولا يهم إن كان صحيحا أو غير صحيح.المهم أنهم فكروا أنك على خطأ ، فيجب أن تكون على خطأ بدون ثرثرة عندما يكفرونك ،وعادة يفعلون ذلك عندما يختلفون معك، عليك أن تقبل، لأن أي نقاش سيقودك إلى تعميق الأزمة.الحاكم لا يُـناقش….)) (
– ” إغفاءات الموت ” : يشارف النَّص على محطته ماقبل الأخيرة وتنبعث مؤشرات ” الموت ” المحموم ، فالإغفاءات أعراض أولى لهذا القادم المصرّ على القدوم أكثر من أي وقت مضى ، ويتجه مسار السرد نحو الانحدار في تحوُّ ل نقطي يكاد يكون معلوما تبعا لاتجاه الأحداث وتعالقها ، ولا يمكن انتظار شيء آخر، فالسارد وضعنا على حافة التوقع اللا َّجميل ، التوقع المحفوف بالحزن ، برائحة النهاية، أو النهايات – كما أصرَّ الروائي على تسميتها-
– ” نهايات/ المطاف ” : النهاية ” نهايات ” ، و” المطاف ” واحد، ثمة قسوة وألم لا متناه يفجره الإحساس بالقنوط ، بالضعف والعجز اتجاه شيء أكبر، أكثر فتكا، وأكثرا قدرة على إطالة عمر الفاجعة ” النهايات ” فلو كانت ” نهاية ” لهان الأمر بعض الشيء، وأن تكون متعددة فذلك يعني أن البطل / الحقيقي / الافتراضي يموت أكثر من مرة ، وإنْ كان الموت واحدا. فالنهايات محمولات لموضوع واحد هو ” الموت “..
(( كانت البلاد تذبح نفسها بقوة، و بعناد كبير.
الوطن ينتهي ويصير أوطانا، القبائل تتحول إلى مداشر، والمد اشر تتحول لتصير غيرانا، الألسن تضيع، وفرسان البلاد القديمة يبحثون عن موتهم خارج النهايات المبتذلة…)) (9)
حرَّاس ُ النوايا
( انفعال )
أل..ماقبل.. إغفاءات الموت / نهايات المطاف…
( البحر المنسي) ( النهايات المحتومة )
” مخطط المسار الحركي لعناوين التركيب الإضافي ”
نحتاج بعد هذه الوقفة إلى عملية إحصائية تقف على المتن ” الكم/ سردي ” و تمثلاته في العناوين الداخلية وما تشغله من تحولات لأنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالفعل السردي وتجلياته السُّوسيو- فنية كما يوضحه الجدول التالي:
العناوين الداخلية المتن الذي تشغله
1- مكاشفات المكان من ص:5إلى ص:32 (27ص)
2- ظلال المدينة من ص:33 إلى ص:57(24)
3- فتنة البربرية من ص:59 إلى ص:78(19ص)
4- حنين الطفولة من ص:79إلى ص:100(21ص)
5- محنة الاغتصاب من ص:101إلى ص:122(21ص)
6- الجمعة الحزين من ص123:إلى ص:153(30ص)
7- الجنون العظيم من ص:155إلى ص:186(31ص)
8- البحر المنسي من ص:187إلى ص:211 (24ص)
9- حراس النوايا من ص213:إلى ص:234(21)
10- إغفاءات الموت من ص:235إلى ص:260(25)
11- نهايات المطاف من ص:261إلى ص: 284(23ص)
والقراءة الإحصائية للجدول تبين أن العناوين المركبة تركيبا إضافيا تشغل الحيز الأكبر من المتن ، فهي تمثل( 192( صفحة من أصل (288) صفحة ،ويمكن اعتبارها محور النَّص السردي إذ ْ تمثل النسبة الأكبر من العناوين الداخلية ، وتحمل بذلك دلالة التهافت والانسطاح ، دلالة تغيم على النَّص برمته وتجعل من أجوائه عنوانا لهوامش غير مضيئة ، هوامش بلا معنى وأحيانا بلا حياة.
كما يمثل ” الجمعة الحزين ” و ” الجنون العظيم ” فصلين طويلين كون الروائي يشتغل فيهما على التداعي الحر للأحداث وفق ترتيب زمني تراجعي لم يخرج عن الإطار العام للرواية ولكنه يتضح بجلاء أعمق فيهما ، فالاتجاه اتخذ مسارا استقطابيا يختزل الحضور نحو الغياب ، نحو ماض محتقن غارق في العتمة ، وإن كانت يضيئه جنون ” مريم ” المكسر للطابوهات المعلبة ، والأخلاق المصطنعة..إنه جنون حياة لا موت.
