'رواية إبراهيم عبد
المجيد
[center]
يقال بأنّ حنيننا لقراءة الرواية لنمضي ساعات موصدين
أبواب ذواتنا في وجه الواقع هو في سبيل بحثنا عن وجوه عرفناها وخبرناها، أو وجوه
نحلم يوماً بلقائها على مسرح الحياة، فالأدب يعلّمنا كيف نحوّل ماضينا بحزنه وألمه
وشوقه إلى مقولات عظيمة تضجّ بالخير والشر، والروح والعقل، والظاهر والباطن !!
لماذا يكتب الأديب في هذا
العالم؟ لماذا يثير فينا شهوة التفكير؟ لماذا يختصر حيوات الناس في ' حكاية'؟ تلك
أسئلة يستحضرها نص ' في كل أسبوع يوم جمعة' لإبراهيم عبد المجيد، هذا النص الذي
حمل حكايات الأمس وأوهام الحاضر وإشراقة المستقبل الرمادية فكان ألف حكاية وحكاية
في ' رواية'!
اختزلت نماذج إبراهيم عبد
المجيد مركزيات نسقية متنوعة ومختلفة لتنبثق عنها هويات سردية فيها الديني
والسلطوي والسياسي والنخبوي والشعبي والغريب والشاذ، وتقاطعت كل تلك الهويّات السردية
بدوالها ومدلولاتها في عالم افتراضي مفرّغ من المكان .
وقد توزّع النّص على
ثلاثة أبعاد، البعد الأول يحتفي بالمهمّش اجتماعياً وثقافياً ليخلق منه بطلاً
أدبياً، وهذا ما كان في حضور' المنغول' في النّص، والبعد الثاني تبلور في مقاربةٍ
لانقلاب مفهوم الرؤيا الإيجابية وتحولاتها كتأثير مجتمع القاع بالنخبة، أما البعد
الثالث فكان في محاولة خلق يوتوبيا تجمع كل تلك المركزيات النسقية في فضاء افتراضي
واحد.
لماذا قّدم نص إبراهيم
عبد المجيد نموذج ' المنغولي' كمحور أصيل حاضر في الحوار والسرد والحدث يخترق
منظومة البطل الكامل المنتصر؟ ولماذا أضاف عليه تلك التفاصيل المفارقة لتواجده في
المجتمع والحياة؟
في الحقيقة يتماهى حضور
نموذج المنغولي في النص مع حالة أقرب إلى ' المريب ثقافياً'، إذ اصطلح المجتمع على
تعيين وجود ' المنغولي' في دائرة مغلقة مهمّشة تقبع خارج منظومة العقلي والإنساني
والاجتماعي، إضافة إلى مكتسبات الثقافة غير العالمة التي علمتنا أن التعامل معهم
يكون محفوفاً بهالة من الإشفاق واكتساب الأجر والثواب، لأن هذا المنغولي ' مبروك'
كما تتكلّم عليه الجدّات !!
لكن حضور نموذج المنغولي
في النص، لم يكن محفوفاً بالشفقة بقدر ما كان محفوفاً بالغرائبية والإدهاش
والمفارقة، إذ تكلل بطاقة فاعلة ونزعة عدوانية غير واعية كما في نموذج ' عماد'،
فالمنغولي في النص يحب ويكره ويقتل ويحلم ويبكي حزناً، نموذج مكتمل المشاعر
الإنسانية، قادر على الاختيار كما في نموذج ' سليمان' الذي قرر الاختيار والهرب من
قيد النسق وأوهامه واتهاماته.
وقد حضر المنغولي في النص
بجوهره الإنساني الكامل الذي لا يفنى لغياب العقل، بل قد يكون أشدّ وضوحاً، ذلك
الجوهر الذي يتحول بحسب ميل السلطة التي تحرّكه وتساهم في تحوّلاته، كما فعلت '
روضة' زوجة ' عماد' عندما جعلت منه قاتلاً بالاعتياد دون أي وعي منه، فما الذي
يقدر المنغولي على أن يريده؟ ذلك المطرود من المتن إلى الهامش ليكون تحت سلطة
الإنسان العاقل.
