العلاقات السياقية ونماذجها الوظيفية في الأحاديث القدسية الشريفة
الأبحاث
إرسال إلى صديق طباعة
العلاقات السياقية ونماذجها الوظيفية في الأحاديث القدسية الشريفة
د. عبد المهدي هاشم الجراح
جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية
كلية العلوم والآداب – قسم العلوم الإنسانية
ملخص
Abstract
يهدف هذا البحث إلى دراسة العلاقات السياقية ونماذجها الوظيفية في الأحاديث القدسية الشريفة، لما لهذه العلاقات من أهمية كبيرة في بناء النص، واتّساقه وانسجامه.
وتحقيقا لما سبق ذكره، تناول البحث بداية مفهوم العلاقات السياقية، ثم أهميتها نصيًا، وانتقل بعد ذلك لبحث النماذج الوظيفية للعلاقات السياقية في الأحاديث القدسية الشريفة، وهذه النماذج هي: العلاقات السببية، والعلاقات المعجمية، وعلاقات التماثل الأسلوبي، وعلاقات التناص، وعلاقات التتابع الدلالي.
خلص البحث إلى أن هذه النماذج لها أهمية كبرى في الجوانب الإبلاغية والتواصلية للأحاديث القدسية، كما أنها أسهمت بطريقة جادّة في بناء نص الحديث من جهة، وجعله يؤثر في نفسية المستقبل من جهة أخرى.
THE CONSISTENCE RELATIONS AND ITS FUNCTIONAL FORMS IN (AL-AHADITH AL-QODSIYA)
The study aims at investigating the consistence relations and their functional forms in the Prophet Mohammads traditions revealed by Almighty Allah (al-ahadith al-qodsiya), because the importance of these relationships is very high in terms of content constructions.
To clarify that, the research has discussed the concept of consistency in terms of its importance. Therefore, the research has discussed the functional forms of these consistency in (al-ahadith al-qodsiya),These forms are: causal relationships, lexical relations, stylistic relations, intertextuality relations, and semantic chaining relations.
The main results of the study were concentrated on the aspects of intentionally, and continuity in (al ahadith al-qodsiya). Moreover, this study participates in text construction and the influence of the receptor psychology.
*keywords: consistence relationships -forms-function-ahadith- qodsiya, the text.
مقدِّمة:
يُعد بحث العلاقات السياقية من المرتكزات المهمة في الكشف عن طرق البناء النصي. انشغل عدد كبير من الباحثين في علم اللغة النصي أو لسانيات النص، في بحث أدوات بناء النص، واتّساقه وانسجامه، منهم: فان ديك، وروبرت دي بوجراند، ودرسلر، وبتوفي، إذ حاولوا جميعًا الكشف عن العلاقات النصية؛ لأنها هي التي تدعّم البنية النصية، التي تقوم على التماسك والانسجام؛ نظراً لأهميتها في تحقيق ما اصطلحوا على تسميته "بالكفاءة النصية".
نتيجة لما تقدم، ظهرت بل تولّدت رغبة أصيلة عند الباحث لدراسة العلاقات السياقية دراسة وظيفية، يُضاف إلى ذلك أنّ معظم ما قدّمته الدراسات في هذا السياق هو إشارات مبثوثة هنا وهناك، إذ لم يقم نفرٌ من الباحثين –في حدود اطلاعي – بجمع النماذج الوظيفية للعلاقات السياقية، ودراستها في نص واحد دفعة واحدة، من هنا، فإن هذه الدراسة تسعى لجمع هذه النماذج، وتطبيق قواعدها على نص واحد، هو نص الحديث القدسي.
تم اختيار الأحاديث القدسية للدراسة والتحليل والتطبيق؛ لتضمنها مجموعة من النماذج الوظيفية للعلاقات السياقية بطريقة ملفتة للنظر ومتميزة، كما أن الطرح الأسلوبي داخل نص الحديث فيه تميّز وفرادة، يُضاف إلى ذلك تميز أدوات التواصل والإقناع أيضاً. وقد اعتمد البحث في الجانب التطبيقي على الأحاديث القدسية التي اعتنى بنصّها وشرحها جمال عبد الغني مدغمش، وفي حدود اطلاع الباحث لم تتم دراسة الأحاديث القدسية دراسة لسانية، وضعت على عاتقها الكشف عن العلاقات السياقية ونماذجها الوظيفية في نص الحديث، فتكون هذه الدراسة قائمة لإنجاح هذا الهدف المشار إليه.
وتجدر الإشارة إلى أن منهج البحث هو لساني لغوي وأسلوبي تناول البحث في البداية مفهوم العلاقات السياقية، إذ تم توضيح مفهوم العلاقة في النظر اللساني، وكذلك السياق، ثم أهمية العلاقات السياقية في النص، أي: وظائفها النصية. كما انتقل البحث بعد ذلك للجانب التطبيقي المتمثل بالكشف عن النماذج الوظيفية للعلاقات السياقية في البنية النصية للأحاديث القدسية، وثبت أن هناك مجموعة من هذه النماذج وهي:
أ- العلاقات السببيّة.
ب- العلاقات المعجمية.
جـ- علاقات التماثل الأسلوبي.
د- علاقات التناص.
هـ- علاقات التتابع الدلالي.
وتم بحث هذه النماذج في موضعها من البحث بما يفيد.
أولاً: مفهوم العلاقات السياقية
تحديد مفهوم العلاقات السياقية يعيد المرء إلى مفهومين لسانيين مهمين هما: العلاقة والسياق، وهما يشكلان القاعدة البنائية الأساسية للنص أيًّا كان نوعه؛ لعلاقتهما المباشرة بتوفير مقوّمات السبك النحوي كاملة (The Cohesion strategics) واستراتيجياته؛ كونه "يُعنى بكيفية ترابط مكونات البنية السطحية نحويًا"(1)، إضافة إلى إسهاماته المباشرة في تنظيم عالم النص كاملاً (2).
يتضح من تحليل الروابط النصية داخل النص، أن العلاقة هي العنصر أو المظهر النحوي الدلالي الذي يربط أجزاء النص على المستويين: الشكلي والدلالي، أي: على المستوى الخارجي والداخلي للنص(3)، فهي التي تحدث التماسك الذي هو في حقيقته "مجموعة من العلاقات اللفظية أو الدلالية بين أجزاء النص"(4)، وبدونها يصبح النص مزقاً وأشلاء لا رابط بينها(5)، وإذا اتّضح مفهوم العلاقة، فما هو السياق؟
قبل الشروع بذكر بعض التوجهات في تحديد مفهوم السياق، لا بدّ من تقرير حقيقة مهمة مؤداها: أنّ بحث السياق في علم اللسانيات والنحو يُعدّ من أعسر القضايا(6)، وما يقوم به أي باحث من الباحثين في هذا المجال اللساني، هو "توضيح سياق الجمل الدلالي، الذي ينبّئ عن خصائصها التركيبية والمعنوية"(7)، أي: الاعتماد على العلاقات الدلالية التي تقوم بين الألفاظ على مستوى الجملة، وبين الجمل على مستوى النص.
