<table class="dcitbce" align="center" border="0" cellpadding="0" width="98%"><tr><td><table style="border-collapse: collapse;" border="0" cellpadding="4" width="98%"><tr><td valign="top">رواية الحواس: دلالة العنوان ومحافل التخييل في "فخاخ الرائحة" ليوسف المحيميد خالد الدهبية* سأحاول أن أتوقف في هذه الدراسة عند مستوى من مناص "(Paratexte) روايةيوسف المحيميد "فخاخ الرائحة"(*) في مسعى لاستثمار ما يمتلكه من معطياتعلى مستوى القوة الدلالية والتداولية للنص. وسأهتم اساسا بعتبة العنوانالى جانب تناول بعض عناصر المحفل التخييلي (المسرود، السارد، الشخصيات)،الا ان ما أبغي لفت النظر بدءا إليه يتلخص في التركيز على دراسة نصالرواية، وتجنب اسقاط المفاهيم والغرق المجاني في لج النظريات. واعطاءالأولوية للتحليل النصي يعني بالنتيجة امكانية استثمار أي مفهوم مهما كانتمرجعيته المنهجية والنظرية. يتشكل عنوان الرواية من مركب اضافي يجمع بين اسمين أولهما جمع نكرةوثانيهما مفرد معرف. وكان لهذا المركب بحكم علاقة الاضافة التي تجمع بينطرفيه وتحوله من ثم الى معرفة ان يحيل على شيء معلوم الدلالة بشكل محددلولا فجوة التركيب البلاغي التي ولدها الانزياح اللغوي الناتج عن الجمعبين شيئين مختلفي الطبيعة (فخاخ+ الرائحة)، مما سيغلف العنوان بغموض دلالييجعله منفتحا على تأويلات متعددة، مع ارتهان صوابية كل تأويل بقدرته علىردم هذه الفجوة وازاحة التوتر الدلالي، وملاءمته لأن يكون مفتاحا لفهمالرواية. ان الصياغة الشعرية للعنوان، وهي تعبر عن انتقال المؤلف الواقعي الى وضعيةالقارئ الاول لنصه، ربما تعكس رغبته في تجنب التدخل المباشر (السافر) فيالجهد التأويلي للقارئ- مهما كان نوعه- بعدم اختيار الاسلوب التقريري فيالعنونة. الا انها تظل معطى من معطيات التأويل المحلي يؤشر على أشياء شتىمنها التأكيد من الناحية النوعية على أدبية النص الذي يتهيأ القارئلمواجهته، ومن ثم انفتاحه على مستويات متعددة من الفهم، وربما الايحاءبصلة ما ممكنة بينه وبين مرجعه، فقد نفترض انطلاقا من اعتبار العنوان نواةللنص ان خصيصته المجازية تنسحب على الرواية ككل، فيكون المحفل التخييليفيها مجازا يكني عن واقع موضوعي، وبالتالي يقوم الميثاق الروائي (le)Pacte Romanesque بإضفاء التخييل على حقائق معيشة، وعلى مرجع حقيقي يحيلعلى مجتمع وفترة تاريخية معينين. ان تركيب العنوان - مضاف الى عنصري: العربية المتداولة ، وعلاقة التضمنالمتبادل ما بين العنوان ونص الرواية- يهيئ لنا أفقا لفهم مفردتي: "فخ"و"رائحة"، فنحصر معنى الاول في الشرك والمصيدة والأحبولة، مقصين بذلكمعاني معجمية أخرى، فالفخ في النوم دون الغطيط، وهو ايضا ان ينام الرجلوينفخ في نومه، مثلما يدل على وصف بالقدار حين نقول امرأة فخ وفخة. كمانحصر معنى الرائحة في النسيم طيبا كان أم نتنا، متجاوزين معنييهاالمحتملين: مطر العشي، ومؤنث الرائح أي الذاهب في الرواح (وقت العشي). ولا تنجلي دلالة العنوان بوضوح اكبر إلا بالوقوف عند صلة التناقص(Textualite) ما بينه وبين الرواية، يتتبع مواقع توظيف مفردتي مركبه فينسيجها، وهو ما يسمح لنا بكشف طبيعة العلاقة الانسانية ما بينهما، ومعرفةمن منهما الرحم ومن المولود. فاستخدام