النقد الثقافي عند عبدالله الغذامي بين التنظير والتطبيق
الأستاذ: محمد بن لافي اللويش
نظرية النقد الثقافي :
ثمة جدل فكري واسع في الأوساط الثقافية العربية حول مناهج قراءة الأدب أو
الفن بصفة عامة؛ إذ ظهرت مناهج نقدية عديدة ومؤثرة في ثمانينات القرن
الماضي؛ ما أحدث نقلة نوعية في الفكر الأدبي والفلسفي عند العرب، حيث برزت
البنيوية والتفكيكية وغيرها من المناهج النقدية الحديثة التي لا تهتم
بالمرجعيات الخارجية للنص، وذلك في مرحلة ما بعد الحداثة؛ إذ تمخضت
الاجتهادات النقدية المتواصلة عن بروز عدد من التيارات النقدية كالنقد
النسوي، والدراسات الثقافية، والتلقي، والمادية الثقافية، وما إلى ذلك؛
مما أفضى إلى بروز تيار النقد الثقافي كاتجاه نقدي رئيس. وقد عمل هذا
النقد على نقل الاهتمام من الأدبي الجمالي إلى الاهتمام بما وراء جماليات
النص من أنساق مضمرة، وقد رافق هذا المنعطف النقدي الثقافي منعطف في
المنظومة الاصطلاحية في النقد العربي الحديث(1) وقد حدد عبد الله الغذامي
أسس النظرية التي أخذ بها في النقد الثقافي مما ينسجم مع رؤيته في التعريب
والتأصيل التي تواكب التراكم في المنجز النقدي وهي على النحو الآتي:
وفيما يلي سنقوم بدراسة أسس نظرية النقد الثقافي التي طرحها عبدالله
الغذامي بعد أضافته للعنصر السابع (النسق) على عناصر الأتصال الستة كما هي
عند رومان جاكبسون
1.عناصر الرسالة الستة (الوظيفة النسقية). 2.المجاز الكلي. 4.نوع الدلالة. 5.الجملة النوعية. 3.التورية الثقافية. 6.المؤلف المزدوج(2).
Jakobson
.
أولاً ـ عناصر الرسالة:
فقد حدد رومان جاكبسون Jakobson عناصر الاتصال الستة المتعارف عليها،
فبهذا فأثبت أدبية الأدب وجماليته عبر تركيز الرسالة على نفسها، فإذا ركزت
الرسالة على نفسها عملت على إثبات أدبيتها أو بالأصح جماليتها. ويضيف عبد
الله الغذامي في نظريته في النقد الثقافي عنصرا سابعا يسميه العنصر
النسقي، إضافة إلى العناصر التي حددها رومان جاكبسون Jakobson ، فهو
يقترح: " فإننا هنا نقترح إجراء تعديل أساسي في النموذج، وذلك بإضافة عنصر
سابع هو ما نسميه بالعنصر النسقي"(3). وعندما أضاف الغذامي في نظرية
الاتصال هذا العنصر السابع جعل اللغة تكتسب وظيفة سابعة هي الوظيفة
النسقية ـ كما يسميها ـ إضافة إلى وظائفها السابقة: النفعية، والتعبيرية،
والمرجعية، والمعجمية، والتنبيهية، والجمالية((4)). وبهذا يضيف الغذامي
ويعدّل ويعيد صياغة النموذج الاتصالي السابق بما يتسق مع رؤيته للنقد
الثقافي حيث حوّل مسار القراءة من جماليات النص إلى الغوص في أعماق الخطاب
الذي سيؤثر في عقلية المتلقي، ويعالج مخزوناته الخفية التي تكمن وراءه،
وتستتر فيه لتؤثر في الأنماط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لأفراد
المجتمع. وعندما أضاف الغذامي العنصر النسقي تحولت الدراسة من
الأدبية/الجمالية إلى الثقافية التي تشتمل على الأدبي وغير الأدبي من
الخطابات الشعبية والمهمشة، ولعل ما أجترحه الغذامي لم يكن إضافة كمية
بقدر ما كانت ذات طابع كيفي أدى إلى تحوّل مفصلي في منهج القراءة،
ومقاصدها، وتقنياتها، وما يكمن وراء ذلك من فكر يتجاوز الجانب الإجرائي
إلى الجانب الفلسفي
.ثانياً ـ المجاز الكلي:
من أسس نظرية النقد الثقافي كما طرحها الغذامي ما يعرف بالمجاز الكلي،
فالمجاز مصطلح بلاغي عربي قديم، حيث استعمل لفظاً تراثياً في مرحلة ما بعد