إذن، فالعملية هي عملية وصف لا أكثر، والدليل على ذلك أنك لا تظفر بتعريف جامع مانع للسياق حتىّ في أكثر المصادر التي هي مختصّة بعلم اللغة النصّي مثل: كتاب "النص والسياق" لفان ديك (Text and context)، وكتاب "مدخل إلى علم اللغة النصي" لفولفجانج هاينه من وديتر فيهفيجر، وكتاب "التماسك في الإنجليزية" لهاليداي ورقية حسن (Cohesion in English). وعن طريق التّتبّع للوصف السياقي، ثبت للباحث أن الدراسات التي قدمت وصفاً للسياق وتحليلاً لعناصره، تثبت أنّ تحديد السياق ووصفه يعانيان من مشكلتين رئيسيتين هما: الانفتاح التام، أو الانغلاق التام، ولكن كيف؟
تميل بعض الدراسات إلى جعل السياق قاعدة لشبكة من العلاقات التي تُعنى بترابط المركبات النحوية والدلالية في بنية الجملة، وتقصره على التتابعات التركيبية داخل النص، فتقوم بإقصائه عن كل ما هو خارج هذه التتابعات، رغم فعالياتها في كثير من الأحيان في تكوين التماسك النصي، ومن هذا الاتجاه المنغلق تحديد المنصف عاشور للسياق، إذ يقول: "فالمقصود من السياق النحوي كيفية التعليق بين المركبات النحوية في بنية الجملة العربية، فالجملة قاعدتها العلاقات المولّدة للأبنية والنماذج، وتلك النماذج مولدة للقوانين العامة التي تحدد نحو الجملة في إطار النظريات النحوية العربية وعلم اللسان العام"(، وهذا ينسحب على النص، فيكون السياق مسؤولاً عن كيفية الترابط والتعليق بين المركبات النحوية الدلالية لسلسلة التتابعات الجملية المولّدة أصلاً من مقصدية النسج النصي المحكم؛ هذا على اعتبار نحو الجملة هو اللبنة الأساسية للنحو النصي، وقاعدته الصلبة التي ينطلق منها(9).
وتحديد المنصف عاشور يجعل السياق قوّة ربط داخل النص، وقريب منه نظرة عياشي التي تميل إلى جعل السياق القوّة التي تنظم النص ضمن إطار التتابع النصّي الداخلي، دون ربط النص بما هو خارجه، ويبدو أن عياشي متأثّر أصلا ًبتودوروف، يظهر هذا في تحديد عياشي لمفهوم النص قائلا: "النص شكل من أشكال الإنجاز اللغوي، يقيمه نظامه الخاص، وهو لأنه كذلك، فإنه يستغنى بلغته عن غيره"(10).
ويمكن القول: إنّ الاتجاهات البنيوية والشكلانية عمومًا تميل إلى جعل السياق مظهراً من العلاقات الداخلية اللغوية النصية الداخلية؛ لأن هذين الاتجاهين يميلان إلى إنكار إحالة النص إلى سياق آخر خارج نظامه اللغوي الخاص به(11).
وبالمقابل، نجد اتجاهات تجعل السياق مظهراً علائقيًا منفتحًا، أي لا تقصره على التحكم بالعلاقات داخل النص، وإنما تجعله قوّة تنظم عالم النص داخليًا وخارجيًا، أي تربط النص بجميع أطراف معادلة الاتصال اللغوي مثل: المرسل، والمستقبل، والقناة (قناة الاتصال)، فهو وحدة اتصالية غير منحصرة في جمل النص، يقول كلر: "إن السياق الذي يحدد معنى الجملة لا ينحصر في جمل النص الأخرى، بل إنه تركيب معقد من المعرفة والتأملات بدرجات مختلفة من التحديد، وهو بمثابة نوع من القدرة التأويلية"(12).
فالسياق هو قدرة أو قوة تربط النص بالعوالم المشكلة له، تربطه بالمعارف المكوّنة له، فلا ينحصر بالجمل المتتابعة داخل نطاق النص فحسب، فهو العلاقة التي تفسّر وتعزز الجانب الاتصالي للنص، وهذا ما يميل إليه كل من: فان ديك(13)، وآري فيرهــان (Arie Verhagen) (14)، ورومان كوبتكو (Roman Kopytko) (15)، وثوماس بلور وميريل بلور (Thomas Bloor and Meriel Bloor) * (16).
وقد كان الاتجاه واضحاً عند ديك إلى ربط النص بنظرية المعرفة أساسًا، أي بالسياق المعرفي؛ لأن النحو عنده أساسًا ليس كيانًا منغلقاً على نفسه، بل إن المرتكز النحوي عنده مرن جداً إلى أبعد حد(17)، وقد عزز هذا الاتجاه فاينريش في منهجه القائم على التجزئة النحوية للنص، فركز على السياقات الدلالية وارتباطاتها التواصلية في عملية تحديد النص أصلاًَ، أي أن وظيفة المرسل والمستقبل – أطراف معادلة الاتصال –هي فهم النص وإعادة بنائه أيضًا، فالنص عنده بنية منفتحة على سياقاتها التواصلية، إذ تتتابع الجمل داخل النص، وتترابط وفقاً لنظام يحدده السياق(18).
ويذهب الباحث إلى أن الاتجاه المنفتح في تحديد السياق، ووصفه هو الأكثر قبولا لسببين، الأول: أنه لا يهمل أثر العلاقات النصيّة نفسها داخل السياق النصي في بناء النص، كما أنه لا يعدها هي وحدها الأساس وكفى، الثاني: أنه ذو أثر تكاملي، فهو يدخل جميع العوامل والعلاقات التي تحيط بالنص، مما يضمن سلامة الفهم الصحيح له.
وما يهمّ البحث هنا، هو التأكيد على أن العلاقات السياقية هي علاقات متنوعة، وجميعها تسهم في اتّساق النص وانسجامه، وهذا يضمن سلامة التواصل كما سيأتي بيانه.
ثانيا: أهمية العلاقات السياقية في النص
يستنتج مما تقدّم بسطه، أن العلاقات السياقية هي الأساس في عملية بناء النص، فهي محور النص، وبدونها يظهر النص على أنه مقاطع صوتية غير مفهومة، ونتيجة للبحث والتحليل؛ فإنها تقوم بالوظائف التالية:
أ. إنتاج نص متماسك؛ لأنها تعطي النص سمة المقبولية الصحيحة، وما دام النص قد حصل على المقبولية من قبل المستقبل، فإن هذا يضمن – كما سبق ذكره – نجاح عملية الاتصال اللغوي، وذلك لتحقيق معايير النصية، أو الكفاءة النصية(19).
ب. تجعل النص شبكة نسيجية من الصعب فك عراها؛ لأنها تعزِّز مسألة كون النص نسيجاً من المكونات اللفظية والدلالية التي تترابط فيما بينها لتشكّل النص؛ وذلك على اعتبار أن النص هو "نسيج من الكلمات يترابط بعضها مع بعض"(20).
ج. إنّ الفعل النسيجي الذي تقوم به هذه العلاقات يعزِّز المنحى التداولي النصّي، ويؤدي إلى نجاحه واستمراره، فالحديث عن العلاقات السياقية ليس حديثاً عن علاقة لفظة بأخرى داخل الجملة، وإنما علاقة جملة بأخرى، ومعلوم أن مستخدم اللغة لا يتواصل مع غيره على أساس الجملة، وإنما يكون على أساس النصوص(21)؛ كما أنّ وجود المكوّن التداولي إضافة إلى المكونين النحوي والدلالي، سيؤدي إلى تحديد مدى مناسبة الجمل والخطاب للسياقات التواصلية المنجزة فعلاً، وهذا كلّه في النهاية يؤدي إلى التأثير الإيجابي في نفسية المستقبل، ممّا يجعله يتفاعل مع النص ويستمر.