مفردتي مركب العنوان في طيات الرواية مؤشر على كونه جاء لاحقالكتابتها، مما يجعله يلعب دور الايحاء والاغراء لدفع المتلقي الى قراءةالنص بحثا فيه عن تفسير له، ينبني كل من الفخ والرائحة على فعل تواصليتربط شبكته بين عناصر ثلاثة، هي: - المرسل: ناصب الفخ/ واضع الرائحة. - المرسل اليه: الواقع في الفخ/ متنسم الرائحة. - الرسالة: الفخ/ الرائحة. وهذا يدفع بنا الى طرح اسئلة تخص هوية المرسلين والمرسل اليهم وطبيعةالرسالة. وإذا كان الفخ ليس واحدا، فان جرد مواطن استعمال اللفظين يصل بناالى ان الرائحة كذلك هي جمع بصيغة مفرد; فليس هناك رائحة، بل روائح يجمعبينها في الغالب الخدع فلا تكون الرائحة بالنتيجة هي النسيم الطيب، بلأداة للاصطياد والايقاع بالآخر. يحكي العم توفيق لطراد قصة عبوديته، بدءا من هروبه وهو طفل في الثامنة منقريته ام هباب خوفا من الجلابة الذين كانوا يخطفون الناس لبيعهم عبيدا،ليعيش مع آخرين في منطقة الحصاحيصا عيشة البؤس، قائلا: "كنا مثل البهايمنعيش على عشب الأرض(...) الى ان وقعنا في الفغ" (ص26). ولأن تعبير الفغملغز، فان السؤال لابد ان يقع حول معناه، كما يستدل من قول توفيق: "تسألمن الفخ ، اسمع ياسيدي" (ص27)، فيأتي الجواب هكذا: "كنا مجموعة لا نجدشيئا نأكل، فجأة نقل لنا الهواء رائحة طيبة، رائحة حلوة، رائحة طبيخ لذيذ،قمنا ومشينا في صف متتابع باتجاه الرائحة، وكلما نمشي زيادة تكون رائحةالطبيخ قوية(...) اذا ما اعترض طريقنا دغل أو جذوع وشجر، لا نستدير حولهحتى لا نضل عن الرائحة (...) هذا الدخان العظيم يدفعه الهواء نحونا فتطيررائحته رؤوسنا" (ص27). ورغم استشعار أفراد المجموعة للخطر، وتقريرهمالهجوم جماعة، فانه سيقع اصطيادهم، والذي سيحز في نفس توفيق اكثر هو انالطعام نفسه كان مزيفا; اذ تم خدعهم بشحمة تشويها النار بدل ان يكونلحما(ص28). يوضح توفيق الاساليب التي كان الجلابة يستعملونها لتجنب كشف أمرهم من قبلالدوريات الأجنبية التي تراقب السفن في البحر الأحمر. فمثلما كانوا يضعونعلما اصفر للايهام بأن سفينتهم مصابة بالوباء، أو يوزعون ملابس الاحرامعلى من سيعرضونهم للبيع عبيد- مستكثرين ان تكون احرامات جديدة او حتىنظيفة، اذ هي مستعملة ومتسخة (ص30)، وصورة أخرى للشحم المشوي - ايهامابأنهم مجرد حجاج، إذ كان وقت الرحلة موسم حج، فانهم كانوا يحملون معهماغناما للتضليل، بحيث اذا اقترب "الخواجة بكشافه المشغل، كي يتفحص حمولةوبضائع السفينة، تصدمه رائحة روث المواشي على السطح، فيتراجع(...) مؤكداان كل شيء تمام".(ص30) يشرح توفيق كيف سيتم اخصاؤه بعد بيعه، فيقول عن تبنيجه: "تسللت رائحةنفاذة وقوية جدا الى رأسي مباشرة حتى رأيت الجدار يهتز" (ص56)، لينتهي بهالامر الى كره كل الروائح، فيقول: "في المرة الاولى بعت انسانيتي برائحةشحمة وصرت عبدا، وفي الثانية بعت رجولتي برائحة قطنة وصرت خصيا! قاتل اللهالرائحة كلها".