[center]
التـواتـر السردي: قراءة في رواية "غدا يوم جديد"
لـ "عبد الحميد بن هدوقة"
د- الأطرش رابح
قسم الأدب العربي
جامعة سطيف
ملخص :
تسعى هذه الدراسة إلى توضيح بعض قدرات تكرار الأحداث المسرودة في النص الروائي بين القصة والحكاية ، وذلك من خلال التواتر السردي بوصفه بنية زمنية متنوعة يلجأ الكاتب إليها ليضفي على نصه جمالية معينة ، ويمنحه رؤية ودلالة .
إن إمكانية التواتر قائمة بين الأحداث ولكن ما هي الكيفية التي وقعت بها ، أو يمكن أن تقع بها هذه الأحداث ؟ . وما الدلالات المتوخاة من خلال لجوء السرد إلى مثل هذه التواترات الزمنية التي يمكن أن ينظر إليها على أنها ترف لغوي ، أو حشو لأحداث مبتذلة لا فائدة جمالية أو دلالية ترجى من ورائها ؟ .
كل هذه الأسئلة يمكننا الإجابة عنها من خلال محاورتنا لنص "رواية غدا يوم جديد" لـ "عبد الحميد بن هدوقة" .
لعل ما دفعني إلى اختيار موضوع التواترات الزمنية Les fréquences في النص الروائي هو محاولة كشف إمكانيات هذا العنصر الجمالي وكيفية توزيعه داخل النص السردي من جهة وقلة الاهتمام به من قبل الدرس النقدي من جهة أخرى ، كما صرح بذلك "جيرار جينيت" بقوله : "حتى الآن لم يدرس نقاد الرواية ومنظروها عنصر التواتر السردي – إلا قليلا – على الرغم من أهميته الزمنية القصوى"(
[i]) .
وإسهاما مني – ولو بقسط يسير – في إضاءه بعض الجوانب من هذا العنصر السردي ، فقد وقع اختياري على رواية "غدا يوم جديد" لـ "عبد الحميد بن هدوقة" للقيام بمقاربة نقدية أحاول من خلالها معرفة قدرة استثمار النص الروائي لهذا العنصر السردي والاستفادة منه .
إن إمكانية التكرار قائمة بين الأحداث ، ولكن ما هي الكيفية التي وقعت بها ، أو يمكن أن تقع بها هذه التواترات ؟ .
وما هي الدلالات المتوخاة من خلال لجوء السرد إلى مثل هذه التكرارات التي يمكن أن ينظر إليها على أنها ترف لغوي أو حشو لأحداث مبتدلة ، لا فائدة جمالية ودلالية ترجى من ورائها ؟ .
في كثير من الأحيان لا يقع الحدث أو الأحداث المتكررة مرة واحدة ، بل تتكرر في تواترات سردية وزمنية متعددة قد تتجاوز عشرات المرات ، وهو ما يستدعي الوقوف عند هذه الظاهرة ومحاولة تسليط الضوء عليها ، وذلك بوضع النص الروائي "غدا يوم جديد" رهن الاختبار من أجل الوصول إلى كيفية تعامل النص السردي مع هذا العنصر الجمالي والدلالي .
إن قدرات تكرار الأحداث المسرودة من القصة والمنطوقات السردية ، من الحكاية من ناحية ، وبين مجموع الأحداث المتواترة من ناحية ثانية ، وهذا ما يوضحه "جيرار جينيت" بقوله : "إن حكاية ، أيا كانت ، يمكنها أن تروى مرة واحدة ، ما وقع مرة واحدة ، ومرات لا نهائية ، ما وقع مرات لا نهائية ، ومرات لا نهائية ما وقع مرة واحدة ، ومرة واحدة ما وقع مرات لا نهائية"([ii])
وقد ذهب بعض الدارسين إلى أن الرواية "أية رواية هي عبارة عن نسيج معقد من التكرارات والتكرارات ضمن التكرارات ، أو من التكرارات المترابطة في نمط تسلسلي مع تكرارات أخرى"([iii]).
وهذا ما لخصه "Bernard valette" في ثلاثة أنماط تكرارية اصطلح عليها كما يلي :
أ- المحكي الإفرادي : وهو ما يقص مرة واحدة حدثا وقع مرة واحدة .
ب- المحكي الإكراري : وهو ما يقص مرات عديدة حدثا وقع مرة واحدة .
جـ- المحكي الإعادي : وهو ما يقص مرة واحدة حدثا وقع مرات عديدة"([iv]).
أما التواتر عند خوسيه ماريا بوثويلو ايفانكوس "José Maria Pozuelo yvancos" فهو "الطريقة الزمنية للسرد المنسوبة إلى علاقات تردد الأحداث في القصة وتردد التلفظات القصصية لهذه الأحداث ، ويمكن حصرها في أربعة أشكال افتراضية هي :
أ- الحكاية الفردية : وتحكي مرة واحدة ما حدث مرة واحدة .
ب- الحكاية المتكررة الكلمات : وتحكي عدة مرات ما حدث عدة مرات .
جـ- الحكاية التكرارية : وتحكي عدة مرات ما حدث مرة واحدة .
د- Silepsis : وتحكي في مرة واحدة ما حدث عدة مرات"([v]).
من هنا يمكنني الاقتصار ، على أهم أنماط التواترات ، التي أراها أكثر بروزا وحضورا في رواية "غدا يوم جديد" ، وقد ارتأيت التعامل مع أنماط التواتر المقترحة من قبل "G, Genette" مع إمكانية التعديل أو التصرف فيها ، كلما اقتضت الضرورة ذلك ، ويمكنني ضبط هذه التواترات في ثلاث أنماط هي :
1- النمط الأول : المحكي المفرد le Récit singulatif وهو "المحكي الذي يروي مرة واحدة ما حدث مرة واحدة ، ومثال ذلك : نمت البارحة باكرا"([vi]).
وقد عمد "جيرار جينيت" إلى اعتبار كل محكي يروي أكثر من مرة ما حدث أكثر من مرة ضمن المحكي المفرد لاعتقاده أن النمط التكراري أو المكرر يجعل تواترات المحكي مساوية لتواترات القصة .
ويواصل قوله – بعد أن يرى أن هذا الشكل من الحكاية أكثر أنواع السرود انتشارا – مؤكدا أن هذا النوع "عادي" وهو لا يحمل اسما في اللغة الفرنسية على الأقل ، ومع ذلك يصطلح عليه بالمحكي المفرد"([vii]).
فالمحكي المفرد هو أكثر أنواع السرود شيوعا في النص الروائي ، وذلك – في اعتقادنا – أن السرد يميل بطبعه إلى سرد مرة واحدة ما حدث مرة واحدة ، وبخاصة إذا استوفى غرض ما يهدف السارد إلى تحقيقه من وراء عرضه للحدث المسرود .
فإلى أي مدى استطاعت رواية "غدا يوم جديد" استيعاب هذا النمط السردي ؟ .
وما هي كيفيات استثماره ؟ . وما طريقة بنيته ؟ .
يحكي نص رواية "غدا يوم جديد" قصة "مسعودة" وآخرين تقاطعوا معها هنا وهناك ، أو تقاطعت معهم ، عبر مسيرة حياة بأفراحها وأقراحها ، بظلمها وقهرها ، بآلامها وأحلامها .
ويتولى كاتب افتراضي إعادة بناء عالمها على امتداد أربع جلسات ، يكون صوت "مسعودة" حاضرا في كل هذه الجلسات ، إذ تتكفل بإثارة الخطوط العامة التي تضيء للكاتب مسالك الكتابة ، التي تنحرف بالقصة من لغة التواصل العادية إلى اللغة الشعرية المحلقة في أجواء من التخييل .
ومن المحطة – محطة القطار – ومن السفر الحلم نحو المدينة – مدينة الجزائر – وفي الثلاثينيات من القرن الماضي ، ومن تاريخ الجزائر الحديث ، تبدأ قصة "مسعودة" الفتاة الغرة التي تحلم بالسفر إلى المدينة مع زوجها "قدور" ابن قريتها والعامل بـ "ميناء الجزائر العاصمة" .
وفي المحطة ينكسر الحلم ، وتجهض آمال "مسعودة" في السفر إلى المدينة ، عندما يعتدي "قدور" على "رجل المحطة" – غيرة على زوجته – ويقتاد الرجلان إلى مركز الدرك الفرنسي للاستنطاق ، ومنه إلى المحكمة ، فالأشغال الشاقة في محجر "ألبير" ، لتجد "مسعودة" نفسها تسير خلف رجل يدعى "الحاج أحمد" تطوع باصطحابها إلى منزله .
