عندما تطمح الرواية في أن تكون بديلا للتاريخ!! : قراءة في رواية الأمير للأعرج واسيني.
بقلم: أ.د. حبيب مونسي*
المحرر | أكاديميا, دراسات وأبحاث | 2010.09.102tweetsretweet
قبل البدء:
هل تعيد الرواية اليوم في ظل فكرة نهاية التاريخ، إعادة كتابة التاريخ تحت الطلب
من وجهة نظر إعادة صياغة الماضي لتفسير الحاضر والمستقبل.؟ ألم يكن
التاريخ يوما سوى رواية لأحداث من زاوية فردية عايشت الحادث وأسبغت عليه
رؤيتها الخاصة؟ أليست الرواية هي الأخرى رواية لحادث من زاوية فردية عايشت
المتخيل وأسبغت عليه رؤيتها الخاصة؟ ألا يقرِّب هذا الطرح الشقة بين
الرواية والتاريخ ليجعلهما نشاطا واحدا. يشتغل الأول على الواقعي، وينصرف
الثاني إلى المتخيل؟ وما مسافة الفاصل بين الواقع والمتخيل؟..
هل يجوز للراوي انتهاك حرمة الواقع الحادث ليعيد موقعته في سياق متخيل،
تتحول معه دلالته من معنى إلى آخر تمليه اعتبارات مضمرة تفرزها الصراعات
الجديدة المصاحبة للعولمة؟ هل كان فيلم “آلام المسيح” ” PASSION OF THE
CHRIST “للمخرج الأمريكي “ميل جبسون” ” Mel Gibson“عملا
فنيا عن المسيح، يعيد تصوير آلام الصلب فقط؟ أم أن الفيلم عرض لتاريخ
تجاهد اليهودية العالمية لإخفائه واستصدار وثائق البراءة منه؟ هل كانت
“شفرة دافنشي” ل”دان براون” “Dan Brown”مجرد رواية تاريخية ذات نكهة
بوليسية وحسب؟ أم أنها خلخلة لقناعات تاريخية متجذرة منذ 2000 سنة في
الوجدان المسيحي؟ أم أنها ردة فعل يهودية على فيلم “آلام المسيح”، على سبيل رد الصاع صاعين؟…
هل يجوز لنا الساعة أن نرى في رواية الأمير للأعرج واسيني استكتابا للتاريخ من وجهة نظر تعيد تشكيل صورة الأمير في الوجدان الجزائري على غير الهيئة التي رسمها التاريخ الرسمي، وأن يسمعنا ويرينا منها مواقف لا تكاد تخطر على بال أحد؟
هل تسعى الروائية إلى أن تطرح نفسها اليوم بديلا للتاريخ
بعدما انتهى التاريخ وتبدد في تعدد وجهات النظر والتفاسير والتأويلات.. إذ
ليست نهايته في انتهاء الصراع كما زعم “فكوياما”" Francis Fukuyama “وإنما
نهايته في انتفاء عدم اليقين الذي انجرت إليه التفسيرات الإعلامية
المتعددة للحادث الواحد؟
1-الرواية والتاريخ:
ليس من العسير على الدارس أن
يسجل سلسلة الفروق التي تميز الرواية عن التاريخ جنسا، غير أنه حين ينظر
إلى الألفاظ في دلالتها المعجمية الأولى سيجد تداخلا بين اللفظين، حين يلمس
أن الرواية هي التي تسجل التاريخ، وأن ليس للتاريخ من قيامة إلا بها. وكأن
الرواية في دلالتها المعجمية هي ذلك الضرب من القول أو التسجيل الذي
يمكِِّن الحادث من الثبات والرواية زمانا ومكانا. ومنه يكون التاريخ سلسلة
من المرويات التي يُستعاد بفضلها الماضي إلى خضرة الحاضر عبر اللغة.
أما إذا نظرنا إلى الرواية جنسا أدبيا كان لنا منها شأن آخر غير فعل الحكي الذي يستعيد الذكرى ويرويها، وإنما هي إنشاء وتكوين عبر اللغة لواقع متخيل أو حقيقي.
فإن كان الواقع المحكي متخيلا كانت حكاية أو رواية أو قصة.. أما إذا كان
الواقع المحكي واقعا حقيقيا منتهيا كانت الرواية تاريخا بالمعنى الاصطلاحي
للكلمة. بيد أن ما يهمنا في هذا الموضع ليس الفرق بين الرواية والتاريخ، أو
التداخل الحاصل بينهما، لأننا ندرك جيدا أن: « أن الرواية التاريخية من
عمل الروائي أو الأديب, وتبدو فيها الذاتية والخيال واضحين للعيان, بينما رواية التاريخ من عمل المؤرخ, وتبدو فيها, أو ينبغي أن تبدو فيها, الموضوعية والواقعية, وهما من عناصر التكوين الرئيسية في العرض التاريخي, ومن هنا ينبغي أن نفرق بين طبيعة عمل الروائي وطبيعة عمل المؤرخ, من حيث المنهج, ومن حيث الهدف, ومن حيث الأسلوب.» (
[1]) فالاختلاف إذن قائم بين الرواية والتاريخ على محورين: محور الذاتية والموضوعية والخيال والواقعية من جهة، ومحور المنهج والهدف والأسلوب من جهة أخرى.
لقد كانت الذاتية والموضوعية
حجر الرحى الذي تدور حوله كافة الخصومات بين منتهجي البحث العلمي في
ابتغائهم العلمية لما يكتبون ويسجلون. غير أننا في كل تسجيل لا يمكن أبدا
أن نلغي الجانب الذاتي ما دامت الذات هي التي تسجل الحادث متخيلا كان أو
واقعيا. أما شأن الموضوعية فمتروك للمقاصد التي يؤطر عملية التسجيل وتحدد
الهدف المتوخى من ورائها. لذلك ينصرف الهم اليوم إلى بحث مسألة المنهج
والهدف والأسلوب.. فتكون الإشكالية على هذا النحو قائمة على كشف الطريقة التي يُتَناول بها الموضوع، وكيفية السير فيه لتحقيق الهدف المسطور قبلا، وما هو الأسلوب الأنجح لتأدية ذلك الدور الخطير.
قد يكشف التبسيط الذي تعرض به بعض الحقائق خطورة التحول في الوظيفة.. وظيفة الرواية
بعيدا عن التاريخ. لأننا في تبسيطنا للفروق نقول:« أن التاريخ هو رواية
الماضي بينما القصة أو الرواية التاريخية هي نوع من الإبداع أو التأليف
المعتمد علي شيء من رصيد ذلك الماضي. وبهذا التحديد الواضح لدلالة
المصطلحين, يتضح أنه بقدر ما يكون الكاتب قريبا من حقائق الماضي يكون
قريبا منالتاريخ, وبقدر ما يكون قريبا من الخيال بعيدا عن الحقائق يكون قريبا منالرواية, وفي الحالين فإن ما نكتبه هو نوع من القصص.» ([2])
وبذلك ينتهي التعريف عند عتبة القصة.. وأن التاريخ مجرد قصة قد يكون لها
حظ من الواقعية، وقد تفتقر إلى ذلك الحظ. وكونها في كلتا الحالتين مجرد
قصة، فإنه يمكن أن يستعاض بها عن التاريخ كما عرفته المؤسسات التربوية
الرسمية.
2-الرواية بديلا للتاريخ:
إذا كان المفكرون أمثال
“فوكوياما” “Francis Fukuyama” قد ربطوا بين التاريخ والصراع، ورأوا أن
الصراع بمفهومه القديم قد انتهى، وأن ما كان يتفصد عنه من تاريخ كذلك قد
ولى، وأنه لم يعد للتاريخ من ضرورة باعتباره سجلا لإفرازات الصرع، فإنه قد
صار من الممكن للرواية أن تأخذ مكانه، وأن تسد مسده، وأن تقدم للناس تاريخها الخاص. لأنه :« يمكن القول في ثقة بأن القرن العشرين قد غرس فينا تشاؤما تاريخيا عميقا» ([3]) ذلك التشاؤم الذي يفسر غربة الإنسان عن الأحداث التي تصنعه ويصنعها، في زمان ومكان معينين، فإذا عادت إليه مرة أخرى، فإنما تعود “نصا” يجعل المؤرخ وجها لوجه:« أمام خطابات وليس أمام وقائع، الشيء الذي يعني أنه يتحول إلى مؤول للخطاب ثم مؤول لموضوع الخطاب. .لذلك يسود أسلوب التحقيق والتمحيص، فيصبح، من ثمة، الحجاج مهيمنا على أسلوب الكتابة التاريخية، للعمل على إقناع المختص قبل القارئ العادي بمصداقية المستندات ومصداقية التحليل. وكل ذلك بهدف تضييق الهوة بين الواقعي والمحتمل.» ([4])
فالالتفات من الحادث الواقعي إلى النص، جعل الكتابة التاريخية تبتعد عن
أسلوب المرويات السلسة، التي يسهل مأخذها، وتقترب من أساليب الفلسفة
الحجاجية معتمدة على المنطق والجدل، ومن ثم انحصرت الكتابة التاريخية في
دائرة النخبة ولغتها. في حين استرسلت الرواية بعيدا عن كل ذلك، تستعير من
الشعبي أساليب القص. إن:« المؤرخ لا يسعي للاحتفاء بالتاريخ, ولا يسعي لإبهار الجمهور,
لأن ذلك ليس من بين أهدافه الرئيسية... ولكن يبقي هدف المؤرخ الرئيسي
هو الحقيقة, أما الروائي فيعمل بحرية لا يتمتع بها المؤرخ, فعلي عكس
التاريخ الذي يبني علي الحقائق وحدها, يستطيع الروائي إضفاء رؤيته الخاصة
بتوسع في اتجاهات مختلفة, مستخدما فيذلك كل الوسائط الممكنة لجذب القارئ, فيضفي علي عمله مالا تستطيع الحقيقة وحدها أن تقدمه,» ([5])
فكانت بذلك الصنيع نقطة التحول في وظيفتها لتلامس جمهورا واسعا جدا من
المثقفين، الذين تبدأ صلتهم بالموضوعات بداية حب الاطلاع، أو الدوي الذي
تحدثه رواية في وسائل الإعلام.
إننا نتذكر رواية “شفرة دافنشي” ” Da Vinci Code“ل
“دان براون” ” Dan Brown” وما اكتنف ظهورها من ردود أفعال تراوحت بين مؤيد
راح يتهم الكنيسة بالكذب والتدليس والغش والخيانة، ومكذب حاول جاهدا دفع
التهم التي حملتها الرواية مدعومة بالأدلة والبراهين تؤيدها المخطوطات
واللوحات الفنية والنقوش على واجهات الكنائس. لقد وجدت الكنيسة نفسها في
وضع حرج فالتزمت الصمت، وأغلقت أبواب المساءلة، ولم نجد سوى رد جماعة “أبوس
ديي” “Opus Dei” ([6])
التي اجتهدت في نشر بيان على موقعها بالشبكة، لترد التهم التي وجهتها
إليها الرواية في كتم الأسرار، واستمرار الممارسات الوثنية في الديانة
المسيحية.
لقد كُتب ونُشر العديد من
الدراسات التاريخية حول المسيحية وصلتها بالوثنيات التي كانت سائدة في
أوروبا في القرنين الأول والثاني، وكذا الفلسفات الأفلاطونية التي تبنتها
الكنيسة لتفسير كثير من مقولاتها المتصلة بالعالم الأخروي، والمقولات
العلمية التي كانت قائمة لتفسير الكون نشأة ونظاما وسيرا، كنظام “بطوليمي” “Ptolémée” الذي اعتمدته الكنيسة رسميا لتفسير كوسمولوجيا الكتاب المقدس، والتي ثار عليها فيما بعد كل من “كوبرنيكوس” “Copernic” و”غاليليو” “Galilée“. غير أن هذه الدراسات “العلمية الموثقة”
لم تثر اهتمام العامة من الناس، وأبقت الحوار محصورا وراء أسوار المؤسسات
العلمية. ولكن رواية “دان براون” هبت على الناس مثلما تهب رياح السموم لا
تأتي على أخضر إلا وجعلته كالرميم، فاهتاج الناس، والتفوا حول أسوار
الفاتيكان، وطالبوا الكنيسة بالحقيقة.
إننا لو ربطنا الحقائق مع بعضها بعض، تبين لنا الدور الجديد الذي صار يقوم به الفيلم والرواية. لقد كان فيلم “آلام المسيح” ” PASSION OF THE CHRIST” الذي تعمَّد مخرجه “ميل جيبسون” Mel Gibson” إدارة الحوار فيه باللغة العبرية القديمة، بعد أن افتك اليهود من البابا ” جون بول الثاني” وثيقة براءة اليهود من دم المسيح،
تحديا صارخا للغطرسة اليهودية وابتزازها للمسيحية ماديا ومعنويا. فلم تمض
السنة والسنتان حتى خرج من العدم مؤلف روايات بوليسية مغمور إلى عالم
الشهرة برواية لم تقدم جديدا في لغتها ولا في حبكتها، وإنما كان جديدها أنها طرحت نفسها بديلا للتاريخ والحقيقة التاريخية.