(ص66) يتذكر توفيق اليوم الاول من عبوديته، بعد ان اشتراه النخاس ابو يحيى، اذلم يستطع ان يجد الراحة لانه كان جائعا، ونام عند الفجر واقفا لضيقالغرفة، ليصحو على "رائحة براز عنبر، بعد ان عالجه البطن، وهو يقعي بينكيسين باعد ما بينهما، وفعلها مثل كلب ضال" (ص64)، التغوط بهذه الصورة ليسإلا الصيغة الأشد اختصارا للتعبير عن معاناة العبيد، ولقول ما قد تعجز عنتوصيله بلاغة أخرى. رائحة العطر النسائي قوة قد يقاوم الرجل سحرها، فيستطيع ان يصمد أمامهاولو الى حين، كما هو حال سائق التاكسي- الأب المفترض لناصر- فقد "ركبت معهنساء كثيرات(...) ولم يفكر فيهن، رغم ان رائحة بعضهن تدوخ رأسه، ورغم انبعضهن يتكلمن بغنج ويقمن بحركات موحية ولافتة، لكنه حسم الامر بانه يبحثعن المال لا عن إهداره" (ص50) فالرائحة هنا تقع في السياق الاستبدالي(Paradigme) نفسه لكلام وافعال الاغراء الجنسي الذي يضعف أمامه اغراءالمال، حيث سيروض السائق فيعشق احدى زبوناته، وتنتصر "تلك الرائحة الزكية،رائحة العطر النسائي الحادة التي أدارت رأس أبيك يا ناصر اللقيط" (ص85)،كما قال طراد، وليسقط هذا الحب بعد ذلك تحت ضغط قيم مجتمع تقليدي. في رحلة انتقال الطفل ناصر من دار الايتام الى قصر العمة مضاوي، وبالنتيجةمن عالم الحرمان الى عالم الغنى، سيلاحظ اشياء هي علامة دالة على احساسهبالفارق الاجتماعي ما بين هذين العالمين; مثل ممسك باب السيارة الداخليالمذهب، ورائحة احدى وصيفات صاحبة القصر فقد كانت "لها رائحة جميلة (...)رائحة تشبه الحدائق والزهور الصباحية" (ص100) الرائحة في هذه الحالةمتشيئة; لا تعدو أن تكون مؤشرا اجتماعيا، يفتقد أي مدلول جنسي; فمتنسمهامجرد طفل، وما يشمه هو جزء من العالم الذي يحلم به، ومن تحملها هي جزء منالديكور الطبقي لصاحبة القصر، فرائحتها ليست دليل انتمائها الطبقي الفعلي،انها رائحة بدون أنياب. يشير هذا النوع الثاني من الروائح الطبقية الى عطر مائز. فالسائق أنورينتظر سيدته واقفا عند باب السيارة وقتا قد يطول، "وما أن، يشم شذى عطرنسائي نفاذ وفاتن حتى يسارع الى فتح الباب الخلفي دون ان يلتفت ناحيتها"(ص94)، فهو لا يحتاج لرؤيتها، وانما يكفيه ان يشم رائحة عطرها ليتعرفشرطيا عليها. فهذه الرائحة كسابقتها مؤشر اجتماعي بدون معنى جنسي، فالسائقكلب مروض على الانتظار، وفتح الباب للسيدة، لا يعني له اغراء الرائحةالنسائي أي شيء، لأنه غير موجه له الا في حدود دلالته الاجتماعية، وماعليه الا ان يقوم بدوره، بإذعان المقهور، وإلا يطرد. لا يملك توفيق هو يتذكر هذه الرائحة ان يكره صاحبتها، كما لن يحب هذهالرائحة، بما انها جزء من مسار استعباده، فهو يستحضرها حينما يصف أم الخيرمديرة منزل نخاسه، قائلا بانه كان "في فمها زمام ذهبي، ومن فمها الواسع ذيالاسنان الذهبية تفوح رائحة غريبة، عرفت فيما بعد انها كانت رائحةالديرمان" (س64) . هكذا تظل أم الخير رغم علامات اختلافها وغرابتها مملوكةلا يشعر ازاءها توفيق بأي احساس عدائي، وهي التي اعتنت به مثل أمه (ص64)،وخففت عنه حتى لا يخاف من الحجام الذي سيقوم بإخصائه لا تملك رائحتهااغراء او سلطة، ولا تولد مشاعر كراهية، ولكنها تذكر بلحظة فارقة في تاريختوفيق سيتحول فيها من سيد الى عبد، ومن رجل كامل الرجولة الى خصي: لا هوذكر، ولا أنثى، كائن تحت الدرجة صفر. يبين طراد كيف كان وصديقه نهار يسرقان القوافل، ف-"يكمنان في ظلام الصحراءخلف تلة أو صخرة(...) حتى يشم طراد رائحة القافلة(...) يقول لصاحبه انهيشم رائحة الابل والرجال"(ص68)، فيلبدا قبل ان يهجما. فطراد اللص يعتمدبالدرجة الاولى، وهو في لحظة