[center]عتبات الخطاب العرفاني
قراءة في تجربة عبد الحميد شكيل الشعرية
بقلم : د. اليامين بن تومي
١٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
\u062a\u0643\u0628\u064a\u0631 \u0627\u0644\u0646\u0635\u062a\u0635\u063a\u064a\u0631 \u0627\u0644\u0646\u0635\u0646\u0635 \u0641\u0642\u0637
يتسم النص الصوفي عن غيره بالتمنع و التفلُّت ، لأن القصيدة الصوفية تختار عناصرها من داخل كينونة الشاعر ، فهي تجربة وجودية تحيلنا بعمق على ملفوظات حالية تتسم بالحدثية ؛ التي تنفصل عن الزماني ، لأنها تشكل تمفصلاتها الخطابية من داخل المعاناة – الحال- لذلك نعتمد في فهمنا للقصيدة الصوفية على نقطتين أساسيتين هما:
- الإلمام بالمعجم الصوفي عبارة و إشارة .
- تمثل التجربة الصوفية في راهنيتها ، و التمثل هنا يكون داخل اللغة بإعادة استيعاب جوانبها الموضوعية أولا ثم الإحالة على مُغيَّبَـاتها و لامحجوبتها لتكتمل المواضعة القرائية .
وعليه ؛ يكون الولوج إلى عالم تجربة الكتابة الصوفية عند "عبد الحميد شكيل" مستعصيا يتطلب منا النفاذ إلى الموضوع الصوفي بل التنفُّذ في فهم العبارة الصوفية التي تنطوي على الكثير من الترميز والتشفير .
أن نستعين في فهم الخطاب على تأويل التدليلات اللفظية وهي؛ إحالات عائمة على السطح المحايث للعبارة – بلغة دولوز- أن نحفر في ترسباتها وتراكماتها المَعْنَمِيَّة ، فالعبارات العرفانية حمَّالات أوجه.
للعبارة طبقات ملفوظية تحيل على شبكة من المدلولات المعقدة حيث يتداخل فيها الداخل بالخارج، والثابت بالمتحرك والذاتي بالموضوعي، والطبيعي بالغيبي، والعقلي بالامعقول والبشري بما فوقه.
وهنا؛ وجب امتلاك بني لفظية وأنظمة عبارية وعدَُّة مصطلحية تتوجه نحو النص الصوفي تأويلا لدلالاته، والتأويل هنا يقتضي ضربا من الحفر والنبش في العبارة الفلوتة المتميعة.
فالعبارة الصوفية نسق علاماتي يستعين به المجرِّب "عبد الحميد شكيل" في تمرير إيديولوجيته الخاصة، محاولة لخداع نصوص السلطة وأنظمتها العبارية؛ فالصورة الصوفية وتوظيفاتها البلاغية تتجاوز البلاغة الأورتذكسية التقليدية التي تفرض رقابة على نظام الإبداع الشعري، فهي؛ تتجاوز الكتابة المؤسساتية أو السلطوية التي شكَّلها المركز، ذلك أن العبارة الصوفية مشحونة بالممارسة حيث يختلط العلم بالعمل.
القصيدة بالنسبة للمتصوف جسد الكينونة، الذي تودع فيه اللذة حيث أن اللذة هي العبارة التي يستقر فيها الرضا والشوق الصوفي. ومن أجل هذا : "يميز المتصوفة بين مصطلحي "الإشارة والعبارة " حيث الإشارة مجرد إيحاء بالمعنى، دون تعيين وتحديد، ومن شأن هذا الإيحاء أن يجعل المعني أفقا متفتحا دائما، أما العبارة فهي تحديد المعنى يجعله مغلقا ونهائيا، الأمر الذي يتعارض مع حقيقة الكلام الإلهي الذي تتعدد مستويات الدلالة فيه تعددا لا نهائيا" .
وإذا كانت الإشارات الصوفية تلجُنَا إلى عالم المقامات المتعددة فإن العبارة هي "الدازاين" -بلغة هيدجر- الذي ينقل العرفاني من المقام إلى المكابدة، أو التمثل حيث أن العبارة هي الوحدة الأولية للخطاب الصوفي وهنا يقول الكلاباذي.
إذا أهل العبارة سائلونا
أجبناهم بأعلام الإشــارة
نشير بها فنجعلها غموضا
تقصر عنه ترجمة العبـارة
وتشهدها وتشهدنا سرورا
له في كل جارحة إشــارة
ترى الأقوال في الأحوال أسرى
كأسر العارفين ذوي الخسارة
دواوين الشاعر "عبد الحميد شكيل" رحلة في بحار التجربة العرفانية التي تثقل فيها الإشارات وتتمطط على جسدها العبارات وتنوء الإشارات بالعبارات، فتقع كمن يتخبطه المس بين منطوق نراه في شكل إزاحات لفظية وإنزياحات الدلالية على السطح المكتوب ولا منطوق مخبوء يفيض من عذابات التجربة.
وهنا يتوسل الشاعر بالرمز والأسطورة علهما يفصحان بظهر الغيب. يقول الشاعر "عبد الحميد شكبل" في هذا الصدد.
"ومفتتح النص الذي لا يفسر "
سرى معراج الصراط"
العرفاني يدرك أن الألفاظ ببطونها لا تستطيع أن تترجم الأشواق إلا من خلال عملية مستعصية، فهي من قبيل الكشف الجزئي عن الأسرار، باعتبار أن التجربة الصوفية مليئة بالأسرار فالتجربة العرفانية مرادفة للسر: "فهمت معنى السر ودلالة الكتمان وأهميته في التجربة الروحية، وكيف يكون البوح ومتى ولمن يكون" هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإن طريق الصوفية في النظر:" ليست طرقا نظريا أعني مركبة من مقدمات وأقيسة. وإنما يزعمون أن المعرفة وبغيره من الموجودات شيء يلقي في النفس عن تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة (= الفكر) على المطلوب" .
انطلاقا مما تأسس؛ نجد أن التجربة العرفانية تفضح المسكوت الذي لا يمكننا النطق به لأنها هروب من الواضح البين إلى اللفظ المتموج على عتبات اللامنطوق .