لقد بحث كثير من الدارسين عن سر
شهرتها، فقد كتب “إبراهيم عبد الله” يقول:« فما السر الذي يشدّ عدداً
هائلاً من القراء للاطلاع على رواية احتفظت بأفضل أرقام التوزيع قاطبة بين
الكتب منذ صدورها إلى الآن؟ علماً أنها نالت تقريظاً استثنائياً من النقاد
والجمهور، ويجري تحويلها الآن إلى فيلم Columbia Pictures سيعرض في ربيع
عام 2006م. إذا افترضنا أن ذلك جزء من رهانات الرواية التي تجتذب انتباه
العالم بصورة متواصلة نكون واهمين، إذ تصدر يومياً عشرات
الروايات في شتى أرجاء العالم، وكثير منها يعتمد تقنيات سردية مشوقة، لكنها
سرعان ما تنطفئ، أو لا تثير اهتماماً يذكر. وإذا قلنا إنها لكاتب شهير، فذلك ليس بصحيح،
فهذه الرواية هي التي جعلت مؤلفها على كل لسان، وهو في مقتبل عمره الأدبي
(من مواليد سنة 1964) وليس له سوى روايتين قبلها لم تلفتا الاهتمام إلا بعد
صدور «شفرة دافنشي». وإذا قلنا إنهااعتمدت تقنية الرواية البوليسية،
فآلاف الروايات البوليسية منذ «أغاثا كريستي» إلى الآن اعتمدت هذه
التقنية، فلا تتفرد «شفرة دافنشي» عن سواها من الروايات البوليسية. ونكون أيضاً على خطأ إذا حسبنا هذه الرواية ظاهرة خاصة توافرت الصدف الإعلاميةلجعلها في مثل هذه الشهرة النادرة، فقد ظهرت في ذروة أزمة عالمية شديدة الأهمية، صرفت الانتباه عن الأدب والفكر، وهي احتلال العراق. فأين إذن يكمن سرّها؟.» ([7])
إن الميزة إذن ليست في ابتداع فني جديد وُفِّق إليه المؤلف في حين غفلة
غيره من المبدعين، وإنما الشأن شأن الطبيعة الجديدة التي امتلكتها الرواية
من خلال موضوعها، وصلتها بالتاريخي. فقد شكر “دان براون”:« في مقدمة
الرواية كتيبة من الباحثين المتخصصين في شؤون الدين والفن
على جهودهم في توفير المعلومات الدقيقة التي ضمنها الرواية، بل وأكد «أن
وصف كافة الأعمال الفنية والمعمارية والوثائق والطقوس السرية في هذه
الرواية هو وصف دقيق وحقيقي». وهذه ليست خدعة سردية يريد منها المؤلف أن
يدفع بالقارئ إلى تصديق المعلومات التي أدرجها في روايته، إنما هي معلومات استقاها المؤلف من مصادر تاريخيةموثوقة، وكثير منها معروف للمتخصصين في الدراسات المسيحية، فلا يمكن عد الرواية مصدراً لمعلومات مجهولة.» ([8])
ولم يكن “دان براون” ليغامر متزيِّدا على تاريخ المسيحية بشيء، وإنما كان
سحر الرواية في الكيفية التي عرضت بها نفسها، مسفهة أحلام المؤسسات الرسمية
التي ترفع تاريخها الخاص في وجه العامة من الناس. فكانت الرواية ذلك الوجه
الثاني الذي استغل ريبة الناس في هذا القرن في المؤسسات مهما كانت
شرعيتها، والتفاتهم إلى ما يقوله الغير في لغته وأساليبه الخاصة.
3-خطورة الرواية:
إذا سلمنا بأن الرواية
التاريخية تطرح نفسها اليوم –في خضم الفوضى الإعلامية وكثرة الأصوات –بديلا
للتاريخ، تقدم حقيقة أخرى غير التي ترفعها المؤسسات الرسمية، وتعمل على
ترسيخها في أذهان الأجيال من خلال المقررات الدراسية ووسائل الإعلام،
معتمدة في ذلك الأساليب الشعبية القائمة على الإثارة والدهشة والتهويل،
فإنه يتعين علينا أن نسلم بخطورة الرواية وهي تنتحل هذه المهمة، وتلبس هذا
الرداء. وقد طُرح السؤال عاريا فيما يتعلق ب”شفرة دافنشي” وكان الرد في
جميع الثقافات واحدا. يقول “عبد الله إبراهيم” :« أجد في هذه الرواية مزجاً شديد الذكاء بين مادة تاريخية-دينية -أسطورية، وإطارسردي يعتمد أسلوب البحث المتقطع، والمتناوب، والسريع، فالرواية من روايات البحث والتحقيق، شأنها شأن رواية «اسم الوردة» ” لأمبرتو إيكو” “Umberto Eco” التي صدرت في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ولاقت شهرة مماثلة، فالروايتان تنهلان من المادة التاريخية حول المسيحية بطريقة البحث والتحقيق، وتهدفان إلى إزالة الشوائب الزائفة حولها، فيمايعتقد المؤلفان. تقدم الرواية نقضاً متتابعاً للمسلّمات التي ترسخت في وعيالمسيحيين، عن شخصية المسيح، وأسرته، وعلاقته بالمرأة، ثم تكشف الاستراتيجية التياتبعتها الكنيسة في إعادة إنتاج المسيحية بما يوافق مصالح البابوات وكبار رجالالدين منذ القرن الميلادي الثالث إلى اليوم، وبذلك تهدم اليقينيات المتداولة فيأذهان المؤمنين بالعقيدة المسيحية التي رسخها التفسير الكنسي الضيق للمسيحية،وتقدّم وجهة نظر مغايرة لوجهة نظر الكنيسة عن كل الظروف التي رافقت نشأة المسيحيةالحقيقية.» ([9])
وما يحمله الشاهد في طياته، يُعدد مكامن الخطر في الرواية التاريخية التي
تزعم أنها –عبر المتخيل-تحاول إنارة الجانب المظلم من التاريخ. غير أنها لا
تعمل إلا على:
-مزج المادة التاريخية بالديني والأسطوري والمتخيل.
-تهدف على إزالة الشوائب عن الروايات الرسمية.
-تهدم اليقينيات المتداولة في أذهان الناس.
-تقدم وجهة نظر مغايرة للرسمي المؤسساتي.
وحين نلتفت إلى شاهد آخر، نقع على نفس المخاوف يسجلها “فكتور لوبان” ” Victor Loupan ” في رده على السؤال التالي:
إلى أي مدى يشكل دان براون خطرا على الكنيسة الكاثوليكية؟
فيكتور لوبان: ليس دان براون
حاذقا في مجال التسويق يستخدم كافة الوسائل المتاحة، إنه كذلك مفكر. فإذا
نظرنا إليه من خلال “شفرة دافنشي” و”ملائكة وشياطين” تبين لنا أنه يتبع
مشروع خلخلة مصداقية الكنيسة الكاثوليكية في أوساط الجمهور الواسع. ففي
روايته الأولى، يقرر أن سبب كل شيء هو الكذبة الكبرى لروما، التي نسخت
الأناجيل وشكلت قوانينها لإخفاء دور ماري المجدلية. في الثاني فهي كذبة
“مؤامرة التنويريين” التي اخترعت في الفاتيكان لخدمة الفاتيكان. فالروايتين
إذن هما طوربيدان ضد المسيحية، وخاصة ضد الكاثوليكية. إن مهمة دان براون
سهلة بمكان، لأنه في مقدوره أن يصرح بكل شيء يخص الكنيسة الكاثوليكية
والمسيحية، مادامت ثقافة العامة تجهل كلية الأفكار والتاريخ. ([10])
إن “دان براون” حسب “فكتور لوبان”:
-مفكر يهدف إلى غاية ( صاحب مشروع).
-تشكيك الجمهور في مصداقية الكنيسة الكاثوليكية.
ولكل ذلك يستغل “دان براون”
آليات الرواية وسلاسة خطابها لتكون عوضا عن جفاف لغة التاريخ وتشنُّجها،
وخلوها من التعاطف مع الأحداث. إنها لغة باردة برودة رماد المواد المستهلكة
التي فقدت حرارتها، وخبت عنها جذوتها. أما لغة الرواية فإنها الشعلة التي
سريعا ما تمتد خارج تنورها لتلتهم الأخضر واليابس. حسبنا فقط أن نقرأ
عناوين الدراسات والردود التي كتبت إبان صدور الرواية من الطرفين: المؤيد
والمعارض، وفتح سجلات تاريخية ما كان العامة ليلتفتوا إليها لولا صنيع
الرواية([11]). ألم يقل “فكتور لوبان” بأن العامة يجهلون كليا الأفكار والتاريخ المتعلق بالكنيسة في قرونها الأولى؟.
وقد يبدو السؤال التالي الذي
وجه إلى “فكتور لوبان” أكثر دقة فيما يتصل بالرواية البديل للتاريخ، لأنه
يكشف عن الغاية التي سطرت من أجلها رواية “دافنشي كود” ويفضح الهدف البعيد
الكامن وراء تجاوز التاريخ إلى متعة القراءة المسمَّمة.
-هل هي روايات ضد دينية؟
فيكتور لوبان: نعم ولا،
الروايتان تهاجمان بنفس الدرجة: المؤسسة الكنيسة والإيمان الكاثوليكي. فإذا
صدقنا دان براون، فإنه على الكاثولكيين الأذكياء عدم الإيمان بإله شخصي
(أب، ابن وروح) متجاوزا كليا الإنسان، ولكن الإيمان بإله “طاقة” يجعله
الإنسان في خدمته. هكذا وحسب اعتقاده، فليس هناك سوى إمكانيتين: إما أن
تهرب الكنيسة من العلم، ويكون لها عين مصير الديناصورات. وإما أن تتحالف مع
العلم، وذلك يعني أن تعترف بعدم جدوى الإيمان. ففي كلا الحالتين تختفي
الكنيسة والإيمان معها. ([12])
فالأهداف البعيدة إذن هي:
-عدم الإيمان بالتثليث.
-الإيمان بإله في شكل “طاقة.” يوظفه الإنسان لصالحه.
-وضع الكنيسة في خيارين أحلاهما مر: إنكار العلم، أو التحالف معه. وكلاهما يعرضها للزوال.
-التحالف مع العلم يفرض عليها الاعتراف بعدم أهمية الإيمان.
لقد عرفت رواية “دان براون”
-منذ العتبة الأولى- كيف تقدم نفسها للجمهور على أنها الجديد في موضوعها،
والجديد في عرضها، والجديد في شكلها، وأنها لا تخاطب المؤسسة، بل تعلن منذ
البدء قطيعتها معها، وتعلن عداءها لها. فعنوان الرواية:« “شفرة دافنشي” بحد
ذاته يشير عبر كلمة (شفرة) إلى محاولة للتملص من السلطة المتحكمة بالفعل
التدويني، لتغدو كلمة “شفرة” ذات دلالة مزدوجة، تعبر أولا عن مصلحة فئة أو
جماعة في تمرير معرفة ما إلى الأجيال اللاحقة من جهة المؤسسة الدينية
وإنتاج التأريخ .» ([13])
فهي عمل مضاد لا يخفي أهدافه ولا يتستّر خلف المفارقات التي تفصل بين
الرواية والتاريخ، ولا تتملَّص من المسؤولية المترتبة عن أفعالها. بل تريد
أن ترى أهدافها مجسدة في كل قراءة ولدى كل قارئ. لأنها:« تنشغل بمقاومة التاريخ الرسمي
الذي سيطرت الكنيسة على إنتاجه، إلى الحد الذي مكَّنها كسلطة اجتماعية
وسياسية من إعادة صياغة المسيحية كدين يناسب المؤسسة الدينية التي تمثلها،
فقد أطاحت بالرموز والآثار التي تركتها الديانات الأخرى، وخاصة ما يتعلق
منها بالأنثى المقدسة، وما لحق ذلك من اضطهاد للمرأة حوَّل المسيحية إلى
دين ذكوري.».
4-كتاب الأمير: العتبة والبدايات.
