السياقية والسياقيون
مقدمات تأسيسية
د.عيد بلبع
إن النظرة السياقية إنما هي استكشاف دائم للآفاق بتجاوزها النظرة أحادية البُعد التي تنثني على نفسها وتتقوقع على ذاتها ، إنما هي نظرة انفتاحية استيعابية تنفض عن نفسها الخيوط العنكبوتية للنظرة أحادية البُعد أحادية الرافد ، فالنظرة السياقية مرفودة دائماً بما لا حصر له من الروافد ، منفتحة على ما لا حصر له من الرؤى ، طامحة إلى استشراف ما لا حصر له من الآفاق ، فالسياقية إبحار معرفي لا يعبأ بحدود المكان ولا يعرف حدود الزمن ، مربوطة بمركزها مشدودة إليه وهي سابحة في الآفاق ، فولاؤها للوعي وللمعرفة في وجودهما الذى لا تحده حدود المذهبية ، ولا تخنقه ضواغط الأيديولوجيات ، ولا يعترف بحواجز الزمان والمكان ، ومن ثم تنطلق فكرة " السياقية " وتتشعب في عدة مواقف .
الموقف المعرفي :
تأتي فيه السياقية منهجاً في المعرفة ، أي أنه لا يقف عند حدود مقاربة النصوص تحليلا وتأويلا ، ولكنه يتجاوز ذلك إلى البحث فيما وراء المناهج من خلفيات معرفية وجذور فلسفية تدخل جميعها ضمن السياقات الثقافية التي نشأت فيها هذه المعارف والفلسفات ، ومن ثم يأخذ المنهج السياقي في المعرفة نفسه بالبحث في فلسفات العلوم والمعرف ، كما يأخذ نفسه بالبحث في نظرية المعرفة ، وهو في هذه المسالك يصطنع لنفسه نهج المقارنة بين مناشئ العلوم والمعارف والنظريات والمناهج في سياقات إنتاجها وسياقات تلقيها ، فلا يتنكر لمنبع من منابع المعرفة نظراً لزمانه أو مكانه أو لهويته ، ولا يتنكر لنشاط العقل البشري مهما كانت الأيديولوجيات المحركة له ، فقط ينطلق في هذا الحراك المعرفي من وعي بهذه الأيديولوجيات على مستوى وعي الذات والآخر ، فالمعرفة مهما تعددت اتجاهاتها وتشعبت مواطنها وتباينت عصورها واختلفت توجهاتها تأتي بمثابة الروافد التي ترفد العقل وتغذيه ، لينشأ فيه جدل بين معطياتها ، ثم ليأخذ سبيله إلى النضج الذي يؤهله إلى أن يكون قادراً على إنتاج المعرفة ، فالسياق موقف معرفي وليس مجرد مبحث معرفي تناقلته العلوم والمعارف ، ومن ثم فهو ضرورة يفرضها الضمير المعرفي .
إن السياقية بذلك تهدف إلى تحقيق التكامل المعرفي ، والتكامل الذى نقصده هنا إنما هو تكامل مزدوج ، تكامل بين رؤى الحقول المعرفية المختلفة في التراث العربي ومنها علوم العربية من نحو ولغة وبلاغة ، والعلوم الإسلامية من أصول فقه وحديث وتفسير ، وتكامل بين ما يمكن أن يطلق عليه النظرية السياقية العربية والنظرية السياقية الغربية ، ولكن رؤيتنا للسياق في التفكيرين العربي والغربي لا تنطلق من المحاولة الجامدة لإثبات شرعية التراث بموافقته للمقولات الغربية الحديثة ، أو إثبات شرعية النظرية الغربية الحديثة بموافقتها للمقولات التراثية ، ولكن هذه الرؤية تنطلق من هدف معرفي خالص يتجاوز القُطرية ومواطنة المعرفة ، وفي انطلاقها هذا تأخذ في حسابها الإسهام العربي والغربي معاً بوصفهما رافدين معرفيين لا يقل أحدهما أهمية عن الآخر ولا يزيد إلا بقدر ما أضاف إلى النظرية المعرفية من أبعاد أثرت جوانبها .