المساحات البيضاء في القصيدة العرفانية شكلت الوظيفة المهيمنة كما يقول ياكبسوون، هذه المساحات البيضاء حددت نمط الكتابة من خلال الفراغات الموجودة داخل النصوص الشعرية. وقد حاول عدد من الدارسين وعلى رأسهم فيش Fich تحديد مختلف البياضات النصية إلا أن : "رولف كلويفر تركيب البياضات بواسطة خمس مقولات مختلفة.
1- شكل الالتباس غير المحقق المطابق لما لا يشير إليه النص بسبب نقص في الملائمة . 2- كل مكان أو نقطة في النص يحس القارئ فيها بنقص ليست من الأسباب. 3- كل مكان أو نقطة في النص تعمدنا فيها إسكات شيء ما لتفعيل مشاركة القارئ 4- كل مكان أو نقطة في النص يحقق القارئ في تحديد دلالتها المتعارضة . 5- كل مكان أو نقطة في النص في أفق مرجعي أكثر تكثيفا لا يمكن أن يعطيه دلالة واحدة .
ولتمثيل هذه البياضات المختلفة التي يلعب بها العرفاني في توظيف تجربته نجده يستعير كل هذه الأشكال والصور الأنفة .
لمحاورة تجربته يقول
وصرير الريح الهوج ،
زعزعت عرين سفيني،
الغوث ..
الغوث..
ضده نقاط المتتالية (..) تشكل البياض بما يفضي إلى المحجوب أو المسكوت الذي لم يبح به الشاعر.
وفي نموذج آخر يتحدد البياض بطريقة أخرى حيث تصمت التفعلية عن الجرس الموسيقى.
أحب عنابة
وردة
الروح،
سر
التحول
الذي شارف المنتهى!
صار وشما في الثقوب!!
فهذا المقطع الشعري لم يحلنا إلا على الدلالة الحافة التي تعنيها لفظتي "وردة ، الروح" حيث إن كل من دلالة النكرة المقصورة لـ"وردة" والدلالة المعرفة لـ"الروح" أوقفت التتابع الدلالي في منزلة بين التنكير والتعريف كذلك المنزلة هي البياض أو المسكوت عنه الذي مَوْضَعَ دلالة غير مكتملة، إلا من خلال الوقف المعجمي للفظتي "وردة، الروح".
وعليه، فإن المسكوت هو الذي جعل ابن عربي يعلِّق على ضعف الآخرين في فهم منطقة على العبارة، فقد كانت بالنسبة له "الحرف والوجود" الجرح والتكوين" والآن والكينونة".
ولما كان النص العرفاني يتكلم بالعبارة وعبرها كما يقول ميشال دوسارتو كان حري بنا أن نقف عند عتبتي الكتابة والتجربة من خلال هذه النزعة أو النشوة العرفانية التي نسجها "عبد الحميد شكيل" في قصيدته "فضاء القوس".
مارستُ العشقَ، بالعشقِ للعشقِ، ارتطم
الطريق بشاهده الوحيد، وتوحد الماء بالصخر
صوت البرتقال بالرصاص، القبلات السمر، يفرزها
الجدار المستقيم!
وفي هذه الدراسة نكشف استراتيجة الكتابة من خلال التباسات التجربة فالكتابة في التجربة العرفانية لمسة تطهير ونفحة تزكية وتجربة حلول للنزعة في العبارة. بل حلول الناسوت/ الكتابة، باللاهوت/ الفيض المتجلي في الحقيقة: " لأن التجربة الصوفية في جوهرها تجربة انفتاح الأنا على المعنى الباطن للوجود كله، وهذا الانفتاح ومرهون بالقدرة على التواصل بين الأنا والكون الذي هو جزء منه، فمن الطبيعي أن تمثل التجربة الصوفية تجربة موازية لتجربة "الوحي" النبوي"
وهنا يجرب الشاعر في عالم الكتابة فتختلط لديه الرغبة بالعبارة وتستعصي الألفاظ عن حمل ما في الأذهان، لذلك فطريق اللغة للعرفاني أفضل الطريق للتواصل مع الذات ومع الآخرين، ينفتح على الكون باللغة، ينتقل التصوف من المقام إلى الحال حيث يعقد المتصوف علاقة حميمية مع اللغة. يقول الشاعر "عبد الحميد شكيل".
نشتهي أن نوحد النهر، الصخر، الشجر الطالع مع ضلال
القلوب التي أورثتنا الفاجعة..
نشتهى أن نعيد صفاءها بهجتها الضائعة
ويقول في موضع آخر آه! يا زمن المذلة، الذي في سؤدد الكلمات تمادى،
ينشرني الظل الذي يصَّاعد من عطش
الرماد،
أسقط في مطبات اللغة،
حدثا
الكتابة العرفانية غنوص إلى جوانية المعاناة وفي نص "نوفمبروت" يقول:
يكتب عن سورة وطن يجئ، ولا يجئ،
سوى في خبر المقالات الرخيصة،
أو في حشو النشرات التي تعادي البلاغة،
وتسمى الشعر: نزوة اللغة، شيطان الكلام!!
هي الكتابة محرقة الذين توحدوا بالألم المعجل
والمؤجل، واستووا على قمة الروح التي تبعثرنا في مفازات
البلاد .
وفيه تكون المعاني التي تنقلها برانية الكلمات فتُبعد القريب، وتقرِّب البعيد، بل إنها تجمع المتباعد وتفصل المتلاحم، لأنها طلاسم تلقحها التجربة يقول ابن عربي " إن الإشارة عند أهل طريق الله تؤذن بالبعد أو حضور الغير" ويكون مقام أول هذه الألاعيب التي تجتاح التجربة العرفانية حيث يتوحد الحبيب مع محبوبه، يفني فيه بالعبارة واللغة والتجربة، والحب لا يتم إلا بالقرب: " ولن يتأتى حب الله سبحانه دون الشرط الأول شرط القرب منه سبحانه "
يقول "عبد الحميد شكيل":
للريح بهجتها المستحبة،
للخطو سر الانتماء،
ولك يا سيدتي كل هذا البنج الجسدي
في الزمن الأول خلق الله الماء،
في الزمن الثاني خلق الله المرأة،
في الزمن الأخير تم المزج"
المزج يمثل لحظة للحب، لحظة لحلول اللاهوت في الناسوت، بل أكثر من الحلول هو توحد مع الحقيقة، ولعل هذه الأبيات الأخيرة فيها كثير من صيغ المناصصة مع أشعار ابن عربي حين يقول في السطر الثاني من قوله:
"نحن روحان حللنا بدنا"
وتأسيسا على ما تم، لاحظنا أن الكتابة عند العرفاني تقوم على مراجع أهمها: الذات، الوطن، الحب التي يتمثلها الصوفي في مكابدة الحقيقة وفق مصطلحاته ومعجمه.