الكمون على قوة شمه والتقاطه للرائحة، ليعولفي وقت التنفيذ على قوة التسلل والتستر ومهارات أخرى، وان أخفق فيها حلتبه المصيبة، وجاء أوان الجزاء، مثلما حصل ذات ليلة حين "تهادت رائحةالابل(...) حتى شارفت الرائحة الصخرة، وغزت أنف طراد" (ص68). ولكن قوةالشم صاحبها- هذه المرة- ضعف السمع عندهما؛ فـ"لم يتناه الى مسمعيهما صوتغناء حرس القافلة" (ص68)، فتمكن احدهم من الانتباه الى أمرهما، بعد أنخذلت نهارا حذاقته في السرقة، فقبض عليهما، وكان حكم أمير قافلة الحجاج أنيدفنا حتى الرقاب أحياء، ويتركا في عراء الصحراء، وسيكون طراد مع لحظةأولى في مسار شعوره بمركب النقص، فقد معها سطوته بعد إهانات كللت بالتبولعلى وجهه، البول تلك الرائحة الاخرى غير المعلنة. سيلتحق طراد بعد القاء القبض عليه برائحة من خدعتهم الروائح، فيقول عننفسه- بعد ان عددهم- "أنا (...) رائحة الابل غررت بي" (ص71)، ويسترجع هذاالحدث لأنه كان وراء الفاجعة الكبرى في حياته; حينما قطع الذئب أذنهاليسرى، متسائلا بعد سرده بنفس تركيبي اسماء الضحايا والروائح التيأضلتهم: "هل الرائحة ذاتها التي تشبه طفلا يقود هؤلاء العميان في ظلامالدروب، هي التي قادت الذئاب العمياء في صمت الصحراء، وهي تقطع درب الشفحتهرول صوب رائحة العرق والخوف؟ (...) عرق يكشف الرائحة الآدمية، عرق يفضحالفرائس لدى الحيوانات الجائعة الضالة" (ص86). رائحة العرق كانت ما أدل ذئبا عليهما. جاء لكي يشبع جوعه بأكل نهار ثمينام عند رأس طراد قبل ان يستيقظ مذعورا ويقضم أذنه اليسرى، بعد ان سقطتعليه دمعة حزن ورثاء من عينيه. هكذا سيتولد لدى طراد مركب نقص سيصاحبهبقية عمره. حاول اخفاء سره، وتحمل اهانات الآخرين له بسببه، دون ان يحملنفسه مسؤولية، ولو جزئية، لما وقع له، فالرياح هي التي كانت "تدفع الرائحةالآدمية الى كل جهات الصحراء" وتجعل "الرائحة تزحف كأفعى فوق الرمال".(ص88) كانت المربية المصرية جمالات في دار الايتام تستولي على وجبة السمك- لحبهاله- وتحرم الاطفال منها، مبررة ذلك للاخصائية الاجتماعية بكونهم لا يطيقون"رائحة الاسماك" (ص76)، لتبقى الرائحة تعبيرا عن شيء غائب، وطعام لا يصلالى الفم سواء أكان شحما ام سمكا، بل يتغذى بكذبة تتستر عن سرقة تظل بدونعقاب. حينما صدر القرار الملكي بعتق العبيد، تم تمتيع توفيق بالحرية- الحريةالتي لا يستطيع الطائر بعدها ان يطير، بعد ان جاءته في آخر العمر- فخرجالى الشارع ضائعا يمطره الحنين الى بلدته وطفولته المسروقتين، فيهجم عليهالماضي ليغيب الحاضر، وتحل صور الأول محل أشياء الثاني في هلوسات حنينالشيخ الذي لم يكن يرى "في الشوارع غير ضفاف نهر النيل، ولم تكن رائحةعوادم السيارات غير رائحة طيور النهر".(ص107) لنا أن نستخلص كيف أن عالم الرائحة في الرواية مشدود الى الخديعة،والسرقة، والاغراء، فهي قوة سلب تجذب الشخصيات نحو مسار تراجيدي تعبره،فتفقد حذرها الأخلاقي، أو قوتها، أو حقا من حقوقها. تقوم بنية السرد في "فخاخ الرائحة" على التنضيد (Enfilage) ; اذ تم الربطبين محكيات مستقلة عن بعضها البعض، اختار السارد عرضها بأسلوب التناوب(Alternace) بحيث يقدم جزءا من المحكي، ثم يوقفه لعرض جزء آخر. وهذا مايطلق عليه تودروف بالتفتيت (Deformation) المؤقت للاحداث