أما على مستوى العناوين الأخرى فيبدو عدد صفحاتها متقاربا إلى حد ما (يتراوح بين21 و27ص) وكأن تسارع الأحداث وتلاحقها خلق نوعا من التوازن المطرد في بناء فصول الرواية ، فلم يطغ فصل على آخر إلا في حدود ما تفرضه سلطة المتن المحكي ، وما يقتضيه معمار الرواية و هوامشها ، وللروائي ” واسيني الأعرج ” أكثر من هامش في ” سيدة المقام ” .
المعجم الدلالي ،،قراءة في متن العناوين: يخيم على المعجم المستعمل طابع الحزن والفرادة، وضبابية الآتي المفتوح على جذوة الاحتمال، احتمال الموت والتلاشي، وعليه نجد أربع مجموعات دلالية متمايزة وظفها الروائي في عتباته :
– دوال المحنة و التفكُّك : ” فتنة، البربرية، محنة الاغتصاب، حراس النوايا، إغفاءات الموت، نهايات المطاف “.
الملفوظات كلها تعكس حالة الاحتقان والتردي الفظيع الذي يشكل دائرة قاتمة مغلقة يصعب الإفلات من تجاويفها ، فالموت حتمية لا مفارقة، والوضع لا يحتمل إلا التصعيد والعنف الهمجي.
- دوال الحزن والانكسار: ” مكاشفات المكان، الجمعة الحزين، البحر المنسيّ “.. هي حالة من التصحر التي تصيب حيثيات الهامش السردي الذي يعلن مكاشفات غير مرغوب فيها لكنها تبدو ثابتا قاسيا لا يمكن تجاوزه ، والمكاشفات عنصر إجرائي ترتكز عليه الرواية في تفعيل الأحداث.
– دوال المجاوزة والتحدي : ” الجنون العظيم ” ويرتبط هنا بقدرة ” مريم ” المصابة ورغبتها في تحدي الموت ، وتمثيل دورها إلى آخر لحظة ، اللحظة التي يقف فيها السارد / البطل عاجزا عن أخذ قرار مهم يكفل لهذه المجنونة بقاءها ولو إلى حين.. لكن الجنون سيد الموقف.
– دوال التراخي والابتسار: ” ظلال المدينة، حنين الطفولة “.. حالة رغم مرارتها تغزل هامشا يستغله السارد / البطل لبوح من نوع آخر، بوح بطعم الاندثار لا يحيلنا في النهاية إلا َّ على فراغات المكان، واغترا بات الروح المنكسرة كزجاجة نادرة، أو عرض انتهت مدة صلاحيته.. الأمر في غاية القسوة..
آخر المطاف ..
للعنونة عند الروائي ” واسيني الأعرج ” طعم آخر، نكهة خاصة تغزل خصوصياتها ومحمولاتها من التجربة المتميزة والثرية لروائي أسَّس للغة روائية جديدة، ولنمط سردي قائم على الثراء الفكري والثقافي والتحصيلي الذي يجعل من العمل الروائي تجربة فنية مفتوحة توظف كل المكتسبات والتجارب للخروج بنص غير منمط، عنونة ولغة ومعمارا.
هوامش:
(1):ابن منظور: “لسان العرب”، م15،دار صادر، بيروت، ط1،1992، ص106
(2): د.سعيد علوش: ” معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة “، مطبوعات المكتبة الجامعية ، الدار البيضاء المغرب، 1984،ص:89
(3):د. عبدالله الغذامي، الخطيئة والتكفير، منشورات النادي الثقافي، جدة ، ط1، 1985 ، ص:263
(4): د.جميل حمداوي، “السيموطيقا والعنونة”، عالم الفكر، الكويت، ع/23، يناير/مارس، ص90
(5): أ.د. محمد صار عبيد، مجلة الموقف الأدبي، عدد:434،2007
(6): “سيدة المقام ” واسيني الأعرج، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية ، رغاية،2007 ص:33
(7): المصدر نفسه ، ص:187
(: المصدر نفسه ، ص :220
(9): المصدر نفسه، ص:283.
منقول
سيميائية العنونة في رواية : ” سيّدة المقام ” لواسيني الأعرج..