وتتوالى الأحداث – بعد إجهاض حلم السفر إلى المدينة وانكساره ، فتتكسر معه مسارات السرد – صاعدة نازلة ، ومتشعبة ، من الحاضر إلى الماضي ، ومن الماضي إلى الحاضر ، بين المحطة الحلم ، واحتفالات المائة سنة على دخول الحضارة الفرنسية المزعومة أرض الجزائر ، واستجواب "قدور" و"رجل المحطة" ، واستدعاء "الحاج أحمد" لاستجوابه بدوره ، ثم العودة إلى القرية ، قرية الجبل الأحمر ، مسقط رأس "مسعودة" حيث نتعرف على الحياة هناك انطلاقا من المقهى ، والعين وبيت "العجوز حليمة" عمه "قدور" ، أين تتم خطبة "خديجة" لـ "قدور" التي تفسخ بعد ذلك بسبب الوشم وأغنية "العودة الزرقة" لصاحبها "محمد بن سعدون" .
وتتواصل الأحداث ، صاعدة ، نازلة ، متكسرة ، من المدينة إلى القرية ، ومن القرية إلى المدينة أين استقرت "مسعودة في البيت القصباوي(*) إلى البيت الأوروبي ، الذي اكترته لها العائلة الأوروبية ، التي باشرت الأشغال عندها ، بعد نفي زوجها "قدور" إلى سجن "سان لوران" إثر ارتكابه جريمة قتل في حالة سكر .
ومن خلال هذه الأحداث الاجتماعية ، والإنسانية المتشابكة ، تطل من حين لآخر محطات هامة من تاريخ الجزائر ، كان لها أثرها العميق ، في بلورة وعي بعض الشخصيات ، وتوجيه مصائر بعضها الآخر .
إن رواية "غدا يوم جديد" هي لوحة لصورة من حياة الجزائر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية ، مكثفة زمنيا ومكانيا ، ومندمجة في مجموعة من الشخصيات ، مازالت "مسعودة العجوز" تحن إليها ، وتصرخ من أعماق الروح ، من لي بهؤلاء (الحبيب ، حياة ، محمد ابن سعدون ، رجل المحطة ، قدور ، ابن القائد ، معلم المدرسة الفرنسية ، الحاج أحمد ، الضابط الفرنسي ، الذي قال لـ "الحاج أحمد" ديصاند(*) ، الدرك الشنابط(*) حراس المحجر ، القاضي المتهمين بالعصيان ، خديجة الواشمة ، عمة قدور ، أم خديجة ، أمي ، العجوز يمية ، صاحبة الدار القصباوية ، المعلمة الفرنسية)(*) ، هؤلاء الذين كانوا في يوم من الأيام يمثلون شبابها وحاضرها وها هي اليوم تجلس إلى جانب الراوي ، في قصر أبنائها الكولنيالي(*) – الذي شيد ببنادقهم – لترحل معه وبه عبر الذاكرة لاستحضار ذلك الماضي .
تشكل التواترات الزمنية المفردة في رواية "غدا يوم جديد" في مجموعها الإطار العام لأحداث جزئية ، تتناسل فيما بينها ، لتدفع بحركة السرد ، في بعض جزئياتها إلى قمة ذروتها قصد إنتاج حدث آخر ، يصعد بدوره حركة السرد ، بغض النظر عن نوع الحدث ، أو الأحداث الجزئية من حيث أنماط التواتر، ومن أمثلة ذلك، حدث استنطاق "قدور" من قبل الدرك الفرنسي(.
لقد تشعب هذا الاستنطاق، ليأخذ أبعادا استفزازية تهكمية، وأخرى سياسية، وثقافية وتاريخية منها:
- دلالة اسم "قدور" وتأويله وإلحاقه ب"الأمير عبد القادر" والإيحاء بالقوة العضلية.
- المشاركة في احتفالات مرور مائة سنة على دخول الحضارة الفرنسية المزعومة إلى الجزائر.
- مساءلته على التحضير لزواجه، وزوجته التي تركها بمحطة القطار.
- علاقته بالمخفي، والد زوجته، الرجل الخطير الذي دوخ فرنسا.
- علاقته بنادي الترقي، والشيخ العقبي.
- اصطحاب "الحاج أحمد" لزوجته، وماذا يمكن أن يحدث لها، في هذا المنزل الغريب الذي سوف تحل به.
ولم تكتف رواية "غدا يوم جديد" بهذا التواتر المفرد، بل هناك تواترات افرادية عديدة، كان لها الدور الرئيس، في تفعيل الأحداث، والأزمنة في تعاقبها، ومن هذه التواترات:
- حدث استدعاء "الحاج أحمد" من قبل الدرك الفرنسي، واستنطاقه بسبب اصطحاب "مسعودة" إلى منزله، بعد اعتقال زوجها "قدور" صحبة "رجل المحطة" وبقاء "مسعودة" لوحدها بمحطة القطار(9).
وقد ألقى حدث الاستنطاق بظلاله على أحداث، وأزمنة فرعية، كان لها فيما بعد أهميتها في تحريك الفعل السردي، من حيث أحداثه، وأزمنته بمختلف أنواع بنياتها.
- حدث وشم "خديجة" خطيبة "قدور" الأولى، قبل خطبته لـ"مسعودة" والزواج منها فيما بعد إذ كان لهذا الوشم الدور الأساسي في فسخ "قدور" للخطبة من "خديجة"(10)
إن هذا الحدث الذي لم يرو، على مستوى السرد إلاّ مرة واحدة، فقد انحرف بمسار الأحداث انحرافا جديدا، وحدد مصائر شخصيات، حيث وضع حدًّا لصوت "خديجة" وفرض عليها الانسحاب من باقي أحداث الرواية وأزمنتها، وأتاح فرصة لصوت "مسعودة" لكي يقتحم أحداث الرواية وأزمنتها، وهو ما يدل على أن التواترات الزمنية الافرادية، بالرغم من ظهورها مرة واحدة، زمنا وسردا، فإن إنتاجيتها لأزمنة وأحداث جديدة صاعدة تظل قائمة.
2- النمط الثاني: المحكي التكراري: Le Récit Répétitif :
وهو المحكي الذي يروي أكثر من مرة ما حدث مرة واحدة، إذ يكون فيه كَمُّ الخطاب أكثر من كَمِّ الخبر، لأن ما حدث في الخبر مرة واحدة ينقله الخطاب أكثر من مرة.
وقد جاءت النصوص الروائية الحديثة، مرتكزة على قدرة الحكاية على التكرار، حيث يمكن للحدث الواحد، أن يروي عدة مرات، ليس من متغيرات أسلوبية فقط، بل مع تنويعات في وجهة النظر(11).
لذلك نجد هذا النمط من التكرار، كثيرا ما يلجأ إليه المبدعون المعاصرون، وبخاصة الرواية البوليسية، أو تلك التي تعتمد على اختلاف في وجهات النظر، وتنويع فيها، وهو لذلك أطلق عليه "جيرار جينيت" المحكي التكراري، لما يقدمه للقارئ من معرفة وإلمام بالموضوع المسرود، من كل جوانبه المختلفة.
وهو ما سيتم توضيحه أكثر من خلال الاحتكام لنص الرواية .
لقد كانت الرغبة في السفر، هي التي تتحكم في توزيع الأحداث في رواية "غدا يوم جديد" بين الشخصيات والأحداث، لذلك نجد الحدث الرئيس، الذي تتفرع منه أغلب الأحداث – إن لم أقل كل الأحداث- هو "حدث سفر مسعودة"، هذا السفر نحو المدينة، للبحث عن حياة كريـمة، هو حلم كل القرويين، يرتب له السرد أرضية بداية من "محطة القطار" ولكن في المقابل يرتب له عوائقه التي تعترض انجازه، وتحقيقه بالشكل الذي تطمح إليه الشخصية، أو الشخصيات المتطلعة لهذا السفر:
«القطار لم يصل، وقته حلَّ وهو تأخر! أخرج قدور ساعته من جيب صداره، قرأ عقاربها مليا ليتأكد من الوقت، ثم أعادها إلى مكانها»(12).