لقد قدّم النص البعد
الشعبي وأدوات الثقافة غير العالمة في التعامل مع المنغولي في نموذج ' سليمان'،
أما موقف الثقافة العالمة وأدواتها في التعايش مع المنغولي في المجتمع فنجده في
السّرد، والحوار بأصواته المتعددة. وقد عملت النمذجة على كشف أشكال أخرى من
الإعاقات التي لا تمتلك دلالات جسدية، فحكاية ' تامر كونيكشن' مع رجل الشرطة عاهة
مضمرة في ثقافة المجتمع، التي تفترض أن ضابط الشرطة من أجل خدمته، وليس من مهامه
أن يوقف مواطناً ليقول له ' ماشي ساكت ليه؟؟'، وكذلك نموذج ' نهى' التي استطاعت
التأثير في ' مريم الصحافية'، فمن المريب والغريب أن تنقلب مريم منساقة وراء امرأة
مثلية وشبقة مثل ' نهى'، فما ذلك إلا عيّنة من عينات انقلاب مفهوم الرؤية
الإيجابية وتحولاتها التي استطاعت عين النص رصدها بفنّية وحساسية عالية، فبدل
الصعود بمجتمع القاع، انقلب المسار إلى هبوط بمجتمع النخبة إلى القاع، في مزيج
هادئ ومنطقي رصين يدعو إلى استقراء بناء الخطاب الواقعي والاجتماعي، لتكون نماذج '
في كل أسبوع يوم جمعة' نماذج تقول للقارئ ' عزيزي القارئ هذه ببساطة هي الحياة'،
فمن شاء فليقنع، ومن شاء فليسخط!!
ونجد في النص نماذج
متصالحة مع ذاتها ، متمركزة وقارّة في مقولاتها كـ ' أحلام' المسكونة بأحلام
والديها التي تنتمي إلى الحقبة الأولى في المشروع اليساري الاشتراكي، ' أحلام' هي
ما بعديات نموذج من أحلام مرحلة عاشت على أمل وإشراق سيأتي يوماً، ' الأحلام هي
التي أعطت أبي القوة على الاستمرار، فيها تحمّل التعذيب في المعتقلات هكذا كان
يحكي...وكثيراً ما أسرف في الأحلام، فرأى حرّاس السجن نساء جميلات....'
' كان زوجي مثل أبي،
تلميذه يا جروب، يرى في الأحلام حلاّ ً لكل مشاكلنا لذلك وافق عليه أبي، وكان يردد
دائماً كلمة ناظم حكمت (أجمل الأيام لم تأت بعد)
استوقفني نموذج
أحلام كثيراً، حتى ظننت به شفرة سريّة أراد عبد المجيد أن يرسلها، وإذا كان '
الغذّامي' يؤكد في مشروعه على نسق مضمر في الخطاب ، فأكاد أعثر عليه في نموذج
أحلام في هذا النص، لقد أعدت قراءتها ومررت على كلماتها الهاربة من أفواه كثيرين
أعرفهم، صافحت تلك اللهجة العالية في نبرتها، وما أسهل أن تجد وجهاً يشبه ' أحلام'
في حياتنا، وما أصعب أن تتشرب من النص كل هذه الجرعة العالية من الفنية الأدبية
الممتزجة باستسلامها. ' أحلام' نموذج مسكون بهاجس الغد المشرق، يحلم بشمس مشرقة،
وربيع قادم، بطل مهزوم دائماً لكنه يردد في أقسى لحظاته الانهزامية ' أجمل الأيام
لم تأت بعد'، استطاع هذا النموذج خلق سجالات سردية مع نماذج لأنساق سلطوية ودينية
وثقافية ونخبوية في فضاء النّص، إلا أن تلك السجالات مترفّعة عن تلك الشعارات
الإيديولوجية التي سكنت مطلع الرواية الواقعية عندما كان النص مقسماً إلى برجوازي
وبروليتاري ورأسمالي، تتقاسم جميعها عبادة إله المستقبل المشرق وتجعل من ماركس
قديساً يتلو بعض آياته، تلك المرحلة من الرواية خلقت لنا بطلاً إيجابياً يحتفي
بطاقة المستقبل، لكن نماذج إبراهيم عبد المجيد نماذج تحتفي بواقعية أخرى، فهي
واعية لماضيها، هي نماذج لم تعد تبحث عن المستقبل بقدر ما تبحث عن ' هوية 'لهذا
المستقبل، فقد فقدت ثقتها بالشعارات والمنظمات الشعبية ، هي نماذج واعية ومدركة أن
ماركس الأمس أصبح في ' سوهو' اليوم!!