الموقف الانتمائي :
إننا نؤكد بهذا الموقف على انتمائنا لجذورنا التراثية في مقابل دعاوى العولمة ومحاولات الذوبان في الآخر الغربي الوارد ، وبخاصة إذا كانت هذه المعرفة الواردة من الغرب لا تضيف لعمق أفكارنا العربية الإسلامية شيئاً ذا قيمة ، وقد كان من أخطر ما نفذ إلينا وتسلل إلى عقل غير واحد من الكتاب والباحثين والأساتذة في الجامعات العربية فتنة السميوطيقا والبنيوية وما تخللهما من أبعاد : الانغلاق على النص في التحليل ، والتنكر للأبعاد الجمالية ، بل التنكر لعملية التأويل ذاتها في كثير من الأحيان ، وهذه المحاولة تمثل موقفاً من المعرفة السابقة ـ من جانب ـ كما تمثل موقفاً من ملابسات وجود النص وملابسات تلقيه ، وهذه الملابسات هي السياق . والسياق بُعد أساسي في مكاشفة النصوص ، وهو في الوقت نفسه بُعد أصيل في ثقافتنا العربية والإسلامية ، فالسياق كان أساساً جوهرياً في علم أصول الفقه ، الذي يعد من أول العلوم الإسلامية التي اعتنت بكيفية استنباط الأحكام من النصوص المقدسة ( القرآن والسنة ) ، وأرى من موقفنا الانتمائي هذا أن نحتفظ لأنفسنا بهذا الجذر المعرفي المتألق ، لأن هذا الجذر نفسه هو الذي التفت إليه غير واحد من الغربيين في رد فعل على الانغلاق البنيوي السميولوجي ، وليس مجرد الانتماء هو الذي يقودنا إلى هذا المنحى السياقي في تحليل النص اللغوي ، ولكن الذي يقودنا إليه فعلا هو ما يحمله من موقف معرفي ، فإن الجهل بالسياق إنما هو جهل بالهوية والانتماء ، بل هو جهل بالذات في منبتها وفي غاياتها وفي معرفة في أي فلك تدور ، وكيف تدور الأفلاك من حولها ، فالذي لا يدرى موضع تقاطع سياقه مع السياقات لا يدرى كيف تسير الدنيا من حوله ، فالسياقية مسلك لإعادة الوعي واستعادة الذات التي ذابت أو كادت في منعطف ضيق من منعطفات الزمان أو المكان.
ولعلنا لا نبالغ إذا زعمنا أن دراسات العلوم العربية والإسلامية التي قامت حول السياق ـ بوصفه منهجاً أو رؤية حبلى بجذور المنهجية ـ كانت من السبق والعمق معاً بحيث تتفوق على نظيرتها التي قامت في العصر الحديث في المعرفة الغربية ، وأن النظريات العربية التي أسست لدراسة السياق كانت أوفي من النظريات الغربية الحديثة التي قامت على يد مالينوفسكي ، وفرث وغيرهما ، وقد تنبه إلى هذه الحقيقة غير واحد من المحدثين ، منهم د. تمام حسان في ربطه فكرة السياق بفكرة المقام عند العرب الذين تقدموا ألف سنة تقريباً على زمانهم ؛ لأن الاعتراف بفكرتي المقام والمقال بوصفهما أساسين متميزين من أسس تحليل المعنى يعد الآن في الغرب من الكشوف التي جاءت نتيجة لمغامرات العقل المعاصر في دراسة اللغة ، ويرى د. تمام حسان في موضع آخر أن البلاغيين العرب بقولهم : " لكل مقام مقال " و " لكل كلمة مع صاحبتها مقام " وقعوا على عبارتين من جوامع الكلم تصدقان على دراسة المعنى في كل اللغات ، وأن ( مالينوفسكى ) وهو يصوغ مصطلحه الشهير (Context of situation ) لم يكن يعلم أنه مسبوق إلى مفهوم هذا المصطلح بألف سنة أو ما فوقها .