على النحو الذي لمسناه مع رواية “دان براون” فإن رواية الأعرج واسيني “كتاب الأمير. مسالك أبواب الحديد”
تقدم نفسها على أنها عمل يقع خارج الرواية بمفهومها الاصطلاحي لأنها
“كتاب” و أن هذا الكتاب منسوب إلى “الأمير” وبذلك تفتح هذه العتبة في وجدان
القارئ العربي تداعيات الألفاظ وما يتلبَّس بها من معاني تتصل أساسا
بمفهوم “الكتاب” الذي يحيل سريعا على ما يتلوه المسلم في مطلع سورة البقرة،
بعد بسم الله الرحمن الرحيم ) ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ ({البقرة:2} حيث يتصف الكتاب باليقين والهداية. ومن ثم
يُقبل القارئ على مادة لا يأتيها الريب من بين يديها ولا من خلفها. كما أن
لصفة الأمير وقع آخر في الوجدان الجزائري ارتبط بالجهاد ومحاربة العدو منذ سنوات الاحتلال الأولى. فهو رمز الرفض والمقاومة وحماية بيضة الدين والذود عن الأرض والمحارم.
فاتصال اللفظين مع بعضهما البعض يفتح في النفس آفاق الترقُّب المطل على
صنيع يتجاوز الرواية التي تطمح إلى التسلية والترفيه، إلى عمل يضاف إلى
مآثر الأمير، فيجدد صورته في الوجدان الشعبي على غرار ما صنع التاريخ في
الذاكرة الرسمية.
أما العتبة الثانية “مسالك
أبواب الحديد” فقد ينصرف فيها الذهن إلى المعاناة التي كابدها الأمير في
سجن “لمبواز” أسيرا، وفي سجن المنفى غريبا. غير أن الذين أقبلوا على
الرواية لم يكترثوا كثيرا للعتبة الفرعية بقدر ما توقفوا عند الأولى، ولما
باشروا القراءة، كان الأمير غائبا عن الساحة السردية التي
احتلتها شخصية “مونسنيور ديبوش” ” Monseigneur Antoine Dupuch “الذي كان
البطل الفعلي للرواية ومحركها منذ البدء، وكل ما روي عن الأمير كان من قبيل
تأثيث جهود ” مونسنيور ديبوش ” لفك مسالك أبواب الحديد.
4-1-مشاهد البدايات:
يرى كثير من النقاد أن البداية
في أي عمل روائي هي الداعي إلى قراءة الرواية والإيغال فيها، أو هي
الصارفة عنها. بل يزعم البعض أن في البداية تتكشَّف أهداف الرواية، وتظهر
أولوياتها جلية للعيان، فيعلم القارئ لمن كُتبت؟ ولماذا كُتبت؟ أو على أقل
تقدير يدرك المنحى الذي ستسير فيه الأحداث، والوجهة التي ستأخذها. لأنه :«
لا يمكن للنص الروائي أن يوجد بدون بداية، إنها مكون بنائي. بيد أن ما تعمل عليه في العمق ضبط مختصر الرواية، أي محاولة تقديمها ملخصة بدقة وشمولية، ففي أكثر من نص يكفينا التعامل مع البداية لمعرفة مجريات الأحداث ولواحقها… وبمجرد الإتيان على قراءتها يتم طرح السؤال: وماذا بعد؟ ما الذي سيكون؟ » ([14]) وكأن الرواية تقوم بتكييف
المتلقي ليضبط استعداداته على موجات معينة حتى يألف اللغة، ويتعرف على
العوالم التي يدخلها بهدوء أو بعنف، مخترقا أجواء غريبة الأمكنة والأزمنة،
أو مألوفة الحدود والنعوت. فالبداية تلقي بالقارئ في عالمها المتخيل،
فيشكِّل معها جهازه المفاهيمي الذي يحاول أن يتعرف من خلاله على الأشياء
والمعاني. ([15])
إن رواية “كتاب الأمير” توقفنا
على شخصين غريبين ينفضان “رماد” جثمان ” مونسنيور ديبوش ” في عرض البحر
أمام الجزائر العاصمة التي مات بعيدا عنها، ولكنه أصر في وصيته أن يعود
رماده إليها بعد موته، تعبيرا عن حبه لها، وكأنه يرفض الانتماء إلا إليها
ولو رمادا يُذرُّ في خضرة بحرها فجرا.
لقد كانت الطقوس التي
حملتها البداية غريبة عن القارئ العربي، الذي لم يتعود مثل هذا الفعل في
ثقافته وتراثه، ولم يألف هذا الحب الذي ينكر فيه الواحد انتماءه إلى وطنه
الأول ليهدي لأرض اغتصبها رماد جثمانه. لم يكن هذا المذرور رمادا واحدا من
عامة الناس، وإنما كان أسقفا للجزائر رافق عمليات الاحتلال الأولى، وفاوض الأمير في الأسرى والمعهود. وعودته على هذا النحو لا يمكن أن تُقرأ على أنها نزوة من نزوات بعضهم، وإنما يجب أن تنصرف إلى رمزية ستكون لها دلالتها في عمق النص وأحداثه.
قد تسمح هذه التقنية، التي
موقعت الحكي في سنة 28 جويلية 1864. باعتباره بداية للرواية، آلية الارتداد
إلى الخلف على سبيل الذكرى، فيسهل استعراض الأحداث على الهيئة التي يريدها
الراوي بسهولة ويسر. فلا يلتزم الراوي بشرط الكرونولوجيا الزمنية وتوالي
الأحداث، بل يكفيه استدعاء الأطراف التي يريد تحريكها كلما عنَّ له ذلك، أو
وجد له داعي الاستدعاء خدمة لغرض من الأغراض السردية. فإذا كانت شخصية
“مونسنيور ديبوش” بثقلها الإكليريكي تختار أن تنتهي رمادا في بحر الجزائر –
وقد كان بإمكانه أن يدفن جسدا في العاصمة المحتلة، وفي فناء “كتشاوة” الذي حوله إلى كنيسة-تحضر
في البداية على هذا النحو لتخلق ضربا من التعاطف مع القارئ الذي يعاني
وطأة الاستعمار ثقافيا من خلال الرواية على الأقل، فإن حضورها يفرض على
الروائي أن يوهم القارئ: « بالصدق، (وبأنه) يسرد ما يوازي العالم الخارجي…
ومن ثم فالإقناع عبر المسيرة السردية همُّ وهدف الروائي…. » ([16])
فقد استطاع الروائي أن يرفع إلى القارئ جوا مشحونا بالهيبة، لا يشاكله
الجو الجنائزي المعهود، وكأننا أمام طقس لابد له أن يتم على هذا النحو نظرا
للعلاقة التي تربط الشخصية بالأرض وأهلها. فالقارئ يتابع المراسيم غير
الرسمية في صمت لا يعكِّر صفوه إلا صوت المجداف في الماء، وسط ضباب بدأت
الشمس تُذهِّب أطرافه :« بهدوء كبير، حرك الصياد من جديد المجدافين ليدفن
الزورق فجأة في عمق البياض إلي خلفته الأشعة الشمسية الأولى التي خرجت من
وراء الجبل الذي يطوِّق المدينة. كانت مفرطة النور، متوغلة في الضباب الذي
بدأ يتصاعد من البحر ويغلف القارب الصغير. الشعاع الذي تسرب مثل الشلال،
أعطى لمعانا خاصا للأتربة التي نثرها جون موبي مثلما نثر حبات اللؤلؤ في
فضاء أوسع.
-هذه الأتربة التي وطئها
مونسنيور أو نام عليها للمرة الأخيرة. إنها ترابه الذي أحبه وانتهى إليه
باستكانة. هكذا أوصاني أن أزرع تربة رفاته مثل الذي يزرع حبوبا في فضاء
واسع، ستنبت يوما خيرا وطيبة.» ([17])
قد لا ينتبه القارئ إلى الأسلوب الحالم الذي عرضت به “لوحات” الأحداث تطرزها أحاسيس إنسانية نبيلة انتهت بنبوءة خطيرة “ ستنبت يوما خيرا وطيبة
” فكانت هذه البداية أول لقاء بين القارئ وشخصية ” مونسنيور”، غير أنه
سيلتفت حتما إلى “لوحات أخرى” يتم فيها لقاءه الأول “بشخصية الأمير” وكأنها
لوحات لعالم يحتضر ، تقاطرت عليه اللعنات من حدب وصوب، فأحالته إلى عالم قفر خراب، يتوجب إزالته من الوجود: « 1832 عام الجراد الأصفر هكذا يسميه العارفون ورجال البلاد والصالحون وزوار الزاوية القادرية الآتون من بعيد.
منذ الصباح تبدأ فلول الجراد الأولى تسقط على سهل أغريس، مشكلة مظلة سوداء
على الحقول والمزارع. حتى حوافي واد الحمام الساخن تصير صفراء من كثرة
الجراد العالق بالأطراف وشجيرات الديس والمارمان التي تكسو أطراف الوادي.
حتى الرياح الجنوبية التي هبت ليلة البارحة لم تجلب معها إلا مزيدا من
الرمال والأتربة وأسرابا لا تحد من الجراد .» ([18]) إنها الأجواء التي تمت فيها البيعة الأولى..
جراد أصفر، ورياح جنوبية، وجوع، وفقر طال البشر والدواب على حد سواء. فجعل
البيعة والخروج إليها مشقة أُرغم الكثيرون على تكبد أتعابها.
قد يتساءل القارئ إن كان اختيار
أجواء البيعة من قبيل صنيع “الخيال الروائي” الذي يتحرر فيه الكاتب من كل
قيد أو شرط،فيختار فيه ما يناسب المادة السردية التي يعرضها، كما صنع في
مشهد ذر الرماد، فإنه يجوز للقارئ -على الأقل- أن يسأل عن “الداعي الفني”
لاختيار إطار عرض مشاهد البيعة. خاصة وأن “البيعة” قد اختار لها القائمون
عليها-تاريخيا- في سهل “أغريس” مُشاكلَة بيعة الرسول e تحت الشجرة،
ليوافقوا في ذلك بركة الصنيع الأول، وليمتد العهد إلى المبايعين الأوائل
إيمانا وثباتا وصبرا.
إن للبيعة في الوجدان العربي
هذا الطيف الديني/التاريخي المفعم بالهيبة والإيمان، فلا يجوز فنيا التغاضي
عنه واستبداله بإطار أقل ما يقال عنه أنه إطار يجعل البيعة ضربا الفعل
الكارثي الذي يضاف إلى فعل الجراد ورياح الجنوب الجافة. أما إذا كان
الروائي يكتب لغير العرب جاز له أن يفعل ذلك لغياب أطياف
البيعة من تراثهم وثقافتهم. فهم لا يكترثون للجراد أو غيره، وقد يرون فيه
مأساوية تزيِّن المتخيل السردي.
قد كان يهون شأن الجراد والرياح
الجافة لو اقتصر عليها الروائي، واعتبرناها مما تأتي به الأيام والسنون،
غير أنه يتمادى ليجعل البيعة تأتي على خلفية الشنق، والكواسر، والكلاب
الجائعة:« تمايل الجسد الثقيل قليلا قبل أن يستقر على وضع ثابت شيئا فشيئا.
كانت السماء قد امتلأت بالغربان والجوارح القادمة من الصحراء بعد أن سحقها
الجوع. تعالت وقوقاتها الآتية من بعيد ثم بدأت تحوم في شكل حلقات ودوائر
فوق رأس الجثة التي همدت واستقرت بشكل عمودي. عندما بدأت الكواسر أولى
هجوماتها. كان صوت حوافر الخيل قد ملأ فجأة المكان، فهربت الكواسر مؤقتا
لتحلق بعيدا عن ساحة الزيتونة والمسجد الصغير. قبل أن تعود للهجوم مرة
أخرى. » ([19]) إنك لا تكاد تغمض عينيك قليلا حتى يتبادر إلى خلدك مشهدا من مشاهد أفلام “الوستيرن” التي تفننت هوليوود في تصويرها وعرضها.