إذا كان صوت الراوي المحايد، قد وصف لنا الحالة النفسية لـ "قدور"، وهو يستبطئ ساعة موعد قدوم القطار، فإن الموقف نفسه تعيشه زوجته "مسعودة"، ولكن بشكل مضاعف، لأن هذه الأخيرة، تعيش حالة اضطراب، متمثلة في خوفها من حركات "رجل المحطة" الذاهبة الآتية، ورد فعل زوجها الغيور ، بالإضافة إلى الوقع النفسي، الذي يحدثه هذا التأخر، غير المعتاد للقطار، وهو ما استدعى امتزاج صوتين، للتعبير عن الموقف الواحد، الأول صوت الراوي، الذي يصف المشهد العام للموقف، أما الصوت الثاني فهو صوت "مسعودة" التي تعبر عن إحساسها وما يمكن أن يحصل بسبب حركات "رجل المحطة" على الرصيف:
«أسدلت الجزء الأعلى من لحافها على وجهها وهي ترى برصيف المحطة شخصا يسترق النظر إليها (...) هاهو ذا يكيل رصيف المحطة بخطى متثاقلة، ذاهبا آيبا، ترى لماذا يمشي هكذا؟ لماذا لا يجلس كسائر الناس؟ وينتظر القطار... ابتعد يا رجل إن زوجي غيور حكى الناس الأساطير عن قوته وعن عنفه بمدينة الجزائر... ابتعد أيها الرجل، دعني أسافر بسلام»(13).
إن الحدث العالق في ذاكرة "مسعودة"، هو حدث "محطة القطار"، إذ شكل في حياتها وحياة بعض الشخصيات من حولها، تحولات عميقة، منها الايـجابية، ومنها السلبية، لذا لم يتوانى السرد في تكرار تفاصيله، بكل دقائقها وامتداداتها، بالرغم من وقوعه مرة واحدة.
فها هو السرد من جديد، يتابع حركات وسكنات "قدور" وهو يقف بالمحطة في انتظار مجيء القطار: «السكون يخيم على المحطة، قدور يـخرج الساعة من جَيْبِ صداره مرة أخرى مضى ربع ساعة على موعد القطار»(14) .
الجملة السردية التالية: «قدور يخرج الساعة من جيب صداره مرة أخرى»(15) تعكس توترا وقلقا لدى الشخصية، من جهة، وتوحي بأن الحدث الرئيس "حدث محطة القطار" لا يتواتر على مستواه العام، بل يتكرر على مستوى سياقات داخلية جزئية، من جهة ثانية.
ولم تقتصر تواترات حدث "محطة القطار"، من حيث البنية الزمنية، على بنية واحدة، بل تنوعت بنياتها، بين الحاضر والماضي، استرجاعا واستباقا، ومن ذلك ما جاء بصوت "العجوز مسعودة" موجهة خطابها إلى الكاتب المكلف بكتابة قصة حياتها: «أعجبني أنكَ بدأت بالمحطة شأن القطار في حياتي شأنه في... النهضة الصناعية في أوربا، هو ذاك، من المحطة ابتدأت حياتي تدخل إلى العالم»(16).
ولحضور "حدث محطة القطار"، في الذاكرة تفضل "العجوز مسعودة" أن تبدأ قصتها من المحطة فهي تُعْجَبُ بالكاتب، لأنه بدأ من المحطة، ولأن حياتها بدأت من المحطة: «من المحطة ابتدأت حياتي تدخل العالم! كنت ميتة، وجاء الحلم، وكان اسم حلمي "القطار"، القطار الذي يشبه القدر: ينقل آخرين من محطة، وينزل آخرين في أخرى، وبين الركوب والنزول انتظار وانتظار الحاج أحمد يعود من مركز الدرك، لأعلم عن مصير قدور، وعن السفر متى يكون!»(17).
وإلى جانب تواترات، "حدث محطة القطار"، نجد تواتر "حدث إنزال الحاج أحمد من الباخرة وهو في الطريق إلى الحج"، وهما حدثان يؤازر أحدهما الآخر ويسنده، ويطعم كل واحد منهما ببعض الجوانب الدرامية، ويعمقها، ويعملان على المضي بباقي الأحداث إلى دروتها.
ومما جاء من تواترات في "حدث الباخرة" مايلي:
- «أنا من الباخرة نزلت، ليس من القطار! قال لي: "ديصاند"»(18).
- «ما ذنبه هو إن كانت الباخرة أصغر منه»(19).
- «الحاج أحمد حنكته التجارب، هو أيضا كان ذات يوم مسافرا فأنزل!»(20).
- «كان الحج في الماضي حلما، مناله صعب، الحاج أحمد أنزل من على ظهر الباخرة»(21).
- «العرب مساكين ما عندهم حق! حق العرب هو الهبوط! الحاج أحمد يتذكر: "ديصاند"»(22).
يتواتر حدث "محطة القطار" بدوره، على مساحة من النص الروائي واسعة، بحيث يتوزع توزيعا بحسب حاجة الأحداث المصاحبة له، والتي تعمل على تطويره، وتعميق الجوانب الدرامية منه، وقد أحسن الكاتب استغلاله، وتوزيعه، وذلك باختيار الأصوات المناسبة لتفعيله بنية ورؤية.
السفر في رواية "غدا يوم جديد" هو الذي طبع أحداث الرواية وميزها عن غيرها من الأحداث الأخرى ، إذ أعطاها أولوية عن غيرها من الأحداث ، بسبب حضورها القوي ، وفعلها في تغيير مجرى حياة الشخصيات ، حيث نجد كل حدث من هذه الأحداث :
- سفر مسعودة إلى المدينة .
- سفر الحاج أحمد لأداء فريضة الحج .
- سفر الحبيب إلى الزاوية للدراسة ، ثم سفره إلى جامع الزيتونة .
كل هذه الأحداث عرفت تواترات ، عمقت بها حضورها ودفعت بها إلى ذروتها وتفاعلت من خلالها مع غيرها من الأحداث ، وبخاصة تلك الأحداث التي شكلت عائقا في طريق تحقيقها وإنجازها .
- النمط الثالث: المحكي المؤلَّف: Le Récit itératif
إنه المحكي الذي يروي مرة واحدة ما حدث أكثر من مرة، وهو عند "جيرار جينيت": «أحد الأنماط السردية التقليدية، عرف منذ الملحمة، والرواية الكلاسيكية والحديثة»(23).
وهذا النمط من التواتر، يدخل ضمن التواترات السردية، التي تأخذ شكل العادة، التي تَسِمُ بعض الأحداث، حيث يرى الكاتب، أن تكرارها لأكثر من مرة، يزيد من حجم الخطاب السردي دون أن يضيف جديدا للحدث، ولذلك، نجده يتجنب تكرار مثل هذه الأحداث الزمنية، على مستوى الخطاب، بل يقدمها دفعة واحدة، مما يخلق لذى القارئ إحساسا مستمرا، بأن مثل هذه الأحداث هي مكررة بالقوة، بحكم العادة، التي يشير إليها الخطاب صراحة، أو ضمنيا وإيحاءً.
إذن فهذا النمط من التواتر الزمني «يعني به حالة التكثيف السردي للزمن الطويل الممتد الذي تشعر به الذات، لكن السارد يختزله في العملية في جمل أو فقرات أو تعبيرات موجزة ويقترن بالأحداث النمطية في الرواية»(24).
تصبح مثل هذه الأحداث مألوفة لدى القارئ والشخصية ، بحيث تدخل ضمن العادة، ولا يرى السارد ضرورة في التعرض إليها مرة أخرى ، فيسردها مرة واحدة في جملة، أو عبارة، أو فقرة، ويكون بذلك ضَمِنَ استيفاء المقصد، وَوَفَّرَ كمََّا سرديا، يحتاج إليه في مواقع أخرى، يتطلبها النص الروائي.
تحتفي رواية "غدا يوم جديد"، بالتواتر المؤلف ، إذ تتوزع هذه التواترات، وتتنوع منها ما يأخذ شكل العادة، ومنها ما يوحي بالتكرار، الذي يستمر مدة من الزمن، أو الامتداد على مدى طول النص وأحداثه.
ومن هذه التواترات، عَادَةُ "قدور"، المتمثلة في الذهاب إلى "مقهى القرية"، للعب الدومينو مع زملائه، إذ تلاحظ عمته، التي يقيم عندها، كل صيف عند عودته من العاصمة، أين يشتغل بالميناء، بأن ابن أخيها غير مستعد للذهاب إلى المقهى كعادته، حيث يتعرض السرد إلى رسم هذا الحدث، كالتالي: «لاحظت العمة الطيبة أن ابن أخيها لا يبدو عليه الاستعداد للذهاب إلى المقهى كعادته»(25).