وفي الحديث عن نظرية الاتصال عند ياكوبسون يقرر د. عبد الله الغذامي أن حازماً القرطاجنى قد ذكر بعض عناصر الاتصال اللغوي ، من قبل ياكوبسون بسبعمائة عام حيث ذكر أن الأقاويل الشعرية : تختلف مذاهبها وأنحاء الاعتماد فيها بحسب الجهة أو الجهات التي يعتني الشاعر فيها بإيقاع الحيل التي هي عمدة في إنهاض النفوس لفعل شيء أو تركه أو التي هي أعوان للعمدة ، وتلك الجهات هي ما يرجع إلى القول نفسه ( الرسالة ) ، أو ما يرجع إلى القائل ( المرسل ) ، أو ما يرجع إلى المقول فيه ( السياق ) ، أو ما يرجع إلى المقول له ( المرسل إليه ) ، ولنا أن نضيف هنا أن نموذج حازم القرطاجنى قد اشتمل على عناصر عملية الاتصال الستة عند ياكوبسون جميعها إذا أخذنا في حسابنا أن القول يتضمن الوسيلة والشفرة ، وأن ياكوبسون فصل بين هذه العناصر ، وأن حازم القرطاجنى قد ضمنها في المقول .
ولكن التعرض للسياق لا يقتصر على فكرة المقام عند البلاغيين ، بل إن البلاغيين مسبوقون برؤية تكاد تمثل نظرية سياقية تامة في أصول الفقه وفي النحو العربي ، فإذا كانت نظرية أفعال الكلام ارتبطت في نشأتها على يد الفيلسوف الإنجليزي ( جون أوستن 1932 ، 1962 ) بتسجيل موقف ضد اتجاه المنطق الوضعي الذى نظر إلى معنى الجملة مجردة من سياق خطابها فإن النحو العربي في نشأته الأولى قد أَوْلى السياق أهميته في تحليل معنى الجملة ، مما يجعل معالجات سيبويه المتقدمة رداً على متأخري النحاة الذين جردوا الجملة من سياقها .
وقد تعرض الزمخشري إلى المعنى المجازى لكلمة السياق التي تعنى السياق الذى ورد فيه الكلام ، وهو يتوزع بين مفاهيم تتابع الكلمات في الجمل ، والجمل في النصوص ، والمقام الذى يصاحب الكلام ، والقصة أو الظرف الخارجي الذى يمكن فهم الكلام على ضوئها مستنداً في ذلك كله إلى روايات عن ابن جني والسيوطي .
وقد جاءت كلمة السياق في صحيح البخاري وصحيح مسلم وفي سنن النسائي وفي سنن ابن ماجه ، كما جاءت في شرح النووي على صحيح مسلم ، وفي كتاب الإصابة في أخبار الصحابة لابن حجر ، وفي كتاب البداية والنهاية لابن كثير ، وقد وردت أيضاً في شرح الإمام عبد الحي اللكنوي لموطأ الإمام مالك رضي الله عنه ، المسمى : " التعليق المُمَجَّد لموطأ الإمام محمد " ، كما جاءت إشارات في نقد المتن عند علماء الحديث إلى البُعد السياقي للحديث النبوي الشريف مثال ذلك قولهم : " انسجام الوحي " ، وقد أشار إلى هذا البُعد ابن قيم الجوزية في حديثه عن ضرورة موافقة الحديث للقرآن الكريم وصحيح السنة النبوية الشريفة ، ولقد جاء التعرض للسياق في أصول الفقه وأثره في توجيه دلالة النص منطلِقاً من بحثهم في القرينة التي اتخذوها أساساً لتحديد الدلالة ، نجد ذلك واضحاً عندهم ـ مثلاً ـ في التعرض لبيان المقصود من الأمر والنهي على سبيل الحقيقة أو المجاز ، وقد جاء هذا المظهر في كتاب الرسالة للإمام الشافعي حيث أفرد باباً أطلق عليه : الصنف الذى يبين سياقه معناه .
وبذلك نرى في جلاء سبق التفكير العربي والإسلامي إلى السياق بوصفه محددا منهجياً للتأويل والتفسير واستنباط الأحكام ، ولا يأتي تبنينا لهذه الرؤية من منطلق تعصبي وإنما هي الحاجة المعرفية التي تدفعنا إلى استثمار رؤى ومقولات من حقها علينا أن نجليها ونزيح عنها غبار الزمن ونضيف إليها ما يمكن من رؤى منهجية تثري البحث في العلوم الإسلامية وعلوم العربية اللغوية والنقدية والبلاغية .