إنها جثة “قاضي أرزيو” الذي نفِّذ فيه حكم الإعدام شنقا ظلما
في حضرة زوجته، الأمر الذي دعا “الأمير” إلى مراجعة والده “محي الدين”
والاعتراض عليه وهو ينظر إلى المعلق في الشجرة: « رفع عبد القادر لحاف
برنسه ومسح عينيه
-تبكي يا بني؟
لا، أمسح الغبار عن وجهي . كان الله يرحمه. أستاذي ومرجعي في الفقه . خسارة كبيرة. ألم يكن هناك حل شرعي أقل سوءا من الإعدام.؟»
ثم تستمر خلفية البيعة في أجواء يصنع غرابتها التناقض الكامن فيها:
« .. عندما ارتفعت الأعلام والخرق الملونة
والزغاريد عاليا كانت جثة القاضي أحمد بن الطاهر قد غطتها الكواسر وحلقت
حولها الكلاب التي بدأت تقترب منها وتتشممها . عندما سار عبد القادر باتجاه
الجثة، وقف والده بينه وبينها. كان الرجل البدين قد بدأ في فك الحبل عن
عنقها. وتركها تسقط على الأرض قليلا قبل أن يساعد المرأة الملحفة والصامتة
على وضعها على ظهر الحمار. عندما أراد أن يشدها بنفس الحبل الذي شنقت به ،
مدت المرأة يدها وتمتمت:
- خلوا الحبل عندكم باش تشنقوا به واحد آخر. الله يكثر خيركم. » ([20])
فإذا كانت البداية ولقاء القارئ
بالأمير قد تمت على هذا النحو من الأجواء الكارثية التي اشتركت فيها
الطبيعة وظلم الناس، لترسم خلفية البيعة التي أسست ميلاد أول دولة جزائرية
بالمعنى الحديث للكلمة. فإن الخاتمة هي الأخرى لا تترك القارئ إلا مثقلا
بمشاهد أعواد المشانق والجثث المتمايلة عليها.:« كانت أعواد المشانق التي
نصبت وعلقت عليها أجساد العرب الباقين واليهود تبدو من
بعيد وهي تتدلى كالعناقيد الجافة. تحيط بها الكلاب الصفراء التي خرجت فجأة
من مخابئها على الرغم من البرد والجوع والمطر. تنظر باشتهاء بينما الكواسر
تقتحم الأدخنة العالية، تخترقها بعنف لتحوم دفعات دفعات على رؤوس الأجساد
المتآكلة الأطراف والتي بدأت تتصلب وتتجمد من قوة البرد حتى أن النقرات
الأولى لم تأت بأي شيء إذ أنها ارتفعت عاليا بمناقير فارغة، فاستعدت
لمعاودة الكرة أمام كلاب زاد عددها وذئاب تنتظر من وراء الأشجار والحيطان
المهدمة إلى المشهد الذي بدأ جمهوره يزداد عددا وكثافة وتنوعا.» ([21])
5-شخصية “الأمير”:
5-1- الرقة وسرعة التأثر:
قد يزعم الروائي أنه يركز على
الجانب الإنساني في شخصية الأمير، وأنه يجتهد في الابتعاد عن الشخصية
التاريخية النمطية التي سجلتها الروايات، وأن هدفه رفع الغطاء عن الجانب
الخفي من الشخصية، فيعرضه إنسانا له أشواقه ومخاوفه، يعلو قوة ويسفل ضعفا.
وأن هذا الفعل من شأن الرواية أساسا. غير أننا حين نقبل منه ذلك، نريد أن
يكون وصف الجانب الإنساني قائما على شيء من المصداقية التي تفتح باب الاحتمال حتى لا تتعارض الرواية مع النقل تعارضا يفتح باب الشك في النوايا والمقاصد.
لقد حاول الروائي تقديم “الأمير” شابا رقيق الحس، سريع التأثر إلى درجة البكاء يوم بيعته أميرا للحرب لا للسلم. فصنع له هذا المشهد:
« عندما سار عبد القادر باتجاه الجثة وقف والده بينه وبينها … أراد عبد القادر أن يتبعها بحصانه ويستفسر عن الأمر لكن والده شد لازمة الحصان ودفع به بهدوء على الوراء.
-لا داعي إنها زوجة القاضي
أحمد بن الطاهر. قاضي أرزيو، رفضت أن يدفن في سهل غريس، فلم أمانع، قلت لها
هنا أو هناك فأرض الله واسعة. قالت: أرض الله ضاقت ولم تعد واسعة. اسمحوا
لي أن أهب به نحو تربة أكثر رحمة . هذا ما قالته زوجة القاضي أحمد بن
الطاهر.
- ما أدهشني في هذه المرأة هو قطعها لكل ها القفر لإنقاذ زوجها فعادت بجثة.
- كانت تريد أن تتقرب منك إقناعك ولكنها لم تستطع الوصول إليك .
-الله يغفر لنا جميعا ويسدد خطانا إذا زاغت أرجلنا عن المسلك القويم . ثم التفت الشيخ محي الدين نحو إبنه الذي ظل متسمرا فوق حصانه على مشهد المرأة وهي تدفع بدابتها في سهل غريس
رفع عبد القادر لحاف برنسه ومسح عينيه
-تبكي يا بني؟
لا أمسح الغبار عن وجهي . كان الله يرحمه. أستاذي ومرجعي في الفقه . خسارة كبيرة. ألم يكن هناك حل شرعي أقل سوءا من الإعدام.؟» ([22])
غير أننا حين نراجع كتب التاريخ
نجد أن الحادثة قد وقعت بتدبير من الأمير عبد القادر نفسه، وبعد بيعته
بمدة غير قليلة راجع فيها القاضي ونهاه عن تعاطيه مع المحتل.. ففي أقدم
كتاب يتحدث عن الأمير، يقول حفيده: « بعد أن فرغ الأمير من شؤونه ورسوم
ملكه نهض من خضرته معسكر في شوال سنة مائتين وثمانية وأربعين، وفي فبراير
سنة ألف وثمانمائة واثنين وثلاثين ليختبر الأحوال، ويتفقد الأعمال ويجمع
شمل الأقوال بالأفعال، ويقيم من تخلف عن البيعة على الطاعة ويحمله على سلوك
سبيل الجماعة والوطن…. فانتهى إلى مرفأ أرزيو وكان قاضيها أحمد بن الطاهر يراجع حاكم وهران ويدعوه إلى الاستيلاء على المرسى المذكورة فقبض عليه الأمير وأشخصه إلى معسكر فاعتقله بها وأقبل على شأنه من ضبط الثغور وتثقيفها فرتب الحامية … ثم ارتحل إلى الحضرة.» ([23])
فهذا الخلل التاريخي في الرواية
يخلخل الأساس الذي بنيت عليه نفسية “الأمير” فلا مجال إذن للتعاطف مع قاضي
أرزيو الذي تحالف مع العدو وحرضه على احتلال الميناء، ذلك المنفذ البحري
الذي كان يستخدمه الأمير في جلب البارود الأسود والأسلحة من إسبانيا
وغيرها. فدعوة القاضي لاحتلال الميناء لا يمكن تفسيرها إلا بالخيانة العظمى
التي تسعى إلى اجتثاث الدولة الناشئة. فبعد:« انصراف الأمير من القتال
بلغه أن أهل أرزيو ركنوا إلى الفرنسيين بدسائس قاضيهم المعتقل في معسكر وأقاربه وأنهم أحضروا شرذمة من عسكر وهران لحمايتهم. ثم
دس إليه رجل منها اسمه طوبال، أنه يخرج كل يوم مع ضابط المعسكر في طلب
الصيد. وعين له المحل الذي يبتغونه فيه. فركب الأمير في الحال وخلف جموع
الغرابة ومن يليهم على حصار وهران. وبعث الأسرى إلى معسكر. وأغزى السير إلى
أرزيو، وكن في القرب من الموضع الذي عينه طوبال. فلما خرج الضباط وأتباعهم
في معية طوبال، فاجأهم الأمير بخيله وحال بينهم وبين البلد. فدافعوا عن
أنفسهم، واتهموا طوبال في أمرهم. فعدا عليه أحدهم بسيفه وقتله، ثم أظهروا
علامة التسليم وألقوا السلاح. فأمنهم الأمير وجعلهم تحت الحفظ، وتقدم إلى
البلد ففرت حاميتها إلى المراكب وأقلعت بهم إلى وهران. ودخل الأمير، فقبض
على من توجهت إليه التهمة في مواطأة حاكم وهران في هذه القضية، وأصلح شأن
البلدة، وثقف أطرافها، وأنزل فيها حامية كافية، وانفتل راجعا إلى الحضرة.
فأنزل الضباط في دار الضيافة، وأمر بإكرامهم والقيام بشؤونهم. وعقد
للقاضي أحمد بن الطاهر البطيوي مجلسا خاصا من العلماء فأمعنوا النظر في
أمره وقامت البينة عليه فحكم المجلس بقتله ، فسُمِلت عيناه وقطعت يداه،
ورجلاه، ووضع في حفرة، في ساحة الصراية إلى أن مات بعد ثلاثة أيام.» ([24])
إن المشهد الذي قدمه الروائي
أقل فظاعة مما روته كتب التاريخ عن نهاية القاضي، وأشد مأساوية، إلا أنه
حكم الشريعة فيمن خالط العدو وحرضه على المسلمين وهو القاضي الذي يعرف شرع
الله U وحكمه في أمثاله. فلو صدرت الخيانة من غيره جهلا أو ضعفا أو طمعا
أو خوفا، لكان للحكم شأن آخر. فقد لجأ العلماء إلى ذلك الصنيع تشهيرا بأمر
القاضي ليكون رادعا لكل من تسول له نفسه التعامل مع العدو. وهي الحادثة
التي تكشف عن صلابة شخصية الأمير وشدته في الحق، عكس ما حاول الروائي بيانه
في سرده. إننا من خلال نص التاريخ نشهد أميرا يكرم عدوه الأسير، ويعاقب
مواطنه الخائن العالم، عقوبة شديدة الوقع في النفوس. لا يقرر حكمها من
تلقاء نفسه، وإنما يعقد لها مجلسا من العلماء.
5-2-التذبذب في العقيدة:
ترك الأمير عبد القادر الجزائري
في المخيال الثقافي والشعبي صورة يصعب تجاوزها حتى على سبيل الخلق الفني.
ذلك لأن شخصيته توزعت على محاور ثلاث في كل تراثه الفكري والأدبي والسيري.
يمكن تفصيلها على النحو التالي:
-العالم:الزاهد/التصوف.
-المجاهد:السيف/القلم.
-الإنسان: الشاعر/المحب.
وفي كل سفر من الأسفار الثلاثة
يجد الدارس فيضا من العطاء غزير المنابع متعدد المشارب. فالعالم، الزاهد،
المتصوف، اغترف من منابع العلوم الشرعية ما مكَّنه من مجالس الإفتاء
والتدريس، وإدارة المناظرات، والاطلاع على الفنون والفلسفات. وفتح له
التصوف باب الإتباع وتهذيب النفس، وتثقيف الجوارح، وتأكيد الإيمان. ومكَّنه
المجاهد من ركوب الأهوال، ومناطحة الأقران، والخروج في سرايا المغازي،
باذلا النفس والنفيس. فإذا انقلب إلى أهله كان فارس قلم وطرس، يرود مجاهل
المعرفة، ويرد حياضها. أما إذا خلا بنفسه فشاعر رقيق الحواشي، لين
العبارات، دقيق التلمس لحقائق الأشياء والمعاني.
إنها الصورة التي لا يمكن
اختصارها أكثر من ذلك. إلا أن الروائي يقدم هذه الشخصية في محاور أخرى
تنافيها وتستدبرها. وكأنه يريد أن يخرج للناس “أميرا” آخر لا يعرفونه، فلا
هو منهم ولا هم منه في شيء. إنه المتذبذب في عقيدته، لا
يزال في حيرة من أمر دينه. أهو على حق أم باطل؟ ففي لوحة أخرجها الروائي
يقدم لنا فيها الأمير على الهيئة التالية مخاطبا “مونسنيور ديبوش”: « بدأت أقرأ كتابكم الإنجيل. وفي فترة إقامتك بجانبي أتمنى أن تسمح لي بمساءلتك عن بعض القضايا الغامضة. لم تتح لي الحروب والتنقلات المستمرة إلا قراءة شذرات صغيرة منها هنا وهناك. ولكن هذه المرة أنا مصمم على قراءته كاملا وفهمه إن أمكن. سادتنا القدماء فعلوا مثل هذا الأمر دون أن يختل إيمانهم.
-الإيمان في القلب، وما في القلب لا يعلمه إلا الله. أنا مستعد من كل قلبي لأسئلتك.
-متيقن أن قلبك لن يتوقف عن فعل الخير. حدثني كأخ ولا تقلق من أخطائي . فالنية الطيبة هي سيدة السؤال والمقصد.
- لك كل المحبة التي تقربنا من بعض حتى ولو اختلفنا. لتستقر روحانا داخل نفس الحقيقة الإلهية الكبيرة.» ([25])
قد يبدو هذا التمهيد طبيعيا أول
الأمر، فنحن أمام سجين يجد فسحة من الوقت لقراءة ما يقع تحت يده من الكتب.
وقد يكون الأمير في حاجة لأن يعرف عن الإنجيل والمسيحية ما يمكِّنه
باعتباره عالما من مناظرة الأساقفة والرهبان، وهم يقبلون عليه لمعاينة هذا
المنشق الذي تجرأ على محاربة فرنسا. وأن الأمر مثلما يقول هو نفسه، ليس فيه
ما يضر إيمان صاحبه. غير أن الروائي يمضي بنا سريعا إلى موقف آخر لا نجد
له تفسيرا سوى أننا إزاء شخصية ليس لها من يقين تركن إليه، وأنها قد تنقلب
على عقبيها مرتدة عن دينها. فهو يقول على لسان “منسنيور ديبوش”:
«-لا أدري من أين جاءني كل هذا. ولكني أحبك أكثر مما يمكن أن تتصور. لك في قلبي مكان واسع. وفي ديني متسع لا يفنى ولا يموت.