يأتي هذا الحدث، ليبين أن "قدورا"، قد تعود على التردد على المقهى، وهو ما يترك انطباعا لدى القارئ والشخصية، بـأن مثل هذا الحدث، الذي يروى مرة واحدة، له قابلية الامتداد والاستمرار الزمني، على كل مساحة النص الروائي، أو على الأقل، فهو يملك إمكانية الاستمرار الزمني ، على امتداد فصل الصيف، الفصل الذي ينـزل فيه "قدور" ضيفا على القرية وعلى عمته.
ومن التواترات، التي تأخذ شكل العادة أيضا، حدث استقبال "يمينة" زوجة "الحاج أحمد" لـ"مسعودة"، الفتاة التي جاء بها هذا الأخير، من محطة القطار، ومحاولة "حبيب" ابن "الحاج أحمد" لقاء "مسعودة"، والحديث إليها، فيبني إمكانية اللقاء، على فرضيات مسبقة ومؤكدة، لأن له ببعض سلوكات الأب والأم سابق معرفة، حيث يرسم الراوي، هذا الحدث، الذي يسعى "حبيب" بموجبه لتحقيق لقائه ب"مسعودة"، فيقول: «الحاج أحمد ذهب إلى "الفيلاج"(*) ولم يعد ولن يعود قبل أن يصلي العصر في الجامع، وإذا التقى بأحد معارفه فقد لا يعود إلاّ بعد صلاة المغرب كعادته، الأم يمينة، من عادتها الشروع في إعداد العشاء بعد صلاة العصر مباشرة»(26).
لقد راهن "حبيب"، لإشباع فضوله بلقاء "مسعودة"، على ما هو معروف، من سلوكات وأفعال، يقوم بها الوالدان (الأب والأم)، إذ أصبحت هذه السلوكات، ثقافة متأصلة في الأسرة بحيث أن الابن يعرف من البداية بأن والده إذا ذهب إلى القرية لا يعود منها إلا بعد صلاة العصر في الجامع في أحسن الأحوال ، أما الوالدة فقد تعودت تحضير طعام العشاء بعد صلاة العصر .
ولا تخلو رواية "غدا يوم جديد" من بعض التكرارات المؤلفة الموحية، أو المشار إليها ببعض الصيغ من مثل "كل" التي توحي بالتكرار، وكذلك "كم" العددية، ومن ذلك :
- تقديم "مسعودة"، لجانب من حياة زوجها "قدور"، عندما سألها الراوي -الكاتب- عن ما مدى معرفة "قدور" بوالدها "المخفي"، حيث تقول: «قدور رجل بسيط، طيب القلب، غيور على شرفه القريب المتمثل في الزوجة، في أنا، تصور كنت أمثل شرفه! ما يربطه بالقرية قبل الزواج بي، عمته حليمة، هي الوحيدة التي بقيت على قيد الحياة من بين أقاربه ، في قرية الجبل الأحمر يزورها مرة في كل صيف»(27).
- وتواصل "مسعودة"، حديثها عن "قدور"، وعلاقته بالناس، وحبهم له، فهذا إمام الدشرة(*) كان يحبه، لأنه يأتيه كل سنة، عندما يَحُلُّ بالدشرة الجرائد العربية القديمة والحديثة: «إمام الدشرة أيضا كان يحبه، لأنه يأتيه كل سنة بحزمة من الجرائد العربية القديمة والحديثة»(28).
- كما تصور لنا "مسعودة" حالة "قدور"، بعد الزواج والاستقرار بـحي القصبة بالجزائر العاصمة، إذ صار يقضي ليله في السهر، وشرب الخمر: «قدور حالته تدهورت، صار لا ينقطع عن السكر كم مرة دخل البيت وهجم علي كالوحش المفترس يضربني وأنا لا أدري لماذا؟»(29).
مما لا شك فيه، أن الصيغ السردية السابقة، تذل في مجملها، على سرد حدث وقع أكثر من مرة، وبتوظيف مثل هذه الصيغ، التي تجعل الحدث، يروى دفعة واحدة، اختزالا للزمن، واقتصادا للمساحة، التي يمكن أن يشغلها الحدث، لو تكرر أكثر من مرة، دون أن يضيف –على مستوى الدلالة أو الرؤية- شيئا جديدا.
الهوامش
[i]([i]) G- Genette figures III, collection poétique éditions du seuil , Paris . 1972. P : 145.
[ii])) جيرار جينيت ، بحث في المنهج ، ت محمد معتصم ، عبد الجليل الأزدي ، عمر حلي ، الهيئة العامة للمطابع الأميرية 1997 ، خطاب الحكاية ص : 130
[iii])) جيكوب لوث ، مقال ، التكرار وأسلوب السرد الأدبي ، ت : عنيد ثنوان رستم ، مجلة الثقافة الأجنبية العراقية ، العدد الثالث ، السنة السابعة 1987 ، ص : 94 ، 95 .
[iv])) برنار فاليط ، النص الروائي ، تقنيات ومناهج ، ت ، رشيد بنحدو ، المجلس الأعلى للثقافة ، طبع بالهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية 1999 ص : 113 ، 114 .
[v])) خوسيه ماريا بوثويلو ايفانكوس ، نظرية اللغة الأدبية ، ترجمة حامد أبو حمد ، مكتبة غريب ، الفجالة ، القاهرة ، ص : 288 ، 289 .
[vi])) G. Genette, figures III, P : 146 .
[vii])) IBD . P : 147 .
(*) البيت القصباوي ، نسبة إلى قصبة الجزائر – المدينة القديمة .
(*) ديصاند . descend كلمة فرنسية بمعنى "أنزل" .
(*) الشنابط جمع "شانبيط" وهو مجند من أصل جزائري يقوم بوظيفة الشرطي ، وهو خائن للوطن .
(*) المعلمة الفرنسية ، المعلمة بفتح الميم واللام ، تسمية يطلقها الجزائري على السيدة الأوروبية التي يشتغل عندها (La patronne) .
(*) الكولنيالي : le colon الذي يستوطن أرضا غير أرضه ويقوم باستغلال اقتصادها وشعبها .
( عبد الحميد بن هدوقة "غدا يوم جديد" ، منشورات الأندلس ، الجزائر ، 1992 من ص : 53 إلى ص : 71 .
(9) المصدر السابق من الصفحة 80 إلى الصفحة 87 .
(10) المصدر نفسه ، من الصفحة 125 إلى الصفحة 130 .
(11) جيرار جينيت ، خطاب الحكاية ، بحث في المنهج ، ترجمة : محمد معتصم وآخرون ، المجلس الأعلى للثقافة ، ط2 ، 1997 ، ص : 131 .
(12) عبد الحميد بن هدوقة ، غدا يوم جديد ، ص : 25 .
(13) عبد الحميد بن هدوقة ، غدا يوم جديد ، ص : 23 .
(14) المصدر نفسه ، ص : 28 ، 29 .
(15) المصدر نفسه ، ص : 29 .
(16) المصدر نفسه ، ص : 37 .
(17) عبد الحميد بن هدوقة ، غدا يوم جديد ، ص : 77 ، 78 .
(18) المصدر نفسه ، ص : 45 .
(19) المصدر نفسه : ص : 50 .
(20) المصدر نفسه ، ص : 79 .
(21) المصدر نفسه ، ص : 180 .
(22) المصدر نفسه ، ص : 281 .
(23) G. Genette, Figure III . P : 147 – 148
(24) مراد عبد الرحمن مبروك ، بناء الزمن في الرواية المعاصرة ، رواية تيار الوعي نموذجا (1967 – 1994) الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998 ، ص : 146 .
(25) عبد الحميد بن هدوقة ، غدا يوم جديد ، ص : 106 .
(*) الفيلاج كلمة فرنسية المقصود بها "le vilage" أي القرية .
(26) عبد الحميد بن هدوقة ، غدا يوم جديد ، ص : 190 .
(27) المصدر نفسه ، ص : 104 .
(*) الدشرة : قرية صغيرة ريفية .
(28) عبد الحميد بن هدوقة ، غدا يوم جديد ، ص : 105 .
(29) المصدر نفسه ، ص : 168 .