بونة،
متسعي والمضيق،
وفتحة الروح التي في المدار الحسير،
هنا في هذا المقطع يتوحد المكان "بونة" -وهي ولاية عنابة الآن- بالذاتي في دلالة لفظة متسعي - الضمير يعدد على المتكلم- حيث أن المكان هو الفيض بل هو لحظة الصفاء الوحيدة فيفني الذاتي في موضوع الحب، حين يصبح المكان هو المدار النفسي.
العنوان- العتبة الأولى
العنوان هو الفيض الأول بل هو لحظة الكشف، لحظة يأخذ فيها المستور والمغيّب طريقه نحو الانبلاج والوضوح، فمنطوقاته اللفظية المرسلة في شكل ومضات إشارية يخاتل بها القراء؛ ينفلت عن المعنى المعرَّض لضوء النهار، كما يقول الهرمينوطقيون تصبح الدلالة عائمة مستعصية، فلوتة خافوية. من خلال دواوينه الشعرية الآتية:
تحولات فاجعة الماء، مقام المحبة، الطبعة الأولى 2002.
- مراتب العشق، مقام سيوان، الطبعة الأولى 2004.
- مرايا الماء، مقام بونة، الطبعة الأولى 2005.
- يقين المتاهة " الطبعة الأولى 2005.
نلاحظ أن العنونة عند "عبد الحميد شكيل" تأخذ شكل المقام الذي يتسرب منه العدول البلاغي حيث تلعب لغة العرفاني على التحول والانفصال، وكلها جروح انسابت إلى أعماق الشاعر، بل بين الشعر ومشاعره. يقول دريدا " الجرح يخلق الإنسان" فإطلالة بسيطة على عنونة الدواوين تجعلنا في المواجهة مباشرة أمام بنية القصيدة العرفانية التي تنطلق من حاله الجرح إلى كمونها في النزيف اللغوي.
وفيه يصبح الجرح أهم دوافع الكتابة، فالكتابة تعويض عن الذي فقدناه، وعملية الكتابة حلول في جسد الرمز، والعبارة لترتحل بك إلى الشفاء أي إلى الخلاص بمعنى الطهر؛ وهي حالة داخل اللغة وليس خارجها.
وهنا تكون البنية النسقية للعنونة ممركز حول وحدة نووية تشكل دائرة الفعل الإبداعي، وعند "عبد الحميد شكيل" يشكل المكان مقام الفيض والإلهام المركزي للكتابة.
وفيه تصبح العملية الإبداعية صيرورة تتغير مع وجوه الإلهام " المكان- بونة"، هذا المكان الذي هو فاجعة بحجم التحول الذي أصاب الوطن خلال فترة الإرهاب وفيه تحول إلى فاجعة الوطن الجريح.
حيث يقول في قصيدة: " خيبات الماء / مسرات الغربان". وفيها إشارات واضحة إلى حالة الفوضى والإرهاب التي عمت الوطن يقول:
نرتدي عرينا،
نسكب الماء الفجيعة على قمة الجرح .
إلى قوله:
ذنبك – يا محمد- حب الجزائر، والبحر، وشدو القبرات،
ودفء امرأة من ريف الطاهير المعنَّى
وصوت أطفال يلحون على معنى "الاغتيال" ولماذا ازدهر
الموت المباغت، رغم الربيع الذي يلف البلاد؟
ما معنى قتل الكلام البديع؟
لماذا البلاد الجميلة تضيع؟
عذابات الوطن لا تنتهي مع عرفانية "عبد الحميد شكيل" حيث يستنطق "مراتب العشق" وهنا ينقلنا الشاعر إلى الوئام والمصالحة حيث أن الوطن هو الشرف الذي كدنا نضيعه في سنوات أشكل علينا فيها الإنسان، لذلك لا سبيل لي استعادة الشرف إلا بالحب والعشق وهو قمة الإنسانية يقول في قصيدته " مقام سيوان"
في سيوان شاهدت امرأة، فاتنة الفحر، تتقافز من وجنتيها، أنسام الزعتر الجبلي، مرايا من زنجبيل الوديان، في سيوان
تتهادى امرأة الماء،
تصيح البهجة،
أنا فتنة الكون الأزلي،
فاضحة الفرسان!
عتبة اللاعتبة:
- الكتابة تمجيد للماء:
يكون الماء عند المتصوفة حالة الصفاء، حالة الشفافية التي تذوب فيه تجربة العرفاني، الماء وحده الحياة النبع الذي تنبجس منه الحياة، وهل القصيدة غير النبع الذي يخلق الجمال؟
الماء هو المداد الذي يكتب به الشاعر تجربته، إن البحث: " عن ماء الكتابة ارتبط لدى "عبد الحميد شكيل" بالبحث عن القصيدة والذات والعالم، عند عنصر يشم النص ويلقي بالذات في دوران زمنها. والبحث بالأساس اختبار لذلك فهو إقامة حرة على حدود الخطر، حيث المجهول والممنوع يتآلفان"
وهذا الماء نزوة عرفانية متجذره في الكتابة الشعرية، فهو المولد الذي يبعث الأشواق ويترجمها إلى ألفاظ دالة:
في الهزيع الأخير،
من وطن الماء،
وورد الرياحين،
اصطفاني البحر،
وخيرني بين الخروج وبين الولوج،
الكتابة، توليد:
إن التوليد الدلالي يهيمن على أعمال "عبد الحميد شكيل" الشعرية حيث يتولد من اللفظة الواحدة عدة دلالات ومعاني، وهنا تحاول الدوال المختلفة أن تستوعب التجربة الصوفية، يقول في قصيدته المتميزة " مراتب العشق / مقام سيوان".