إمدادات هذا الكاتب بشير ضيف الله 13 مارس 2009
بشير ضيف الله
يقف القارئ مستشرفا تحولات العنونة، وتشكلاتها من رواية إلى أخرى في أعمال الروائي الجزائري “واسيني الأعرج” لأنَّ النَص عنده حالة متغيرة باستمرار لها خصوصيتها كما لو أنَّ الكاتب يجدد متنه المشتغل عليه في كل مرة بحيث يصعب فهم هذا التحول الذي يكاد يكون خاصية ” واسينية ” بامتياز، فمن ” وقائع رجل غامر صوب البحر” إلى ” ما تبقـَّى من سيرة الأخضر حمروش ” إلى ” نوّار اللوز” إلى ” مصرع أحلام مريم الوديعة ” إلى ” ضمير الغائب ” إلى ” فاجعة الليلة السابعة بعد الألف ” إلى ” سيدة المقام ” إلى ” شرفات بحر الشمال ” إلى ” كتاب الأمير” إلى “سراب الشرق”، ينفتح المتلقي على مجموعة من القامات العتباتية – إنْ صح َّ التعبير- المحددة للنَّص الروائي، ويجد نفسه بحاجة إلى إعادة تشكيل معطياته ليلامس حرير العنونة، ويفك خفاياها..
- مدخل نظري:
نشير أوَّلا إلى مرادف ” العنوان ” كمصطلح لغوي” حيث جاء في” لسان العرب ” عن ” ابن سيده ” قوله: (( العنوان والعِنوان سمة الكتاب، وعنونه عنونة َََ، وعنَّاه إذا وسمه بعنوان وقال أيضا:العنوان سمة الكتاب، وقد عنَّاه وأعناه، وعنونت الكتاب.. قال يعقوب: وسمعت من يقول: أطنْ وأعنْ أي عنونْه وختمه، قال ابن سيده: وفي جبهته عنوان من كثرة السجود أيْ أثر.. ))(1).
وفي الجانب الاصطلاحي يمثل جزءا، أو مقطعا يحيل على النَّص أو يفضي إليه بما هو(مقطع لغويُُّ أقل من الجملة يمثل نصََّا أو عملا فنيا ويمكن النظر إلى العنوان من زاويتين:
– في سياق.
– خارج السياق.
والعنوان السياقي يكون وحدة مع العمل على المستوى السّيميائي، ويملك وظيفة مرادفة للتأويل عامَّة.))(2).
إلا أنَّه لا يمكن الاعتداد بحد ما للعناوين فأحيانا تكون طويلة وأحيانا قصيرة بل قد تكون حرفا أو عددا، فالعنونة يمكن حملها على خصوصية النَّص أوَّلا، ومحمولات الكاتب ثانيا.
أما عن تركيبته النحوية فقد يكون اسما، أو حرفا، أو جملة، أو إضافة، فالعنوان (( له الصدارة ،ويبرز متميزا بشكله وحجمه،فهو أول لقاء بالقارئ والنص.. حيث صار هو آخر أعمال الكاتب، وأول أعمال القارئ )) (3)..
لذلك كله انصبَّ اهتمام والسيمولوجيا،أو علم السيمياء بالعناوين والعنونة( titrologie ) باعتباره منهجا نصّيا مشتغلا على المفاتيح الأساسية للنصوص، والعنوان واحد من أهم المفاتيح التي تخضع للتحليل والمساءلة.
إنَّ العناوين كانت ولاتزال مصبَّّ اهتمام النقاد والدارسين، وليس الأمر جديدا بالمرَّة، فقد استوقفت الأقدمين في الشعر العربي خصوصا،ورافقت جميع مراحل تطوّره إلى أن ظهر علم العلامات ” والسيمولوجيا ” حيث أفاضت الدراسات في العناوين وظهر مصطلح العتبة(seuil)، حيث تعددت المفاهيم وتعابرت وارتكز فكر النقاد وأبحاثهم على تقصّي حيثيات العناوين بوصفها مفاتيح إجرائية غير قابلة للتجاوز في منظور النَّص المقروء:
(( إنَّه ” العنوان ” المفتاح الإجرائي الذي يمدنا بمجموعة من المعاني التي تساعدنا في فك رموز النَّص وتسهيل مأمورية الدُّخول في أغواره وتشعبا ته الوعرة )). (4)
سيميائية العنوان الخارجي:
– ” سيِّدة ُ المقام “.. “فيزا ” النَّص: اعتمد الكاتب الروائي تركيبا إضافيا مكوَّنا من “مضاف + مضاف إليه ” ليكون الأصل ” سيدة ” والمضاف ” المقام ” مما يبرز فضل الأول على الثاني وليس العكس،إن ” السيِّدة ” لقب كلّ امرأة في الأصل ،غير أنَّ توظيفها هنا له دلالة أكبر وإحالة على اسم بطلة الرواية ” مريم ” لأنَّ لقب ” السيدة ” أساسا كان يطلق على البتول ” مريم العذراء ” وهو ما يبرز بوضوح مدى تعلق العنوان بالمتن السَّردي ، فالأمر ليس متروكا للصدفة بقدر ماهو ممارسة نصية كاملة ، وما يؤكد ذلك القسم الثاني من العنوان لفظة ” المقام ” التي تحتمل معنيين أحدهما ” مكان الإقامة ” وهو إحالة مكانية على محور أحداث الرواية ، أمَّا الثاني فهو” مقطع موسيقي ” يوحي باشتغال النَّص على هذا الهامش، وبالعودة إلى المتن تتضح الصورة وتتعالق فبطلة الرواية ( القطب الثاني في الرواية باعتبارها ثنائية القطب ” السَّارد و مريم ” في تفعيل الأحداث ) راقصة باليه من طراز رفيع، وعليه فالعنوان ” سيدة المقام ” يطلق على المرأة الأولى المتسيدة لعالم الرقص و فنونه ، وارتباط السيدة بالاسم ” مريم ” له وقعه المتفرد ودلالته ومكانته الخاصَّة لتجتمع الحيثيات الدلالية بأنساقها وإحالاتها الدينية والفنية والمكانية في شخص بطلة الرواية سيدة المقام ” مريم “، وهو ما يوضِّحه الرسم التالي:
لقب امرأة.. مكان الإقامة
سيدة: المقام:
” مريم العذراء” المقام الفني و الموسيقي
” رسم يوضح دلالة الوحدتين المكونتين للعنوان الخارجي ”
وبتركيب العناصر الأربعة ، أو تقاطعها يبقى العنوان فعلا عتبة أساسية تحيل على محمولات الرواية وأجوائها باحترافية عالية دون تعارض أو اهتزاز في الشكل النهائي للعنوان.
2- ” مراثي اليوم الحزين “.. أو عضد العنوان المركزي:
يبدو أنَّ الروائي ” واسيني الأعرج ” بحاجة إلى تعضيد عنوان الرواية لحاجة تتعلق ربَّما بضرورة المتن السردي ما يستحقه من تقرير وإشهاد حتى يضع المتلقي أمام الصُّرة كاملة غير مجزَّأة، ففي:
(( بعض الأحيان يجد الروائي أنَّ العنوان المركزي لا يشبع إحساسه بتمثيل العمل تمثيلاً كافياً وخصباً، فيتجه إلى رفده بعنوان ثانوي يضاعف من قوة العنوان المركزي ويقرّبه من مرحلة الاستواء والتكامل )) (5)
وبالعودة إلى تركيب العنوان الثانوي ، نجده يتكون من ثلاث وحدات دالة ” مراثي (مرثيات)/(الجمعة) اليوم/الحزين “، وهذا العامل الإجرائي المتمثل في وحدات العنوان الثانوي لم يخرج عن التركيب السابق للعنوان المركزي بإضافة الصفة “الحزين” ليتشكل في النهاية من ” مضاف(مبتدأ) في صيغة جمع تكسير+ مضاف إليه+ صفة ” مما يحيلناعلى ذلك الامتداد الزماني والهامش الواغل في الانكسار والتشتت، المفتوح على أحزان مشرعة تغلف فضاء المتن المحكي، وليس حدثا أن يكتشف القارئ فضاء الرواية ومحمولاتها من خلال الإطلالة التي يتيحها العنوان الثانوي بعد التصعيد المسجَّـل في العنوان الرئيسي ” سيدة المقام ” الانحدار المفاجئ ” مراثي اليوم الحزين ” أو لنقل الانكسار المفجع.
سيميائية العناوين الداخلية: نميز في الرواية زمرا ثلاثا مقسمة وفقا لترتيبها ولتركيب وحداتها الدلالية ،وهي:
1 – التركيب الإضافي: مكاشفات المكان ، ظلال المدينة ، فتنة البربرية ، حنين الطفولة، محنة الاغتصاب.
2 – التركيب الوصفي: الجمعة الحزين،الجنون العظيم،البحر المنسيُّ.
3- التركيب الإضافي مرةَّ أخرى: حراس النوايا،إغفاءات الموت،نهايات المطاف.