التـواتـر السردي: قراءة في رواية "غدا يوم جديد"
لـ "عبد الحميد بن هدوقة"
د- الأطرش رابح
قسم الأدب العربي
جامعة سطيف
ملخص :
تسعى هذه الدراسة إلى توضيح بعض قدرات تكرار الأحداث المسرودة في النص الروائي بين القصة والحكاية ، وذلك من خلال التواتر السردي بوصفه بنية زمنية متنوعة يلجأ الكاتب إليها ليضفي على نصه جمالية معينة ، ويمنحه رؤية ودلالة .
إن إمكانية التواتر قائمة بين الأحداث ولكن ما هي الكيفية التي وقعت بها ، أو يمكن أن تقع بها هذه الأحداث ؟ . وما الدلالات المتوخاة من خلال لجوء السرد إلى مثل هذه التواترات الزمنية التي يمكن أن ينظر إليها على أنها ترف لغوي ، أو حشو لأحداث مبتذلة لا فائدة جمالية أو دلالية ترجى من ورائها ؟ .
كل هذه الأسئلة يمكننا الإجابة عنها من خلال محاورتنا لنص "رواية غدا يوم جديد" لـ "عبد الحميد بن هدوقة" .
لعل ما دفعني إلى اختيار موضوع التواترات الزمنية Les fréquences في النص الروائي هو محاولة كشف إمكانيات هذا العنصر الجمالي وكيفية توزيعه داخل النص السردي من جهة وقلة الاهتمام به من قبل الدرس النقدي من جهة أخرى ، كما صرح بذلك "جيرار جينيت" بقوله : "حتى الآن لم يدرس نقاد الرواية ومنظروها عنصر التواتر السردي – إلا قليلا – على الرغم من أهميته الزمنية القصوى"(
[i]) .
وإسهاما مني – ولو بقسط يسير – في إضاءه بعض الجوانب من هذا العنصر السردي ، فقد وقع اختياري على رواية "غدا يوم جديد" لـ "عبد الحميد بن هدوقة" للقيام بمقاربة نقدية أحاول من خلالها معرفة قدرة استثمار النص الروائي لهذا العنصر السردي والاستفادة منه .
إن إمكانية التكرار قائمة بين الأحداث ، ولكن ما هي الكيفية التي وقعت بها ، أو يمكن أن تقع بها هذه التواترات ؟ .
وما هي الدلالات المتوخاة من خلال لجوء السرد إلى مثل هذه التكرارات التي يمكن أن ينظر إليها على أنها ترف لغوي أو حشو لأحداث مبتدلة ، لا فائدة جمالية ودلالية ترجى من ورائها ؟ .
في كثير من الأحيان لا يقع الحدث أو الأحداث المتكررة مرة واحدة ، بل تتكرر في تواترات سردية وزمنية متعددة قد تتجاوز عشرات المرات ، وهو ما يستدعي الوقوف عند هذه الظاهرة ومحاولة تسليط الضوء عليها ، وذلك بوضع النص الروائي "غدا يوم جديد" رهن الاختبار من أجل الوصول إلى كيفية تعامل النص السردي مع هذا العنصر الجمالي والدلالي .
إن قدرات تكرار الأحداث المسرودة من القصة والمنطوقات السردية ، من الحكاية من ناحية ، وبين مجموع الأحداث المتواترة من ناحية ثانية ، وهذا ما يوضحه "جيرار جينيت" بقوله : "إن حكاية ، أيا كانت ، يمكنها أن تروى مرة واحدة ، ما وقع مرة واحدة ، ومرات لا نهائية ، ما وقع مرات لا نهائية ، ومرات لا نهائية ما وقع مرة واحدة ، ومرة واحدة ما وقع مرات لا نهائية"([ii])
وقد ذهب بعض الدارسين إلى أن الرواية "أية رواية هي عبارة عن نسيج معقد من التكرارات والتكرارات ضمن التكرارات ، أو من التكرارات المترابطة في نمط تسلسلي مع تكرارات أخرى"([iii]).
وهذا ما لخصه "Bernard valette" في ثلاثة أنماط تكرارية اصطلح عليها كما يلي :
أ- المحكي الإفرادي : وهو ما يقص مرة واحدة حدثا وقع مرة واحدة .
ب- المحكي الإكراري : وهو ما يقص مرات عديدة حدثا وقع مرة واحدة .
جـ- المحكي الإعادي : وهو ما يقص مرة واحدة حدثا وقع مرات عديدة"([iv]).
أما التواتر عند خوسيه ماريا بوثويلو ايفانكوس "José Maria Pozuelo yvancos" فهو "الطريقة الزمنية للسرد المنسوبة إلى علاقات تردد الأحداث في القصة وتردد التلفظات القصصية لهذه الأحداث ، ويمكن حصرها في أربعة أشكال افتراضية هي :
أ- الحكاية الفردية : وتحكي مرة واحدة ما حدث مرة واحدة .
ب- الحكاية المتكررة الكلمات : وتحكي عدة مرات ما حدث عدة مرات .
جـ- الحكاية التكرارية : وتحكي عدة مرات ما حدث مرة واحدة .
د- Silepsis : وتحكي في مرة واحدة ما حدث عدة مرات"([v]).
من هنا يمكنني الاقتصار ، على أهم أنماط التواترات ، التي أراها أكثر بروزا وحضورا في رواية "غدا يوم جديد" ، وقد ارتأيت التعامل مع أنماط التواتر المقترحة من قبل "G, Genette" مع إمكانية التعديل أو التصرف فيها ، كلما اقتضت الضرورة ذلك ، ويمكنني ضبط هذه التواترات في ثلاث أنماط هي :
1- النمط الأول : المحكي المفرد le Récit singulatif وهو "المحكي الذي يروي مرة واحدة ما حدث مرة واحدة ، ومثال ذلك : نمت البارحة باكرا"([vi]).
وقد عمد "جيرار جينيت" إلى اعتبار كل محكي يروي أكثر من مرة ما حدث أكثر من مرة ضمن المحكي المفرد لاعتقاده أن النمط التكراري أو المكرر يجعل تواترات المحكي مساوية لتواترات القصة .
ويواصل قوله – بعد أن يرى أن هذا الشكل من الحكاية أكثر أنواع السرود انتشارا – مؤكدا أن هذا النوع "عادي" وهو لا يحمل اسما في اللغة الفرنسية على الأقل ، ومع ذلك يصطلح عليه بالمحكي المفرد"([vii]).
فالمحكي المفرد هو أكثر أنواع السرود شيوعا في النص الروائي ، وذلك – في اعتقادنا – أن السرد يميل بطبعه إلى سرد مرة واحدة ما حدث مرة واحدة ، وبخاصة إذا استوفى غرض ما يهدف السارد إلى تحقيقه من وراء عرضه للحدث المسرود .
فإلى أي مدى استطاعت رواية "غدا يوم جديد" استيعاب هذا النمط السردي ؟ .
وما هي كيفيات استثماره ؟ . وما طريقة بنيته ؟ .
يحكي نص رواية "غدا يوم جديد" قصة "مسعودة" وآخرين تقاطعوا معها هنا وهناك ، أو تقاطعت معهم ، عبر مسيرة حياة بأفراحها وأقراحها ، بظلمها وقهرها ، بآلامها وأحلامها .
ويتولى كاتب افتراضي إعادة بناء عالمها على امتداد أربع جلسات ، يكون صوت "مسعودة" حاضرا في كل هذه الجلسات ، إذ تتكفل بإثارة الخطوط العامة التي تضيء للكاتب مسالك الكتابة ، التي تنحرف بالقصة من لغة التواصل العادية إلى اللغة الشعرية المحلقة في أجواء من التخييل .
ومن المحطة – محطة القطار – ومن السفر الحلم نحو المدينة – مدينة الجزائر – وفي الثلاثينيات من القرن الماضي ، ومن تاريخ الجزائر الحديث ، تبدأ قصة "مسعودة" الفتاة الغرة التي تحلم بالسفر إلى المدينة مع زوجها "قدور" ابن قريتها والعامل بـ "ميناء الجزائر العاصمة" .
وفي المحطة ينكسر الحلم ، وتجهض آمال "مسعودة" في السفر إلى المدينة ، عندما يعتدي "قدور" على "رجل المحطة" – غيرة على زوجته – ويقتاد الرجلان إلى مركز الدرك الفرنسي للاستنطاق ، ومنه إلى المحكمة ، فالأشغال الشاقة في محجر "ألبير" ، لتجد "مسعودة" نفسها تسير خلف رجل يدعى "الحاج أحمد" تطوع باصطحابها إلى منزله .