- روحك أنت غالية علي ، ومستعد أن أمنح دمي لإنقاذها
بقلم: أ.د. حبيب مونسي*
المحرر | أكاديميا, دراسات وأبحاث | 2010.09.102tweetsretweet
قبل البدء:
هل تعيد الرواية اليوم في ظل فكرة نهاية التاريخ، إعادة كتابة التاريخ تحت الطلب
من وجهة نظر إعادة صياغة الماضي لتفسير الحاضر والمستقبل.؟ ألم يكن
التاريخ يوما سوى رواية لأحداث من زاوية فردية عايشت الحادث وأسبغت عليه
رؤيتها الخاصة؟ أليست الرواية هي الأخرى رواية لحادث من زاوية فردية عايشت
المتخيل وأسبغت عليه رؤيتها الخاصة؟ ألا يقرِّب هذا الطرح الشقة بين
الرواية والتاريخ ليجعلهما نشاطا واحدا. يشتغل الأول على الواقعي، وينصرف
الثاني إلى المتخيل؟ وما مسافة الفاصل بين الواقع والمتخيل؟..
هل يجوز للراوي انتهاك حرمة الواقع الحادث ليعيد موقعته في سياق متخيل،
تتحول معه دلالته من معنى إلى آخر تمليه اعتبارات مضمرة تفرزها الصراعات
الجديدة المصاحبة للعولمة؟ هل كان فيلم “آلام المسيح” ” PASSION OF THE
CHRIST “للمخرج الأمريكي “ميل جبسون” ” Mel Gibson“عملا
فنيا عن المسيح، يعيد تصوير آلام الصلب فقط؟ أم أن الفيلم عرض لتاريخ
تجاهد اليهودية العالمية لإخفائه واستصدار وثائق البراءة منه؟ هل كانت
“شفرة دافنشي” ل”دان براون” “Dan Brown”مجرد رواية تاريخية ذات نكهة
بوليسية وحسب؟ أم أنها خلخلة لقناعات تاريخية متجذرة منذ 2000 سنة في
الوجدان المسيحي؟ أم أنها ردة فعل يهودية على فيلم “آلام المسيح”، على سبيل رد الصاع صاعين؟…
هل يجوز لنا الساعة أن نرى في رواية الأمير للأعرج واسيني استكتابا للتاريخ من وجهة نظر تعيد تشكيل صورة الأمير في الوجدان الجزائري على غير الهيئة التي رسمها التاريخ الرسمي، وأن يسمعنا ويرينا منها مواقف لا تكاد تخطر على بال أحد؟
هل تسعى الروائية إلى أن تطرح نفسها اليوم بديلا للتاريخ
بعدما انتهى التاريخ وتبدد في تعدد وجهات النظر والتفاسير والتأويلات.. إذ
ليست نهايته في انتهاء الصراع كما زعم “فكوياما”" Francis Fukuyama “وإنما
نهايته في انتفاء عدم اليقين الذي انجرت إليه التفسيرات الإعلامية
المتعددة للحادث الواحد؟
1-الرواية والتاريخ:
ليس من العسير على الدارس أن
يسجل سلسلة الفروق التي تميز الرواية عن التاريخ جنسا، غير أنه حين ينظر
إلى الألفاظ في دلالتها المعجمية الأولى سيجد تداخلا بين اللفظين، حين يلمس
أن الرواية هي التي تسجل التاريخ، وأن ليس للتاريخ من قيامة إلا بها. وكأن
الرواية في دلالتها المعجمية هي ذلك الضرب من القول أو التسجيل الذي
يمكِِّن الحادث من الثبات والرواية زمانا ومكانا. ومنه يكون التاريخ سلسلة
من المرويات التي يُستعاد بفضلها الماضي إلى خضرة الحاضر عبر اللغة.
أما إذا نظرنا إلى الرواية جنسا أدبيا كان لنا منها شأن آخر غير فعل الحكي الذي يستعيد الذكرى ويرويها، وإنما هي إنشاء وتكوين عبر اللغة لواقع متخيل أو حقيقي.
فإن كان الواقع المحكي متخيلا كانت حكاية أو رواية أو قصة.. أما إذا كان
الواقع المحكي واقعا حقيقيا منتهيا كانت الرواية تاريخا بالمعنى الاصطلاحي
للكلمة. بيد أن ما يهمنا في هذا الموضع ليس الفرق بين الرواية والتاريخ، أو
التداخل الحاصل بينهما، لأننا ندرك جيدا أن: « أن الرواية التاريخية من
عمل الروائي أو الأديب, وتبدو فيها الذاتية والخيال واضحين للعيان, بينما رواية التاريخ من عمل المؤرخ, وتبدو فيها, أو ينبغي أن تبدو فيها, الموضوعية والواقعية, وهما من عناصر التكوين الرئيسية في العرض التاريخي, ومن هنا ينبغي أن نفرق بين طبيعة عمل الروائي وطبيعة عمل المؤرخ, من حيث المنهج, ومن حيث الهدف, ومن حيث الأسلوب.» (
[1]) فالاختلاف إذن قائم بين الرواية والتاريخ على محورين: محور الذاتية والموضوعية والخيال والواقعية من جهة، ومحور المنهج والهدف والأسلوب من جهة أخرى.
لقد كانت الذاتية والموضوعية
حجر الرحى الذي تدور حوله كافة الخصومات بين منتهجي البحث العلمي في
ابتغائهم العلمية لما يكتبون ويسجلون. غير أننا في كل تسجيل لا يمكن أبدا
أن نلغي الجانب الذاتي ما دامت الذات هي التي تسجل الحادث متخيلا كان أو
واقعيا. أما شأن الموضوعية فمتروك للمقاصد التي يؤطر عملية التسجيل وتحدد
الهدف المتوخى من ورائها. لذلك ينصرف الهم اليوم إلى بحث مسألة المنهج
والهدف والأسلوب.. فتكون الإشكالية على هذا النحو قائمة على كشف الطريقة التي يُتَناول بها الموضوع، وكيفية السير فيه لتحقيق الهدف المسطور قبلا، وما هو الأسلوب الأنجح لتأدية ذلك الدور الخطير.
قد يكشف التبسيط الذي تعرض به بعض الحقائق خطورة التحول في الوظيفة.. وظيفة الرواية
بعيدا عن التاريخ. لأننا في تبسيطنا للفروق نقول:« أن التاريخ هو رواية
الماضي بينما القصة أو الرواية التاريخية هي نوع من الإبداع أو التأليف
المعتمد علي شيء من رصيد ذلك الماضي. وبهذا التحديد الواضح لدلالة
المصطلحين, يتضح أنه بقدر ما يكون الكاتب قريبا من حقائق الماضي يكون
قريبا منالتاريخ, وبقدر ما يكون قريبا من الخيال بعيدا عن الحقائق يكون قريبا منالرواية, وفي الحالين فإن ما نكتبه هو نوع من القصص.» ([2])
وبذلك ينتهي التعريف عند عتبة القصة.. وأن التاريخ مجرد قصة قد يكون لها
حظ من الواقعية، وقد تفتقر إلى ذلك الحظ. وكونها في كلتا الحالتين مجرد
قصة، فإنه يمكن أن يستعاض بها عن التاريخ كما عرفته المؤسسات التربوية
الرسمية.
2-الرواية بديلا للتاريخ:
إذا كان المفكرون أمثال
“فوكوياما” “Francis Fukuyama” قد ربطوا بين التاريخ والصراع، ورأوا أن
الصراع بمفهومه القديم قد انتهى، وأن ما كان يتفصد عنه من تاريخ كذلك قد
ولى، وأنه لم يعد للتاريخ من ضرورة باعتباره سجلا لإفرازات الصرع، فإنه قد
صار من الممكن للرواية أن تأخذ مكانه، وأن تسد مسده، وأن تقدم للناس تاريخها الخاص. لأنه :« يمكن القول في ثقة بأن القرن العشرين قد غرس فينا تشاؤما تاريخيا عميقا» ([3]) ذلك التشاؤم الذي يفسر غربة الإنسان عن الأحداث التي تصنعه ويصنعها، في زمان ومكان معينين، فإذا عادت إليه مرة أخرى، فإنما تعود “نصا” يجعل المؤرخ وجها لوجه:« أمام خطابات وليس أمام وقائع، الشيء الذي يعني أنه يتحول إلى مؤول للخطاب ثم مؤول لموضوع الخطاب. .لذلك يسود أسلوب التحقيق والتمحيص، فيصبح، من ثمة، الحجاج مهيمنا على أسلوب الكتابة التاريخية، للعمل على إقناع المختص قبل القارئ العادي بمصداقية المستندات ومصداقية التحليل. وكل ذلك بهدف تضييق الهوة بين الواقعي والمحتمل.» ([4])
فالالتفات من الحادث الواقعي إلى النص، جعل الكتابة التاريخية تبتعد عن
أسلوب المرويات السلسة، التي يسهل مأخذها، وتقترب من أساليب الفلسفة
الحجاجية معتمدة على المنطق والجدل، ومن ثم انحصرت الكتابة التاريخية في
دائرة النخبة ولغتها. في حين استرسلت الرواية بعيدا عن كل ذلك، تستعير من
الشعبي أساليب القص. إن:« المؤرخ لا يسعي للاحتفاء بالتاريخ, ولا يسعي لإبهار الجمهور,
لأن ذلك ليس من بين أهدافه الرئيسية... ولكن يبقي هدف المؤرخ الرئيسي
هو الحقيقة, أما الروائي فيعمل بحرية لا يتمتع بها المؤرخ, فعلي عكس
التاريخ الذي يبني علي الحقائق وحدها, يستطيع الروائي إضفاء رؤيته الخاصة
بتوسع في اتجاهات مختلفة, مستخدما فيذلك كل الوسائط الممكنة لجذب القارئ, فيضفي علي عمله مالا تستطيع الحقيقة وحدها أن تقدمه,» ([5])
فكانت بذلك الصنيع نقطة التحول في وظيفتها لتلامس جمهورا واسعا جدا من
المثقفين، الذين تبدأ صلتهم بالموضوعات بداية حب الاطلاع، أو الدوي الذي
تحدثه رواية في وسائل الإعلام.
إننا نتذكر رواية “شفرة دافنشي” ” Da Vinci Code“ل
“دان براون” ” Dan Brown” وما اكتنف ظهورها من ردود أفعال تراوحت بين مؤيد
راح يتهم الكنيسة بالكذب والتدليس والغش والخيانة، ومكذب حاول جاهدا دفع
التهم التي حملتها الرواية مدعومة بالأدلة والبراهين تؤيدها المخطوطات
واللوحات الفنية والنقوش على واجهات الكنائس. لقد وجدت الكنيسة نفسها في
وضع حرج فالتزمت الصمت، وأغلقت أبواب المساءلة، ولم نجد سوى رد جماعة “أبوس
ديي” “Opus Dei” ([6])
التي اجتهدت في نشر بيان على موقعها بالشبكة، لترد التهم التي وجهتها
إليها الرواية في كتم الأسرار، واستمرار الممارسات الوثنية في الديانة
المسيحية.
لقد كُتب ونُشر العديد من
الدراسات التاريخية حول المسيحية وصلتها بالوثنيات التي كانت سائدة في
أوروبا في القرنين الأول والثاني، وكذا الفلسفات الأفلاطونية التي تبنتها
الكنيسة لتفسير كثير من مقولاتها المتصلة بالعالم الأخروي، والمقولات
العلمية التي كانت قائمة لتفسير الكون نشأة ونظاما وسيرا، كنظام “بطوليمي” “Ptolémée” الذي اعتمدته الكنيسة رسميا لتفسير كوسمولوجيا الكتاب المقدس، والتي ثار عليها فيما بعد كل من “كوبرنيكوس” “Copernic” و”غاليليو” “Galilée“. غير أن هذه الدراسات “العلمية الموثقة”
لم تثر اهتمام العامة من الناس، وأبقت الحوار محصورا وراء أسوار المؤسسات
العلمية. ولكن رواية “دان براون” هبت على الناس مثلما تهب رياح السموم لا
تأتي على أخضر إلا وجعلته كالرميم، فاهتاج الناس، والتفوا حول أسوار
الفاتيكان، وطالبوا الكنيسة بالحقيقة.
إننا لو ربطنا الحقائق مع بعضها بعض، تبين لنا الدور الجديد الذي صار يقوم به الفيلم والرواية. لقد كان فيلم “آلام المسيح” ” PASSION OF THE CHRIST” الذي تعمَّد مخرجه “ميل جيبسون” Mel Gibson” إدارة الحوار فيه باللغة العبرية القديمة، بعد أن افتك اليهود من البابا ” جون بول الثاني” وثيقة براءة اليهود من دم المسيح،
تحديا صارخا للغطرسة اليهودية وابتزازها للمسيحية ماديا ومعنويا. فلم تمض
السنة والسنتان حتى خرج من العدم مؤلف روايات بوليسية مغمور إلى عالم
الشهرة برواية لم تقدم جديدا في لغتها ولا في حبكتها، وإنما كان جديدها أنها طرحت نفسها بديلا للتاريخ والحقيقة التاريخية.
