|
عبد المالك أشهبون …وجها الداخل والخارج في الكتابة التخييل الذاتي يستشرف حركية السرد ابراهيم محمود لعل الباحث المغربي والجامعي الدكتور عبدالمالك أشهبون، ممن يتلمس في الكتابة، وعبر مفهوم الحداثة في أحدث تنظيراتها أو توجهاتها، ما هو أبعد مما قيل فيها أو سجّل باسمها، في أكثر من مجال، وعلي الصعيد العربي بصورة خاصة. ثمة سعي إلي استثمار قراءته لما هو متاح له، عما بلغته الكتابة الغربية من مستوي (الفرنسية فيها بداية، وكون ثقافته فرنسية إلي جانب العربية)، وسَّع مفهوم (الكتابة) بحيث لم يعد في الإمكان النظر فيها من زاوية واحدة، أي علي أنها تتوقف كمفهوم علي نوع واحد كما هو عالم اليوم، ووشائج القربي بين العلوم المختلفة، والإنسانية منها ضمناً، وهذا يضاف إلي سجل الكتابة التاريخي، من جهة ثراء المعني وغواية المغامرة فيها. أشير إليه وبلغة المفرد، كونه يتحدث من موقعه كباحث، ويتوسل التنوع فيما يتقصاه قراءة ومساءلة عن حدود العلاقة بين ما ينسبه الكاتب إلي نفسه في أي نوع كتابي، وما ينسبه في الآن عينه إلي الآخر، وكيف تبرز الكتابة مرآة لا تنفد عمقاً، وهي لا تقتصر علي الوجه الأول: المعتبر طبيعياً، وإنما تجلو أكثر من وجه للكاتب فيما يثيره داخل نصه الأدبي والفكري. بين كتابين يخصانه، أسمّيهما، يكون مقامه الدلالي (من خطاب السيرة اللامحدود إلي عوالم التخييل الذاتي الرحبة ــ مطبعة آنفو،فاس، المغرب، ط1/2007)، و (عتبات الكتابة في الرواية العربية ــ دار الحوار، اللاذقية،ط1/2009). ربما يكون في التحرك البيني، ومن خلال قراءتي، نوع من النزال وبهدوء جلي، أو المناوشة علي تخوم المفاهيم والدخول في سجال مع المعنيين بالكتابة، أو الذين عرفوا كتاباً، وماذا ضمَّنوا كتاباتهم من قول يستحق المناقشة. ثمة مقاربة أمثلة وهي في سياقها، بغية النظر في المحيط بها، ومن ثم مكاشفة البعد الدلالي للأمثلة تلك، وكيف تظهر الكتابة أكثر حراكاً وإثارة بالمعني، فلا يكونن هناك استثناء، بدءاً من الغلاف وانتهاء بأي كلمة قد تقرأ في زاوية لا تثير، أو قد لا تثير انتباه أحد، حيث كل ما يتراءي للنظر، أهل للتفسير والتأويل وفي مستويات مختلفة. ماذا عن الأول؟ يتحرك أشهبون باحثاً وناقداً، وهو يشدَّ الرحال إلي عالم التخييل الذاتي، وهو يستشرف حركية السرد في السيرة الذاتية من خلال نماذج مطروحة للدرس، نماذج لا تنتمي إلي الجنس الأدبي مباشرة، وإنما تستلف من الأدب الصورةَ الحسية، والعبارة المتخيَّلة كما لو أنها تقدر مسبقاً، أن التنفس الفكري ذاته لا يتحقق بعيداً عن لغة الأدب، وذلك في كتابه ذي العنوان الطويل نسبياً، والخطاطي نسبياً كما هو مشار إليه آنفاً. إنه العنوان الذي يراهن علي مفهوم المكان: من المكان الممكن تشخيصه، أو اعتباره حسياً، رغم أنه لا يفتقد خاصية التخيل، من خلال صفة (المحدود) والتي تخص (الخطاب)، وهذا حمال أوجه، تبعاً للشخص الواحد، وبالنسبة إليه في مراحل عمرية مختلفة، وفي حرف جر" من"، ثمة سهولة في تعيين نقطة مواقعية، نقطة هي إحداثية