الذي يتم بهزخرفة نظامها التتابعي. ويجمع المتن الحكائي بين ثلاثة خيوط سردية. يمثل كل واحد منها مسار شخصية من شخصياتها الرئيسية: * الخيط الاول: يخص شخصية طراد التي ينقسم مسار حياتها الى قسمين، كانطراد في أولهما يترصد القوافل في الصحراء الى ان قبض عليه يوما من طرفقافلة حجاج عاقبه أميرها بدفنه وصديقه نهارا حيين، فتركا فريسة للخوفوالجوع والموت البطيء، قبل ان يأتي الذئب ليفترس نهارا ويقضم اذن طراد،فيبدأ قسم ثان من حياة هذا الأخير سيعاني فيه عقدة أذنه المقطوعة، محاولااخفاء سرها على الناس متحملا نظراتهم التهكمية، وهو يتقلب بين عدة مهن(حارس عمارة، معد قهوة ثم مراسل في احدى الوزارات). وستدفعه شماتة الآخرينبه الى التفكير في الهرب بترك الرياض الى عرعر، حتى لو كانت في نظره لاتختلف كثيرا عن الجحيم، ليظل طيلة الرواية في محطة السفر منتظرا، قبل انيعدل في النهاية عن الرحيل، ويتوجه الى بيت صديقه توفيق. * الخيط الثاني: وهو محكي توفيق الي يبدأ من لحظة فراره من قريته أم هباببالسودان خوفا من الجلابة، الى أن يقع في أسرهم ويرحل الى الضفة الاخرى منالبحر الأحمر، حيث سيباع عبدا، يتم اخصاؤه قبل ان ينتقل للعمل في قصرالعمة مضاوي، ويجد نفسه- وهو شيخ- بعد صدور القرار الملكي في المملكةالعربية السعودية بتحرير العبيد، ضائعا في الشارع، ممتهنا مهنا عديدة منهامراسل وعامل قهوة حيث يعمل طراد. * الخيط الثالث: ويتعلق بمحكي ناصر الذي ينقسم الى مادتين، معطيات اولاهماثابتة في وثائق رسمية يضمها ملف اخضر عثر عليه طراد في محطة السفر، فدفعهضياعه وفراغ لحظة الانتظار الى الاطلاع على محتوياته، التي تظهر ان ناصراطفل لقيط وجد متروكا في صندوق وقد اقتلعت عينه، فكبر في دار حضانة ستأخذهمنها السيدة مضاوي بنية تبنيه قبل ان تعيده اليها بعد ان ظهرت عليها بوادرالحمل. اما ثانيتهما فهي محك افتراضي تخيل فيه طراد كيف بدأت قصة ام ناصر مع ابيهسائق سيارة الاجرة الذي سترفض أسرته أمر زواجه من امرأة ليست من مركزهالاجتماعي القبلي; مما سيدفع بالأم الى التخلص من الطفل بعد حملها. وهذه المحكيات الرئيسة قائمة على الاسترجاع، فطراد يستحضر، وهو في المحطة،ماضيه انطلاقا من تجربة حاضره الذليل التي دفعته الى التفكير بالابتعاد عنعالم الناس والذهاب الى أي مكان حتى لو كان جهنم، فقد يكون الجحيم أرحم.؟وفي لحظة من استرجاعه لهذا الماضي ستظهر صورة توفيق، ليتناوبا على سردماضي عبوديته. اما محكي ناصر فيقع من خلال السرد الخالص ووثائق الملفالاخضر (محضر العثور، التقرير الطبي، محضر التسمية والتبليغ عن الولادة). وتتعدد الاصوات السردية; بحيث يتبادل أكثر من سارد الحكي، ليقدموا جميعاحكايات تقوم في بنيتها العميقة على برنامج سردي متشابه مبني على الاقتلاع:فطراد وتوفيق كلاهما مقتلع من مكانه الاصلي (البادية- الصحراء) وضائع فيالمكان الجديد (المدينة)، فيتعزز بذلك نسق التحفيز (Motivation) القائمعلى التناظر بين الشخصيات وتجربتها المريرة التي يجليها الاثر الجسديالعنيف: قطع أذن طراد، واقتلاع عين ناصر، واخصاء توفيق، إلا أن الذي يستحقالوقوف عنده من بين هذه الشخصيات الثلاث في المنظور السردي، هو طراد; فهوالصوت المركزي الذي يمارس وظيفة الفعل من حيث هو