والقراءة الأولى لهذه المعطيات تبرز التركيز على التركيب الإضافي في فعل العنونة حيث يمثل النسبة الأكبر (8/11) ،والباقي تركيب وصفي (3/11) و لاتفسير له إلا بحالة اللا َّ تواجد،حالة التيهان اللصيقة بالسارد/البطل ، فهو بحاجة ملحة إلى إضافة (مريم) التي يشعر مسبَّقا أنه سيفتقدها – لامحالة – وأنها في النهاية عالم أشبه بالحلم المستحيل أوقعه في مطبَّة
” الوعي الشقيّ ” – حسب هابر ماس- ،الوعي بالنهاية المحتومة،وأية نهاية؟
أوّلا :
- التركيب الإضافي:
- ” مكاشفات /المكان “: تركيب مكون من ” مبتدأ(مضاف)، ومضاف إليه ” في شكل ثنائية فيها الكثير من المفارقة وحدتها الأولى جمع مؤنث، والثانية مفرد، فالمكان” موقع / موضع” مكشوف أصلا ولايحتاج إلى مكاشفات، والمكاشفة هنا استباقية غير أن دلالة المكان هنا لا تقوم على المعنى السطحي بل هو فضاء متعدد لا إحداثيات له، فضاء مفتوح على هوامش استذكارية لامحدودة ، والمتن كله يسير في هذا الاتجاه.
– ” ظلال المدينة “: تركيب إضافي ثان مكون من وحدتين دلاليتين، ظلال(مضاف) + المدينة (مضاف إليه) ، لايختلف عن السابق في كون الوحدة لأولى زمانية، والثانية “مكانية ” فالمدينة مكان، والمكاشفة والظلال يجمعهما هامش زمني رفيع، غير أن الظلال توحي بالقتامة والانحدار، والحزن ،الانحدار نحو الحتف المحتوم :
” لا شيء تغير في هذه المدينة الحزينة التي تموت يوميا. تموت مثل ريف قديم وتتحول إلى قرية صغيرة.تتهاوى مثل الورق اليابس.كل شيء بدأ يفقد معناه، الشوارع، السيارات، الناس…” (6)
ثمة ارتباط تلازمي وثيق بين العنوان والمتن ينكشف بفعل القراءة الواعية للهوامش المحكية، هوامش النص” الواسيني ” المنسجم مع خياراته.
– “فتنة البربرية “: لم يخرج عن التركيب الإضافي السَّابق شكلا، وإنما عرف تحوُّلا تصاعديا نحو تعرية حماقات ما، حماقات كانت سببا في تكثيف الفعل الحكائي وتناميه لأنَّ ” الفتنة / البربرية ” محور الأحداث، فالرصاصة التي أصابت ” مريم ” في الرأس بوحشية صارمة ترتبط بالمكونين السابقين اللذين يرادفهما ” المحنة / الظلم “، محنة قتل الأشياء الجميلة في هذا الوطن، وبربرية التصرفات الحمقاء التي جعلت من العشق / الأنثى رمادا لتفاهاتها، وغرورها الأعمى.
– حنين / الطفولة: يشعر القارئ حالة من الهبوط والانشراح الذي يحمله تركيب العنوان ” حنين الطفولة ” بعد تصعيد متنام لأنَّ محمول الوحدتين الدلاليتين فيه نوع من الهروب إلى مرحلة مضيئة، شفافة هي مرحلة الطفولة ” وللطفولة المبكرة شأن خاص ” -كما يقول محمد ناصف – والحال أنها حالة رفض لواقع راه، واقع شبيه بالموت منه إلى الحياة، واقع مقرف يجعل السارد/ البطل أكثر رغبة في الهروب إلى البدايات الأولى، إلى الطفولة المشرقة،فثمة حاجة ملحة، بل هي أكثر إلحاحا في هذه اللحظة..
– محنة / الاغتصاب:
يصعّد الكاتب مستوى الخطاب بما يحمله مدلولا ” محنة / الاغتصاب ” فلهما محمولات كثيرة: ” الفتنة، الحقد، الغدر، الإكراه، العنف، الفظاظة ، الغلظة…”
لقد نقلنا الروائي من حالة شبيهة بالفرح إلى حالة أغم ّ تحيل على السواد والحمرة في آن واحد ، فنشتم رائحة الدّم ، و التوحش ، والحماقات البشرية المجنونة واللاَّ محدودة التي تتعرض لها ” مريم ” المغتصبة ن المذبوحة كعصفورة نادرة..ثمة شيء من الامتعاض والحقد، شيء يجمع بين المحنة والاغتصاب إنْ لم يكونا من جنس واحد .