رؤية، أو سمت تحرك، انطلاقاً إلي نقطة ما، تتجاوز الحدود المتاحة حسياً، أي حدود" الخطاب" المختلَف عليه كثيراً، باعتباره كثير التداول والتفعيل الضمني، وبالمقابل، لا يكون التخييل كنشاط ذهني إبداعي: ميتا حسي، هو المسمي هنا، إنما عوالم، وبصيغة" النكرة" إذ يجري ضبط ما للمفهوم هنا، لتكون صفة" الرحبة" خاصة بـ" عوالم" وليس التخييل المركون إلي الذات.. يؤكد الناقد علي أهمية (التخييل الذاتي) في دراسة السيرة الذاتية، حيث يبرز المفهوم التركيبي الجامع (ما بين السير ذاتي والبعد التخييلي، وهو ما جعل النصوص تنفتح علي الجوانب السير ذاتية، كما أن النصوص السير ذاتية تستحضر الكثير من عناصر الخيال. ص6)، كما في حال لوجون المشدّد علي هذا المفهوم، دون أن يتخلي عن الفكرة المتصوَّرة عنده (في مخيلته)، وهي كيفية إبراز نسبة الحضور الأدبي في صياغة السيرة الذاتية، وماذا وراء السيرة هذه، وذلك باعتماد جانب ثقافي عام، وتفكيكي أحياناً بحسب القرب أو البعد من لغة الكاتب بالذات، وهو بذلك لا يخفي موقعه الذاتي باعتباره قارئاً وناقداً معاً، وحتي العلاقة المكانية لها فاعليتها. لهذا نجد الجابري المفكر، في (حفريات الذاكرة)، وإدوارد سعيد الناقد والسياسي في (خارج المكان)، والعروي المؤرخ والأديب في (أوراق)، ومن ثم علي القاسمي اللغوي والقصصي ، في (رسائل إلي حبيبتي) مثلاً، وهناك سمير أمين المفكر الاقتصادي العالمي في (مذكراتي)، يلتقون في مضمار رؤية الباحث المغربي، حيث يكون التعرض للأول للاحتفاء به ( من خلاله بقيمة التنوع الثري في مجالات الفكر والوجود معاً. ص 44)، وهو الأكثر حضوراً في مرآته البحثية كما أسلفت بصفته مغربياً، وجلي التأثير في التاريخ الثقافي الفلسفي العربي عموماً والمغربي خصوصاً،أما الثاني فيتلمس في كتابه (نصاً غنائياً، وجميل الصنعة. يبلغ أحياناً درجات من الصراحة. ص60)، وهو المشتغل علي الأدب بصحبة مقوّم سياسي ملموس، أما صاحب (أوراق) فهو (يولي أهمية قصوي للجانب الذهني والنظري أكثر من التركيز علي البعدين المرجعي أو الحدثي كما هو مألوف في السير الذاتية التقليدية. ص82)، وكونه مؤرخاً تلمسَ في الرواية متنفساً للتعبير عما يعانيه نفسياً، أما الرابع فـ (يشكل الفضاء الجغرافي الريفي مركز ذكريات علي القاسمي عن تلك السنوات الأولي.. ص89)، وهو المعرض لعذابات المنفي كثيراً، أما الخامس فإنه (يجب التعامل مع مذكرات سمير أمين من منطلق تجاوز مفهوم الجنس الأدبي، مادام من تكفل بكتابتها هو رجل اقتصادي مرموق..ص137) حيث لغته الاقتصادية، وحتي رؤيته السياسية لمتحولات العالم مؤثّرتان في توجهات كباحث طبعاً، وتبقي الخاتمة مفتوحة من خلال طابع الدينامية التي يضفيها علي طريقته الجديدة، في مفهوم السيرة الذاتية اعتماداً علي (التخييل الذاتي) لأن المنظور الدينامي هذا يكون ذا (صيرورة لا نهائية. ص149). تلك مقتطفات من كتاب أشهبون رغبة في التعريف به، ولو بإحالات مرجعية مختصرة، لأنه يستحق القراءة انطلاقاً من رؤيته البحثية المختلفة، الرؤية