أمّا عن فضاء اليوتوبيا
الإلكتروني الذي كرّسه النص فلم تفارق ' روضة' موقعها كسلطة قادرة على تحريك
الحدث، رغم البون الثقافي والمعرفي بينها وبين أفراد الموقع، لكنها في الوقت ذاته
ظهرت كسلطة مسكونة بمفارقات الضحية، تلك الفتاة الباهرة الجمال التي يعمل والدها
عند لواء، وسيادة اللواء عنده ولد منغولي بحاجة إلى زواج، وتكتمل الحكاية مع فرحة
الأم التي تقول: ' خلاص يا روضة حتبقي من الأكابر'، لكن روضة لم تكمل دور الضحية
إذ تحوّلت إلى جلاد، فكانت نموذجاً مفارقاً لطبيعته الروائية النمطية، فسجّلت في
كلية الآداب، وتابعت تعليمها، ولم تقل العبارة المشهورة ' نصيبي من الحياة'، ثمّ
تحولت بطريقة غرائبية وهادئة إلى نموذج إجرامي مولع بقتل الرجال بعد معاشرتهم،
لتشكّل جزءاً مهمّاً من البعد ' اللامتوقع' في النص.
لقد شكّل الفضاء
الإلكتروني حالة يوتوبيا في النص لتجرّده من المكان، و لتطلعه إلى أن يكون '
البوح' مطهّراً ومخلّصاً ومبرّئاً لجراح الإنسان العربي الذي يبحث عن أي مكان يبوح
فيه خارج حدود المكان، فكان عالم الإنترنت والأسماء المستعارة هو المدخل إلى هذه
اليوتوبيا الزمانية التي نسجّل عليها حكاياتنا ونسرد فيها ماضينا دون قيد أو خوف،
لتخف علينا من وطأة المكان، ومع ذلك بقي الخوف من عين الرقيب هاجساً يطارد الإنسان
العربي في هذه اليوتوبيا، ولذلك استنكر كل أفراد الموقع وجود ضابطين مثل صابر
ولبيب، لقد غدت ' الحكاية' أشبه بشيفرة نسقية جمعت تلك النماذج وأغرتها بالانعتاق
من أسر الماضي والواقع، ولذلك كانت ' النكات' التي تكتبها مريم الصحافية حالة
تفريغ وقتل لمركزية القيود التي تسيطر على الأفراد، فأقدر طريقة على قتل فكرة ما
هو تحويلها إلى طرفة!! وبهذا يُعلل إنهاء الفصل الأخير من الرواية بمجموعة ' نكات'
في محاولة لقتل وتحطيم مفرزات السلطات الدينية والسياسية والثقافية التي تفرض
ذاتها كرقيب على عقل الفرد وحياته.
وتحضرني في النهاية عبارة
دوّنها الدكتور فيصل الدراج في مقدمة كتابه ' تحولات الرؤية في الرواية العربية'
إذ يقول: ' لا تزال الرواية العربية في تحوّلاتها المتواترة ممارسة تنويرية لم
تفلح ( الأجهزة التأديبية) من مصادرة وجودها'، ولا يزال نص ' في كلّ أسبوع يوم
جمعة' منتصراً لأحلام منثورة، وحكايات مبتورة خطّها مجتمع المثقف العربي،
واختزنتها ذاكرته، رغم رحيل تلك الفترة التي كان الأدب فيها قادراً على صناعة
التحولات الاجتماعية، ورغم غرق معظم منظري الأدب اليوم في ' فزورة' هل دخلت
الرواية العربية عتبات ما بعد الحداثة، أم ما زالت تخوض معاركها في أزقة الحداثة،
القارئ العربي مع نص ' في كل أسبوع يوم جمعة' لأنه يعيش معه مرحلة الإنسان،
والإنسان العربي فقط - عن القدس العربي.
[/center]