الكولونيالية (مرحلة الانفتاح النقدي)، والمجاز عند العرب هو "كلمة أريد
بها غير ما وضعت له لقرنية بين الثاني والأول"((5))، وبما أن المفهوم
البلاغي للمجاز يقرنه بالحقيقة، فيصبح لدينا ما يعرف بثنائية
(الحقيقة/المجاز)، فهو ذو بعد جمالي يعمل على تجاور معنيين معاً في منظومة
النص مع الأخذ بهما معاً، فالغذامي هنا يوسع هذا المفهوم ليجعله بعداً
كلياً جمعياً قائماً على الفعل الثقافي للخطاب، فهذا البعد يحمل بعدين
مهمين: الأول ينكشف للمتلقي أولياً في جماليات النص حتى وإن بدا من الوهلة
الأولى غامضاً أو مركباً؛ أي مجاز مركب كما عند البلاغيين، لكنه يظل داخل
مجال الحضور اللغوي"(6)، أما البعد الآخر للمجاز الكلي هو ما يسمى المضمر،
فهذا البعد يتحكم في علاقاتنا مع الخطاب، ويؤثر في عقليتنا وسلوكياتنا؛ إذ
يقول الغذامي "وعبر العنصر النسقي، وما يفرزه من وظيفة نسقية، وعبر توسيع
مفهوم المجاز ليكون مفهوماً كلياً لا يعتمد على ثنائية (الحقيقة/المجاز)،
ولا يقف عند حدود اللفظة والجملة، بل يتسع ليشمل الأبعاد النسقية في
الخطاب وفي أفعال الاستقبال، فإننا نقول بمفهوم المجاز الكلي متصاحباً مع
الوظيفة النسقية للغة"(7)؛ ما يقود إلى الاعتقاد أن الغذامي عمل على توسيع
مهم في الدلالات اللغوية للمجاز ليشتمل على ما يدعو إليه في التأثير
الثقافي من خلال ما يعرف بالوظيفة النسقية التي يطرحها في مشروعه الثقافي،
غير أنه ربما بدا أن ثمة تحميلا للمصطلح لما لا يتسع له دلالياً
وإجرائياً، فالمجاز يظل مرتبطاً بدلالاته الأصلية، وهي دلالة محددة بحدود
الصورة البيانية الجزئية، وبعد ذلك تطور مفهوم المجاز لديه ليشمل الرمز
وهو مصطلح حديث يتجاوز الدلالة المجازية المحدودة للمصطلح القديم ليشمل
دلالات أخرى من ضمنها التأثير الثقافي
.
ثالثاً ـ التورية الثقافية:
التورية مصطلح بلاغي قديم نقله الغذامي إلى مشروعه النقدي، مع عمله على
توسيع مفهومه الدلالي، فالتورية عند البلاغيين تعني الإيهام؛ أي أن يطلق
المرء لفظاً له معنيان قريب وبعيد؛ يريد به المعنى البعيد، وهي عنده تحمل
ازدواجاً دلالياً أحدهما قريب والآخر بعيد، في حين هي عند البلاغيين
المقصود بها هو البعيد؛ ما يجرّنا إلى وعي تام دون النظر في كشف المضمر،
والتعامل مع العيوب النسقية، وإشكالات الخطاب الثقافي الذي سيؤثر في ذهن
المتلقي، بمعنى "إن التورية الثقافية، أي حدوث ازدواج دلالي أحد طرفيه
عميق ومضمر، وهو أكثر فاعلية وتأثيرا من ذلك في الوعي، وهو طرف دلالي ليس
فردياً ولا جزئياً. إنما هو نسق كلي ينتظم به مجاميع من الخطابات
والسلوكيات ـ باعتبارها أنواعاً من الخطابات ـ مثلما ينتظم الذوات الفاعلة
والمنفعلة"(. ويظهر أن الغذامي في قراءته لمصطلح التورية الثقافية عمل
على توسيعها دلالياً؛ ما جعلها تشمل أكبر قدر ممكن من التأثير الثقافي على
عقلية المتلقي، وتقترب التورية في البلاغة من مفهوم التورية الثقافية
فتشترك في المجالين بكونها إيهاماً، فقد عرفها أصحاب المدرسة البلاغية من
قدماء ومحدثين على أنها الإيهام، ولكنها تُطرح في النقد الثقافي عند
الغذامي على أساس أنها عبارة لغوية تحمل نسقاً مضمراً له قوة تأثيرية في
عقلية مستهلكة؛ ما يجعل هذه القوة التأثيرية تتوارى خلف الخطاب الثقافي،
وهو توسّع دلالي مقبول على النحو الذي رأيناه في المجاز الكلي
.