د. تعمل العلاقات السياقية على تحقيق الفهم الصحيح للنص، وتنظيم أفكاره، وتتابعاته الدلالية المختلفة(22)؛ نظراً لما توفره من السبك (Cohesive) القائم على الإحالة، والحذف، والاستبدال، والربط، والاتساق المعجمي أو الانسجام المعجمي(23)، وهذا من شأنه أن يجعل الأجزاء النصيّة تقوم بوظائفها الحقيقية ضمن كلّ مرحلة من المراحل المنجزة.
لذا، فإنّ دراسة العلاقات السياقية تعني الكشف عن الأدوات التي تمكّن المرء من اكتشاف طرق بناء النص، ولِمَ يكون هذا النصُّ ناجحاً وذاك غير ناجح؟ ولِمَ يؤثّر هنا النص في الإنسان فيدفعه إلى التواصل؟ ولِمَ لا يؤثّر ذاك النص ويدفع الإنسان إلى الملل؟ باختصار، إن دراسة هذه العلاقات هي دراسة لطرق بناء النص، ودراسة لأدوات اتّساقه وانسجامه.
ثالثاً: النماذج الوظيفية للعلاقات السياقية في البنية النصية للأحاديث القدسية
يثبت النظر التحليلي النصي، وجود مجموعة من النماذج الوظيفية النصيّة للعلاقات السياقية داخل بنية الحديث القدسي، وهذه النماذج جميعها تنظّم بناء نص الحديث، وتعطيه طابع الاستمرارية والتواصل التأثيري، وأبرز هذه العلاقات هي:
أ- العلاقات السببيّة (causative Relations). ب- العلاقات المعجمية (The lexical Relations).
ج- علاقات التماثل الأسلوبي ((The stylistics similarity Relations
د- علاقات التناص (The Intertextuality Relations).هـ- علاقات التتابع الدلالي الخطي (The semantics chaining Relations)
وفيما يلي بحث لهذه النماذج بما يفيد.
أ- العلاقات السببية
يثبت التحليل اللغوي النصي للعلاقات القائمة بين الجمل أو التراكيب في بنية الحديث القدسي الشريف، أنّ العلاقات السببية تمثّل محور هذه العلاقات وقلبها النابض بالحركة والحيوية التي تعطي النص البعد الاتّساقي التماسكي، وهذا يوفر الأبعاد النحوية الحقيقية التي تعطي النص البعد التواصلي، مما يضمن سرعة التلقي والتأثير.
وبداية يمكن طرح التساؤل التالي: ما هي العلاقات السببيّة؟ وما هي المظاهر التي اتّفق علماء لغة النص على إثباتها؟ ثم ما هي نماذجها الوظيفية في الحديث القدسي؟
تُعدّ العلاقات السببية من العلاقات الدلالية المهمة التي تتضمن القيم الحقيقية لبناء الخطاب(24)، بل إنّ خطّة قاعدة الوصل السببي داخل النصوص تقوم على إدراك العلاقة السببيّة التي تقوم بين الجمل (التراكيب) على مستوى الامتداد النصي(25). وهي وفقاً لمنظورات نصية أوسع، علاقات تقوم بين الوحدات النصية، فتربط القضايا النصية بعضها ببعض(26)؛ لتركيزها المباشر على ربط المركبات القضوية النصية(27).
تم تحديد أدوات الربط السببي وحصرها بمجموعة من الأدوات والعناصر، استنتجت عن طريق الاطّلاع والتحليل لما كتب في هذا الموضوع في كتب علم لغة النص، وتشكّل هذه الأدوات مظهرين هما: الأدوات السببيّة الملفوظة، والأدوات السببيّة المقدّرة، وتتمثل الأولى باستخدام الأدوات الدالّة على السبب والتعليل جميعها، مثل: الفاء الدالة على السبب، والتلفّظ بـ "لأن"، و"حيث"(28)، أما المقدرة فتتمثل برصد العلاقات السببيّة المنطقية الناتجة عن التعالق الحاصل بين الوحدات النحوية على مستوى أبعد من الجملة الواحدة، فإذا كانت العلاقات السببيّة اللفظية قائمة على استخدام أدوات التعليل الملفوظة، فإن العلاقات المقدّرة، تقوم على تحليل الدلالات الخاصة بالتراكيب، وملاحظة الالتحام التام القائم بين التراكيب والسياقات، وهذا يتطلّب وعياً من قبل المستقبل، وهذا ما أسماه جان كوهن بـ "الربط بالقران"(29)، إلا أن كوهن لم يولِ أهمية كبيرة لدور المستقبل في عملية اكتشاف هذا النمط من العلاقات بخلاف براون ويول(30) ودي بوجراند(31) وفان ديك(32)، فهؤلاء ركّزوا على دور المستقبل في تحليل هذه العلاقات؛ لأنهم وجدوا أن دور المستقبل لا يقتصر على تحليل العلاقات داخل السياق اللغوي وحسب، بل يتعدّى ذلك فيدخل عناصر معرفية تواصلية أخرى في عملية التحليل والاستنتاج مثل: الشفرة اللغوية، وظروف الإنتاج، وطبيعته، وحالة المستقبل(33)؛ وذلك لضمان اكتشاف العلاقات العلية المنظمة لعالم النص بحسب دي يوجراند إذ يقول: "إن كثرة اللحمات الدالة على العلية والزمانية تظهر أهمية هاتين العلاقتين لتنظيم عالم النص"(34).
ويجد المتتبع لهذه العلاقات في الأحاديث القدسية، أثرها البارز في بناء النص وتنظيمه، ومن ذلك ما جاء في الحديث التالي:
"قَاْلَ أَبُو سَعِيْدٍ بنِ الأعْرَابي: حَدّثَنَا مُحَمَّدُ بْنِ عَبْدِ المْلَِكِ بْنِ يزيدَ الرّوّاس –يُكنى أبا أسامة – قال أخبرنا حيوة بن شريح المصري أخبرنا بقية عن ضبارة بن عبد الله بن أبي سليك الألهاني قال: أخبرني ابن نافع عن ابن شهاب الزهريٌ قال سعيد بن المسيب: إن أبا قتادة بن ربعي أخبره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قال الله عز وجل: إِنِّي قَدْ فَرَضْتُ عَلَى أُمَّتِكَ خَمْسَ صَلَوَاتٍ، وَعَهِدْتُ عِنْدِي عَهْداً أَنّهُ مَنْ جَاءَ يحافظُ عليهنّ لوقتهنّ أدخلتُهُ الجنة، ومن لم يحافظْ عليهنّ فلا عهدَ له عندي" "(35).