الموقف المنهجي :
ونعني به أن السياقية منهج في التحليل والتأويل والنقد ، والمنهج السياقي هو المنهج الذي يقوم على الانفتاح على كافة المؤثرات السياقية ، أي الانفتاح على السياقات المختلفة بعناصرها التي تضيء عملية تحليل النصوص بمختلف أنماط الخطاب ) ، ويأتي المنهج السياقي في التأويل والتحليل والنقد الأدبي والبلاغة بمثابة النقض للمنهج البنيوي ( السميوطيقا البنيوية ) الذي لم يقدم النتائج الموازية للضجة التي أحدثها في النقد الأدبي عند العرب من ثمانينيات القرن الميلادي الماضي ، إنه يقدم مبررات الحاجة إلى رؤية تتجاوز الرؤية البنيوية بادعاءاتها الانغلاقية ، فلقد كانت سميولوجيا سوسير بامتداداتها البنيوية دعوة انغلاق على النص وتنكر لكل ما عداه من موضوعه الخارجي ومؤلفه ، ومن ثم كانت دعوة للتنكر لأي عنصر خارج اللغة من شأنه أن يعين أو يتدخل في عملية التفسير والتأويل ، ولقد أدرك اللغويون أنفسهم مأزق الانغلاق على التحليل الوصفي الخالص للعناصر الداخلية في النص ، فراحوا يبحثون عن العناصر السياقية لإضاءة النص .
إن المنهج السياقي منهج في التأويل بتقاطعاته وتماساته وتداخلاته المتعددة ، إنه منهج في تأويل النصوص الدينية وتفسيرها ، يستوعب معطيات البلاغة والأسلوبية في وفق رؤية سياقية لا تنقطع عن أدوات التأويل السياقي وإجراءاته التي تثري ـ بلا شك ـ التحليل البلاغي والأسلوبي ، كما أنه منهج في النقد الأدبي يأخذ في حسابه المعطيات الخارجية والداخلية ويبحث في الظواهر ويأخذ نفسه بتحليلها والبحث في عللها .
إن دراسة السياق تمثل بعداً جوهرياً في مقولات ما بعد الحداثة في الثقافة الغربية ، إذ تأتى بمثابة رد الفعل على الرؤية المحايثة عند البنيويين أو ما يُطلق عليها السميوطيقا البنيوية ، وذلك بارتباطها بفكرة التداولية وبإثرائها لها وثرائها بها في تلك الدراسات التي نشطت في السبعينيات وانفسحت مجالاتها في الثمانينيات والتسعينيات ، ثم إلى يومنا هذا ، وإذا كان هذا يعنى خطورة قضية السياق في الثقافة الغربية اليوم ، فإنه يجدر بنا التنبيه إلى أن الفكرة ذاتها كانت تمثل بعداً جوهرياً في الثقافة العربية والإسلامية منذ نشأة العلوم العربية والإسلامية ، وليس بغريب أن تكون ثم نظرية سياقية مكتملة متماسكة في الثقافة العربية الإسلامية توزعت بين علوم التفسير وأصول الفقه والفقه واللغة والنحو والبلاغة والنقد الأدبى .
الأمر الذى يجعل الإحجام عن دراسة فكرة السياق ضرباً من الجهل بالفكرين الغربي الحديث وبالتراث العربي الإسلامى القديم في آن واحد ، يقول ابن قيم الجوزية (ت 751 هـ) : " السياق يرشد إلى تبيين المجمل ، وتعيين المحتمل ، والقطع بعدم احتمال غير المراد ، وتخصيص العام ، وتقييد المطلق ، وتنوع الدلالة ، وهذا من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم فمن أهمله غلط في نظره وغالط في مناظرته "
وبهذا لا يمكن الوقوف على الحقيقة بالوقوف على المعنى الحرفي إلا في الاستعمال النمطى : ( المنطقى ، العلمى ) ، حيث ينعدم السياق ، فالمعنى الحرفي " هو المعنى الذى نجده للجملة في سياق الصفر ، أو السياق المنعدم " ، وفيه تنعزل الجملة بوصفها نمطاً غيرَ مشيرٍ إلى وجود في خطاب ما وتستقل تماماً عن كل مقابلة " ولا يكون المعنى وظيفة إلا في حدود الكلمات المكونة له ، وتلاحقها النحوى ، ولا يهم من يتلفظ بالجملة ، وفي أية ظروف ، ولقول ماذا ، وإذا ما أخذنا في حسابنا هوية المتكلم ومقصده ، والوضعية التي هو عليها ، نرى بأن المعنى يتعدل ويتدقق ويغتنى ، من هنا نتجاوز المعنى الحرفي إلى معنى أكثر اكتمالية يسمح بإمكانية تحديد الحقيقة "
إن حركة من التفاعل الدائم بين معطيات العناصر السياقية المختلفة ومعطيات النحو والدلالة ينتج عنها المعنى ، ومن ثم فإن " السياقات لا تساهم في صنع الدلالة فحسب ، بل إن السياقات والدلالات ذاتها تبنى من خلال هذه التبادلات ، فهي ليست إذن معطيات بل انبثاقات ، فالمعنى ينبثق عن الأشكال الموضعية التي تدور فيها الأنشطة ، والتي اشترك الفاعلون المتواجدون في بلورتها ، فهو ليس معطى مسبقاً مخزوناً في بنك للمعطيات مشترك بين الجميع و يمكن إخراجه عند الطلب ، إن المعطى أو التواصل بوصفه معطى ليس له ، حسب نظرية سيرورات التواصل ، إلا أهمية قليلة ، فهو يستمد معنى بالنسبة لفاعل خاص : ذاك الفاعل الذى يتجه نحوه ويدرجه كتواصل حاسم في مجال اهتماماته ونياته ، وذلك بوضعه في سياقات يعتبرها مناسبة له ، وعليه يمكن أن يكون لـ " نفس المعطى" دلالات مختلفة حسب اهتمامات الفاعلين ونيَّاتهم ."