التي تفسح مجالاً أوسع لمكاشفة ما يمت بصلة نفسية أو اجتماعية أو تاريخية إلي ذات الكاتب مهما تنوع اختصاصه، ولئلا يكون التفسير الضيق الأفق مختزِلاً كتابة سيرته، إلي الأصل والصورة المأخوذة عنه مثلاً رغم وجود من تعرَّض لهذا الجانب من زوايا متنوعة، كما في حال محمد لطفي اليوسفي في (فتنة المتخيل) الجزء الثالث، أو حتي صدوق نور الدين في (سير المفكرين الذاتية) والجابري من بينهم، ولكن خط الرؤية يظل سالكاً للمزيد من الراغبين في إماطة اللثام عن هذا الحقل الخصب. وربما يبقي سؤال جدير بالتذكير، وهو لماذا لم يتعرض الباحث، لنموذج أنثوي كما في حال نوال السعداوي مثلاً، في الحقل النفسي الأدبي التاريخي؟ أما كان مسار البحث يغتني بالقيمة الفكرية والرؤية الجمالية للشخصية مثار البحث، وهي حصيلة الواقع المنتقي والمتخيَّل المحدَّد، أو فيما يخص باحثة اجتماعية وفي بلده، وأعني بها فاطمة المرنيسي، ومن خلال كتابها المعروف أو الذائع الصيت (نساء علي أجنحة الحلم) ومصاغ بقالب روائي، حيث إن دراسة هذا الكتاب المتميز بدرجة عالية من الهجنة الثقافية: الروائية الفكرية أو بالعكس، تيسّر لنا سبيل بحث متميز، إن رمنا تلمس محركات الرؤية النفسية والاجتماعية جنسانياً أو ثقافياً علي العموم عند المرنيسي! إن قراءة السيرة كخطاب، تخرج الكاتب من قمقمه إلي واضحة النهار، لأن الذي يعزي إليه في الوقت الذي يحمل اسمه، لا يعود منوطاً به، وقد تنوعت روافده، بقدر ما أصبح القارئ حاضراً في متن كل عبارة يقولها، من خلال مقاربة تأويلية ليس في وسعه التشدد علي نفي مآلها! ماذا عن الثاني؟ تدفع بنا مفردة (العتبة) إلي خارج البيت، إلي النظر في الجهات قاطبة، ولكنها لا تنفصل إطلاقاً عن البيت، عن مكان إقامة، فهي لا تكون (العتبة) إلا لأنها مرتبطة بما يليها، أو بدقة أكثر، بما يبرزها، فهي في الحالة هذه لا تمثّل الخارج، إنما تسمّي ما يُدرَك في مَلاك الكتاب وحدود انتشاره، ما يكونه الكتاب أكثر مما يُعرَف به وهو المعتبَر المحصورَ بين دفتيه. مفهوم الحصر لا يلغي العتبة فقط، باعتبارها برَّانية، لا تنتسب كمفهوم الفصل المنطقي في التعريف، إلي الكتاب ككينونة رمزية، فيكون المقروء فيه داخلاً هو حقيقة الكتاب، حيث يطوي الغلاف: الجلد، كما يقال أحياناً، وكأننا إزاء ممارسة تشريحية، توصيف حيوي، يكون الجسد منزوع الرداء: اللباس، وفي عهدة المفهوم ما هو مخالَف لتصور من هذا القبيل، إن الجسد بما يغطيه، بما هو مشدود إليه: جلده، وحتي اللباس ذاته يضفي عليه قيمة ذوقية ومهادية، تتمثل في النظر إليه كلاً واحداً. مفهوم (العتبة) كتابياً حديث، أو مستحدث، لكنه يعد بالكثير، وهو عريق من جهة التكوين، ولكن التعرض له، وتبيان مدي علاقته بالكتاب، وكيف يمكن تقويمه، وحتي الآن عند البعض، وربما الكثير منهم، يدخل في نطاق (البدعة)، مظهِِراً جانب المقاومة لما لم يتم ائتلافه بعد، ويعني هذا أن الحديث عن المكتشف راهناً، له صلة بالشخص مطلق الاسم دون أن يتهجاه، إذ طالما الكتاب يتقدم بغلافه، باسمه، وبعلامات فارقة تخص العنوان وما ينتثر حوله من محددات دلالية، في تحديد نوع الكتاب، والناشر، وسنة النشر، والطبعة..