يُلحظ في هذا الامتداد النصي للحديث، وجود أثر بارز للعلاقات السببية في تنظيم النص، وقد تمثّلت بوجود الفاء الواقعة في جواب الشرط، باعتبارها عنصراً ملفوظاً، ثم سلسلة العلاقات المتتابعة والمتمثلة بالتتابع الدلالي التوضيحي؛ لأن سلسلة التراكيب المتتابعة، قد جاءت أساساً لتوضح فكرة "فرض الصلاة"، ويمكن توضيح ذلك عن طريق تحليل المضمون الدلالي لهذا الحديث كما يلي:
1-التبليغ بفرض الصلوات الخمس (تتابع وتفصيل سببي)
2- التبليغ بفضل القيام بالصلوات، وهو الجنة (تتابع وتفصيل سببي)
3- التبليغ بمصير من لم يحافظ عليهن (تتابع وتفصيل سببي)
فالمراحل جميعها هي مراحل تتابعية تفصيلية، والتراكيب جميعها توضح بعضها بعضاً، ووجود أسلوب الشرط يعزّز البنية السببية، يُضاف إلى ذلك خاتمة الحديث، والتي تتضمن التبليغ بمصير من لم يحافظ على الصلاة، وفي هذا ربط محكم للتراكيب جميعها، ولتوضيح أكثر لهذه المسألة، يمكن تلخيص ما تقدّم ذكره بما يلي: انبثق عن فرض الصلاة التفصيلات الخاصة بمصير الإنسان؛ فالمراحل جميعها إذن هي مراحل سببية، تقوم على تقدير العلاقات السببية التي تربط الأفكار التي تتضمنها التراكيب. ويؤكّد هذا النمط من العلاقات أنّ البنية السطحية للغة تتضمن بعض الروابط السببية الملفوظة على السطح(36)، وهي تتآزر مع الروابط القارّة في البنية الدلالية العميقة القائمة بين المترادفات الدلالية، التي توصل إلى المعنى النهائي الموحد، رغم اختلاف التراكيب(37)؛ وذلك وصولاً إلى بناء ناجح للنص.
ومما يعزّز العلاقات السببية داخل البنية النصية للحديث مسألة التدرّج الإسنادي في عرض الأفكار، لما تتضمنه من تسلسل منظّم، وتظهر جلية في التدرّج؛ لأن بنية التدرج هي بنية منطقية(38)؛ فتحقُّق إحدى صور المعلومات داخل التتابع الجملي النصي يتوقّف على حدوث الأخرى(39)، إذ تترابط المحتويات الدلالية للتراكيب الإسنادية بطريقة مقنعة ومؤثرة، ويلمح هذا في كل حديث من الأحاديث القدسية، ومن ذلك الحديث التالي:
"حدّثنا أبو بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، قالا: حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقول الله سبحانه: أَنَا عِنْدَ ظَنّ عَبْدِي بي. وأنا معه حين يَذْكُرُنِي. فَإِنْ ذَكَرَنِي في نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نفسي. وإِنْ ذَكَرَِني في مَلأ ذَكَرْتُهُ ِفي مَلأ خَيْرٌ مِنْهُمْ، وإِنْ اقْتَرَبَ إِليّ شِبْرًا اْقتَرَبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعاً. وِإنْ أَتَانِي يَمْشِي أتَيْتُهُ هَرْوَلَةً"(40).
إذ تترابط التراكيب على تعدّد دلالاتها الجزئية مع اتفاقها في الفكرة الكلية التي هي: (حسنُ الظن بالله تعالى)؛ وذلك بفعل العلاقات السببية التي تربط الدوائر الإسنادية المشكلة لهذا الحديث، فالله عز وجل يكون عند ظن عبده به، فتنبثق من هذه الفكرة الدلالات الجزئية التي تحملها الأفكار المتتابعة، وهذه الأفكار هي:
1. إن الله مع العبد حين يذكره.
2. إذا ذكر العبد الله عز وجل في نفسه ذكره الله في نفسه.
3. إذا ذكر العبد الله عز وجل في ملأ ذكره الله في ملأ خير منهم.
4. إذا اقترب العبد من الله شبراً اقترب الله إليه ذراعًا.
5. إذا أتى العبد إلى الله ماشياً، أتاه الله هرولة.
فكل فكرة تُفضي إلى الأخرى وهكذا حتى نهاية الحديث، وهذه العلاقات تعزّز الوحدة الموضوعية لبنية الحديث الشريف، ومن ذلك ما جاء في خلق ابن آدم في بطن أمه، ونصّ الحديث المتضمّن لهذه الفكرة هو:
"حدّثنا آدم حدّثنا شعبة حدّثنا الأعمش سمعت زيد بن وهب سمعت عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه حدّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- وهو الصّادق المصدوق- "أنَّ خَلْقَ أَحَدِكُمْ يُجْمَعُ ِفي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِيَنَ يَوْماً وأَرْبَعِيْنَ لَيْلَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَهُ، ثم يَكُوُنُ مُضْغَةً مِثْلَهُ، ثم يُبْعَثُ إليه الملكُ فَيُؤَذِّنُ بأربعِ كلماتٍ فَيَكْتُبُ رزقَهُ وأجَله وعمَله وشقيّ أم سعيدٌ، ثم يَنْفُخُ فيه الروحَ فإنّ أَحَدَكُمْ ليعمل بعملِ أهلِ الجنةِ حتى لا يكونُ بينها وبينه إلا ذراعٌ، فيسبقُ عليهِ الكتابُ، فيعمل بعملِ أهلِ النارِ فيدخلُ النارَ، وإنَّ أحدَكم ليعمل بعملِ أهلِ النار ِحتى ما يكونُ بينَها وبينَهُ إلا ذراعٌ، فيسبق عليه الكتابُ، فيعمل عملَ أهلِ الجنةِ فيدخُلها"(41).
إذن، فالفكرة المحورية هي: خلق ابن آدم في بطن أمه، وتقوم العلاقات السببية بعملية الربط الإسنادي، فيحدث الربط بين التراكيب التي تحمل في دلالاتها المراحل التي يمر بها الإنسان وهو في بطن أمه، ولتعزيز هذا الترابط، اُُتبعت هذه المراحل مباشرة بما يُرغّب الإنسان في فعل أفعال أهل الجنة، وترك أعمال أهل النار، وقد يكون السبب الأساسي الذي دفع إلى ذكر مراحل خلق الإنسان هو التذكير بالمراحل التي يمر بها وهو في بطن أمه، فيأخذ العظة والعبرة، فيتذكر قدرة الله دائمًا، وهذا يجعله يلتزم بعمل أهل الجنة، وترك عمل أهل النار، وهنا تتنامى مسألة التعالق السببي، لتصل إلى ذروتها، فتكون العلاقة التي تربط جزأي الحديث هي علاقة السبب بالنتيجة، فيكون سبب ذكر مراحل خلق الإنسان – كما سبق ذكره- هو تذكيره بقدرة الله عز وجل في الخلق، فتكون بذلك العلاقات السببية قد نظّمت جميع أجزاء الحديث، وربطت بعضها بعضاً أيضاً، ويمكن تمثيل ذلك بالشكل التالي:
(أ)
(ب)
فالدائرة (أ) تمثّل مراحل خلق الإنسان، وكل ما يحيط بأمور حياته من الرزق والشقاء والسعادة، والدائرة (ب) تمثّل عمل الإنسان، والتداخل الحاصل بين الدائرتين يمثل العلاقات السببية التي تربط جزأي الحديث، أما الخطوط العرضية (الأفقية) التي تتخلل الدائرتين فتمثل أيضا العلاقات السببية التي تربط التراكيب النصية. وهذا يثبت أن العلاقات السببية تمثل الجانبين: الظاهر والخفي للروابط النصية، أي أن الربط قد يكون بالأداة وقد لا يكون بها، فقد تكون رحلة الربط رحلة ذهنية تصوّرية، لا تعتمد على الربط المباشر، وإنما تعتمد على عدم المباشرة في الربط، وكل هذا يخضع لمحور التتابع الذي هو أصلا "العلاقات التي تربط الجمل بعضها ببعض"(42).