رابعاً ـ الدلالة النسقية:
بعد أن أثبت الغذامي في بناء نظريته عنصراً سابعاً ضمن عناصر الاتصال
المعروفة أنتج دلالة جديدة تسمى الدلالة النسقية، فكانت اللغة في السابق
تحمل دلالتين: الأولى هي الدلالة الصريحة، وهي مرتبطة بالشرط النحوي،
ووظيفتها النفعية، والأخرى الدلالة الضمنية التي ترتبط بالوظيفة الجمالية
للغة(9)، فأراد الغذامي من هذه الدلالة النسقية التي ترتبط في علاقات
متشابكة نشأت مع الزمن لتكوّن عنصراً ثقافيا يأخذ بالتشكل التدريجي إلى أن
يصبح عنصراً فاعلاً(10)، ومن خلال الدلالة النسقية هذه نستطيع الكشف عن
الفعل النسقي من داخل الخطابات الثقافية.
ولم يخرج الغذامي عن منهجه
في (كتابه الخطيئة والتكفير) حيث البنية تقابل النسق، (كلاهما ثابت مغلق
ذو بعد عضوي)، غير أن النسق ـ رغم ثباته ـ يؤثر في السلوك النسقي الحديث
ويحتفظ مع ذلك بثبات تاريخي نسبي فالنسق المؤثر في الخطاب الجاهلي مرتبط
بالسياق التاريخي في حين لم تكن البنية كذلك
.
خامساً ـ الجملة النوعية:
كانت اللغة تحمل دلالتين ـ كما هو معروف ـ دلالة صريحة تؤدي عملاً نفعياً،
ودلالة ضمنية مرتبطة بالعمل الجمالي للغة، في حين أحدث الغذامي ـ كما
أسلفنا ـ عنصراً سابعاً على المنظومة الاتصالية عند رومان جاكبسون
Jakobson ؛ ما أدى إلى توّلد جملة ثالثة تحت مسمى (الجملة الثقافية) ترتبط
بالفعل النسقي في المضمر الدلالي للوظيفة النسقية للغة، والجملة الثقافية
هي مناط اهتمام النقد الثقافي(11)؛ لأنه منها يتكون الخطاب الذي يعمل هذا
المنهج النقدي على دراسة ما يختفي خلفه من أنساق ذهنية تؤثر على عقلية
الإنسان المتلقي
.
سادساً ـ المؤلف المزدوج:
يطرح الغذامي هذا المصطلح في الإطار النظري للنقد الثقافي، فمن البديهي أن
هناك مؤلفا للنص وهو المبدع، ولكن الغذامي يطرح فكرة أخرى إذ هناك مؤلفان
لما ننتج ونستهلك من إبداع، وهما(12):
فالغذامي يقحم الثقافة
في العملية الإنتاجية لأي عمل، والثقافة هي جوهر النقد الثقافي الذي يعمل
من أجل استكشاف أنساقها، بعملية الازدواج عند التأليف بمعنى أن المؤلف
المعهود يحمل صبغة ثقافية؛ أي يقول أشياء ليست في وعيه، ولا هي في وعي
الرعية الثقافية. وهذه الأشياء المضمرة تعطي دلالات تتناقض مع معطيات
الخطاب سواء ما يقصده المؤلف أو ما هو متروك لاستنتاجات القارئ(13)، وهذا
ما جعل الغذامي يربط المؤلف المزدوج بالدلالة النسقية. لهذا يعمل النقد
الثقافي على كشف التناقض المركزي بين المضمر النسقي، ومعطيات الخطاب.