على مرمى حجر،
من باب الفتح، المفتح،
بالمفاتيح،
الفتوح
الفاتحات
مغالق البرزخ،
كنت أنا جز الورد"
فهذه التوليدات اللفظية اختزنت دليلا مرجعيا لجذر " ف.ت.ح" وهو الجذر الثلاثي الذي أثار اللعبة الدلالية، لتغرق الألفاظ في المعاناة الصوفية. يقول في مقام آخر:
على مرمى حجر،
من باب العدل الذي في العدول،
المعدِّلة،
بالعادلات،
إن هذه التكرارات لهي خروج أو عدول أسلوبي عن القاعدة النمطية للمعنى المعجمي الحاف، فهي حالية المتصوف التي تفترض منه أن يحل في اللفظة ليولد منها ما هو على غير المألوف المغاير المخالف، لأن تجربة الصوفي تجنح إلى الاختلاف والانتشار في اللفظة الدالة على عالم الحلول أو الوحدة فهي من قبيل التشتت العرفاني بين حاضر ومغيب، الحاضر هو المعنى المعجمي والمغيب هو التوليد الدلالي؛ حيث تصبح اللفظة الواحدة لعبة بين دلالات مختلفة وهذا الذي يسمى بالتدليل أي إختراق المعنى للمتصورات الذهنية، فهنا يغيب المعنى المرجعي لصالح التجربة، ويغيب المعنى الحاف لصالح الدلالة المائعة الفلوتة .
فاكهة المتعة:
إن عالم "عبد الحميد شكيل " الشعري ينفتح على كل العرفانيات التي انتظمت منظومتنا الثقافية، فهي تجربة غنية من حيث: الشكل- الأسلوب- اللغة. "فعبد الحميد شكيل" يراوغ اللغة، وبها يفتح مغاليق النصوص ويستنطق بها المدفون وراء العتبات تلك المساحات البيضاء وتلك الفواصل المركونة من زاوية كل سطر شعري. اللغة تضمحل على عتبة الرمز والأسطورة الصوفية حيث يصبح الشاعر مخبرا وراويا بالمعنى السردي.
ويلعب الصوفي باللغة على عتبات: الذات، الوطن، العشق هذا الثالوث الذي ينتقل عبر جسد القصيدة فيتوحد معها. وهنا تصبح خواطر العرفاني وتجربته بل عتبات خطابه مفاتيح لقراءة المسكوت، ونفض العبء زمن على التراكم الدلالي، لتصبح التجربة تجارب واللفظة ألفاظ والمعنى معاني وفق لعبة سيميوطبقة مكشوفة، لا يبقى معها إلا تسليط الضوء وإخراج الآليات والمعاول النقدية لتهديم النص وبنائه من جديد.
يمارس نص "عبد الحميد شكيل" إغراءا وفق مبدأ اللذة، حيث تستدعينا نصوصه لنتموقع داخلها كقراء وهنا تصبح جزءا من التجربة العرفانية، وفيه يتحول الموضوع إلى ذات والذات إلى موضوع .
مراجع الدراسة :
- أكاديمي من الجزائر .
- عبد الحميد شكيل : شاعر جزائري .
- نصر حامد أبو زيد، هكذا تحدث ابن عربي، المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، الطبعة الأولى. ص: 52.
- مجدي محمد إبراهيم: التصرف السني، حال الفناء بين الجنيد والغزالي مكتبة الثقافية الدينية، القاهرة، الطبعة الأولى 2002 . ص: 33.
- أقصد هنا دواوينه التي وصلتني من الشاعر بإهداء منه شخصيا وهي تحولات فاجعة الماء، يقين المتاهة، مرايا الماء (مقام بونة)، مراتب العشق (مقام سيوان).
- نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي. ص:9.
- ابن رشد: الكشف عن منتهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق محمد عابد الجابري مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت الطبعة الثانية 2001. ص: 117
- يحتل مفهوم الفراغ والبياض مكانة متميزة في الطروحات التي قدمها ايزر وقد أطلق عليها الفيلسوف البولندي روماني انجاردن بـ "أماكن اللاتحديد".
- فرانك شوير ويجن: نظريات القراءة ترجمة عبد الرحمان بوعلي، دار الجسور الغرب ط 1 1995. ص: 78.
- عبد الحميد شكيل: مرايا الماء (مقام بونة) منشورات وزارة الثقافة مديرية الفنون والآداب الجزائر الطبعة الأولى، 2005. ص: 148.
- عبد الحميد شكيل ، تحولات فاجعة الماء، منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر الطبعة الأولى 2002. ص: 24.
- نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي. ص: 89.
- عبد الحميد شكيل، تحولات فاجعة الماء. ص: 11.
- عبد الحميد شكيل ، مرايا الماء. ص: 34-35.
- أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال تحقيق عبد الحليم محمود ، دار الجيل بيروت الطبعة الأولى 2003. ص: 137.
- عبد الحميد شكيل، فاجعة الماء. ص: 20.
- عبد الحميد شكيل، يقين المتاهة منشورات الملكية الوطنية الجزائرية الجزائر الطبعة الأولى 2005. ص: 110.
- عبد الحميد شكيل، تحولات فاجعة الماء . ص: 03.
- عبد الحميد شكيل، تحولات فاجعة الماء. ص: 84.
- عبد الحميد شكيل، مراتب العشق (مقام سيوان) مطبعة المعارف عنابة الطبعة الاولى 2004 . ص: 90-91.
- محمد بنيس، كتابه المحور دار توبقال للنشر، المغرب الطبعة الأولى 1994. ص:21.
- عبد الحميد شكيل، مرايا الماء (مقام بونة) . ص: 27.
- عبد الحميد شكيل ، مراتب العشق (مقام سيوان) . ص: 36.
- عبد الحميد شكيل ، مراتب العشق (مقام سيوان). ص: 38.