فتنة البربرية محنة الاغتصاب
مكاشفات المكان ( هبوط)
ظلال المدينة (صعود) حنين الطفولة ( صعود)
(استقرار قاتم ) ( تصعيد عنيف ) ( استرخاء محفوف ) ( تصعيد دام)
” رسم يوضح مسار عناوين التركيب الإضافي ،وتجلياته ”
ثانيا:
– التركيب الوصفي:
-” الجمعة/ الحزين ” : يتركب من وحدتين دلاليتين ” الجمعة( مبتدأ موصوف )+ الحزين (خبر صفة ) ” وكلاهما مُعرَّف ،ومدلول التعريف ب ” أل” هنا يشكل معلما زمنيا / تاريخيا يمثل رقما مهما في مسار ومعمار وأحداث الرواية ، فالجمعة يوم قامت فيه قيامة البلد ،وحدث لمريم فيه ما حدث ، والراجح أن َّ اختيار” الجمعة ” ليس اعتباطيا بحكم ما يحتمله من إحالات لأنَّ أحداث الخامس أكتوبر 1988 كانت يوم ” الثلاثاء ” والجمعة يمثل السابع منه، وما أرجحه احتمال الاختيار المدروس والقصدي للجمعة بصفته يوما مفصليا في حياة الجزائريين الملتصقين بالموروث الديني / العقائدي فهو يوم خلق الكون ، ويوم تقوم القيامة ، غير أنه لم يمر على بطلة السارد عاديا ، بل كان قيامة جذذت حريريتها وفتحت جرحا مشرعا ، وكبيرا ، مفتوحا على أسئلة بائسة ، فالحزن صفة لصيقة بالموصوف ” جمعة 7 أكتوبر 1988″ ولا قدرة للروائي على إضاءته أو تبييض قتامته.
-”الجنون / العظيم ” : حالة تهور رهيب امتداد لما خلفه “الجمعة الحزين ” ، ولم يختلف التركيب عما سبقه بل يكاد يكون نفسه تعريفا وصيغةََ ً ووصفا ( على وزن فعيل) مما يؤكد مدى تلاصق الصفة والموصوف فكأنهما واحد ، فالجنون في سيدة المقام ” إرادي تجسده “مريم ” بطلاقة رغم إصابتها البليغة في تحدّ سافر للموت ، الموت الذي رسمه “الجمعة الأسود” ولن يكون هذا الفعل – التحدي إلا عظيما خارقا ،عظمة وجنون صاحبته.
-” البحر/ المنسيّ” : البحر تيمة أخرى تثري المتن السردي للرواية بما تتركه من فواصل وإيحاءات تصنع الفرحة في أشد لحظات حياتنا تعاسة ووحدة، وهو هنا منسي، منسي ، لكنه مفجع أيضا : ” ما أوحدك أيها البحر في عزلتك المفجعة ” (7) ،”البحر المنسيُّ ” فاجعة أخرى تحمل ما تحمل من إفضاءات محفورة في مسار النّص /السارد ،واسترجاعات اللحظات المهربة التي تقبع شاهدة محفورة ، والنسيان (الصفة) وحدة آنية ، ولحظية وليست دائمة – كما يتوهم القارئ – بل أن تضافر الأشياء الموحشة يشعر بالفقدان، بالضياع و الوحشة ، كذا كان البحر منسيا في عرف السارد، ولو إلى حين.
“الجنون / العظيم”
(حالة انبثاق وتواصل)
” الجمعة/ الحزين ” ” البحر/ المنسيّ ”
( حالة انكسار) (حالة افتقاد)
” مخطط المسار الحركي لعناوين التركيب الوصفي ”
ثالثا:
– التركيب الإضافي مرة أخرى: عودة أخرى إلى تركيب البدايات “الإضافي” فيما يشه الهبوط الاضطراري، فالنص يقف عند نهاياته المحتومة عبر نوافذ ثلاث هي:
– “حراس النوايا ” : الوحدة الأولى جمع تكسير(حراس ج/حارس) ، وكذلك الوحدة الثانية ( النوايا ج/ النية ) جمع غير مكتمل ، جمع ناقص في شكل رسالة مشفرة تقف عند حدود المعركة القائمة بين طرفين أحدهما عاجز عن فهم ذاته وموقعه ، والآخر محكوم بجملة من التعقيدات التي تقف حجر عثرة في طريق تمرده ، ونضاله المستميت من أجل قضيته الأسمى ، في وجود “حرس النوايا ” والإسناد هنا فيه نوع من السخرية المرة،فالأصل أن تكون الحراسة للممتلكات والأشياء غير أنها في هذا المستوى منصبة على ” النوايا ” أي المقاصد ، وتلك مشكلة أقسى وأخطر.