الخ، يعني ذلك أن ثمة حقيقة وجدت فور ظهور الكتاب، أن ثمة ما كان يُشدَّد عليه في صمت، أن ما اعترِف به حديثاً، ينعطف علي المعني بالموضوع، وكيف أخرجه مجهوله وهو معلوم بقيمته، إلي المعلوم وقد تبدي بمتضمَّنه. ثمة تخصيص في العنوان، والعنوان مواطن عتباتي، لكنه مشارك الكتاب، إذا كان يعتبَر متناً، فيما ينطوي عليه من قيمة، وأعني بذلك (عتبات الكتابة في الرواية العربية)، فالرواية العربية هي المشغل، وثمة ما يُنسَج داخل المفهوم الموصوف (الرواية العربية)، وليس الرواية بإطلاق. لا بل يمكن المضي بمفهوم (العتبات) من خلال تعدد مقوماتها، إلي ما هو أبعد من ذلك، كما هي صيغة العنوان، حيث عبارة (عتبات الكتابة) جاءت في الأعلي، وبخط أسود ومشدَّد عليه، وضمن مساحة أوسع، وكأن العنوان هو هكذا فقط، تليه عبارة (في الرواية العربية) بحجم أقل، وبلون مغاير، لإحداث التأثير انطلاقاً من مفهوم (العتبات) بلغة لجمع، لتكون عبارة في الرواية العربية) هذه تلك، في نطاق النموذج البحثي كما يتضح في السياق لاحقاً، رغم أن العنوان يبرز واحداً، أي يقرَأ هكذا (عتبات الكتابة في الرواية العربية) دون وجود فاصل دلالي، كأن توضع العبارة التالية ضمن مزدوجتين، أو فارزتين، لتأكيد العلاقة المنطقية (الشمول والتضمن). أهي لعبة كتابة من لدن الباحث، أم من الناشر بالذات؟ في الحالتين نكون إزاء وضع تأويلي! ما الذي أوعز إلي الباحث في أن يخوض غمار الموضوع هذا؟ ثمة هاجس بحثي (إن الدرس النقدي العربي دأب علي الاهتمام بخارجيات النص الروائي (صاحب النص، ظروف النص…)، أو بنياته الداخلية (الشخصيات، السرد والرؤيات السردية، الزمان والمكان..)، في حين كان نصيب العتبات بئيساً في مجمل هذه المقاربات، ولا يستجيب لطبيعة الرهانات الفنية والبنيوية التي تضطلع بها هذه العتبات في اقتصاد النص. ص 7). نحن في مجتمع منفتح علي بعضه بعضاً، مجتمع النص في مدينيته، حيث يؤخَذ كل شيء بحسبان معين، وأن لا شيء يمكن إغفاله أو التقليل من أمره. المدينة ليست هي الداخل، هي حرمها، أو نطاقها، حدودها، مجال عمل بلديتها، ما يُنار منها خارجاً فقط، إنما جغرافيتها كاملة، مجالها الجوي والبري، أي ما يمتد خارجاً بالمفهوم الإجرائي، ما لا يعود مسكوناً، فيكون الخلاء، ولكنه علي صعيد القيمة الاعتبارية، ليس بشاغر، إنه امتلاء بالتنسيب والعلامات الفارقة، بدءاً من السهم الذي يشير إلي اسم المدينة، وعبارة (أهلاً بكم)، ثم يدوَّن اسم المدينة، لأن هذه واقعاً تعتمد مقومات حياة، إذ تكون المدينة بما ينتشر حولها، فيكون الظاهر فراغاً ملئاً دلالياً، وليكون الحديث عن اقتصاد النص اشتمالاً علي ما لا يسمي، إذ لا يعني غض النظر عنه، كما هو شأن الكتاب. |
قراءة الباحث والناقد السوري ابراهيم محمود لكتابين نقديين من خطاب السيرة ..و عتبات الكتابة
- تاريخ التسجيل : 31/12/1969
- مساهمة رقم 1