النسق الثقافي
إن الإضافة التي أضافها الغذامي قد غيّرت النظرة الجمالية إلى النص
الأدبي، ووسع أدوات النقد ما جعله يوجه النقد إلى الجانب الثقافي في فضاء
النص المفتوح باتجاه الخارج، النسق في النقد الثقافي يختلف اختلافاً
جذرياً عما هو متعارف عليه في السابق بحيث كان يعني البنية، والنظام حسب
مصطلح دي سوسير Saussure، يحدد سمات النسق بميزات خاصة، فهويتحدد النسق
الثقافي عبر وظيفته، وليس عبر وجوده المجرد. فالنص أو ما في حكم النص يحمل
نسقين أحدهما ظاهر، والآخر مضمر يكون ناقصاً أو ناسخاً للظاهر ويجب أن
يكون النص الذي يحمل النسق نصاً جمالياً؛ أي يستهلك بوصفه جمالياً، وأن
يكون النص الذي يحمل النسق نصاً جماهيرياً(14).
وعندما يحمل أي نص
نسقين متعارضين المضمر ناسخ للظاهر، ويستهلك المتلقي هذا النص بوصفه
جمالياً، ويكون هذا النص ذا صبغة جماهيرية، فإنه يتحتم على النقد الثقافي
الكشف عن حيل الثقافة في تمرير أنساقها تحت أقنعة ووسائل مختلفة، وأهم هذه
الحيل ـ كما يرى الغذامي ـ الحيلة الجمالية. والنسق عند الغذامي يحمل
دلالة مضمرة منغرسة في الخطاب هي من صنع الثقافة، فالنسق يستخدم أقنعة
يختفي خلفها من أهمها الجمالية اللغوية، فالخطاب الذي يحمل الصفات والشروط
التي طرحها الغذامي هو ما نسميه بالخطاب النسقي وهو متميز عن أصناف الخطاب
الأخرى، وركائز النظر إليه تأخذ بالدلالة النسقية كرديف مختلف عن
الدلالتين الصريحة والضمنية، وتأخذ بالجملة الثقافية كرديف مختلف عن
الجملة النحوية والأدبية(15).
ويعتقد الباحث أن الأنساق عند الغذامي
أنساق تاريخية راسخة، لها الفاعلية دائماً، بحيث تدفع المتلقي إلى استهلاك
المنتج الثقافي الحامل للنسق الثقافي(16)، وهذه المسألة لا يمكن التسليم
بها على نحو مطلق؛ لأن استكشاف الأنساق المضمرة لا يخضع لقانون محدد، ولا
لمنهج له إجراءاته، فهو ينهض على الرؤية الذاتية ذات الطابع الاجتهادي،
ومسألة الجزم بوجود نسقين متناقضين، أو أحدهما ناسخ والآخر منسوخ يعتبر
تقريراً جازماً مصدره الناقد ما يتعبره الباحث أمراً لا يثبت أمام التمحيص
العلمي، بل هو افتراض قد يصدق على بعض النصوص. وقضية النص الجماهيري تثير
الكثير من الإشكالات، فأي المعايير التي يمكن أن تحتكم إليها في هذا
المجال؟.
يلاحظ الباحث من بداية التنظير النقدي عند الغذامي وجود فرق
بين الفنية والثقافية، كما يلاحظ أنه يحدد مهمة النقد الثقافي في الكشف عن
حيل تمرير الثقافة عبر الأنساق الثقافية، فيقول: " تأتي وظيفة النقد
الثقافي من كونه نظرية في نقد المستهلك الثقافي، وليست في نقد الثقافة
هكذا بإطلاق، أو مجرد دراستها، ورصد تجلياتها وظواهرها، وحينما نقول ذلك
فإننا نعني أنّ لحظة هذا الفعل هي في عملية الاستهلاك؛ أي الاستقبال
الجماهيري، والقبول القرائي لخطاب ما؛ مما يجعله مستهلكاً عمومياً في حين
أنه لا يتناسق مع ما نتصوره عن أنفسنا، وعن وظيفتنا في الوجود"(17).
ويرى الباحث أن النسق هو عنصر خفي مؤثر في عقلية المتلقي وذائقته، حيث
يترسب هذا النسق في زمن طويل؛ حيث في آخر الأمر حقا يدافع عنه بشدة فلا
يمكن المساس به، كما يفهم من كلام الغذامي.