(( أعرف بل صار مألوفا أن “حراس النوايا ” لا يتدخلون عادة بعنف إلا عندما يكون الرجل مصحوبا بامرأة.أو يشمون رائحة الأجساد التي تعيش لحظة عنفوان شائقة. من صفاتهم أنهم يقرأون في عينيك ما تفكر به ولا يهم إن كان صحيحا أو غير صحيح.المهم أنهم فكروا أنك على خطأ ، فيجب أن تكون على خطأ بدون ثرثرة عندما يكفرونك ،وعادة يفعلون ذلك عندما يختلفون معك، عليك أن تقبل، لأن أي نقاش سيقودك إلى تعميق الأزمة.الحاكم لا يُـناقش….)) (
– ” إغفاءات الموت ” : يشارف النَّص على محطته ماقبل الأخيرة وتنبعث مؤشرات ” الموت ” المحموم ، فالإغفاءات أعراض أولى لهذا القادم المصرّ على القدوم أكثر من أي وقت مضى ، ويتجه مسار السرد نحو الانحدار في تحوُّ ل نقطي يكاد يكون معلوما تبعا لاتجاه الأحداث وتعالقها ، ولا يمكن انتظار شيء آخر، فالسارد وضعنا على حافة التوقع اللا َّجميل ، التوقع المحفوف بالحزن ، برائحة النهاية، أو النهايات – كما أصرَّ الروائي على تسميتها-
– ” نهايات/ المطاف ” : النهاية ” نهايات ” ، و” المطاف ” واحد، ثمة قسوة وألم لا متناه يفجره الإحساس بالقنوط ، بالضعف والعجز اتجاه شيء أكبر، أكثر فتكا، وأكثرا قدرة على إطالة عمر الفاجعة ” النهايات ” فلو كانت ” نهاية ” لهان الأمر بعض الشيء، وأن تكون متعددة فذلك يعني أن البطل / الحقيقي / الافتراضي يموت أكثر من مرة ، وإنْ كان الموت واحدا. فالنهايات محمولات لموضوع واحد هو ” الموت “..
(( كانت البلاد تذبح نفسها بقوة، و بعناد كبير.
الوطن ينتهي ويصير أوطانا، القبائل تتحول إلى مداشر، والمد اشر تتحول لتصير غيرانا، الألسن تضيع، وفرسان البلاد القديمة يبحثون عن موتهم خارج النهايات المبتذلة…)) (9)
حرَّاس ُ النوايا
( انفعال )
أل..ماقبل.. إغفاءات الموت / نهايات المطاف…
( البحر المنسي) ( النهايات المحتومة )
” مخطط المسار الحركي لعناوين التركيب الإضافي ”
نحتاج بعد هذه الوقفة إلى عملية إحصائية تقف على المتن ” الكم/ سردي ” و تمثلاته في العناوين الداخلية وما تشغله من تحولات لأنها ترتبط ارتباطا وثيقا بالفعل السردي وتجلياته السُّوسيو- فنية كما يوضحه الجدول التالي:
العناوين الداخلية المتن الذي تشغله
1- مكاشفات المكان من ص:5إلى ص:32 (27ص)
2- ظلال المدينة من ص:33 إلى ص:57(24)
3- فتنة البربرية من ص:59 إلى ص:78(19ص)
4- حنين الطفولة من ص:79إلى ص:100(21ص)
5- محنة الاغتصاب من ص:101إلى ص:122(21ص)
6- الجمعة الحزين من ص123:إلى ص:153(30ص)
7- الجنون العظيم من ص:155إلى ص:186(31ص)
8- البحر المنسي من ص:187إلى ص:211 (24ص)
9- حراس النوايا من ص213:إلى ص:234(21)
10- إغفاءات الموت من ص:235إلى ص:260(25)
11- نهايات المطاف من ص:261إلى ص: 284(23ص)
والقراءة الإحصائية للجدول تبين أن العناوين المركبة تركيبا إضافيا تشغل الحيز الأكبر من المتن ، فهي تمثل( 192( صفحة من أصل (288) صفحة ،ويمكن اعتبارها محور النَّص السردي إذ ْ تمثل النسبة الأكبر من العناوين الداخلية ، وتحمل بذلك دلالة التهافت والانسطاح ، دلالة تغيم على النَّص برمته وتجعل من أجوائه عنوانا لهوامش غير مضيئة ، هوامش بلا معنى وأحيانا بلا حياة.