قراءة في تجربة عبد الحميد شكيل الشعرية
بقلم : د. اليامين بن تومي
١٤ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
\u062a\u0643\u0628\u064a\u0631 \u0627\u0644\u0646\u0635\u062a\u0635\u063a\u064a\u0631 \u0627\u0644\u0646\u0635\u0646\u0635 \u0641\u0642\u0637
يتسم النص الصوفي عن غيره بالتمنع و التفلُّت ، لأن القصيدة الصوفية تختار عناصرها من داخل كينونة الشاعر ، فهي تجربة وجودية تحيلنا بعمق على ملفوظات حالية تتسم بالحدثية ؛ التي تنفصل عن الزماني ، لأنها تشكل تمفصلاتها الخطابية من داخل المعاناة – الحال- لذلك نعتمد في فهمنا للقصيدة الصوفية على نقطتين أساسيتين هما:
- الإلمام بالمعجم الصوفي عبارة و إشارة .
- تمثل التجربة الصوفية في راهنيتها ، و التمثل هنا يكون داخل اللغة بإعادة استيعاب جوانبها الموضوعية أولا ثم الإحالة على مُغيَّبَـاتها و لامحجوبتها لتكتمل المواضعة القرائية .
وعليه ؛ يكون الولوج إلى عالم تجربة الكتابة الصوفية عند "عبد الحميد شكيل" مستعصيا يتطلب منا النفاذ إلى الموضوع الصوفي بل التنفُّذ في فهم العبارة الصوفية التي تنطوي على الكثير من الترميز والتشفير .
أن نستعين في فهم الخطاب على تأويل التدليلات اللفظية وهي؛ إحالات عائمة على السطح المحايث للعبارة – بلغة دولوز- أن نحفر في ترسباتها وتراكماتها المَعْنَمِيَّة ، فالعبارات العرفانية حمَّالات أوجه.
للعبارة طبقات ملفوظية تحيل على شبكة من المدلولات المعقدة حيث يتداخل فيها الداخل بالخارج، والثابت بالمتحرك والذاتي بالموضوعي، والطبيعي بالغيبي، والعقلي بالامعقول والبشري بما فوقه.
وهنا؛ وجب امتلاك بني لفظية وأنظمة عبارية وعدَُّة مصطلحية تتوجه نحو النص الصوفي تأويلا لدلالاته، والتأويل هنا يقتضي ضربا من الحفر والنبش في العبارة الفلوتة المتميعة.
فالعبارة الصوفية نسق علاماتي يستعين به المجرِّب "عبد الحميد شكيل" في تمرير إيديولوجيته الخاصة، محاولة لخداع نصوص السلطة وأنظمتها العبارية؛ فالصورة الصوفية وتوظيفاتها البلاغية تتجاوز البلاغة الأورتذكسية التقليدية التي تفرض رقابة على نظام الإبداع الشعري، فهي؛ تتجاوز الكتابة المؤسساتية أو السلطوية التي شكَّلها المركز، ذلك أن العبارة الصوفية مشحونة بالممارسة حيث يختلط العلم بالعمل.
القصيدة بالنسبة للمتصوف جسد الكينونة، الذي تودع فيه اللذة حيث أن اللذة هي العبارة التي يستقر فيها الرضا والشوق الصوفي. ومن أجل هذا : "يميز المتصوفة بين مصطلحي "الإشارة والعبارة " حيث الإشارة مجرد إيحاء بالمعنى، دون تعيين وتحديد، ومن شأن هذا الإيحاء أن يجعل المعني أفقا متفتحا دائما، أما العبارة فهي تحديد المعنى يجعله مغلقا ونهائيا، الأمر الذي يتعارض مع حقيقة الكلام الإلهي الذي تتعدد مستويات الدلالة فيه تعددا لا نهائيا" .
وإذا كانت الإشارات الصوفية تلجُنَا إلى عالم المقامات المتعددة فإن العبارة هي "الدازاين" -بلغة هيدجر- الذي ينقل العرفاني من المقام إلى المكابدة، أو التمثل حيث أن العبارة هي الوحدة الأولية للخطاب الصوفي وهنا يقول الكلاباذي.
إذا أهل العبارة سائلونا
أجبناهم بأعلام الإشــارة
نشير بها فنجعلها غموضا
تقصر عنه ترجمة العبـارة
وتشهدها وتشهدنا سرورا
له في كل جارحة إشــارة
ترى الأقوال في الأحوال أسرى
كأسر العارفين ذوي الخسارة
دواوين الشاعر "عبد الحميد شكيل" رحلة في بحار التجربة العرفانية التي تثقل فيها الإشارات وتتمطط على جسدها العبارات وتنوء الإشارات بالعبارات، فتقع كمن يتخبطه المس بين منطوق نراه في شكل إزاحات لفظية وإنزياحات الدلالية على السطح المكتوب ولا منطوق مخبوء يفيض من عذابات التجربة.
وهنا يتوسل الشاعر بالرمز والأسطورة علهما يفصحان بظهر الغيب. يقول الشاعر "عبد الحميد شكبل" في هذا الصدد.
"ومفتتح النص الذي لا يفسر "
سرى معراج الصراط"
العرفاني يدرك أن الألفاظ ببطونها لا تستطيع أن تترجم الأشواق إلا من خلال عملية مستعصية، فهي من قبيل الكشف الجزئي عن الأسرار، باعتبار أن التجربة الصوفية مليئة بالأسرار فالتجربة العرفانية مرادفة للسر: "فهمت معنى السر ودلالة الكتمان وأهميته في التجربة الروحية، وكيف يكون البوح ومتى ولمن يكون" هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى فإن طريق الصوفية في النظر:" ليست طرقا نظريا أعني مركبة من مقدمات وأقيسة. وإنما يزعمون أن المعرفة وبغيره من الموجودات شيء يلقي في النفس عن تجريدها من العوارض الشهوانية وإقبالها بالفكرة (= الفكر) على المطلوب" .
انطلاقا مما تأسس؛ نجد أن التجربة العرفانية تفضح المسكوت الذي لا يمكننا النطق به لأنها هروب من الواضح البين إلى اللفظ المتموج على عتبات اللامنطوق .