ومن مظاهر العلاقات السببية ظاهرة التفصيل بعد الإجمال، ولا يخفى ما لهذه الظاهرة من أثر بارز في وضع الإطار النصي الحقيقي للعلاقات السببية التي تخدم الموقف بعامة- إذ يتم ذكر نقطة محدّدة ثم تُتبع بتفصيلات خاصة بها، فتكون هذه النقطة الفكرية إجمالاً- يُتبع بالتفصيلات الخاصة به، ونماذجه كثيرة في الحديث القدسي، ومن ذلك ما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عز وجل: "يَا ابنَ آدم اثنتانِ لم ْتكنْ لكَ واحدةً منهما: جعلتُ لكَ نصيباً منْ مالِكَ حين َأخذتُ بكظمِكَ، لأُطهّركَ به وأزكّيكَ. وصلاةُ عبادي عليكَ بعدَ انقضاءِ أجلِكَ"(43).
ففي قوله: (يا ابن آدم اثنتان لم تكن لك واحدة منهما) إجمال، وهو سبب للتفصيلات اللاحقة، فالاثنتان اللتان لم تكونا للإنسان هما: المال الذي يأخذه الله ليزكي به الإنسان، والصلاة على الإنسان بعد وفاته، وهاتان الاثنتان هما التفصيل (النتيجة)، المنبثق من الإجمال السابق، وهذا يمثل أعلى درجة من درجات التماسك والربط.
ب- العلاقات المعجمية
تتراءى عبر السياق النصي مجموعة من العلاقات اللفظية، وتقوم هذه العلاقات الخاصة بالألفاظ بربط التراكيب النصية، وعموماً، فإن علماء لغة النص حصروا هذا النمط من العلاقات بإعادة الذكر (التكرار) والتضام.
إعادة ذكر اللفظ أو التركيب نفسه بحسب دي بوجراند debeaugrande يتطلّب "وحدة الإحالة بحسب مبدأي الثبات والاقتصاد"(44)، وله علاقة مباشرة بالتماسك المعجمي الذي يُعد الخطوة الأساسية في بناء الجملة والنص كاملاً(45). وهو كما يصرّح كل من: هاليداي وحسن يتمثل بما يلي:
1. إعادة العنصر المعجمي نفسه.
2. إعادة أو ورود مرادف له.
3. إعادة عنصر شبه مرادف.
4. إعادة عنصر مطلق.
5. إعادة اسم عام(46).
ولتوضيح هذه العلاقة نأخذ الحديث التالي:
"وحدّثني عن مالك عن سهيل ابن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحبّ الله العبد، قال لجبريل: قد أحببت فلانا فأحبَّه، فيحبه جبريل. ثم ينادي في أهل السماء: إن الله قد أحبّ فلانا فأحبوه، فيحبه أهل السماء. إن الله قد أحبّ فلانا فأحبوه. فيحبه أهل السماء. ثم يُوضع له القبول في الأرض". وإذا أبغض الله العبد قال مالك: لا أحسبه إلا أنه قال في البعض مثل ذلك"(47).
فالتركيز على الجذر "حب" وإعادة ذكره بصيغ مختلفة؛ يحدث نوعاً من العلاقات السياقية الهادفة: (أحب، أحببت، فأحبه، فيحبه، أحب، فأحبوه، فيحبه)، وهذا النوع من العلاقات السياقية المعجمية يؤدي إلى استمرار السياق وعدم انقطاعه، فهو يعزّز الترابط النحوي المعجمي؛ لأنه يتضمن في ثناياه التتابعات الدلالية النحوية، فلا تبقى محصورة في إطار العلاقات الشكلية القابعة في اللفظ، وفي بعض مدلولاته كما هو متصوّر في بعض الدراسات(48).
وهذا التتابع لهذه الصيغ، يثبت أن هذه الصيغ هي التي تنظم عالم النص، فهي تثبت الفكرة الأساسية القائمة على أساس: محبة الله لعبده، فالله عز وجل إذا أحبّ عبداً، حبّبه إلى عباده، ولترسيخ هذه الفكرة وتأكيدها؛ فإنه تم تكرير هذه الصيغة لتحمل في ثناياها الأفكار جميعها.
كما أن التدقيق في هذه العلاقة، يثبت أنها تؤثر في منظومة العلاقات الكلية التي تحكم بنية الحديث الشريف النصية، فهي التي استدعت أسلوب العطف، كما أنها عملت على تعزيز ظاهرة التعليق الشرطي وتعميق أثرها في اتّساق النص، وهذا يثبت أيضاً الأبعاد التكاملية التآزرية للعلاقات النصية، وصولاً إلى نص هادف، يدفع إلى التواصل والتأثير، وما يؤكد ما تقدّم ذكره نصاً وفكرةً الحديث التالي:
"وحدّثنا محمدٌ بن رافع:ٍ حدّثنا عبد الرزاق: أخبرنا معمر، عن همام بن منبه قال: هذا ما حدثنا أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر أحاديث منها: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ أدنى مقعدِ أحدِكم منَ الجنةِ، أنْ يقولَ لهُ: تمنّ. فيتمنّى ويتمنّى. فيقول له: هل تمنّيت؟ فيقول: نعم؟ فيقول له: فإن لك ما تمنّيت ومثله معه"(49).
إن إعادة لفظ "التمنّي" بهذا التتابع يؤكد العلاقات السببية القائمة بين التراكيب المتتابعة، أو بين جزأي الحديث الشريف، فالجزء الأول: يبيّن مكانة الإنسان في أدنى مقعد في الجنة، والجزء الثاني: جاء ليبيّن هذه المكانة أو الوضع الذي يتمثّل بإعطاء الإنسان كل ما يتمنّى ومثله معه زيادة على ذلك، وقد جاء هذا التكرار ليعزّز فكرة أن كل ما يتمنّاه الإنسان سيحصل عليه.
ولعلّ هذا من أبلغ أنواع البلاغة في بنية الحديث القدسي الشريف، إذ يرتقي تكرير اللفظ والتركيب معاً؛ ليعزّز غاية أبعد وأعمق مما يتخيّله قارئ سطح التركيب، وهذا فيه بلاغة وإبلاغ (تأثير)، وحثّ على الالتزام بكل ما يوصل الإنسان إلى الحصول على كل ما يتمنّاه، فيحصل على الجنة، وكل ما يتمنّاه داخل الجنة، وهذا له علاقة مباشرة أيضاً بالمقصدية الأسلوبية داخل الحديث الشريف نفسه، أي: علاقة بالجانب الأسلوبي والغرض هنا التمثيل لا الحصر.