وتتوالى الأحداث – بعد إجهاض حلم السفر إلى المدينة وانكساره ، فتتكسر معه مسارات السرد – صاعدة نازلة ، ومتشعبة ، من الحاضر إلى الماضي ، ومن الماضي إلى الحاضر ، بين المحطة الحلم ، واحتفالات المائة سنة على دخول الحضارة الفرنسية المزعومة أرض الجزائر ، واستجواب "قدور" و"رجل المحطة" ، واستدعاء "الحاج أحمد" لاستجوابه بدوره ، ثم العودة إلى القرية ، قرية الجبل الأحمر ، مسقط رأس "مسعودة" حيث نتعرف على الحياة هناك انطلاقا من المقهى ، والعين وبيت "العجوز حليمة" عمه "قدور" ، أين تتم خطبة "خديجة" لـ "قدور" التي تفسخ بعد ذلك بسبب الوشم وأغنية "العودة الزرقة" لصاحبها "محمد بن سعدون" .
وتتواصل الأحداث ، صاعدة ، نازلة ، متكسرة ، من المدينة إلى القرية ، ومن القرية إلى المدينة أين استقرت "مسعودة في البيت القصباوي(*) إلى البيت الأوروبي ، الذي اكترته لها العائلة الأوروبية ، التي باشرت الأشغال عندها ، بعد نفي زوجها "قدور" إلى سجن "سان لوران" إثر ارتكابه جريمة قتل في حالة سكر .
ومن خلال هذه الأحداث الاجتماعية ، والإنسانية المتشابكة ، تطل من حين لآخر محطات هامة من تاريخ الجزائر ، كان لها أثرها العميق ، في بلورة وعي بعض الشخصيات ، وتوجيه مصائر بعضها الآخر .
إن رواية "غدا يوم جديد" هي لوحة لصورة من حياة الجزائر السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتاريخية ، مكثفة زمنيا ومكانيا ، ومندمجة في مجموعة من الشخصيات ، مازالت "مسعودة العجوز" تحن إليها ، وتصرخ من أعماق الروح ، من لي بهؤلاء (الحبيب ، حياة ، محمد ابن سعدون ، رجل المحطة ، قدور ، ابن القائد ، معلم المدرسة الفرنسية ، الحاج أحمد ، الضابط الفرنسي ، الذي قال لـ "الحاج أحمد" ديصاند(*) ، الدرك الشنابط(*) حراس المحجر ، القاضي المتهمين بالعصيان ، خديجة الواشمة ، عمة قدور ، أم خديجة ، أمي ، العجوز يمية ، صاحبة الدار القصباوية ، المعلمة الفرنسية)(*) ، هؤلاء الذين كانوا في يوم من الأيام يمثلون شبابها وحاضرها وها هي اليوم تجلس إلى جانب الراوي ، في قصر أبنائها الكولنيالي(*) – الذي شيد ببنادقهم – لترحل معه وبه عبر الذاكرة لاستحضار ذلك الماضي .
تشكل التواترات الزمنية المفردة في رواية "غدا يوم جديد" في مجموعها الإطار العام لأحداث جزئية ، تتناسل فيما بينها ، لتدفع بحركة السرد ، في بعض جزئياتها إلى قمة ذروتها قصد إنتاج حدث آخر ، يصعد بدوره حركة السرد ، بغض النظر عن نوع الحدث ، أو الأحداث الجزئية من حيث أنماط التواتر، ومن أمثلة ذلك، حدث استنطاق "قدور" من قبل الدرك الفرنسي(.
لقد تشعب هذا الاستنطاق، ليأخذ أبعادا استفزازية تهكمية، وأخرى سياسية، وثقافية وتاريخية منها:
- دلالة اسم "قدور" وتأويله وإلحاقه ب"الأمير عبد القادر" والإيحاء بالقوة العضلية.
- المشاركة في احتفالات مرور مائة سنة على دخول الحضارة الفرنسية المزعومة إلى الجزائر.
- مساءلته على التحضير لزواجه، وزوجته التي تركها بمحطة القطار.
- علاقته بالمخفي، والد زوجته، الرجل الخطير الذي دوخ فرنسا.
- علاقته بنادي الترقي، والشيخ العقبي.
- اصطحاب "الحاج أحمد" لزوجته، وماذا يمكن أن يحدث لها، في هذا المنزل الغريب الذي سوف تحل به.
ولم تكتف رواية "غدا يوم جديد" بهذا التواتر المفرد، بل هناك تواترات افرادية عديدة، كان لها الدور الرئيس، في تفعيل الأحداث، والأزمنة في تعاقبها، ومن هذه التواترات:
- حدث استدعاء "الحاج أحمد" من قبل الدرك الفرنسي، واستنطاقه بسبب اصطحاب "مسعودة" إلى منزله، بعد اعتقال زوجها "قدور" صحبة "رجل المحطة" وبقاء "مسعودة" لوحدها بمحطة القطار(9).
وقد ألقى حدث الاستنطاق بظلاله على أحداث، وأزمنة فرعية، كان لها فيما بعد أهميتها في تحريك الفعل السردي، من حيث أحداثه، وأزمنته بمختلف أنواع بنياتها.
- حدث وشم "خديجة" خطيبة "قدور" الأولى، قبل خطبته لـ"مسعودة" والزواج منها فيما بعد إذ كان لهذا الوشم الدور الأساسي في فسخ "قدور" للخطبة من "خديجة"(10)
إن هذا الحدث الذي لم يرو، على مستوى السرد إلاّ مرة واحدة، فقد انحرف بمسار الأحداث انحرافا جديدا، وحدد مصائر شخصيات، حيث وضع حدًّا لصوت "خديجة" وفرض عليها الانسحاب من باقي أحداث الرواية وأزمنتها، وأتاح فرصة لصوت "مسعودة" لكي يقتحم أحداث الرواية وأزمنتها، وهو ما يدل على أن التواترات الزمنية الافرادية، بالرغم من ظهورها مرة واحدة، زمنا وسردا، فإن إنتاجيتها لأزمنة وأحداث جديدة صاعدة تظل قائمة.
2- النمط الثاني: المحكي التكراري: Le Récit Répétitif :
وهو المحكي الذي يروي أكثر من مرة ما حدث مرة واحدة، إذ يكون فيه كَمُّ الخطاب أكثر من كَمِّ الخبر، لأن ما حدث في الخبر مرة واحدة ينقله الخطاب أكثر من مرة.
وقد جاءت النصوص الروائية الحديثة، مرتكزة على قدرة الحكاية على التكرار، حيث يمكن للحدث الواحد، أن يروي عدة مرات، ليس من متغيرات أسلوبية فقط، بل مع تنويعات في وجهة النظر(11).
لذلك نجد هذا النمط من التكرار، كثيرا ما يلجأ إليه المبدعون المعاصرون، وبخاصة الرواية البوليسية، أو تلك التي تعتمد على اختلاف في وجهات النظر، وتنويع فيها، وهو لذلك أطلق عليه "جيرار جينيت" المحكي التكراري، لما يقدمه للقارئ من معرفة وإلمام بالموضوع المسرود، من كل جوانبه المختلفة.
وهو ما سيتم توضيحه أكثر من خلال الاحتكام لنص الرواية .
لقد كانت الرغبة في السفر، هي التي تتحكم في توزيع الأحداث في رواية "غدا يوم جديد" بين الشخصيات والأحداث، لذلك نجد الحدث الرئيس، الذي تتفرع منه أغلب الأحداث – إن لم أقل كل الأحداث- هو "حدث سفر مسعودة"، هذا السفر نحو المدينة، للبحث عن حياة كريـمة، هو حلم كل القرويين، يرتب له السرد أرضية بداية من "محطة القطار" ولكن في المقابل يرتب له عوائقه التي تعترض انجازه، وتحقيقه بالشكل الذي تطمح إليه الشخصية، أو الشخصيات المتطلعة لهذا السفر:
«القطار لم يصل، وقته حلَّ وهو تأخر! أخرج قدور ساعته من جيب صداره، قرأ عقاربها مليا ليتأكد من الوقت، ثم أعادها إلى مكانها»(12).