المساحات البيضاء في القصيدة العرفانية شكلت الوظيفة المهيمنة كما يقول ياكبسوون، هذه المساحات البيضاء حددت نمط الكتابة من خلال الفراغات الموجودة داخل النصوص الشعرية. وقد حاول عدد من الدارسين وعلى رأسهم فيش Fich تحديد مختلف البياضات النصية إلا أن : "رولف كلويفر تركيب البياضات بواسطة خمس مقولات مختلفة.
1- شكل الالتباس غير المحقق المطابق لما لا يشير إليه النص بسبب نقص في الملائمة . 2- كل مكان أو نقطة في النص يحس القارئ فيها بنقص ليست من الأسباب. 3- كل مكان أو نقطة في النص تعمدنا فيها إسكات شيء ما لتفعيل مشاركة القارئ 4- كل مكان أو نقطة في النص يحقق القارئ في تحديد دلالتها المتعارضة . 5- كل مكان أو نقطة في النص في أفق مرجعي أكثر تكثيفا لا يمكن أن يعطيه دلالة واحدة .
ولتمثيل هذه البياضات المختلفة التي يلعب بها العرفاني في توظيف تجربته نجده يستعير كل هذه الأشكال والصور الأنفة .
لمحاورة تجربته يقول
وصرير الريح الهوج ،
زعزعت عرين سفيني،
الغوث ..
الغوث..
ضده نقاط المتتالية (..) تشكل البياض بما يفضي إلى المحجوب أو المسكوت الذي لم يبح به الشاعر.
وفي نموذج آخر يتحدد البياض بطريقة أخرى حيث تصمت التفعلية عن الجرس الموسيقى.
أحب عنابة
وردة
الروح،
سر
التحول
الذي شارف المنتهى!
صار وشما في الثقوب!!
فهذا المقطع الشعري لم يحلنا إلا على الدلالة الحافة التي تعنيها لفظتي "وردة ، الروح" حيث إن كل من دلالة النكرة المقصورة لـ"وردة" والدلالة المعرفة لـ"الروح" أوقفت التتابع الدلالي في منزلة بين التنكير والتعريف كذلك المنزلة هي البياض أو المسكوت عنه الذي مَوْضَعَ دلالة غير مكتملة، إلا من خلال الوقف المعجمي للفظتي "وردة، الروح".
وعليه، فإن المسكوت هو الذي جعل ابن عربي يعلِّق على ضعف الآخرين في فهم منطقة على العبارة، فقد كانت بالنسبة له "الحرف والوجود" الجرح والتكوين" والآن والكينونة".
ولما كان النص العرفاني يتكلم بالعبارة وعبرها كما يقول ميشال دوسارتو كان حري بنا أن نقف عند عتبتي الكتابة والتجربة من خلال هذه النزعة أو النشوة العرفانية التي نسجها "عبد الحميد شكيل" في قصيدته "فضاء القوس".
مارستُ العشقَ، بالعشقِ للعشقِ، ارتطم
الطريق بشاهده الوحيد، وتوحد الماء بالصخر
صوت البرتقال بالرصاص، القبلات السمر، يفرزها
الجدار المستقيم!
وفي هذه الدراسة نكشف استراتيجة الكتابة من خلال التباسات التجربة فالكتابة في التجربة العرفانية لمسة تطهير ونفحة تزكية وتجربة حلول للنزعة في العبارة. بل حلول الناسوت/ الكتابة، باللاهوت/ الفيض المتجلي في الحقيقة: " لأن التجربة الصوفية في جوهرها تجربة انفتاح الأنا على المعنى الباطن للوجود كله، وهذا الانفتاح ومرهون بالقدرة على التواصل بين الأنا والكون الذي هو جزء منه، فمن الطبيعي أن تمثل التجربة الصوفية تجربة موازية لتجربة "الوحي" النبوي"
وهنا يجرب الشاعر في عالم الكتابة فتختلط لديه الرغبة بالعبارة وتستعصي الألفاظ عن حمل ما في الأذهان، لذلك فطريق اللغة للعرفاني أفضل الطريق للتواصل مع الذات ومع الآخرين، ينفتح على الكون باللغة، ينتقل التصوف من المقام إلى الحال حيث يعقد المتصوف علاقة حميمية مع اللغة. يقول الشاعر "عبد الحميد شكيل".
نشتهي أن نوحد النهر، الصخر، الشجر الطالع مع ضلال
القلوب التي أورثتنا الفاجعة..
نشتهى أن نعيد صفاءها بهجتها الضائعة
ويقول في موضع آخر آه! يا زمن المذلة، الذي في سؤدد الكلمات تمادى،
ينشرني الظل الذي يصَّاعد من عطش
الرماد،
أسقط في مطبات اللغة،
حدثا
الكتابة العرفانية غنوص إلى جوانية المعاناة وفي نص "نوفمبروت" يقول:
يكتب عن سورة وطن يجئ، ولا يجئ،
سوى في خبر المقالات الرخيصة،
أو في حشو النشرات التي تعادي البلاغة،
وتسمى الشعر: نزوة اللغة، شيطان الكلام!!
هي الكتابة محرقة الذين توحدوا بالألم المعجل
والمؤجل، واستووا على قمة الروح التي تبعثرنا في مفازات
البلاد .
وفيه تكون المعاني التي تنقلها برانية الكلمات فتُبعد القريب، وتقرِّب البعيد، بل إنها تجمع المتباعد وتفصل المتلاحم، لأنها طلاسم تلقحها التجربة يقول ابن عربي " إن الإشارة عند أهل طريق الله تؤذن بالبعد أو حضور الغير" ويكون مقام أول هذه الألاعيب التي تجتاح التجربة العرفانية حيث يتوحد الحبيب مع محبوبه، يفني فيه بالعبارة واللغة والتجربة، والحب لا يتم إلا بالقرب: " ولن يتأتى حب الله سبحانه دون الشرط الأول شرط القرب منه سبحانه "
يقول "عبد الحميد شكيل":
للريح بهجتها المستحبة،
للخطو سر الانتماء،
ولك يا سيدتي كل هذا البنج الجسدي
في الزمن الأول خلق الله الماء،
في الزمن الثاني خلق الله المرأة،
في الزمن الأخير تم المزج"
المزج يمثل لحظة للحب، لحظة لحلول اللاهوت في الناسوت، بل أكثر من الحلول هو توحد مع الحقيقة، ولعل هذه الأبيات الأخيرة فيها كثير من صيغ المناصصة مع أشعار ابن عربي حين يقول في السطر الثاني من قوله:
"نحن روحان حللنا بدنا"
وتأسيسا على ما تم، لاحظنا أن الكتابة عند العرفاني تقوم على مراجع أهمها: الذات، الوطن، الحب التي يتمثلها الصوفي في مكابدة الحقيقة وفق مصطلحاته ومعجمه.