وقد أشار فان ديك إلى أن هذا البُعد الخارجى للسياق " يتكون من جميع العوامل النفسية والاجتماعية التي تحدد بدقة مناسبة أفعال اللغة ، ومن بينها : المعرفة والرغبات والإرادة ، والأسبقيات المعتبرة عند مستعملى اللغة وأحكامهم ـ من جهة ـ وعلاقاتهم الاجتماعية ـ من جهة أخرى ـ وقد يكون إنجاز بعض أفعال اللغة في حالات أخرى محاط بقيود مؤسساتية " ، وتتمثل القيود المؤسساتية في القضاء والعلاقات الإدارية بأنواعها المختلفة ، أما العلاقات الاجتماعية فتتمثل في العلاقات الأسرية وعلاقات الصداقة ، وما يستتبع هذه الأنماط من ظروف وملابسات تتحكم بشكل قاطع في توجيه عملية التأويل .
ومن هنا كان ربط عملية التواصل بالسياق " فإن سيرورات التواصل ، على هذا الأساس ، تتدخل من أجل تغيير أبعاد السياق العام ، وهذه الأبعاد هي : البعد المكانى ، البعد الفيزيائى والحسى ، البعد الزمنى ـ بعد الموقع ـ البعد العلائقى ـ البعد المعيارى ـ وأخيرا البعد الذاتى ( أو بعد الهوية ) ، ويمثل كل بعد من هذه الأبعاد واحداً من أبعاد كل "سياق عام" تدرج في إطاره ظاهرة تواصلية ، فمن خلال التدخل في مختلف هذه السياقات ، يعمل الفاعلون على تغييرها ومن ثم يساهمون في بناء المعنى لتبادلاتهم ، ذلك أن المعنى ينشأ من وضع الظواهر التواصليه في سياقها .