شخصية من شخصيات الرواية،كما يضطلع بوظيفة التصوير، باعتباره ساردا، سواء لما يتصل بمحكيه الذي عملفيه على تأجيل لحظة سرد الحدث المؤثر في مساره ككل، نعني لحظة قطع أذنهاليسرى، أو ما يتصل بمحكي غيره، فيتحول- مثلا- فيما يرجع لمحكي ناصر الىوظيفة المتحري الذي يملأ فراغات القضية المطروحة أمامه بافتراضات يسعى بهاالى بناء الحقيقة، اذ حاول ان يطابق بين ما يوجد بين يديه من معطيات تضمهاوثائق الملف الاخضر، وما بامكانه ان يضيفه (أحداث العلاقة ما بين الوالدينالمفترضين لناصر) انطلاقا من تجربته الخاصة. كما يصبح طراد المسرود له (Narrataire) الذي يتلقى محكي توفيق مباشرةويدفعه باسئلته التي يطرحها الى سرد ماضيه.( ويتحول الى وضعية اخرىيتلقى فيها محكي ناصر، تجعله في موقع القارئ الفعلي (Lecteur Concret) حينسينكب، وهو في المحطة، على قراءة أوراق الملف الأخضر المتضمنة لجزء هام منوقائع حياة ناصر. ومثلما تعددت صيغ التمثيل والاصوات السردية في الرواية، تنوعت أنماطالسرد، فاذا كان السرد الواقعي هو المهيمن على جل المحكيات، فقد تم توظيفالسرد العجائبي عند تفسير غياب سيف أخ طراد عن طريق الاغراب(Singularisation)، وذلك عبر وجهة نظر مغربة تعبر عن تفكير الطفل طرادالذي كان يعتقد بصحة ما يقوله الناس ان سيفا اختفى بسبب اختطافه من قبلجنية لها شعر طويل، وانه صار ملكا عظيما في احدى ممالك الجن(ص42)، وحينسيكبر سيعرف ان اخاه "اختطفته" امرأة جميلة يسمونها "ذباحة" لسلبها العقول. ومن وجهة النظر المغربة ذاتها يقتنع توفيق- وكان وقتها صغيرا في أول ايامعبوديته- بما سيفسر به حمل خيرية بنت العطار بجعل القمر هو المسؤول عن هذاالحمل، لأنها "غامرت في ليل اكتمال القمر، ونشرت ملابسها الداخلية فوق حبلالغسيل" (ص80)، ولن يعرف الحقيقة إلا بعد أن انتقل بطلب من سيده يحيى الذياشتراه أول الأمر الى بيت العطار لتقديم المساعدة له، حيث رأى مع خيريةصورة الرجل (ص84). إذا كان الوعي الذي تعبر عنه وجهات النظر المغربة طفوليا، فان اللاواقعيةليست بالضرورة صفة طفولية، فطراد سيظل- حتى في كبره- يفهم العالم بشكل غيرموضوعي يتمركز فيه حول ذاته، وكأنه طفل كبير. تمثل شخصيات هذه الرواية حالات قابلة للتحليل النفسي بامتياز، ويبدو طرادشخصية يوافقها النموذج النظري عند الفرد ادلر (ت1973) الذي يرجع علةالامراض النفسية والعصبية الى مركب الدونية، بخلاف تركيز فرويد (ت1939)على الجنس. وهكذا فهو يؤول كل المواقف الفردية بوصفها ردود فعل تعويضية(Reaction de compensation) على مشاعر بالدونية ناتج عن نقص عضوي فعلي; هوبالنسبة لطراد اذنه اليسرى، فبعد قطعها شعر انه فقد كرامته، وبانه لم تعدله قيمة فحتى حين خاطبه موظف التذاكر بـ"ياعم" رأى بانه لو كان عرف أمرأذنه اليسرى التي يخفيها بطرف شماغه لكان شتمه امام الناس جميعا(ص10). ومنالطبيعي ان تتولد عنده حساسية خاصة تجاه المتسبب في توليد هذا النقص، وهمالذئاب في عالم الحيوان، والحجاج في عالم البشر، فلم يعد يتحمل رؤيةالذئاب حتى وان كانت مرسومة; فلما رأى صورتها في لوحة معلقة في صالةالمحطة، أغمض عينيه، وهو يلعن من رسمها(ص22)، بعد ان كان في صغره يتماهىمع الذئاب، فان اصطاد ارنبا أو كسب بهيمة يوزع اعضاءها كما تفعل الذئاب(ص42). وكان يصادقها فيتركها تأكل من طعامه او ما تبقى منه بعد أن يخلفهويمضي، وترعاه هي في البعد. بل انه يشعر انه حين كان في الصحراء، كانتالكائنات تصادق (الرمل والدحول والوديان والشجر وحتى الذئاب.