بونة،
متسعي والمضيق،
وفتحة الروح التي في المدار الحسير،
هنا في هذا المقطع يتوحد المكان "بونة" -وهي ولاية عنابة الآن- بالذاتي في دلالة لفظة متسعي - الضمير يعدد على المتكلم- حيث أن المكان هو الفيض بل هو لحظة الصفاء الوحيدة فيفني الذاتي في موضوع الحب، حين يصبح المكان هو المدار النفسي.
العنوان- العتبة الأولى
العنوان هو الفيض الأول بل هو لحظة الكشف، لحظة يأخذ فيها المستور والمغيّب طريقه نحو الانبلاج والوضوح، فمنطوقاته اللفظية المرسلة في شكل ومضات إشارية يخاتل بها القراء؛ ينفلت عن المعنى المعرَّض لضوء النهار، كما يقول الهرمينوطقيون تصبح الدلالة عائمة مستعصية، فلوتة خافوية. من خلال دواوينه الشعرية الآتية:
تحولات فاجعة الماء، مقام المحبة، الطبعة الأولى 2002.
- مراتب العشق، مقام سيوان، الطبعة الأولى 2004.
- مرايا الماء، مقام بونة، الطبعة الأولى 2005.
- يقين المتاهة " الطبعة الأولى 2005.
نلاحظ أن العنونة عند "عبد الحميد شكيل" تأخذ شكل المقام الذي يتسرب منه العدول البلاغي حيث تلعب لغة العرفاني على التحول والانفصال، وكلها جروح انسابت إلى أعماق الشاعر، بل بين الشعر ومشاعره. يقول دريدا " الجرح يخلق الإنسان" فإطلالة بسيطة على عنونة الدواوين تجعلنا في المواجهة مباشرة أمام بنية القصيدة العرفانية التي تنطلق من حاله الجرح إلى كمونها في النزيف اللغوي.
وفيه يصبح الجرح أهم دوافع الكتابة، فالكتابة تعويض عن الذي فقدناه، وعملية الكتابة حلول في جسد الرمز، والعبارة لترتحل بك إلى الشفاء أي إلى الخلاص بمعنى الطهر؛ وهي حالة داخل اللغة وليس خارجها.
وهنا تكون البنية النسقية للعنونة ممركز حول وحدة نووية تشكل دائرة الفعل الإبداعي، وعند "عبد الحميد شكيل" يشكل المكان مقام الفيض والإلهام المركزي للكتابة.
وفيه تصبح العملية الإبداعية صيرورة تتغير مع وجوه الإلهام " المكان- بونة"، هذا المكان الذي هو فاجعة بحجم التحول الذي أصاب الوطن خلال فترة الإرهاب وفيه تحول إلى فاجعة الوطن الجريح.
حيث يقول في قصيدة: " خيبات الماء / مسرات الغربان". وفيها إشارات واضحة إلى حالة الفوضى والإرهاب التي عمت الوطن يقول:
نرتدي عرينا،
نسكب الماء الفجيعة على قمة الجرح .
إلى قوله:
ذنبك – يا محمد- حب الجزائر، والبحر، وشدو القبرات،
ودفء امرأة من ريف الطاهير المعنَّى
وصوت أطفال يلحون على معنى "الاغتيال" ولماذا ازدهر
الموت المباغت، رغم الربيع الذي يلف البلاد؟
ما معنى قتل الكلام البديع؟
لماذا البلاد الجميلة تضيع؟
عذابات الوطن لا تنتهي مع عرفانية "عبد الحميد شكيل" حيث يستنطق "مراتب العشق" وهنا ينقلنا الشاعر إلى الوئام والمصالحة حيث أن الوطن هو الشرف الذي كدنا نضيعه في سنوات أشكل علينا فيها الإنسان، لذلك لا سبيل لي استعادة الشرف إلا بالحب والعشق وهو قمة الإنسانية يقول في قصيدته " مقام سيوان"
في سيوان شاهدت امرأة، فاتنة الفحر، تتقافز من وجنتيها، أنسام الزعتر الجبلي، مرايا من زنجبيل الوديان، في سيوان
تتهادى امرأة الماء،
تصيح البهجة،
أنا فتنة الكون الأزلي،
فاضحة الفرسان!
عتبة اللاعتبة:
- الكتابة تمجيد للماء:
يكون الماء عند المتصوفة حالة الصفاء، حالة الشفافية التي تذوب فيه تجربة العرفاني، الماء وحده الحياة النبع الذي تنبجس منه الحياة، وهل القصيدة غير النبع الذي يخلق الجمال؟
الماء هو المداد الذي يكتب به الشاعر تجربته، إن البحث: " عن ماء الكتابة ارتبط لدى "عبد الحميد شكيل" بالبحث عن القصيدة والذات والعالم، عند عنصر يشم النص ويلقي بالذات في دوران زمنها. والبحث بالأساس اختبار لذلك فهو إقامة حرة على حدود الخطر، حيث المجهول والممنوع يتآلفان"
وهذا الماء نزوة عرفانية متجذره في الكتابة الشعرية، فهو المولد الذي يبعث الأشواق ويترجمها إلى ألفاظ دالة:
في الهزيع الأخير،
من وطن الماء،
وورد الرياحين،
اصطفاني البحر،
وخيرني بين الخروج وبين الولوج،
الكتابة، توليد:
إن التوليد الدلالي يهيمن على أعمال "عبد الحميد شكيل" الشعرية حيث يتولد من اللفظة الواحدة عدة دلالات ومعاني، وهنا تحاول الدوال المختلفة أن تستوعب التجربة الصوفية، يقول في قصيدته المتميزة " مراتب العشق / مقام سيوان".