لقد بحث كثير من الدارسين عن سر
شهرتها، فقد كتب “إبراهيم عبد الله” يقول:« فما السر الذي يشدّ عدداً
هائلاً من القراء للاطلاع على رواية احتفظت بأفضل أرقام التوزيع قاطبة بين
الكتب منذ صدورها إلى الآن؟ علماً أنها نالت تقريظاً استثنائياً من النقاد
والجمهور، ويجري تحويلها الآن إلى فيلم Columbia Pictures سيعرض في ربيع
عام 2006م. إذا افترضنا أن ذلك جزء من رهانات الرواية التي تجتذب انتباه
العالم بصورة متواصلة نكون واهمين، إذ تصدر يومياً عشرات
الروايات في شتى أرجاء العالم، وكثير منها يعتمد تقنيات سردية مشوقة، لكنها
سرعان ما تنطفئ، أو لا تثير اهتماماً يذكر. وإذا قلنا إنها لكاتب شهير، فذلك ليس بصحيح،
فهذه الرواية هي التي جعلت مؤلفها على كل لسان، وهو في مقتبل عمره الأدبي
(من مواليد سنة 1964) وليس له سوى روايتين قبلها لم تلفتا الاهتمام إلا بعد
صدور «شفرة دافنشي». وإذا قلنا إنهااعتمدت تقنية الرواية البوليسية،
فآلاف الروايات البوليسية منذ «أغاثا كريستي» إلى الآن اعتمدت هذه
التقنية، فلا تتفرد «شفرة دافنشي» عن سواها من الروايات البوليسية. ونكون أيضاً على خطأ إذا حسبنا هذه الرواية ظاهرة خاصة توافرت الصدف الإعلاميةلجعلها في مثل هذه الشهرة النادرة، فقد ظهرت في ذروة أزمة عالمية شديدة الأهمية، صرفت الانتباه عن الأدب والفكر، وهي احتلال العراق. فأين إذن يكمن سرّها؟.» ([7])
إن الميزة إذن ليست في ابتداع فني جديد وُفِّق إليه المؤلف في حين غفلة
غيره من المبدعين، وإنما الشأن شأن الطبيعة الجديدة التي امتلكتها الرواية
من خلال موضوعها، وصلتها بالتاريخي. فقد شكر “دان براون”:« في مقدمة
الرواية كتيبة من الباحثين المتخصصين في شؤون الدين والفن
على جهودهم في توفير المعلومات الدقيقة التي ضمنها الرواية، بل وأكد «أن
وصف كافة الأعمال الفنية والمعمارية والوثائق والطقوس السرية في هذه
الرواية هو وصف دقيق وحقيقي». وهذه ليست خدعة سردية يريد منها المؤلف أن
يدفع بالقارئ إلى تصديق المعلومات التي أدرجها في روايته، إنما هي معلومات استقاها المؤلف من مصادر تاريخيةموثوقة، وكثير منها معروف للمتخصصين في الدراسات المسيحية، فلا يمكن عد الرواية مصدراً لمعلومات مجهولة.» ([8])
ولم يكن “دان براون” ليغامر متزيِّدا على تاريخ المسيحية بشيء، وإنما كان
سحر الرواية في الكيفية التي عرضت بها نفسها، مسفهة أحلام المؤسسات الرسمية
التي ترفع تاريخها الخاص في وجه العامة من الناس. فكانت الرواية ذلك الوجه
الثاني الذي استغل ريبة الناس في هذا القرن في المؤسسات مهما كانت
شرعيتها، والتفاتهم إلى ما يقوله الغير في لغته وأساليبه الخاصة.
3-خطورة الرواية:
إذا سلمنا بأن الرواية
التاريخية تطرح نفسها اليوم –في خضم الفوضى الإعلامية وكثرة الأصوات –بديلا
للتاريخ، تقدم حقيقة أخرى غير التي ترفعها المؤسسات الرسمية، وتعمل على
ترسيخها في أذهان الأجيال من خلال المقررات الدراسية ووسائل الإعلام،
معتمدة في ذلك الأساليب الشعبية القائمة على الإثارة والدهشة والتهويل،
فإنه يتعين علينا أن نسلم بخطورة الرواية وهي تنتحل هذه المهمة، وتلبس هذا
الرداء. وقد طُرح السؤال عاريا فيما يتعلق ب”شفرة دافنشي” وكان الرد في
جميع الثقافات واحدا. يقول “عبد الله إبراهيم” :« أجد في هذه الرواية مزجاً شديد الذكاء بين مادة تاريخية-دينية -أسطورية، وإطارسردي يعتمد أسلوب البحث المتقطع، والمتناوب، والسريع، فالرواية من روايات البحث والتحقيق، شأنها شأن رواية «اسم الوردة» ” لأمبرتو إيكو” “Umberto Eco” التي صدرت في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، ولاقت شهرة مماثلة، فالروايتان تنهلان من المادة التاريخية حول المسيحية بطريقة البحث والتحقيق، وتهدفان إلى إزالة الشوائب الزائفة حولها، فيمايعتقد المؤلفان. تقدم الرواية نقضاً متتابعاً للمسلّمات التي ترسخت في وعيالمسيحيين، عن شخصية المسيح، وأسرته، وعلاقته بالمرأة، ثم تكشف الاستراتيجية التياتبعتها الكنيسة في إعادة إنتاج المسيحية بما يوافق مصالح البابوات وكبار رجالالدين منذ القرن الميلادي الثالث إلى اليوم، وبذلك تهدم اليقينيات المتداولة فيأذهان المؤمنين بالعقيدة المسيحية التي رسخها التفسير الكنسي الضيق للمسيحية،وتقدّم وجهة نظر مغايرة لوجهة نظر الكنيسة عن كل الظروف التي رافقت نشأة المسيحيةالحقيقية.» ([9])
وما يحمله الشاهد في طياته، يُعدد مكامن الخطر في الرواية التاريخية التي
تزعم أنها –عبر المتخيل-تحاول إنارة الجانب المظلم من التاريخ. غير أنها لا
تعمل إلا على:
-مزج المادة التاريخية بالديني والأسطوري والمتخيل.
-تهدف على إزالة الشوائب عن الروايات الرسمية.
-تهدم اليقينيات المتداولة في أذهان الناس.
-تقدم وجهة نظر مغايرة للرسمي المؤسساتي.
وحين نلتفت إلى شاهد آخر، نقع على نفس المخاوف يسجلها “فكتور لوبان” ” Victor Loupan ” في رده على السؤال التالي:
إلى أي مدى يشكل دان براون خطرا على الكنيسة الكاثوليكية؟
فيكتور لوبان: ليس دان براون
حاذقا في مجال التسويق يستخدم كافة الوسائل المتاحة، إنه كذلك مفكر. فإذا
نظرنا إليه من خلال “شفرة دافنشي” و”ملائكة وشياطين” تبين لنا أنه يتبع
مشروع خلخلة مصداقية الكنيسة الكاثوليكية في أوساط الجمهور الواسع. ففي
روايته الأولى، يقرر أن سبب كل شيء هو الكذبة الكبرى لروما، التي نسخت
الأناجيل وشكلت قوانينها لإخفاء دور ماري المجدلية. في الثاني فهي كذبة
“مؤامرة التنويريين” التي اخترعت في الفاتيكان لخدمة الفاتيكان. فالروايتين
إذن هما طوربيدان ضد المسيحية، وخاصة ضد الكاثوليكية. إن مهمة دان براون
سهلة بمكان، لأنه في مقدوره أن يصرح بكل شيء يخص الكنيسة الكاثوليكية
والمسيحية، مادامت ثقافة العامة تجهل كلية الأفكار والتاريخ. ([10])
إن “دان براون” حسب “فكتور لوبان”:
-مفكر يهدف إلى غاية ( صاحب مشروع).
-تشكيك الجمهور في مصداقية الكنيسة الكاثوليكية.
ولكل ذلك يستغل “دان براون”
آليات الرواية وسلاسة خطابها لتكون عوضا عن جفاف لغة التاريخ وتشنُّجها،
وخلوها من التعاطف مع الأحداث. إنها لغة باردة برودة رماد المواد المستهلكة
التي فقدت حرارتها، وخبت عنها جذوتها. أما لغة الرواية فإنها الشعلة التي
سريعا ما تمتد خارج تنورها لتلتهم الأخضر واليابس. حسبنا فقط أن نقرأ
عناوين الدراسات والردود التي كتبت إبان صدور الرواية من الطرفين: المؤيد
والمعارض، وفتح سجلات تاريخية ما كان العامة ليلتفتوا إليها لولا صنيع
الرواية([11]). ألم يقل “فكتور لوبان” بأن العامة يجهلون كليا الأفكار والتاريخ المتعلق بالكنيسة في قرونها الأولى؟.
وقد يبدو السؤال التالي الذي
وجه إلى “فكتور لوبان” أكثر دقة فيما يتصل بالرواية البديل للتاريخ، لأنه
يكشف عن الغاية التي سطرت من أجلها رواية “دافنشي كود” ويفضح الهدف البعيد
الكامن وراء تجاوز التاريخ إلى متعة القراءة المسمَّمة.
-هل هي روايات ضد دينية؟
فيكتور لوبان: نعم ولا،
الروايتان تهاجمان بنفس الدرجة: المؤسسة الكنيسة والإيمان الكاثوليكي. فإذا
صدقنا دان براون، فإنه على الكاثولكيين الأذكياء عدم الإيمان بإله شخصي
(أب، ابن وروح) متجاوزا كليا الإنسان، ولكن الإيمان بإله “طاقة” يجعله
الإنسان في خدمته. هكذا وحسب اعتقاده، فليس هناك سوى إمكانيتين: إما أن
تهرب الكنيسة من العلم، ويكون لها عين مصير الديناصورات. وإما أن تتحالف مع
العلم، وذلك يعني أن تعترف بعدم جدوى الإيمان. ففي كلا الحالتين تختفي
الكنيسة والإيمان معها. ([12])
فالأهداف البعيدة إذن هي:
-عدم الإيمان بالتثليث.
-الإيمان بإله في شكل “طاقة.” يوظفه الإنسان لصالحه.
-وضع الكنيسة في خيارين أحلاهما مر: إنكار العلم، أو التحالف معه. وكلاهما يعرضها للزوال.
-التحالف مع العلم يفرض عليها الاعتراف بعدم أهمية الإيمان.
لقد عرفت رواية “دان براون”
-منذ العتبة الأولى- كيف تقدم نفسها للجمهور على أنها الجديد في موضوعها،
والجديد في عرضها، والجديد في شكلها، وأنها لا تخاطب المؤسسة، بل تعلن منذ
البدء قطيعتها معها، وتعلن عداءها لها. فعنوان الرواية:« “شفرة دافنشي” بحد
ذاته يشير عبر كلمة (شفرة) إلى محاولة للتملص من السلطة المتحكمة بالفعل
التدويني، لتغدو كلمة “شفرة” ذات دلالة مزدوجة، تعبر أولا عن مصلحة فئة أو
جماعة في تمرير معرفة ما إلى الأجيال اللاحقة من جهة المؤسسة الدينية
وإنتاج التأريخ .» ([13])
فهي عمل مضاد لا يخفي أهدافه ولا يتستّر خلف المفارقات التي تفصل بين
الرواية والتاريخ، ولا تتملَّص من المسؤولية المترتبة عن أفعالها. بل تريد
أن ترى أهدافها مجسدة في كل قراءة ولدى كل قارئ. لأنها:« تنشغل بمقاومة التاريخ الرسمي
الذي سيطرت الكنيسة على إنتاجه، إلى الحد الذي مكَّنها كسلطة اجتماعية
وسياسية من إعادة صياغة المسيحية كدين يناسب المؤسسة الدينية التي تمثلها،
فقد أطاحت بالرموز والآثار التي تركتها الديانات الأخرى، وخاصة ما يتعلق
منها بالأنثى المقدسة، وما لحق ذلك من اضطهاد للمرأة حوَّل المسيحية إلى
دين ذكوري.».
4-كتاب الأمير: العتبة والبدايات.
على النحو الذي لمسناه مع رواية “دان براون” فإن رواية الأعرج واسيني “كتاب الأمير. مسالك أبواب الحديد”
تقدم نفسها على أنها عمل يقع خارج الرواية بمفهومها الاصطلاحي لأنها
“كتاب” و أن هذا الكتاب منسوب إلى “الأمير” وبذلك تفتح هذه العتبة في وجدان
القارئ العربي تداعيات الألفاظ وما يتلبَّس بها من معاني تتصل أساسا
بمفهوم “الكتاب” الذي يحيل سريعا على ما يتلوه المسلم في مطلع سورة البقرة،
بعد بسم الله الرحمن الرحيم ) ذَلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى
لِلْمُتَّقِينَ ({البقرة:2} حيث يتصف الكتاب باليقين والهداية. ومن ثم
يُقبل القارئ على مادة لا يأتيها الريب من بين يديها ولا من خلفها. كما أن
لصفة الأمير وقع آخر في الوجدان الجزائري ارتبط بالجهاد ومحاربة العدو منذ سنوات الاحتلال الأولى. فهو رمز الرفض والمقاومة وحماية بيضة الدين والذود عن الأرض والمحارم.