وربما كان تحديد وظيفة
النقد الثقافي على هذا النحو يحمل شيئاً من الاختزال الذي لا ينسجم مع
طبيعة النقد عموماً، فلا يمكن تلخيص مهمة النقد الثقافي في كونه منصباً
على المستهلك الثقافي، فهو وفقاً لما أوضحه الغذامي في كثير من المواقع
ينهض النقد الثقافي بمهمات ذات أبعاد فلسفية، هذا إذا جاز لنا أن نستند
إليه مثل هذه المهمات.
إن الحديث عن الأنساق المضمرة في الثقافة
العربية، هو رؤية فلسفية تقترب كثيراً في طبيعتها من كتابات المفكرين
المعاصرين في نقد العقل العربي والإسلامي الذي يقيم النسق مقام المحرك
للسلوك، ويقوم بعملية نقد واسعة النطاق للثقافة العربية وبنيتها وآلياتها،
وإلا ماذا نقول عن الفحولة وما شابهها من عناوين تتحكم في أنساق الثقافة
وتحكمها.
التطبيق الإجرائي عند الغذامي في النقد الثقافي:
التطبيق عند الغذامي يسير في ثلاثة اتجاهات 1- المؤلف المعهود الذي تتعدد أشكاله. 2- الثقافة ذاتها (المؤلف المضمر).
:
الأول
ـ تطبيق يعمد إلى النظرية وهو يأخذ طابعاً استدلالياً، ويتركز حول نصوص
فصيحة في مجملها تخضع لمنطق المؤسسة الأدبية في (كتاب النقد الثقافي).
الثاني ـ يسعى إلى المهمش والشعبي في تقابل النخبوي، ويأخذ طابعاً شمولياً على المستوى العالمي كما في كتاب (الثقافة التلفزيونية).
الثالث
ـ يهتم بالصراع النسقي على المستوى المحلي في مرحلة (المخاض) الاجتماعي
حيث تتصارع الأنساق من خلال تجربة الحداثة، وقد نحا الغذامي فيها منحى
أوتوبيوجرافياً في كتابه ( حكاية الحداثة).
ينتهي عبد الله الغذامي من
عرض النظرية التي أسسها للنقد الثقافي، ويتحول إلى التطبيق الإجرائي للنقد
الثقافي، ويبدأ في دراسة الخطاب الشعري ثقافياً متمثلاً في شخصية المتنبي،
ويتساءل عن عظمة شخصية المتنبي، وعن شحاذة المتنبي العظيمة ـ كما يطرحها ـ
متخذاً من العلل النسقية مبدأ لعمله النقدي، بحيث يحاول أن يثبت قضية
الأنا المتضخمة في الخطاب العربي، وأنها من السمات المترسخة في الخطاب
الشعري بشكل كبير وأنها بسبب هذا الترسخ انتقلت إلى كافة الخطابات الأخرى؛
ما جعلها سلوكاً ثقافياً منغرساً في الوجدان الثقافي للأمة العربية(18).
ويرى عبد الله الغذامي أن هناك صفات أخلاقية وجمالية راقية في الشعر يحسن
بنا أن نتعلمها، ما يبرر دعوات تعلم الشعر، وتربية الناشئة عليه، إلاّ أن
فيه صفات أخرى لها من الضرر ما يجعلها أحد مصادر الخلل النسقي في تكوين
الذات، وفي عيوب الشخصية الثقافية ويحددها بالنقاط الآتية(19):
شخصية الشرير المرعب ( الشاعر الهجّاء).
من أهم ما يمكن أن نستخلصه من أمور عندما نقرأ التنظير النقدي والتطبيق الإجرائي للنقد الثقافي عند الغذامي هي:
أولاً : اعتبار الذات العربية متشعرنة بسبب أن النسق الرجعي الذي ترسخ في
العقلية العربية عمل على إيجاده الشعر، وعمل على تسويقه الجمالية البلاغية
التي طالما احتمى النسق السلبي بها. وبشعرنة الذات العربية ظهرت شخصيات
كثيرة تعمل على تدمير الحياة البشرية مثل الشحاذ، والكذاب، والمنافق،
وشخصية الفرد فحل الفحول الذي يحمل سمة الأنا المتضخمة المقصية للطرف
الآخر. وهذه السمات التي يحملها الخطاب الشعري انتقلت منه إلى الخطابات
الأخرى، ومن ثم أصبحت سلوكاً ثقافياً في العقلية العربية. ففي هذه السمة
(شعرنة الخطاب) عمل الغذامي على ربط النظرية بالتطبيق، والدليل على ذلك
النتائج التي توصل إليها من شخصية الشحاذ والبليغ والطاغية وغيرها من
الشخصيات، لكن الغذامي مع هذا وقع في أمر خطير تمثل في نظرته التعميمية
بحيث جعل الشعر يحمل نسقاً رجعياً داخل التركيبة الثقافية له، وكأن الشعر
العربي من العصر الجاهلي إلى عصرنا الحديث يحمل هذه النسقية.