كما يمثل ” الجمعة الحزين ” و ” الجنون العظيم ” فصلين طويلين كون الروائي يشتغل فيهما على التداعي الحر للأحداث وفق ترتيب زمني تراجعي لم يخرج عن الإطار العام للرواية ولكنه يتضح بجلاء أعمق فيهما ، فالاتجاه اتخذ مسارا استقطابيا يختزل الحضور نحو الغياب ، نحو ماض محتقن غارق في العتمة ، وإن كانت يضيئه جنون ” مريم ” المكسر للطابوهات المعلبة ، والأخلاق المصطنعة..إنه جنون حياة لا موت.
أما على مستوى العناوين الأخرى فيبدو عدد صفحاتها متقاربا إلى حد ما (يتراوح بين21 و27ص) وكأن تسارع الأحداث وتلاحقها خلق نوعا من التوازن المطرد في بناء فصول الرواية ، فلم يطغ فصل على آخر إلا في حدود ما تفرضه سلطة المتن المحكي ، وما يقتضيه معمار الرواية و هوامشها ، وللروائي ” واسيني الأعرج ” أكثر من هامش في ” سيدة المقام ” .
المعجم الدلالي ،،قراءة في متن العناوين: يخيم على المعجم المستعمل طابع الحزن والفرادة، وضبابية الآتي المفتوح على جذوة الاحتمال، احتمال الموت والتلاشي، وعليه نجد أربع مجموعات دلالية متمايزة وظفها الروائي في عتباته :
– دوال المحنة و التفكُّك : ” فتنة، البربرية، محنة الاغتصاب، حراس النوايا، إغفاءات الموت، نهايات المطاف “.
الملفوظات كلها تعكس حالة الاحتقان والتردي الفظيع الذي يشكل دائرة قاتمة مغلقة يصعب الإفلات من تجاويفها ، فالموت حتمية لا مفارقة، والوضع لا يحتمل إلا التصعيد والعنف الهمجي.
- دوال الحزن والانكسار: ” مكاشفات المكان، الجمعة الحزين، البحر المنسيّ “.. هي حالة من التصحر التي تصيب حيثيات الهامش السردي الذي يعلن مكاشفات غير مرغوب فيها لكنها تبدو ثابتا قاسيا لا يمكن تجاوزه ، والمكاشفات عنصر إجرائي ترتكز عليه الرواية في تفعيل الأحداث.
– دوال المجاوزة والتحدي : ” الجنون العظيم ” ويرتبط هنا بقدرة ” مريم ” المصابة ورغبتها في تحدي الموت ، وتمثيل دورها إلى آخر لحظة ، اللحظة التي يقف فيها السارد / البطل عاجزا عن أخذ قرار مهم يكفل لهذه المجنونة بقاءها ولو إلى حين.. لكن الجنون سيد الموقف.
– دوال التراخي والابتسار: ” ظلال المدينة، حنين الطفولة “.. حالة رغم مرارتها تغزل هامشا يستغله السارد / البطل لبوح من نوع آخر، بوح بطعم الاندثار لا يحيلنا في النهاية إلا َّ على فراغات المكان، واغترا بات الروح المنكسرة كزجاجة نادرة، أو عرض انتهت مدة صلاحيته.. الأمر في غاية القسوة..
آخر المطاف ..
للعنونة عند الروائي ” واسيني الأعرج ” طعم آخر، نكهة خاصة تغزل خصوصياتها ومحمولاتها من التجربة المتميزة والثرية لروائي أسَّس للغة روائية جديدة، ولنمط سردي قائم على الثراء الفكري والثقافي والتحصيلي الذي يجعل من العمل الروائي تجربة فنية مفتوحة توظف كل المكتسبات والتجارب للخروج بنص غير منمط، عنونة ولغة ومعمارا.
هوامش:
(1):ابن منظور: “لسان العرب”، م15،دار صادر، بيروت، ط1،1992، ص106
(2): د.سعيد علوش: ” معجم المصطلحات الأدبية المعاصرة “، مطبوعات المكتبة الجامعية ، الدار البيضاء المغرب، 1984،ص:89
(3):د. عبدالله الغذامي، الخطيئة والتكفير، منشورات النادي الثقافي، جدة ، ط1، 1985 ، ص:263
(4): د.جميل حمداوي، “السيموطيقا والعنونة”، عالم الفكر، الكويت، ع/23، يناير/مارس، ص90
(5): أ.د. محمد صار عبيد، مجلة الموقف الأدبي، عدد:434،2007
(6): “سيدة المقام ” واسيني الأعرج، المؤسسة الوطنية للفنون المطبعية ، رغاية،2007 ص:33
(7): المصدر نفسه ، ص:187
(: المصدر نفسه ، ص :220
(9): المصدر نفسه، ص:283.
منقول