فاتصال اللفظين مع بعضهما البعض يفتح في النفس آفاق الترقُّب المطل على
صنيع يتجاوز الرواية التي تطمح إلى التسلية والترفيه، إلى عمل يضاف إلى
مآثر الأمير، فيجدد صورته في الوجدان الشعبي على غرار ما صنع التاريخ في
الذاكرة الرسمية.
أما العتبة الثانية “مسالك
أبواب الحديد” فقد ينصرف فيها الذهن إلى المعاناة التي كابدها الأمير في
سجن “لمبواز” أسيرا، وفي سجن المنفى غريبا. غير أن الذين أقبلوا على
الرواية لم يكترثوا كثيرا للعتبة الفرعية بقدر ما توقفوا عند الأولى، ولما
باشروا القراءة، كان الأمير غائبا عن الساحة السردية التي
احتلتها شخصية “مونسنيور ديبوش” ” Monseigneur Antoine Dupuch “الذي كان
البطل الفعلي للرواية ومحركها منذ البدء، وكل ما روي عن الأمير كان من قبيل
تأثيث جهود ” مونسنيور ديبوش ” لفك مسالك أبواب الحديد.
4-1-مشاهد البدايات:
يرى كثير من النقاد أن البداية
في أي عمل روائي هي الداعي إلى قراءة الرواية والإيغال فيها، أو هي
الصارفة عنها. بل يزعم البعض أن في البداية تتكشَّف أهداف الرواية، وتظهر
أولوياتها جلية للعيان، فيعلم القارئ لمن كُتبت؟ ولماذا كُتبت؟ أو على أقل
تقدير يدرك المنحى الذي ستسير فيه الأحداث، والوجهة التي ستأخذها. لأنه :«
لا يمكن للنص الروائي أن يوجد بدون بداية، إنها مكون بنائي. بيد أن ما تعمل عليه في العمق ضبط مختصر الرواية، أي محاولة تقديمها ملخصة بدقة وشمولية، ففي أكثر من نص يكفينا التعامل مع البداية لمعرفة مجريات الأحداث ولواحقها… وبمجرد الإتيان على قراءتها يتم طرح السؤال: وماذا بعد؟ ما الذي سيكون؟ » ([14]) وكأن الرواية تقوم بتكييف
المتلقي ليضبط استعداداته على موجات معينة حتى يألف اللغة، ويتعرف على
العوالم التي يدخلها بهدوء أو بعنف، مخترقا أجواء غريبة الأمكنة والأزمنة،
أو مألوفة الحدود والنعوت. فالبداية تلقي بالقارئ في عالمها المتخيل،
فيشكِّل معها جهازه المفاهيمي الذي يحاول أن يتعرف من خلاله على الأشياء
والمعاني. ([15])
إن رواية “كتاب الأمير” توقفنا
على شخصين غريبين ينفضان “رماد” جثمان ” مونسنيور ديبوش ” في عرض البحر
أمام الجزائر العاصمة التي مات بعيدا عنها، ولكنه أصر في وصيته أن يعود
رماده إليها بعد موته، تعبيرا عن حبه لها، وكأنه يرفض الانتماء إلا إليها
ولو رمادا يُذرُّ في خضرة بحرها فجرا.
لقد كانت الطقوس التي
حملتها البداية غريبة عن القارئ العربي، الذي لم يتعود مثل هذا الفعل في
ثقافته وتراثه، ولم يألف هذا الحب الذي ينكر فيه الواحد انتماءه إلى وطنه
الأول ليهدي لأرض اغتصبها رماد جثمانه. لم يكن هذا المذرور رمادا واحدا من
عامة الناس، وإنما كان أسقفا للجزائر رافق عمليات الاحتلال الأولى، وفاوض الأمير في الأسرى والمعهود. وعودته على هذا النحو لا يمكن أن تُقرأ على أنها نزوة من نزوات بعضهم، وإنما يجب أن تنصرف إلى رمزية ستكون لها دلالتها في عمق النص وأحداثه.
قد تسمح هذه التقنية، التي
موقعت الحكي في سنة 28 جويلية 1864. باعتباره بداية للرواية، آلية الارتداد
إلى الخلف على سبيل الذكرى، فيسهل استعراض الأحداث على الهيئة التي يريدها
الراوي بسهولة ويسر. فلا يلتزم الراوي بشرط الكرونولوجيا الزمنية وتوالي
الأحداث، بل يكفيه استدعاء الأطراف التي يريد تحريكها كلما عنَّ له ذلك، أو
وجد له داعي الاستدعاء خدمة لغرض من الأغراض السردية. فإذا كانت شخصية
“مونسنيور ديبوش” بثقلها الإكليريكي تختار أن تنتهي رمادا في بحر الجزائر –
وقد كان بإمكانه أن يدفن جسدا في العاصمة المحتلة، وفي فناء “كتشاوة” الذي حوله إلى كنيسة-تحضر
في البداية على هذا النحو لتخلق ضربا من التعاطف مع القارئ الذي يعاني
وطأة الاستعمار ثقافيا من خلال الرواية على الأقل، فإن حضورها يفرض على
الروائي أن يوهم القارئ: « بالصدق، (وبأنه) يسرد ما يوازي العالم الخارجي…
ومن ثم فالإقناع عبر المسيرة السردية همُّ وهدف الروائي…. » ([16])
فقد استطاع الروائي أن يرفع إلى القارئ جوا مشحونا بالهيبة، لا يشاكله
الجو الجنائزي المعهود، وكأننا أمام طقس لابد له أن يتم على هذا النحو نظرا
للعلاقة التي تربط الشخصية بالأرض وأهلها. فالقارئ يتابع المراسيم غير
الرسمية في صمت لا يعكِّر صفوه إلا صوت المجداف في الماء، وسط ضباب بدأت
الشمس تُذهِّب أطرافه :« بهدوء كبير، حرك الصياد من جديد المجدافين ليدفن
الزورق فجأة في عمق البياض إلي خلفته الأشعة الشمسية الأولى التي خرجت من
وراء الجبل الذي يطوِّق المدينة. كانت مفرطة النور، متوغلة في الضباب الذي
بدأ يتصاعد من البحر ويغلف القارب الصغير. الشعاع الذي تسرب مثل الشلال،
أعطى لمعانا خاصا للأتربة التي نثرها جون موبي مثلما نثر حبات اللؤلؤ في
فضاء أوسع.
-هذه الأتربة التي وطئها
مونسنيور أو نام عليها للمرة الأخيرة. إنها ترابه الذي أحبه وانتهى إليه
باستكانة. هكذا أوصاني أن أزرع تربة رفاته مثل الذي يزرع حبوبا في فضاء
واسع، ستنبت يوما خيرا وطيبة.» ([17])
قد لا ينتبه القارئ إلى الأسلوب الحالم الذي عرضت به “لوحات” الأحداث تطرزها أحاسيس إنسانية نبيلة انتهت بنبوءة خطيرة “ ستنبت يوما خيرا وطيبة
” فكانت هذه البداية أول لقاء بين القارئ وشخصية ” مونسنيور”، غير أنه
سيلتفت حتما إلى “لوحات أخرى” يتم فيها لقاءه الأول “بشخصية الأمير” وكأنها
لوحات لعالم يحتضر ، تقاطرت عليه اللعنات من حدب وصوب، فأحالته إلى عالم قفر خراب، يتوجب إزالته من الوجود: « 1832 عام الجراد الأصفر هكذا يسميه العارفون ورجال البلاد والصالحون وزوار الزاوية القادرية الآتون من بعيد.
منذ الصباح تبدأ فلول الجراد الأولى تسقط على سهل أغريس، مشكلة مظلة سوداء
على الحقول والمزارع. حتى حوافي واد الحمام الساخن تصير صفراء من كثرة
الجراد العالق بالأطراف وشجيرات الديس والمارمان التي تكسو أطراف الوادي.
حتى الرياح الجنوبية التي هبت ليلة البارحة لم تجلب معها إلا مزيدا من
الرمال والأتربة وأسرابا لا تحد من الجراد .» ([18]) إنها الأجواء التي تمت فيها البيعة الأولى..
جراد أصفر، ورياح جنوبية، وجوع، وفقر طال البشر والدواب على حد سواء. فجعل
البيعة والخروج إليها مشقة أُرغم الكثيرون على تكبد أتعابها.
قد يتساءل القارئ إن كان اختيار
أجواء البيعة من قبيل صنيع “الخيال الروائي” الذي يتحرر فيه الكاتب من كل
قيد أو شرط،فيختار فيه ما يناسب المادة السردية التي يعرضها، كما صنع في
مشهد ذر الرماد، فإنه يجوز للقارئ -على الأقل- أن يسأل عن “الداعي الفني”
لاختيار إطار عرض مشاهد البيعة. خاصة وأن “البيعة” قد اختار لها القائمون
عليها-تاريخيا- في سهل “أغريس” مُشاكلَة بيعة الرسول e تحت الشجرة،
ليوافقوا في ذلك بركة الصنيع الأول، وليمتد العهد إلى المبايعين الأوائل
إيمانا وثباتا وصبرا.
إن للبيعة في الوجدان العربي
هذا الطيف الديني/التاريخي المفعم بالهيبة والإيمان، فلا يجوز فنيا التغاضي
عنه واستبداله بإطار أقل ما يقال عنه أنه إطار يجعل البيعة ضربا الفعل
الكارثي الذي يضاف إلى فعل الجراد ورياح الجنوب الجافة. أما إذا كان
الروائي يكتب لغير العرب جاز له أن يفعل ذلك لغياب أطياف
البيعة من تراثهم وثقافتهم. فهم لا يكترثون للجراد أو غيره، وقد يرون فيه
مأساوية تزيِّن المتخيل السردي.
قد كان يهون شأن الجراد والرياح
الجافة لو اقتصر عليها الروائي، واعتبرناها مما تأتي به الأيام والسنون،
غير أنه يتمادى ليجعل البيعة تأتي على خلفية الشنق، والكواسر، والكلاب
الجائعة:« تمايل الجسد الثقيل قليلا قبل أن يستقر على وضع ثابت شيئا فشيئا.
كانت السماء قد امتلأت بالغربان والجوارح القادمة من الصحراء بعد أن سحقها
الجوع. تعالت وقوقاتها الآتية من بعيد ثم بدأت تحوم في شكل حلقات ودوائر
فوق رأس الجثة التي همدت واستقرت بشكل عمودي. عندما بدأت الكواسر أولى
هجوماتها. كان صوت حوافر الخيل قد ملأ فجأة المكان، فهربت الكواسر مؤقتا
لتحلق بعيدا عن ساحة الزيتونة والمسجد الصغير. قبل أن تعود للهجوم مرة
أخرى. » ([19]) إنك لا تكاد تغمض عينيك قليلا حتى يتبادر إلى خلدك مشهدا من مشاهد أفلام “الوستيرن” التي تفننت هوليوود في تصويرها وعرضها.