ومن ثم يمكن القول بأن المعنى يتولد دائما من مواجهة "التواصل" بعناصر سياقية ، فهو ينشأ دائما من تسييق شىء من لدن شىء لآخر ، فالتأويل يجد جذوره المتعددة في سيرورة السياقات المختلفة ، والوضع في السياق يمكن أن يتم بطرق متعددة ، يمكن أن يكون متعددا وأن يكون الوضع المرجعى للفاعلين مختلفا ، ومن ثم تكون الدلالات مختلفة كذلك ، فـ "المعنى المشترك" لن يظهر في الحال ويجب الكشف عنه من ـ وعبر ـ التبادلات التي تكون في غالب الأحيان ميتاتواصل des métacommunications ، بهذا المعنى فإن دراسة الوظيفة المفصلة لـ "سيرورات التواصل" تبين لنا كيف أن كل تواصل هو كذلك دوماً ميتاتواصل . "
ويجدر بنا التنبيه إلى أن الأمر لا يقف عند حدود التأويل ، بل يتعداه إلى تحقيق عملية التواصل ذاتها من خلال الملابسات السياقية التي لا تتعلق بتأويل المنطوق اللغوي ، فقد ذهب بعض الباحثين إلى أن السياق قد يأخذ بُعداً أكثر شمولية إذا نُظر إليه فيما يُسمى " عملية التواصل الشامل " ، يتجاوز بها معناه المعتاد المنحصر في المنطوق والمكتوب ، أى تلك العناصر التي تمثل أشكال التبادل الأساسية بين الأفراد ، ففي هذه العملية يتوسع مفهوم السياق من دائرته لكى يشمل أيضا الأفعال والسلوكات الخاصة بالفاعلين الاجتماعيين ، ويشمل كذلك ما يطلق عليه ما لم يتم توصيله non-communications أى ما كان ممكنا فعله أو قوله أو كتابته في ظرف المعنى ، ولم يتم فعله أو قوله أو كتابته ، مثال ذلك مثلاً إحجام المدعوين إلى حضور اجتماع بعينه عن الحضور ، فإنه بشكل ما يمثل عدم تواصل ، ولكنه في الوقت نفسه يمثل نمطاً من التواصل ، يتم عن طريقه توصيل رسالة معينة إلى صاحب الدعوة ، فقد يُفهم من عدم الحضور في هذا السياق على أنه موقف : اعتراض أو عدم اهتمام ، " وهكذا فإن كل ( عدم تواصل ) هو في نهاية الأمر تواصل يمكن قراءة دلالته إذا عرفنا سياقه الخاص ، فالتواصل إذن هو بمعنى ما كيان نابع من وضعية تفاعل وتداخل مجموعة فاعلين ، مبنى يأخذ معنى ضمن السياق الذى يحدد تخومه . "
ومن ثم فإنه لا يمكن تحديد جزئية تواصلية خارج مفهومى السياق والمعنى ، وبهذا يكون المؤول في عمق نظرية سيرورة التواصل التي تؤكد على أن معنى التواصل يرتبط بالسياقات التي تحتويها ، وأن اعتماد التأويل على هذه السياقات يقود إلى تغيرات في المعنى والتواصلات الناتجة عنه ، بيد أن التأويل هنا ليس تأويلاً لظاهرة لغوية وردت في سياق ما ، ولكنه تأويل للسلوك نفسه بوصفه علامة غير لغوية .
ومن هنا تتعلق عملية التواصل دائماً بعناصر خارجية شارحة ومبينة للمعنى ، إذ لا يمكن للمؤول بحال من الأحوال الوصول إلى تأويل النص دون النظر في هذه العناصر ، ومن هنا يكون السياق ـ في الوقت الذى يعد فيه رافداً معرفياً للتداولية ـ ضابطاً تأويلياً يحد من جموح الافتراضات المتعددة التي قد تثيرها الرسالة مكتوبة أو ملفوظة أو غير ذلك ، إن السياق بما يضعه بين يدى المحلل من معلومات " يحصر مجال التأويلات ، ويدعم التأويل المقصود ، ومن ثم فهو الحارس الأمين للمعنى ."
وإذا حاولنا أن نأخذ أنفسنا بمحاولة تصنيف لأنماط السياق ومستوياته فإن لنا أن نقر بداية بأن هذه المحاولة إنما هي محاولة مستقاة من معالجات متعددة متباينة في رؤاها بين المدارس الغربية ، ما ينطلق منها من رؤى التداوليين وما ينطلق من رؤى السياقيين ، والمقولات العربية التي تنبهت إلى أثر السياق في عملية التأويل في الحقول المعرفية المختلفة ، فمنها ما يتعلق بأصول الفقه ومنا ما يتعلق بالتفسير وعلوم القرآن ، ومنها ما يتعلق بالدرس اللغوي عند العرب ، ومنها ما يتعلق بالدرس النقدي والبلاغي ، إلى جانب ما يمكن أن يعن لنا من أبعاد سياقية تولدت وتكشَّفت من تلاقح الرؤيتين العربية والغربية ، فمن ذلك كله يمكننا تصنيف السياق في الأنواع والمستويات الآتية : السياق اللغوي الداخلي ، السياق اللغوي العام ، السياق الثقافي ، السياق الخارجي ، سياق التلقى ، سياق الاستشهاد ، ربما تكشف لنا هذه الدوائر السياقية أبعاد المنهج السياقي الذي ما يزال بحاجة إلى مزيد من الإيضاح والتبيين ، وسيكون هذا موضوع حديثنا القادم إن شاء الله تعالى .[/size][/size]