جـ- علاقات التماثل الأسلوبي
تُعدّ علاقات التماثل الأسلوبي من العلاقات السياقية اللافتة للنظر في البناء النصي للحديث القدسي الشريف، وبداية يمكن طرح السؤال التالي: ما المقصود بعلاقات التماثل أو التشابه الأسلوبي؟ للإجابة على هذا السؤال لا بد من التأكيد على أن المنحنى الأسلوبي، وكذلك المقصدية الأسلوبية، لهما أثرهما الواضح في تعزيز التواصل والاستمرار السياقي؛ لأن ذلك له تأثير في طرق فهم النص، والاستمرار معه، كما أنه يعطي شعوراً جيداً بطرق التفكير والبناء الذهني للنص(50). وربما هذا يتناقض مع الفروض القائلة: بأن البلاغة والأسلوبية معا تركّزان على البعد الفني وما يحدثه الشكل من أثر جمالي باعتباره عاملاً جوهرياً، دون الحاجة إلى تفصيل الفروق بين الأشكال التواصلية والفنية للاستعمال(51).
فالعلاقات الأسلوبية داخل السياق النصي، تتخطّى مسألة الوقوف على معنى الشكل اللغوي، والأيديولوجيا والدلالة التي يتضمّنها؛ لأن هذا ليس هدف الأسلوبية أصلاً(52). وإنما تتخطّى ذلك لتبرز أثر هذه الأشكال اللغوية في وصل السياق (استمرار السياق)، وعدم انقطاعه، وتفعيل أثر هذه الأشكال في بناء النص، وذلك لأن عالم الأسلوبية يكون أمام نسيج نصي بحاجة إلى توضيح وتفسير(53).
ربما هذا الفهم هو الذي دفع بـ (فاينريش) إلى القول: إن المعنى لا يتحدّد عن طريق الجملة الواحدة، وإنما عن طريق التعاقب بين مجموعة من الجمل(54)، وإذا كان فهم المعنى يتحقّق عن طريق تتابع جملتين فأكثر فما أجدر بهذه الجمل أن تكون نماذج أسلوبية – في ذاتها – مؤثرة، وتسهم بطريقة فاعلة في عملية التواصل وفهم النص(55)، ويعدّ هذا الفهم من أهم ما قُدّم في هذا السياق، وهو يثبت أن الأشكال الأسلوبية المتماثلة، والممثلة للظاهرة الأسلوبية هي التي تجعل الأسلوبية محاولة جادّة للاتصال المؤثّر من قبل القارئ في نفسية المتلقي(56).
يمكن تمييز مجموعة من علاقات التماثل الأسلوبي – كما تمّت الإشارة– في نص الحديث القدسي الشريف، وهي علاقات أسلوبية نحوية، تصل السياق، وتفعله نحو التواصل والتأثير، ومثال ذلك، وهو كثير جداً، ما يتضمنه الحديث التالي:
"حدّثني محمدٌ بنُ حاتمٍ بن ميمونٍ، حدّثنا بَهْزٌ. حدّثنا حمادُ بن سلمةَ عن ثابتٍ، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرةَ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ الله َعزّ وجل يقولُ يوم القيامة: يا ابْنَ آدم مرضتُ فلمْ تَعُدْنِي. قال: يا ربّ كيفَ أعودُكَ؟ وأنتَ ربّ العالمين. قال: أما علمْتَ أنَّ عَبْدِيَ فُلاناً مرضَ فلم تَعُدْهُ. أما علمتَ أنكَ لو عُدْتَهُ لوجدتَنِي عنده؟ يا ابنَ آدم اسْتَطْعَمْتُكَ فلمْ تطعمْنِي. قال: يا ربّ وكيفَ أطعمُكَ؟ وأنت ربّ العالمين. قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه؟ أما علمتَ أنكَ لو أطعمتَهُ لوجدتَ ذلكَ عندِي؟ يا ابْنَ آدم اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تسقِني. قال: يا ربّ كيف أسْقِيْكَ؟ وأَنْتَ ربّ العالمينَ. قال: اسْتَسْقَاكَ عَبْدِي فلانٌ فلمْ تُسْقِهِ. أما أنكَ لو سقيتَه وجدتَ ذلكَ عندي"(57).
في المحور السياقي أو الامتداد السياقي لهذا النص، يُلحظ أن أسلوب النداء (يا ابن آدم)، (يا ربّ)، وكذلك أسلوب الاستفهام (أما علمت....؟)، لهما امتداد أسلوبي، يعزّز قيمة المضامين التي يتضمّنها الحديث، ويعمل على تقريرها وتأكيدها، بل إن هذا التماثل الأسلوبي من المرتكزات الأساسية التي بُني النصّ عليها، كما أنها تعزّز القيم الإبلاغية البنائية لهذا النص، فالله عز وجل ينادي: "يا ابن آدم"، فيردّ عليه ابن آدم، لجهله بالأمور التي هي باستطاعته قائلاً: كيف أفعل كذا وأنت ربّ العالمين، فيردّ عليه الله تعالى: "أما علمت كذا وكذا.." إنّ هذا الأسلوب في التفصيل والقول، ينسحب على مجموعة كبيرة جداً من الأحاديث القدسية، ويمكن تمثيل العلاقات الأسلوبية داخل هذا الحديث بالمعادلة التالية:
ع ت أ = ت . ن (1) + ت . ن (2) + ت . 1 س (1).
إذ يشير الرمز(ع) إلى العلاقة، و(ت أ) يشير إلى التماثل الأسلوبي، و(ت. ن (1) ) يشير إلى التركيب الندائي الأول، و (ت . ن (2)) يشير إلى التركيب الندائي الثاني، و (ت.1س (1)) يشير إلى تركيب الاستفهام، وهذه المعادلة تشكّل كل مرحلة من المراحل الأسلوبية الدلالية التي يتشكّل منها الحديث القدسي الشريف السابق، وهي ثلاث مراحل، تتمثّل الأولى: بالتركيز على عيادة المريض، والثانية بالتركيز على إطعام العبد للعبد، والثالثة بإسقاء العبد للعبد، ويمكن تمثيل التعالق الحاصل بين هذه المراحل جميعها بما يلي:
ع . ت . أ = ت . ن (1) + ت . ن (2) + ت . 1 س (1)
ع . ت . أ = ت . ن (3) + ت . ن (4) + ت . 1 س (2)
ع . ت . أ = ت . ن (5) + ت . ن (6) + ت . 1 س (3)
وتجدر الإشارة إلى أن الإشارة ( ) تشير إلى التداخل الحاصل بين المراحل كافّة، والتي تمثّلها المعادلات الموجودة بين المستطيلات.