إذا كان صوت الراوي المحايد، قد وصف لنا الحالة النفسية لـ "قدور"، وهو يستبطئ ساعة موعد قدوم القطار، فإن الموقف نفسه تعيشه زوجته "مسعودة"، ولكن بشكل مضاعف، لأن هذه الأخيرة، تعيش حالة اضطراب، متمثلة في خوفها من حركات "رجل المحطة" الذاهبة الآتية، ورد فعل زوجها الغيور ، بالإضافة إلى الوقع النفسي، الذي يحدثه هذا التأخر، غير المعتاد للقطار، وهو ما استدعى امتزاج صوتين، للتعبير عن الموقف الواحد، الأول صوت الراوي، الذي يصف المشهد العام للموقف، أما الصوت الثاني فهو صوت "مسعودة" التي تعبر عن إحساسها وما يمكن أن يحصل بسبب حركات "رجل المحطة" على الرصيف:
«أسدلت الجزء الأعلى من لحافها على وجهها وهي ترى برصيف المحطة شخصا يسترق النظر إليها (...) هاهو ذا يكيل رصيف المحطة بخطى متثاقلة، ذاهبا آيبا، ترى لماذا يمشي هكذا؟ لماذا لا يجلس كسائر الناس؟ وينتظر القطار... ابتعد يا رجل إن زوجي غيور حكى الناس الأساطير عن قوته وعن عنفه بمدينة الجزائر... ابتعد أيها الرجل، دعني أسافر بسلام»(13).
إن الحدث العالق في ذاكرة "مسعودة"، هو حدث "محطة القطار"، إذ شكل في حياتها وحياة بعض الشخصيات من حولها، تحولات عميقة، منها الايـجابية، ومنها السلبية، لذا لم يتوانى السرد في تكرار تفاصيله، بكل دقائقها وامتداداتها، بالرغم من وقوعه مرة واحدة.
فها هو السرد من جديد، يتابع حركات وسكنات "قدور" وهو يقف بالمحطة في انتظار مجيء القطار: «السكون يخيم على المحطة، قدور يـخرج الساعة من جَيْبِ صداره مرة أخرى مضى ربع ساعة على موعد القطار»(14) .
الجملة السردية التالية: «قدور يخرج الساعة من جيب صداره مرة أخرى»(15) تعكس توترا وقلقا لدى الشخصية، من جهة، وتوحي بأن الحدث الرئيس "حدث محطة القطار" لا يتواتر على مستواه العام، بل يتكرر على مستوى سياقات داخلية جزئية، من جهة ثانية.
ولم تقتصر تواترات حدث "محطة القطار"، من حيث البنية الزمنية، على بنية واحدة، بل تنوعت بنياتها، بين الحاضر والماضي، استرجاعا واستباقا، ومن ذلك ما جاء بصوت "العجوز مسعودة" موجهة خطابها إلى الكاتب المكلف بكتابة قصة حياتها: «أعجبني أنكَ بدأت بالمحطة شأن القطار في حياتي شأنه في... النهضة الصناعية في أوربا، هو ذاك، من المحطة ابتدأت حياتي تدخل إلى العالم»(16).
ولحضور "حدث محطة القطار"، في الذاكرة تفضل "العجوز مسعودة" أن تبدأ قصتها من المحطة فهي تُعْجَبُ بالكاتب، لأنه بدأ من المحطة، ولأن حياتها بدأت من المحطة: «من المحطة ابتدأت حياتي تدخل العالم! كنت ميتة، وجاء الحلم، وكان اسم حلمي "القطار"، القطار الذي يشبه القدر: ينقل آخرين من محطة، وينزل آخرين في أخرى، وبين الركوب والنزول انتظار وانتظار الحاج أحمد يعود من مركز الدرك، لأعلم عن مصير قدور، وعن السفر متى يكون!»(17).
وإلى جانب تواترات، "حدث محطة القطار"، نجد تواتر "حدث إنزال الحاج أحمد من الباخرة وهو في الطريق إلى الحج"، وهما حدثان يؤازر أحدهما الآخر ويسنده، ويطعم كل واحد منهما ببعض الجوانب الدرامية، ويعمقها، ويعملان على المضي بباقي الأحداث إلى دروتها.
ومما جاء من تواترات في "حدث الباخرة" مايلي:
- «أنا من الباخرة نزلت، ليس من القطار! قال لي: "ديصاند"»(18).
- «ما ذنبه هو إن كانت الباخرة أصغر منه»(19).
- «الحاج أحمد حنكته التجارب، هو أيضا كان ذات يوم مسافرا فأنزل!»(20).
- «كان الحج في الماضي حلما، مناله صعب، الحاج أحمد أنزل من على ظهر الباخرة»(21).
- «العرب مساكين ما عندهم حق! حق العرب هو الهبوط! الحاج أحمد يتذكر: "ديصاند"»(22).
يتواتر حدث "محطة القطار" بدوره، على مساحة من النص الروائي واسعة، بحيث يتوزع توزيعا بحسب حاجة الأحداث المصاحبة له، والتي تعمل على تطويره، وتعميق الجوانب الدرامية منه، وقد أحسن الكاتب استغلاله، وتوزيعه، وذلك باختيار الأصوات المناسبة لتفعيله بنية ورؤية.
السفر في رواية "غدا يوم جديد" هو الذي طبع أحداث الرواية وميزها عن غيرها من الأحداث الأخرى ، إذ أعطاها أولوية عن غيرها من الأحداث ، بسبب حضورها القوي ، وفعلها في تغيير مجرى حياة الشخصيات ، حيث نجد كل حدث من هذه الأحداث :
- سفر مسعودة إلى المدينة .
- سفر الحاج أحمد لأداء فريضة الحج .
- سفر الحبيب إلى الزاوية للدراسة ، ثم سفره إلى جامع الزيتونة .
كل هذه الأحداث عرفت تواترات ، عمقت بها حضورها ودفعت بها إلى ذروتها وتفاعلت من خلالها مع غيرها من الأحداث ، وبخاصة تلك الأحداث التي شكلت عائقا في طريق تحقيقها وإنجازها .
- النمط الثالث: المحكي المؤلَّف: Le Récit itératif
إنه المحكي الذي يروي مرة واحدة ما حدث أكثر من مرة، وهو عند "جيرار جينيت": «أحد الأنماط السردية التقليدية، عرف منذ الملحمة، والرواية الكلاسيكية والحديثة»(23).
وهذا النمط من التواتر، يدخل ضمن التواترات السردية، التي تأخذ شكل العادة، التي تَسِمُ بعض الأحداث، حيث يرى الكاتب، أن تكرارها لأكثر من مرة، يزيد من حجم الخطاب السردي دون أن يضيف جديدا للحدث، ولذلك، نجده يتجنب تكرار مثل هذه الأحداث الزمنية، على مستوى الخطاب، بل يقدمها دفعة واحدة، مما يخلق لذى القارئ إحساسا مستمرا، بأن مثل هذه الأحداث هي مكررة بالقوة، بحكم العادة، التي يشير إليها الخطاب صراحة، أو ضمنيا وإيحاءً.
إذن فهذا النمط من التواتر الزمني «يعني به حالة التكثيف السردي للزمن الطويل الممتد الذي تشعر به الذات، لكن السارد يختزله في العملية في جمل أو فقرات أو تعبيرات موجزة ويقترن بالأحداث النمطية في الرواية»(24).
تصبح مثل هذه الأحداث مألوفة لدى القارئ والشخصية ، بحيث تدخل ضمن العادة، ولا يرى السارد ضرورة في التعرض إليها مرة أخرى ، فيسردها مرة واحدة في جملة، أو عبارة، أو فقرة، ويكون بذلك ضَمِنَ استيفاء المقصد، وَوَفَّرَ كمََّا سرديا، يحتاج إليه في مواقع أخرى، يتطلبها النص الروائي.
تحتفي رواية "غدا يوم جديد"، بالتواتر المؤلف ، إذ تتوزع هذه التواترات، وتتنوع منها ما يأخذ شكل العادة، ومنها ما يوحي بالتكرار، الذي يستمر مدة من الزمن، أو الامتداد على مدى طول النص وأحداثه.
ومن هذه التواترات، عَادَةُ "قدور"، المتمثلة في الذهاب إلى "مقهى القرية"، للعب الدومينو مع زملائه، إذ تلاحظ عمته، التي يقيم عندها، كل صيف عند عودته من العاصمة، أين يشتغل بالميناء، بأن ابن أخيها غير مستعد للذهاب إلى المقهى كعادته، حيث يتعرض السرد إلى رسم هذا الحدث، كالتالي: «لاحظت العمة الطيبة أن ابن أخيها لا يبدو عليه الاستعداد للذهاب إلى المقهى كعادته»(25).