ص86). ولن يتغير موقفه من كل هذه الكائنات إلا بعد أن صادق نهارا (ص87)، وبعد أنفعل الذئب به وصاحبه ما فعل، فأصبح يكره الذئاب، ويماهي بينها وبين أصنافالبشر الذين لا يستحقون منه سوى الشتم كالشرطة؛ لأنهم "مجانين" لا ينتظرمنهم إلا أفعالا كقطع اليد او الاذن، والحبس (ص20). وطراد في كثير من هذا يفتقد الى الموضوعية، فلا يجعل لنفسه مسؤولية فيماوقع له، ويتقبل جزاء جنايته. وقد يفسر انعدام موضوعيته بكون مركب النقصيمتص الطاقات النفسية، ويحول توجيهها من الوعي، مما يولد سلوكات غيرمنضبطة; كالاضطراب في المواقف النفسية، التي تنشط فيها المحتوياتالانفعالية، بحسب ما ذهب اليه ك.ج يونج (ت1961) انطلاقا من فرويد. ومجمل شخصيات "فخاخ الرائحة" تعاني مركب الشعور بالنقص وعقدة الاخصاءالفعلي او الرمزي، فكل الشخصيات الرئيسية تحمل اثرا جسديا هو عنوانمعاناتها النفسية والاجتماعية الذي يجعلها الى حد ما، تمثيلا لشخصيةواحدة: فليست عين ناصر المقتلعة، واذن طراد المقطوعة إلا الوجه الآخرلإخصاء توفيق. فهذه الآثار الجسدية هي الحروف التي كتبت الفترات الحاسمةفي تاريخ القهر الخاص بكل شخصية، والتي يمكن من خلالها قراءة هذا التاريخ.تماما مثلما يمكن لناصر ان يقرأ ماضيه في أعضاء جسمه التي يحتفظ بها فيكيس صغير يتضمنه الملف الأخضر الذي ضاع منه في محطة السفر (خصلة شعر أسودوسن طفولية)، فليس له من ذاكرة إلا ذاكرة أعضائه، كما جاء في الرواية(ص76)، واذا كان الأثر الجسدي رمزا للعنف الموجه تجاه هذه الشخصيات،وللتحويل الذي خضعت له في شخصيتها ومسار تكوينها النفسي والاجتماعي، فانعنف التسمية لا يقل أهمية في بعده الدلالي عنه فالاسم الجديد تعبير عنالمصير الجديد. فاسم طراد يوافق وضعه حين كان في الصحراء يطارد القوافل،أما وهو في المدينة يعمل حارس عمارة، أو معد قهوة في ادارة، فلم يعد إلامجرد ذكرى، ولذلك يناديه صاحبه بـ"زول" (ص59)، او يدعوه "ابا لوزة" (ص109،110)، ينسب هو نفسه الى أمه (ولد خزنة، ص20)،في لحظة احتقاره لذاته أماممنظر المعلم التركي بائع الشاورما الذي كان في تمام صحته واكتماله الجسدي. ويستطيع الآخر القوي بسلطة القانون، او بسلطة الوضع الاجتماعي ان يغيراسماء من هم في قبضته كما يريد. فالاسم الحقيقي لتوفيق هو حسن (ص62، 63)،وسيتغير اسمه لإكمال طقوس تعميده عبدا؛ اذ سيقرر أبويحيى بان اسماءالاطفال الين استجلبوا ليباعوا عبيدا لا تصلح (ص63)، ولذلك سيعطي لكل واحدمنهم اسمه الجديد ايذانا بانتهاء صفحة في تاريخه، فانتقل توفيق من عهد حسنالحر الى عهد آخر هو عهد توفيق العبد الذي لن يكون بعد تحريره إلا العمتوفيق- ولم يسترجع اسمه- وكأنه لن يكون أبدا حرا، بل سيستمر "عبدا" بوضعاعتباري يستحق فيه الاحترام لسنه، ولاختياره التزام حدود نفسه، فهو سيظليحمل رمز عبوديته معه الى نهاية عمره، بعد أن تحول بفعل الاخصاء الى كائنلا هو ذكر ولا هو انثى. وقد ذهب بعيدا في التعبير عن هذا التحول بتعريضاللغة للعنف الذي يتعرض له الجسد والاسم معا; فعبر