على مرمى حجر،
من باب الفتح، المفتح،
بالمفاتيح،
الفتوح
الفاتحات
مغالق البرزخ،
كنت أنا جز الورد"
فهذه التوليدات اللفظية اختزنت دليلا مرجعيا لجذر " ف.ت.ح" وهو الجذر الثلاثي الذي أثار اللعبة الدلالية، لتغرق الألفاظ في المعاناة الصوفية. يقول في مقام آخر:
على مرمى حجر،
من باب العدل الذي في العدول،
المعدِّلة،
بالعادلات،
إن هذه التكرارات لهي خروج أو عدول أسلوبي عن القاعدة النمطية للمعنى المعجمي الحاف، فهي حالية المتصوف التي تفترض منه أن يحل في اللفظة ليولد منها ما هو على غير المألوف المغاير المخالف، لأن تجربة الصوفي تجنح إلى الاختلاف والانتشار في اللفظة الدالة على عالم الحلول أو الوحدة فهي من قبيل التشتت العرفاني بين حاضر ومغيب، الحاضر هو المعنى المعجمي والمغيب هو التوليد الدلالي؛ حيث تصبح اللفظة الواحدة لعبة بين دلالات مختلفة وهذا الذي يسمى بالتدليل أي إختراق المعنى للمتصورات الذهنية، فهنا يغيب المعنى المرجعي لصالح التجربة، ويغيب المعنى الحاف لصالح الدلالة المائعة الفلوتة .
فاكهة المتعة:
إن عالم "عبد الحميد شكيل " الشعري ينفتح على كل العرفانيات التي انتظمت منظومتنا الثقافية، فهي تجربة غنية من حيث: الشكل- الأسلوب- اللغة. "فعبد الحميد شكيل" يراوغ اللغة، وبها يفتح مغاليق النصوص ويستنطق بها المدفون وراء العتبات تلك المساحات البيضاء وتلك الفواصل المركونة من زاوية كل سطر شعري. اللغة تضمحل على عتبة الرمز والأسطورة الصوفية حيث يصبح الشاعر مخبرا وراويا بالمعنى السردي.
ويلعب الصوفي باللغة على عتبات: الذات، الوطن، العشق هذا الثالوث الذي ينتقل عبر جسد القصيدة فيتوحد معها. وهنا تصبح خواطر العرفاني وتجربته بل عتبات خطابه مفاتيح لقراءة المسكوت، ونفض العبء زمن على التراكم الدلالي، لتصبح التجربة تجارب واللفظة ألفاظ والمعنى معاني وفق لعبة سيميوطبقة مكشوفة، لا يبقى معها إلا تسليط الضوء وإخراج الآليات والمعاول النقدية لتهديم النص وبنائه من جديد.
يمارس نص "عبد الحميد شكيل" إغراءا وفق مبدأ اللذة، حيث تستدعينا نصوصه لنتموقع داخلها كقراء وهنا تصبح جزءا من التجربة العرفانية، وفيه يتحول الموضوع إلى ذات والذات إلى موضوع .
مراجع الدراسة :
- أكاديمي من الجزائر .
- عبد الحميد شكيل : شاعر جزائري .
- نصر حامد أبو زيد، هكذا تحدث ابن عربي، المركز الثقافي العربي، بيروت الدار البيضاء، الطبعة الأولى. ص: 52.
- مجدي محمد إبراهيم: التصرف السني، حال الفناء بين الجنيد والغزالي مكتبة الثقافية الدينية، القاهرة، الطبعة الأولى 2002 . ص: 33.
- أقصد هنا دواوينه التي وصلتني من الشاعر بإهداء منه شخصيا وهي تحولات فاجعة الماء، يقين المتاهة، مرايا الماء (مقام بونة)، مراتب العشق (مقام سيوان).
- نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي. ص:9.
- ابن رشد: الكشف عن منتهج الأدلة في عقائد الملة، تحقيق محمد عابد الجابري مركز دراسات الوحدة العربية ، بيروت الطبعة الثانية 2001. ص: 117
- يحتل مفهوم الفراغ والبياض مكانة متميزة في الطروحات التي قدمها ايزر وقد أطلق عليها الفيلسوف البولندي روماني انجاردن بـ "أماكن اللاتحديد".
- فرانك شوير ويجن: نظريات القراءة ترجمة عبد الرحمان بوعلي، دار الجسور الغرب ط 1 1995. ص: 78.
- عبد الحميد شكيل: مرايا الماء (مقام بونة) منشورات وزارة الثقافة مديرية الفنون والآداب الجزائر الطبعة الأولى، 2005. ص: 148.
- عبد الحميد شكيل ، تحولات فاجعة الماء، منشورات اتحاد الكتاب الجزائريين، الجزائر الطبعة الأولى 2002. ص: 24.
- نصر حامد أبو زيد، هكذا تكلم ابن عربي. ص: 89.
- عبد الحميد شكيل، تحولات فاجعة الماء. ص: 11.
- عبد الحميد شكيل ، مرايا الماء. ص: 34-35.
- أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال تحقيق عبد الحليم محمود ، دار الجيل بيروت الطبعة الأولى 2003. ص: 137.
- عبد الحميد شكيل، فاجعة الماء. ص: 20.
- عبد الحميد شكيل، يقين المتاهة منشورات الملكية الوطنية الجزائرية الجزائر الطبعة الأولى 2005. ص: 110.
- عبد الحميد شكيل، تحولات فاجعة الماء . ص: 03.
- عبد الحميد شكيل، تحولات فاجعة الماء. ص: 84.
- عبد الحميد شكيل، مراتب العشق (مقام سيوان) مطبعة المعارف عنابة الطبعة الاولى 2004 . ص: 90-91.
- محمد بنيس، كتابه المحور دار توبقال للنشر، المغرب الطبعة الأولى 1994. ص:21.
- عبد الحميد شكيل، مرايا الماء (مقام بونة) . ص: 27.
- عبد الحميد شكيل ، مراتب العشق (مقام سيوان) . ص: 36.
- عبد الحميد شكيل ، مراتب العشق (مقام سيوان). ص: 38.