ومن اللافت للنظر في علاقات التماثل الأسلوبي في الحديث القدسي، تكرار أسلوب بعينه، ويكون هذا مقصوداً، فهو يمثّل استراتيجية تفصيل دلالية، تأتي لتقرير مجموعة من الحقائق الدينية الثابتة التي تتمحور حول تأكيد فكرة كلية واحدة، وهي كثيرة جداً في الحديث، ومن ذلك الحديث الخاص بتحريم الظلم، ونصّه هو:
"حَدّثَنَا عَبْد الله بن عبد الرحمن بن بهرام الدارمي. حدّثنا مروان (يعني ابن محمد الدمشقي)، حدّثنا سعيد بن عبد العزيز عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال:
"يَا عِبَادِي إِنّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي. وجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ محرََّماً فَلا تَظَالَمُوْا. يَا عِبَاِدي كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلاّ مَنْ هَدَيْتُه. فَاسْتَهْدُوْنِي أَهْدِكُمْ يا عبادي كُلكمْ جائعٌ إلا من أطعمتُهُ فَاسْتَطْعِمُوْنِي أطعمكم. يا عبادي كُلكم عارٍ إلا من كسوتُهُ. فَاسْتَكْسُوِْني أَكْسُكُمْ. يا عبادي إنكم تخطئون بالليلِ والنهارِ، وأنا أغفرُ الذنوبَ جميعاً. فاستغفروني أغفرْ لكم. يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني. ولن تبلغوا نفعِي فتنفعُوني، يا عبادي لو أن أولَكم وآخرَكم، وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلكَ في ملكِي شيئاً. يا عبادي لو أن أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ ما نقصَ ذلكَ منْ ملكِي شيئًا. يا عبادي لو أنّ أولَكم وآخرَكم وإنسَكم وجنَّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني. فأعطيتُ كلَّ إنسانٍ مسألته ما نقصَ ذلك مما عندي إلا كما ينقصُ المخيطُ إذا أُدْخِلَ البحرَ. يا عبادي إنما هي أعمالُكم أُحصيها لكم. ثم أوفيكم إياها. فمن وجدَ خيرًا فليحمد الله. ومن وجدَ غيرَ ذلكَ فلا يلومَنّ إلا نفسه".
قال سعيد: كان أبو إدريس الخولاني، إذا حدّث بهذا الحديث، جثا على ركبتيه"(58).
فتكرير النداء متبوعاً بالتراكيب المترابطة بفعل العلاقات السببية أمر لافت للنظر، ويأتي هذا التكرار (يا عبادي)؛ لأن العباد هم محور هذا الحديث، فهم الذين يصطنعون الظلم، ويمشون فيه في الأرض. ويعمل هذا التكرار أيضاً على تعزيز مجموعة من التساؤلات التي تقبع خلف الألفاظ والتراكيب، وهذه التساؤلات تفترض بالإنسان أن ينسى الظلم ويحذفه من حياته، وهذه التساؤلات هي:
1. بما أن الهداية من عند الله – عز وجل – فلِمَ يلجأ الإنسان إلى الظلم؟
2. بما أن الإطعام والكسوة من عند الله -عز وجل- فلِمَ يلجأ الإنسان إلى الظلم؟
3. بما أنّ المغفرة والمنفعة والضرر والقوة من عند الله- عز وجل- فلِمَ يلجأ الإنسان إلى الظلم؟
4. بما أن الرزق من عند الله – عز وجل – القادر على إحصاء كل ما يقدّمه الإنسان، فلِمَ يلجأ الإنسان إلى الظلم؟
نعم، إن هذا التكرار يخفي وراءه تساؤلات مختلفة، تلفت نظر الإنسان إلى ضرورة الالتزام، وأخذ العظة والعبرة، والانتباه إلى أن أمور الإنسان كلها لا تجري إلا بمقتضى قدرة نظامية إلهية، تنظّم حياة الإنسان، ورحلته في هذا الكون، وبناء على هذا تكون علاقة الأسلوب والتميز الأسلوبي بالنص هي علاقة إبداع وبناء، إنها علاقة تداخل(59).
د- علاقات التناص
التناص Inertextuality كما هو معلوم في بحث علماء لغة النص "يتضمّن العلاقات بين نص ما ونصوص أخرى مرتبطة به، وقعت في حدود تجربة سابقة، سواء بواسطة أم بغير واسطة"(60)، ونظراً لأهمية العلاقات التناصية، اشترط كل من: روبرت دي بوجراند وولفجانج درسلر، لنجاح النصية textuality شرط التناصية(61)، فلا بد من أن ارتباط النص بنصوص أخرى حتى يحقق مبدأ النصية، ويبرز هذا الاتجاه بروزاً واضحاً عند جوليا كرستيفا(62) ورولان بارت(63).
وتبرز هذه العلاقة بروزاً واضحاً في البنية النصية للكثير من الأحاديث القدسية، إذ تدخل النصوص القرآنية في تكوين نص الحديث، فتعمل على بناء النص، وتوضح مفرداته، وتقريرها، وإثباتها، فتكون لها أهمية كبرى في بناء التماسك البنيوي الشامل للنص، ويمكن القول: إن بنية الحديث القدسي تضم مجموعة من المتواليات الجملية التي تضم بنية كلية يمكن للقارئ أن يتوصّل إليها بوضوح عن طريق إدراك مجموعة من العلاقات اللغوية، وغير اللغوية، ويأتي التناص على رأس هذه العلاقات، ومن ذلك الحديث التالي:
"حَدَّثنا ابنُ أبي عُمَرَ، أَخْبَرنا سُفيانُ عن أبي الزَّنادِ عن الأعرج، عن أبي هُريرةَ، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل وَقَوْلُهُ الحْقّ: إذا هَمَّ عَبدي بِحَسنةٍ فاكْتبوها لَهُ حَسَنةً، فإنْ عَملها فاكتُبوها لَهُ بِعشرِ أَمثالها، وإذا هَمَّ بسيِّئةٍ فلا تكتُبوها، فإنْ عملَها فاكتُبوها بمثْلِها، فإنْ تركَها، ورُبما قال: فإنْ لم يَعْمل بها، فاكْتُبُوها حَسنةً، ثُمَّ قرأ: (من جاءَ بالحسنةِ فلهُ عَشْرُ أَمثْالِها).
قال أبو عيسى: هذا حديثٌ حَسنٌ صحيح"(64).
يلحظ أنّ الآية: (من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها)؛ جاءت لتوظّف في السياق المخصص لها، إذ يتضمّن السياق الحديث عن الترغيب في فعل الحسنة، والترهيب من فعل السيئة، وبيان فضل الله - عز وجل – وسعة رحمته للإنسان، وقد يكون مجيء الآية في نهاية الحديث؛ ليدل على أنّ الغرض الأساسي هو الترغيب بفعل الحسنة، والابتعاد عن السيئة.
وقد يوظّف التناص في بناء الحديث الشريف؛ لبناء نص الحديث كاملاً، فتكون العلاقة هي علاقة كلية تكاملية، إذ يأتي الحديث نفسه موضحاً وشارحاً للنص القرآني، ومثال ذلك الحديث الذي يدور حول قراءة الفاتحة سرّاً لا جهراً خلف الإمام في الصلاة، ونصُّهُ هو: "حدّثني يحيى، عَنْ مالكٍ، عَنْ العلاءِ بْن عَبْدِ الرَّحمن بن يعقُوب، أنَّه سَمِعَ أَبا السّائبِ مولى هشام بن زُهرةَ يقولُ: سمعْتُ أَبا هريرة يقول: مَنْ صلَّى صلاةً لَمْ يقرأ فيها بأُمّ القُرآن فهي خِداجٌ هي خِداجٌ هي خداجٌ غَيْرُ تامّ". قال: فقلتُ: يا أَبا هُريرة: إِنِّي أحياناً أكونُ وراءَ الإمامِ. قال: فغمزَ ذِراعي، ثُمَّ قال: اقرأ بها في نَفْسِك يا فارسيّ، فإني سمعتُ رسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "قال تبارك وتعالى قَسَمْتُ الصلاة بيني وبينَ عَبدِي بنصفين، فنصفُها لِي ونِصْفُها لِعَبْدي، ولِعَبْدي ما سأَلَ". قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: "اقرَؤوا يَقُولُ العَبْدُ: (الحَمدُ للهِ ربّ العالِميْنَ) (سورة الفاتحة: الآية: 2) يقولُ الله تبارك وتعالى حَمِدَني عَبْدي ويقولُ العَبْدُ: (الرّحمن الرّحيم) (سورة الفاتحة: الآية: 3) يقولُ الله أثنى عليَّ عَبْدي ويقولُ العَبْدُ: (مالِك يوم الدّين) (سورة الفاتحة: الآية: 4) يقولُ الله مجَّدني عَبْدي يقول العَبْدُ: (إيّاكَ نَعْبُدُ وإيَّاك نستعينُ) (سورة الفاتحة: الآية: 5) فهذه الآية بيني وبين عَبْدي ولِعَبْدي ما سألَ يقولُ العَبْدُ: (اهدنا الصّراطَ المستقيم صراط الذين أنْعمتَ عليهمْ غير المْغضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالّين) (سورة الفاتحة: الآية 6-7) فهؤلاء لِعَبدي ولِعَبْدي ما سألَ"(65).