عن شعور توفيق بأنه لميعد رجلا بتغيير الوضع الاملائي لكتابة العضو الجنسي (ضكر بل ذكر؛ ص66)حين لم يعد سوى مبولة فقط (ص67). أما ناصر، فهو بحكم انه وجد لقيطا، فقد وضع له محضر تسمية أعطي فيه اسماءبنا على تقرير اداري جاء بعد الاطلاع على كشف المواليد الذكور وكشفالامهات الموجودين عند الجهات المختصة، ولذلك فان اسمه لن يتغير، ولكن لنيفلت من اللعب به، فالمربية المصرية جمالات لكرهها له ولجمال عبدالناصرلقبته بعبدالناصر (ص97)، وسخرت صديقتها منه واصفة اياه بموشي ديان فياشارة لعينه المطموسة (ص98)، كما مازحته بثينة وصيفة العمة مضاوي بردهاعليه بعد أن أخبرها باسمه- وهو الذي ينطق الصاد ثاء- "ناثر ايش؟ "(ص100). وتتواصل سلطة التسمية عبر الرواية بوصفها ايضا تعبيرا عن ادلوجة خاصة;فالسائق السابق للعمة مضاوي أنور عبدالنبي سيغير اسمه الى عبد رب النبي;"فليس من الجائز والمشاع ان نعبد نبيا، اذ المعبود هو الله سبحانه" (ص94).أو بوصفها تعبيرا حتى عن مزاج خاص، كحال زهرة التي يدعونها زهيرة(92). تشكل الحواس في الرواية لعبة فنية، وهي بتناظرها تصبح مجازا، أكثر منهاحقيقة. حواس خادعة، او هي بالأدق المدخل الى الخدع، والطريق الى تحقيقالخديعة. فالروائح فخاخ بمصائر متناظرة لشخصيات متناظرة: فتوفيق ناصر آخر"يعرف أمه، لكنه غير متأكد من أبيه"(ص39)- لعل سيدها الحاج احمد أبوبكراغتصبها، او احد النخاسة..- وهما وجه آخر لطراد. عالم ممن جرحت أرواحهمبعد ان تلطخ كمالهم الجسدي، فيهم الاعور والمخصي ومقطوع الأذن، وفي خلفيةباهتة ادريس السيد الجار الكسيح الذي كان يسكن قطية من قطاطي قرية توفيق،او الشيخ المقعد والد أم ناصر المفترضة (ص52)، وبقية الاشياء كعنبر وجوهر،عالم فقراء يعودون الى ماضيهم- مثلما عاد ناصر لاسترداد ملفه الاخضر- وكانالعودة الى الماضي شرط لتحرير الحاضر وتجنب الذهاب الى الجحيم. فهل يكونكرسي المحطة- سرير الطبيب النفسي- الذي مر منه طراد وناصر قبله، كافيالذلك؟ ـــــــــــــــــ مجلة نزوى- العدد 40 * الروائي السعودي يوسف المحيميد، (فخاخ الرائحة)، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت- لندن، ط1، يونيو 2003. ** ناقد من المغرب 2 - روائح سيرة العبودية:1 - 2: رائحة الطعام - خطة الاسر:2 - 2: رائحة الاغنام- وسائل الإخفاء:2 - 3: رائحة البنج- طقوس الإخصاء:4 - 2: رائحة البراز- بلاغة الألم:3 - روائح نسائية:3 - 1: عطر الانثى - سلطة الترويض:3 - 2: العطر علامة طبقية3 - 2- 1 : عطر الانتماء الزائف:3 - 2 - 2: عطر الاستجابة الشرطية3 - 2 - 3: الديرمان - رائحة "في درجة" الصفر:4 - روائح مركب النقص:4 - 1: رائحة القوافل- سيرورة العقاب الأول:4 - 2: رائحة العرق- سيرورة العقاب الثاني:5 - روائح آخر سلم الترتيب:5 - 1: رائحة السمك- سرقات بدون عقاب:5 - 2: رائحة العوادم - هلوسات الحنين:6 - تركيب سريع:7 - التناظر السردي وبنية الواحد المتعدد:8 - الشخصيات: ذاكرة الاعضاء وعنف التسمية:9 - الفكاك من "فخاخ الرائحة":1 - العلبة السوداء للفخاخ والروائح: </td></tr></table></td></tr></table> |
رواية الحواس: دلالة العنوان
خنساء محبة السماء- عدد المساهمات : 96
تاريخ التسجيل : 02/11/2009
العمر : 34
- مساهمة رقم 1