يأتي هذا الحدث، ليبين أن "قدورا"، قد تعود على التردد على المقهى، وهو ما يترك انطباعا لدى القارئ والشخصية، بـأن مثل هذا الحدث، الذي يروى مرة واحدة، له قابلية الامتداد والاستمرار الزمني، على كل مساحة النص الروائي، أو على الأقل، فهو يملك إمكانية الاستمرار الزمني ، على امتداد فصل الصيف، الفصل الذي ينـزل فيه "قدور" ضيفا على القرية وعلى عمته.
ومن التواترات، التي تأخذ شكل العادة أيضا، حدث استقبال "يمينة" زوجة "الحاج أحمد" لـ"مسعودة"، الفتاة التي جاء بها هذا الأخير، من محطة القطار، ومحاولة "حبيب" ابن "الحاج أحمد" لقاء "مسعودة"، والحديث إليها، فيبني إمكانية اللقاء، على فرضيات مسبقة ومؤكدة، لأن له ببعض سلوكات الأب والأم سابق معرفة، حيث يرسم الراوي، هذا الحدث، الذي يسعى "حبيب" بموجبه لتحقيق لقائه ب"مسعودة"، فيقول: «الحاج أحمد ذهب إلى "الفيلاج"(*) ولم يعد ولن يعود قبل أن يصلي العصر في الجامع، وإذا التقى بأحد معارفه فقد لا يعود إلاّ بعد صلاة المغرب كعادته، الأم يمينة، من عادتها الشروع في إعداد العشاء بعد صلاة العصر مباشرة»(26).
لقد راهن "حبيب"، لإشباع فضوله بلقاء "مسعودة"، على ما هو معروف، من سلوكات وأفعال، يقوم بها الوالدان (الأب والأم)، إذ أصبحت هذه السلوكات، ثقافة متأصلة في الأسرة بحيث أن الابن يعرف من البداية بأن والده إذا ذهب إلى القرية لا يعود منها إلا بعد صلاة العصر في الجامع في أحسن الأحوال ، أما الوالدة فقد تعودت تحضير طعام العشاء بعد صلاة العصر .
ولا تخلو رواية "غدا يوم جديد" من بعض التكرارات المؤلفة الموحية، أو المشار إليها ببعض الصيغ من مثل "كل" التي توحي بالتكرار، وكذلك "كم" العددية، ومن ذلك :
- تقديم "مسعودة"، لجانب من حياة زوجها "قدور"، عندما سألها الراوي -الكاتب- عن ما مدى معرفة "قدور" بوالدها "المخفي"، حيث تقول: «قدور رجل بسيط، طيب القلب، غيور على شرفه القريب المتمثل في الزوجة، في أنا، تصور كنت أمثل شرفه! ما يربطه بالقرية قبل الزواج بي، عمته حليمة، هي الوحيدة التي بقيت على قيد الحياة من بين أقاربه ، في قرية الجبل الأحمر يزورها مرة في كل صيف»(27).
- وتواصل "مسعودة"، حديثها عن "قدور"، وعلاقته بالناس، وحبهم له، فهذا إمام الدشرة(*) كان يحبه، لأنه يأتيه كل سنة، عندما يَحُلُّ بالدشرة الجرائد العربية القديمة والحديثة: «إمام الدشرة أيضا كان يحبه، لأنه يأتيه كل سنة بحزمة من الجرائد العربية القديمة والحديثة»(28).
- كما تصور لنا "مسعودة" حالة "قدور"، بعد الزواج والاستقرار بـحي القصبة بالجزائر العاصمة، إذ صار يقضي ليله في السهر، وشرب الخمر: «قدور حالته تدهورت، صار لا ينقطع عن السكر كم مرة دخل البيت وهجم علي كالوحش المفترس يضربني وأنا لا أدري لماذا؟»(29).
مما لا شك فيه، أن الصيغ السردية السابقة، تذل في مجملها، على سرد حدث وقع أكثر من مرة، وبتوظيف مثل هذه الصيغ، التي تجعل الحدث، يروى دفعة واحدة، اختزالا للزمن، واقتصادا للمساحة، التي يمكن أن يشغلها الحدث، لو تكرر أكثر من مرة، دون أن يضيف –على مستوى الدلالة أو الرؤية- شيئا جديدا.
الهوامش
[i]([i]) G- Genette figures III, collection poétique éditions du seuil , Paris . 1972. P : 145.
[ii])) جيرار جينيت ، بحث في المنهج ، ت محمد معتصم ، عبد الجليل الأزدي ، عمر حلي ، الهيئة العامة للمطابع الأميرية 1997 ، خطاب الحكاية ص : 130
[iii])) جيكوب لوث ، مقال ، التكرار وأسلوب السرد الأدبي ، ت : عنيد ثنوان رستم ، مجلة الثقافة الأجنبية العراقية ، العدد الثالث ، السنة السابعة 1987 ، ص : 94 ، 95 .
[iv])) برنار فاليط ، النص الروائي ، تقنيات ومناهج ، ت ، رشيد بنحدو ، المجلس الأعلى للثقافة ، طبع بالهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية 1999 ص : 113 ، 114 .
[v])) خوسيه ماريا بوثويلو ايفانكوس ، نظرية اللغة الأدبية ، ترجمة حامد أبو حمد ، مكتبة غريب ، الفجالة ، القاهرة ، ص : 288 ، 289 .
[vi])) G. Genette, figures III, P : 146 .
[vii])) IBD . P : 147 .
(*) البيت القصباوي ، نسبة إلى قصبة الجزائر – المدينة القديمة .
(*) ديصاند . descend كلمة فرنسية بمعنى "أنزل" .
(*) الشنابط جمع "شانبيط" وهو مجند من أصل جزائري يقوم بوظيفة الشرطي ، وهو خائن للوطن .
(*) المعلمة الفرنسية ، المعلمة بفتح الميم واللام ، تسمية يطلقها الجزائري على السيدة الأوروبية التي يشتغل عندها (La patronne) .
(*) الكولنيالي : le colon الذي يستوطن أرضا غير أرضه ويقوم باستغلال اقتصادها وشعبها .
( عبد الحميد بن هدوقة "غدا يوم جديد" ، منشورات الأندلس ، الجزائر ، 1992 من ص : 53 إلى ص : 71 .
(9) المصدر السابق من الصفحة 80 إلى الصفحة 87 .
(10) المصدر نفسه ، من الصفحة 125 إلى الصفحة 130 .
(11) جيرار جينيت ، خطاب الحكاية ، بحث في المنهج ، ترجمة : محمد معتصم وآخرون ، المجلس الأعلى للثقافة ، ط2 ، 1997 ، ص : 131 .
(12) عبد الحميد بن هدوقة ، غدا يوم جديد ، ص : 25 .
(13) عبد الحميد بن هدوقة ، غدا يوم جديد ، ص : 23 .
(14) المصدر نفسه ، ص : 28 ، 29 .
(15) المصدر نفسه ، ص : 29 .
(16) المصدر نفسه ، ص : 37 .
(17) عبد الحميد بن هدوقة ، غدا يوم جديد ، ص : 77 ، 78 .
(18) المصدر نفسه ، ص : 45 .
(19) المصدر نفسه : ص : 50 .
(20) المصدر نفسه ، ص : 79 .
(21) المصدر نفسه ، ص : 180 .
(22) المصدر نفسه ، ص : 281 .
(23) G. Genette, Figure III . P : 147 – 148
(24) مراد عبد الرحمن مبروك ، بناء الزمن في الرواية المعاصرة ، رواية تيار الوعي نموذجا (1967 – 1994) الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998 ، ص : 146 .
(25) عبد الحميد بن هدوقة ، غدا يوم جديد ، ص : 106 .
(*) الفيلاج كلمة فرنسية المقصود بها "le vilage" أي القرية .
(26) عبد الحميد بن هدوقة ، غدا يوم جديد ، ص : 190 .
(27) المصدر نفسه ، ص : 104 .
(*) الدشرة : قرية صغيرة ريفية .
(28) عبد الحميد بن هدوقة ، غدا يوم جديد ، ص : 105 .
(29) المصدر نفسه ، ص : 168 .