إنها جثة “قاضي أرزيو” الذي نفِّذ فيه حكم الإعدام شنقا ظلما
في حضرة زوجته، الأمر الذي دعا “الأمير” إلى مراجعة والده “محي الدين”
والاعتراض عليه وهو ينظر إلى المعلق في الشجرة: « رفع عبد القادر لحاف
برنسه ومسح عينيه
-تبكي يا بني؟
لا، أمسح الغبار عن وجهي . كان الله يرحمه. أستاذي ومرجعي في الفقه . خسارة كبيرة. ألم يكن هناك حل شرعي أقل سوءا من الإعدام.؟»
ثم تستمر خلفية البيعة في أجواء يصنع غرابتها التناقض الكامن فيها:
« .. عندما ارتفعت الأعلام والخرق الملونة
والزغاريد عاليا كانت جثة القاضي أحمد بن الطاهر قد غطتها الكواسر وحلقت
حولها الكلاب التي بدأت تقترب منها وتتشممها . عندما سار عبد القادر باتجاه
الجثة، وقف والده بينه وبينها. كان الرجل البدين قد بدأ في فك الحبل عن
عنقها. وتركها تسقط على الأرض قليلا قبل أن يساعد المرأة الملحفة والصامتة
على وضعها على ظهر الحمار. عندما أراد أن يشدها بنفس الحبل الذي شنقت به ،
مدت المرأة يدها وتمتمت:
- خلوا الحبل عندكم باش تشنقوا به واحد آخر. الله يكثر خيركم. » ([20])
فإذا كانت البداية ولقاء القارئ
بالأمير قد تمت على هذا النحو من الأجواء الكارثية التي اشتركت فيها
الطبيعة وظلم الناس، لترسم خلفية البيعة التي أسست ميلاد أول دولة جزائرية
بالمعنى الحديث للكلمة. فإن الخاتمة هي الأخرى لا تترك القارئ إلا مثقلا
بمشاهد أعواد المشانق والجثث المتمايلة عليها.:« كانت أعواد المشانق التي
نصبت وعلقت عليها أجساد العرب الباقين واليهود تبدو من
بعيد وهي تتدلى كالعناقيد الجافة. تحيط بها الكلاب الصفراء التي خرجت فجأة
من مخابئها على الرغم من البرد والجوع والمطر. تنظر باشتهاء بينما الكواسر
تقتحم الأدخنة العالية، تخترقها بعنف لتحوم دفعات دفعات على رؤوس الأجساد
المتآكلة الأطراف والتي بدأت تتصلب وتتجمد من قوة البرد حتى أن النقرات
الأولى لم تأت بأي شيء إذ أنها ارتفعت عاليا بمناقير فارغة، فاستعدت
لمعاودة الكرة أمام كلاب زاد عددها وذئاب تنتظر من وراء الأشجار والحيطان
المهدمة إلى المشهد الذي بدأ جمهوره يزداد عددا وكثافة وتنوعا.» ([21])
5-شخصية “الأمير”:
5-1- الرقة وسرعة التأثر:
قد يزعم الروائي أنه يركز على
الجانب الإنساني في شخصية الأمير، وأنه يجتهد في الابتعاد عن الشخصية
التاريخية النمطية التي سجلتها الروايات، وأن هدفه رفع الغطاء عن الجانب
الخفي من الشخصية، فيعرضه إنسانا له أشواقه ومخاوفه، يعلو قوة ويسفل ضعفا.
وأن هذا الفعل من شأن الرواية أساسا. غير أننا حين نقبل منه ذلك، نريد أن
يكون وصف الجانب الإنساني قائما على شيء من المصداقية التي تفتح باب الاحتمال حتى لا تتعارض الرواية مع النقل تعارضا يفتح باب الشك في النوايا والمقاصد.
لقد حاول الروائي تقديم “الأمير” شابا رقيق الحس، سريع التأثر إلى درجة البكاء يوم بيعته أميرا للحرب لا للسلم. فصنع له هذا المشهد:
« عندما سار عبد القادر باتجاه الجثة وقف والده بينه وبينها … أراد عبد القادر أن يتبعها بحصانه ويستفسر عن الأمر لكن والده شد لازمة الحصان ودفع به بهدوء على الوراء.
-لا داعي إنها زوجة القاضي
أحمد بن الطاهر. قاضي أرزيو، رفضت أن يدفن في سهل غريس، فلم أمانع، قلت لها
هنا أو هناك فأرض الله واسعة. قالت: أرض الله ضاقت ولم تعد واسعة. اسمحوا
لي أن أهب به نحو تربة أكثر رحمة . هذا ما قالته زوجة القاضي أحمد بن
الطاهر.
- ما أدهشني في هذه المرأة هو قطعها لكل ها القفر لإنقاذ زوجها فعادت بجثة.
- كانت تريد أن تتقرب منك إقناعك ولكنها لم تستطع الوصول إليك .
-الله يغفر لنا جميعا ويسدد خطانا إذا زاغت أرجلنا عن المسلك القويم . ثم التفت الشيخ محي الدين نحو إبنه الذي ظل متسمرا فوق حصانه على مشهد المرأة وهي تدفع بدابتها في سهل غريس
رفع عبد القادر لحاف برنسه ومسح عينيه
-تبكي يا بني؟
لا أمسح الغبار عن وجهي . كان الله يرحمه. أستاذي ومرجعي في الفقه . خسارة كبيرة. ألم يكن هناك حل شرعي أقل سوءا من الإعدام.؟» ([22])
غير أننا حين نراجع كتب التاريخ
نجد أن الحادثة قد وقعت بتدبير من الأمير عبد القادر نفسه، وبعد بيعته
بمدة غير قليلة راجع فيها القاضي ونهاه عن تعاطيه مع المحتل.. ففي أقدم
كتاب يتحدث عن الأمير، يقول حفيده: « بعد أن فرغ الأمير من شؤونه ورسوم
ملكه نهض من خضرته معسكر في شوال سنة مائتين وثمانية وأربعين، وفي فبراير
سنة ألف وثمانمائة واثنين وثلاثين ليختبر الأحوال، ويتفقد الأعمال ويجمع
شمل الأقوال بالأفعال، ويقيم من تخلف عن البيعة على الطاعة ويحمله على سلوك
سبيل الجماعة والوطن…. فانتهى إلى مرفأ أرزيو وكان قاضيها أحمد بن الطاهر يراجع حاكم وهران ويدعوه إلى الاستيلاء على المرسى المذكورة فقبض عليه الأمير وأشخصه إلى معسكر فاعتقله بها وأقبل على شأنه من ضبط الثغور وتثقيفها فرتب الحامية … ثم ارتحل إلى الحضرة.» ([23])
فهذا الخلل التاريخي في الرواية
يخلخل الأساس الذي بنيت عليه نفسية “الأمير” فلا مجال إذن للتعاطف مع قاضي
أرزيو الذي تحالف مع العدو وحرضه على احتلال الميناء، ذلك المنفذ البحري
الذي كان يستخدمه الأمير في جلب البارود الأسود والأسلحة من إسبانيا
وغيرها. فدعوة القاضي لاحتلال الميناء لا يمكن تفسيرها إلا بالخيانة العظمى
التي تسعى إلى اجتثاث الدولة الناشئة. فبعد:« انصراف الأمير من القتال
بلغه أن أهل أرزيو ركنوا إلى الفرنسيين بدسائس قاضيهم المعتقل في معسكر وأقاربه وأنهم أحضروا شرذمة من عسكر وهران لحمايتهم. ثم
دس إليه رجل منها اسمه طوبال، أنه يخرج كل يوم مع ضابط المعسكر في طلب
الصيد. وعين له المحل الذي يبتغونه فيه. فركب الأمير في الحال وخلف جموع
الغرابة ومن يليهم على حصار وهران. وبعث الأسرى إلى معسكر. وأغزى السير إلى
أرزيو، وكن في القرب من الموضع الذي عينه طوبال. فلما خرج الضباط وأتباعهم
في معية طوبال، فاجأهم الأمير بخيله وحال بينهم وبين البلد. فدافعوا عن
أنفسهم، واتهموا طوبال في أمرهم. فعدا عليه أحدهم بسيفه وقتله، ثم أظهروا
علامة التسليم وألقوا السلاح. فأمنهم الأمير وجعلهم تحت الحفظ، وتقدم إلى
البلد ففرت حاميتها إلى المراكب وأقلعت بهم إلى وهران. ودخل الأمير، فقبض
على من توجهت إليه التهمة في مواطأة حاكم وهران في هذه القضية، وأصلح شأن
البلدة، وثقف أطرافها، وأنزل فيها حامية كافية، وانفتل راجعا إلى الحضرة.
فأنزل الضباط في دار الضيافة، وأمر بإكرامهم والقيام بشؤونهم. وعقد
للقاضي أحمد بن الطاهر البطيوي مجلسا خاصا من العلماء فأمعنوا النظر في
أمره وقامت البينة عليه فحكم المجلس بقتله ، فسُمِلت عيناه وقطعت يداه،
ورجلاه، ووضع في حفرة، في ساحة الصراية إلى أن مات بعد ثلاثة أيام.» ([24])
إن المشهد الذي قدمه الروائي
أقل فظاعة مما روته كتب التاريخ عن نهاية القاضي، وأشد مأساوية، إلا أنه
حكم الشريعة فيمن خالط العدو وحرضه على المسلمين وهو القاضي الذي يعرف شرع
الله U وحكمه في أمثاله. فلو صدرت الخيانة من غيره جهلا أو ضعفا أو طمعا
أو خوفا، لكان للحكم شأن آخر. فقد لجأ العلماء إلى ذلك الصنيع تشهيرا بأمر
القاضي ليكون رادعا لكل من تسول له نفسه التعامل مع العدو. وهي الحادثة
التي تكشف عن صلابة شخصية الأمير وشدته في الحق، عكس ما حاول الروائي بيانه
في سرده. إننا من خلال نص التاريخ نشهد أميرا يكرم عدوه الأسير، ويعاقب
مواطنه الخائن العالم، عقوبة شديدة الوقع في النفوس. لا يقرر حكمها من
تلقاء نفسه، وإنما يعقد لها مجلسا من العلماء.
5-2-التذبذب في العقيدة:
ترك الأمير عبد القادر الجزائري
في المخيال الثقافي والشعبي صورة يصعب تجاوزها حتى على سبيل الخلق الفني.
ذلك لأن شخصيته توزعت على محاور ثلاث في كل تراثه الفكري والأدبي والسيري.
يمكن تفصيلها على النحو التالي:
-العالم:الزاهد/التصوف.
-المجاهد:السيف/القلم.
-الإنسان: الشاعر/المحب.
وفي كل سفر من الأسفار الثلاثة
يجد الدارس فيضا من العطاء غزير المنابع متعدد المشارب. فالعالم، الزاهد،
المتصوف، اغترف من منابع العلوم الشرعية ما مكَّنه من مجالس الإفتاء
والتدريس، وإدارة المناظرات، والاطلاع على الفنون والفلسفات. وفتح له
التصوف باب الإتباع وتهذيب النفس، وتثقيف الجوارح، وتأكيد الإيمان. ومكَّنه
المجاهد من ركوب الأهوال، ومناطحة الأقران، والخروج في سرايا المغازي،
باذلا النفس والنفيس. فإذا انقلب إلى أهله كان فارس قلم وطرس، يرود مجاهل
المعرفة، ويرد حياضها. أما إذا خلا بنفسه فشاعر رقيق الحواشي، لين
العبارات، دقيق التلمس لحقائق الأشياء والمعاني.
إنها الصورة التي لا يمكن
اختصارها أكثر من ذلك. إلا أن الروائي يقدم هذه الشخصية في محاور أخرى
تنافيها وتستدبرها. وكأنه يريد أن يخرج للناس “أميرا” آخر لا يعرفونه، فلا
هو منهم ولا هم منه في شيء. إنه المتذبذب في عقيدته، لا
يزال في حيرة من أمر دينه. أهو على حق أم باطل؟ ففي لوحة أخرجها الروائي
يقدم لنا فيها الأمير على الهيئة التالية مخاطبا “مونسنيور ديبوش”: « بدأت أقرأ كتابكم الإنجيل. وفي فترة إقامتك بجانبي أتمنى أن تسمح لي بمساءلتك عن بعض القضايا الغامضة. لم تتح لي الحروب والتنقلات المستمرة إلا قراءة شذرات صغيرة منها هنا وهناك. ولكن هذه المرة أنا مصمم على قراءته كاملا وفهمه إن أمكن. سادتنا القدماء فعلوا مثل هذا الأمر دون أن يختل إيمانهم.
-الإيمان في القلب، وما في القلب لا يعلمه إلا الله. أنا مستعد من كل قلبي لأسئلتك.
-متيقن أن قلبك لن يتوقف عن فعل الخير. حدثني كأخ ولا تقلق من أخطائي . فالنية الطيبة هي سيدة السؤال والمقصد.
- لك كل المحبة التي تقربنا من بعض حتى ولو اختلفنا. لتستقر روحانا داخل نفس الحقيقة الإلهية الكبيرة.» ([25])
قد يبدو هذا التمهيد طبيعيا أول
الأمر، فنحن أمام سجين يجد فسحة من الوقت لقراءة ما يقع تحت يده من الكتب.
وقد يكون الأمير في حاجة لأن يعرف عن الإنجيل والمسيحية ما يمكِّنه
باعتباره عالما من مناظرة الأساقفة والرهبان، وهم يقبلون عليه لمعاينة هذا
المنشق الذي تجرأ على محاربة فرنسا. وأن الأمر مثلما يقول هو نفسه، ليس فيه
ما يضر إيمان صاحبه. غير أن الروائي يمضي بنا سريعا إلى موقف آخر لا نجد
له تفسيرا سوى أننا إزاء شخصية ليس لها من يقين تركن إليه، وأنها قد تنقلب
على عقبيها مرتدة عن دينها. فهو يقول على لسان “منسنيور ديبوش”:
«-لا أدري من أين جاءني كل هذا. ولكني أحبك أكثر مما يمكن أن تتصور. لك في قلبي مكان واسع. وفي ديني متسع لا يفنى ولا يموت.
- روحك أنت غالية علي ، ومستعد أن أمنح دمي لإنقاذها