تأتي سلسلة الاقتباسات القرآنية، المتمثّلة بآيات سورة الفاتحة؛ لتؤكِّد ولتوضح كيفية قول النبي صلى الله عليه وسلم: "قال الله تبارك وتعالى قَسمتُ الصلاة بيني وبين عبدي بنصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولِعبدي ما سأل". وحينما يقول العبد: الحمد لله رب العالمين* الرحمن الرحيم* مالك يوم الدين) فإنّ في ذلك حَمْداً، وثناءً، وتمجيداً لله عز وجل، فهذا لله عز وجل، وحينما يقول العبد: (إيّاك نعبد وإيّاك نستعين)، فإنّ هذا لله وللعبد، وحينما يقول العبد: (اهدنا الصراط المستقيم* صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين)، فإن هذا يكون للعبد، والله - عز وجل – أعطاه ما سأل.
وجدير بالتقرير، أن التتابع التركيبي في هذا الحديث، يثبت وجود هندسة أسلوبية ذات أبعاد متعدّدة؛ جاءت لتعزّز البعد التناصي، المتمثّل بالاقتباس من القرآن الكريم، وشواهد ذلك كثيرة، فالغرض هو التمثيل لا الحصر.
هـ- علاقات التتابع الدلالي الخطي
التتابع الدلالي هو صنف من العلاقات السياقية التي تخضع لمبدأي التتابع والتعاقب، ويميل البحث إلى تسميته بهذا الاسم – رغم أنّه يوحي بالعمومية – ليكون أكثر شمولاً وتحديداً لمجموعة من المظاهر الخاصة به، ويمكن حصرها بما يلي:
أ- الروابط الزمنية (التتابع الزمني).
ب- العطف.
ج- التتابع الدلالي الإسنادي
يشير محور التتابع إلى "العلاقات التي تربط الجمل بعضها ببعض وهي تستجيب في ذلك لحتمية الخطية Linearite في إنجاز الكلام"(66). وقد ركّز فان ديك وهاليداي ورقية حسن وكرومبي، على أهمية الروابط الزمنية بين الأحداث النصية في عملية البناء النصي، وهذه العلاقات هي علاقات توافقية توفرها الأفعال وبعض الألفاظ الدالّة على الزمن(67)، ومثال ذلك الحديث التالي:
"حدّثني هارون بن سعيد الأَيْليّ. حَدّثنا ابْنُ وَهْبٍ. حدّثني مالك عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال الله عز وجل: أعددْتُ لِعبادي الصالحينَ ما لا عَيْنٌ رأتْ، ولا أُذنٌ سمعتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشرٍ. ذُخراً بَلْه ما أطلعكم الله عليه"(68).
يلحظ أنّ سلسلة الأفعال: (أعْدت، ورأت، وسمعت، وخطرَ، وأطلعكم)، تترابط فيما بينها زمنياً، وتعمل على تنظيم سلسلة الأحداث التي يتكوّن منها الخطاب القدسي، وذروة البلاغة القدسية أن يأتي الفعل معبّراً عن الرابط الزمني من جهة، ومعبّراً عن مناسبته للحدث من جهة أخرى. وهذه الأفعال جميعها مترابطة، وتابعة لمحور حتمية الإنجاز، والأحاديث التي تؤكد هذا كثيرة جداً.
أمّا العطف، فهو خير ما يربط التراكيب بطريقة ظاهرة، إذ يقوم على عطف الجمل والتراكيب بعضها على بعض ضمن السياق الخطي(69)، فتكون العلاقة القائمة بين التركيبين هي علاقة التتابع الدلالي؛ لأن الجملة المعطوفة أو التركيب المعطوف يأخذ حكم التركيب المعطوف عليه ودلالته، ويحدث العطف بوساطة أدوات العطف المعروفة(70)، ويقوم المفهوم الوظيفي للعطف على النظر في المعاني المتعددة لاستعمالات حرف العطف، ويتطلّب وجود قرابة بين وحدات اللسان(71)، ويرى جان كوهن أن العطف يوجّه نظرنا إلى طبيعة تعاقب الجمل داخل النص(72)، "فالتوسّع بالعطف قد يشمل في تحليل الجملة العربية الدلالات المنتظمة، داخل وحدة كلامية قائمة برأسها حتى يلتقي الشكل التركيبي بالشكل المعنوي"(73). وجدير بالملاحظة، أنّ العطف كثير الورود في بنية الحديث القدسي كما مَرّ، ولا توجد حاجة لإيراد نماذج على العطف لسهولة مجراه.
ويُعدّ التتابع الدلالي الإسنادي من أبرز العلاقات السياقية التي تكوّن عالم النص، وتتحكّم بأهدافه، فتعمل على سَلْسلتها بأسلوب مترابط متماسك، وتتراءى هذه العلاقات عبر البنية النصية عن طريق ربط جزأي التركيب بعضهما ببعض من جهة (74)، وربط سلسلة التراكيب النصية بعضها ببعض؛ كونها تدور حول فكرة محوريّة أو دلالة كلية واحدة وثابتة من جهة أخرى(75)؛ وذلك لأن اشتراك التراكيب الإسنادية في المحور الدلالي الثابت هو من أسمى علاقات الربط؛ إذ يعكس الإمكانات الذهنية التنظيمية داخل النص(76)، وما يؤكِّد ذلك الحديث التالي:
"حدّثنا مُحمد بنُ حاتم بن مَيْمُونٍ. حدّثنا بَهْزٌ. حدثنا وهيب. حدثنا سهيل عن أبيه، عَن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ لله تبارك وتعالى ملائكةً سيّارةً، فُضلاً يبتغونَ مجالِسَ الذكرِ. فإذا وجدوا مجلساً فيه ذكرٌ قعدوا مَعَهُم. وحفّ بعضُهم بعضاً بأجنحتِهم. حتى يملؤوا ما بينهم وبين السَّماءِ الدنيا. فإذا تفرقوا عَرَجُوا وصَعِدُوا إلى السّماءِ. قال: فيسألُهم الله عز وجل، وهو أعلمُ بِهِمْ: مِن أين جئتم؟ فيقولون: جئنا من