ثانيا :
أطلق الغذامي عدة أحكام غير مقنعة؛ مثلاً عندما جعل إصدار ديوان (طفولة
نهد) لنزار قباني ردا نسقيا فحوليا على حركة التجديد في الشعر العربي
المعاصر عند نازك الملائكة.
ثالثا: الاتكاء الديني مقابل الشعري، بحيث
يورد الغذامي قول الرسول صلى الله عليه وسلم (لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً
حتى يريه خير من أن يمتلئ شعراً)(20)، فنجد الغذامي ينظر إليه بأنه أول
موقف معارض للشعر، ونحن نعلم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف الإسلام
بشكل عام وقف ضد الشعر الباطل وليس كل الشعر.
عمل الغذامي على مواصلة
فكره النقدي الثقافي في كتابه (الثقافة التلفزيونية) وأظهر قوة ترابط بين
التنظير والتطبيق عنده، مع محاولة تأويل بعض الصور، وتحميلها فوق طاقتها
التصويرية. وفيه جمع الغذامي بين الدراسات الثقافية والنقد الثقافي، وبين
النقد النسوي والنقد الثقافي. وتعامل عبد الله الغذامي مع الصورة بوصفها
نسقا ثقافيا يملك طاقة دلالية عميقة وقوية عبر نظام التورية الثقافية؛ مما
جعل الربط بين التنظير والتطبيق أكثر أحكامنا، كما ظهر النسق في كتابه
(حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية) وذلك عندما تحدث الغذامي عن
قضية صراع الأنساق في المجتمع السعودي مما يعتبره الباحث سمة ترابط بين
التنظير النقدي والتطبيق الإجرائي في كتابات الغذامي النقدية. 1-شخصية الشحاذ البليغ (الشاعر المداح). 2-شخصية المنافق المثقف (الشاعر المداح). 3-شخصية الطاغية.
-------------
(1) مثل تطور مفهوم التورية من المعنى البلاغي القديم إلى معناه في النقد الثقافي كما سيتضح لاحقاً
(2) الغذامي، عبد الله، النقد الثقافي، ص63.
(3)المصدر السابق، ص63.
(4)المسدي، عبدالسلام، الأسلوبية والأسلوب، الدار العربية، تونس، 1982، ط2 ص154.
(5) الجرجاني، عبد القاهر، أسرار البلاغة، ت محمد عبد المنعم خفاجي، دار الجيل، بيروت، 1991م، ص302-303 بتصرف.
(6) الغذامي، عبد الله، النقد الثقافي، ص68.
(7)الغذامي، عبد الله، النقد الثقافي ص69
( المصدر السابق ، ص71.
(9) الغذامي، عبد الله، النقد الثقافي، ص72
(10) انظر الخطئية والتكفير والنقد الثقافي لعبد الله الغذامي حيث عالج فيهما وظيفة اللغة.
(11) الغذامي، عبد الله، النقد الثقافي، ص73
(12) المصدر نفسه، ص75.
(13)الغذامي، عبد الله، النقد الثقافي، ص76.
(14) انظر الغذامي، عبدالله ، النقد الثقافي: قراءة في الإنساق الثقافية العربية، ص77-78
(15) الغذامي، عبد الله، النقد الثقافي، ص81
(16) المصدر نفسه ، ص78.
(17) الغذامي، عبد الله، النقد الثقافي، ص81.
(18) الغذامي، عبد الله، النقد الثقافي، ص133.
(19) الغذامي، عبد الله، النقد الثقافي، ص99.
(20) البخاري، أبي عبدالله محمد بن إسماعيل، صحيح البخاري، حديث رقم 6154،
كتاب الأدب، ج 3، ت: محمد محمد تامر، مؤسسة المختار للنشر والتوزيع،
القاهرة، 2004م، ص1384.
المصدر: http://www.adabihail.com/inf/articles-action-show-id-802.htm