المعجم الشعري بين النقد القديم ورؤية النقد الحديث
مما لاشك فيه أننا لا نستطيع تناول المعجم الشعري تناولا جادا إلا في ضوء نظرية شاملة تؤطر هذا النوع المتميز من الإبداع. وعناصر هذه النظرية ?في تصورنا- هي ما يلي:
1- ماهية الشعر وطبيعته
2- مكوناته وخصائصه
3- وظيفته وفوائده
4- علاقته بالحياة.
وفي إطار المكونات والخصائص، ينضوي الحديث عن المعجم الشعري. ذلك أن القصيدة بنية شمولية تضم بنى جزئية داخلية، تنطلق من الحرف إلى الكلمة، ومن الكلمة إلى الجملة، ومن الجملة إلى السياق، ومن السياق إلى النص، ثم إلى نصوص أخرى، إذ لا شيء يمنعها من الانتقال إليها بواسطة الإيحاء والتداعي وكافة أنماط التناص.
إن أول ما ينبغي التركيز عليه في أية دراسة معجمية هو الطابع اللغوي للشعر. فالشعر لغة، أو -إذا شئنا- هو مستوى راق من مستوياتها، ومن هذا المنطلق، صح لدى الكثيرين جعله موضوعا للدرس اللساني الذي يرى من حقه أن ينصب على سائر الأشكال اللغوية بما فيها الشعر، فأي تحليل للنص الشعري ينطلق من اللغة، من مستوياتها الصوتية والمعجمية والتركيبية والدلالية. وتستمد الوحدات المعجمية (أو المورفيمات) قيمتها من كونها العناصر الكبرى التي يتكون منها التركيب بصنفيه: النحوي والبلاغي. وهي ذات وظيفة ثنائية: تراكمية وتراتبية، فهي لا تقتصر على تشكيل حقول دلالية داخل النص بوساطة الاشتقاق والترادف وما إليهما من أنواع القرابة المعنوية التي يحققها تراكم مفردات بعينها، بل تتجاوز هذه الوظيفة إلى توفير عنصر الإبداعية وخلق الكون الشعري المتميز عندما تنتظم داخل التركيب بكيفية تتيح لها أن تتفاعل على نمط مخصوص. غير أن هذه الوحدات ليست وقفا على الشعر وحده، بل تشاركه فيها سائر أنماط القول، فضلا عن الفنون النثرية التي تنضوي مع الشعر ضمن نظرية الأدب. ومن هنا، فإن دراسة المعجم الشعري تتم عبر الأسئلة التي يطرحها علماء اللغة، وهم في الإجابة عنها يختلفون، بالرغم من أن الفرق بين الخطاب العادي واللغة العلمية من جهة، ولغة الشعر من جهة ثانية واضح جدا، ولعل من أبرز هذه الأسئلة ما يثار حول مدى اعتباطية المعجم الشعري أو قصديته، أي حول وجود أو عدم وجود علاقة بين اللفظ ومدلوله داخل القصيدة. -1- إن أوضح ما يميز لغة الشعر عن سواها عنصران فنيان هما: الإيقاع، والانفعال القائم على التصوير والتخييل. وبديهي أن الاختلاف بين الشعر وباقي أنماط اللغة، يقتضي اختلافا بين الكلمة الشعرية وغيرها من الكلمات، وإذا كان الأمر كذلك، فما حدود هذا لاختلاف؟ ما هي خصوصيات الكلمة الشعرية ووظيفتها؟ وهل يجوز أن تنقل إلى غيرها من فنون القول؟ وبالتالي: هل يجوز أن ينقل معجم الميادين الأخرى إلى الشعر، كمعجم المهن والصنائع والعلوم؟ ألا يمكن أن يحصل التداخل بين هذه المعاجم داخل الإبداع الشعري؟ ومن جهة أخرى إلى أي حد تستطيع لغة الخطاب العادي أن تقتحم أسوار الشعر، وتتربع على عرشه؟ لقد بدأ وعي الأقدمين بتميز المعجم الشعري عن غيره منذ القرن الهجري الثاني، كما تكشف عن ذلك إشارات تنم عن تصور عام فضفاض لهذا المعجم، من هذه الإشارات ما أثر عن خلف حيث قال: [قال لي شيخ من أهل الكوفة: أما عجبت من الشاعر قال: (أنبت قيصوما وحثجاثا) فاحتمل له، وقلت أنا: (أنبت إجاصا وتفاحا) فلم يحتمل لي؟ ] -2- وواضح من كلام هذا الشيخ تعايش نمطين معجميين في شعر هذه المرحلة: أحدهما بدوي يقبله النقاد، والآخر حضري يرفضه المحافظون منهم، فهم لم يستسيغوه بعد، لقرب العهد ببداية الانفصام بين البداوة والحضارة. هذا التصور العام للمعجم الشعري الذي ساد خلال القرون الهجرية الأولى، سيتحدد بوضوح لدى ابن رشيق في قوله : (وللشعراء ألفاظ معروفة، وأمثلة مألوفة، لا ينبغي للشاعر أن يعدوها ولا أن يستعمل غيرها...). -3- وهو في كلامه هنا لا يترك اللغة ملكا مشاعا بين الفنون الأدبية جميعها من شعر وخطابة وأمثال وكتابة، بل يتحدث عن اصطلاح الكتاب (على ألفاظ بأعيانها، سموها الكتابية، لا يتجاوزونها إلى سواها). -4- وهذا الرأي يتبناه ابن سنان الخفاجي في (سر الفصاحة) حيث يرى أنه: (من وضع الألفاظ موضعها ألا يستعمل في الشعر المنظوم والكلام المنثور من الرسائل والخطب ألفاظ المتكلمين والنحويين والمهندسين ومعانيهم والألفاظ التي تختص بها أهل المهن والعلوم...). -5- ومن هذا المنطلق، عابوا على أبي تمام قوله: (تسعون ألفا كآساد الشرى نضجت أعمارهم قبل نضج التين والعنب) بدعوى أن التين والعنب ليس مما يذكر في الشعر وأنه مستهجن. -6- كما عابوا عليه استعمال ألفاظ الفلسفة وعلم الكلام والفقه وغيره في بعض أشعاره. والسبب في ذلك انطلاقهم من تصور معياري لفصاحة الألفاظ وجودتها، واضعين نصب أعينهم قصائد البدو الجفاة، التي نظمت قبل ازدهار الحضارة العربية الإسلامية وانتشار العمران، متجاهلين ما استجد من الألفاظ بسبب عامل التمدن ورقي العلوم، غافلين أو متغافلين عن اتساع ثقافة الشاعر وأثر ذلك في شعره. وقد تصدى ابن الأثير للرد على ابن سنان الخفاجي معقبا على رأيه المذكور بقوله: (وهذا الذي أنكره ابن سنان هو عين المعروف في هذه الصناعة... وسأبين فساد ما ذهب إليه فأقول: أما قوله إنه يجب على الإنسان إذا خاض في علم أو تكلم في صناعة أن يستعمل ألفاظ أهل العلم وأصحاب تلك الصناعة، فهذا مسلم إليه، ولكنه شذ عنه أن صناعة المنظوم والمنثور مستمدة من كل علم وكل صناعة، لأنها موضوعة على الخوض في كل معنى، وهذا لا ضابط له يضبطه ولا حاصر يحصره، فإذا أخذ مؤلف الشعر أو الكلام المنثور في صوغ معنى من المعاني وأداه ذلك إلى استعمال معنى فقهي أو نحوي أو حسابي أو غير ذلك فليس له أن يتركه ويحيد عنه، لأنه من مقتضيات ذلك المعنى الذي قصده). -7- ولا يخفى أن موقف ابن الأثير هذا أكثر تفهما لوضع الشعراء المحدثين، وملابساتهم الثقافية والحضارية. والخلاصة أن موقف النقاد القدامى من قضية المعجم الشعري في استقلاله أو تداخله مع مجالات أخرى، قد تحدد استنادا إلى النماذج الإبداعية التي اعتمدوها في عملية الاستقراء التي وجهت تنظيرهم النقدي، فالذين ارتكزوا على الشعر القديم قالوا باستقلال المعجم الشعري وتميزه، والذين نظروا إلى الشعر المحدث أو المولد ذهبوا إلى إمكان استعارة الشعر ?أحيانا- ألفاظ أهل المهن ومصطلحات العلوم والفنون، وإن كانت مكملة تدفع إليها الضرورة التعبيرية، ولا تشكل إلا حيزا ثانويا إلى جانب المعجم الشعري الموروث المتميز بأصالته. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ابن سنان الخفاجي وابن الأثير كليهما لم يميزا ?كما فعل ابن رشيق قبلهما- بين المعجم الشعري ومعجم النثر الفني، وكأنهما بهذا الموقف لا يضعان حدودا صارمة على مستوى الألفاظ بين هذين النوعين اللذين قد لا يفصل بينهما إلا الوزن. وإذا كان الشعر العربي يتنوع إلى أغراض، فهذا يقتضي أن تتعدد الحقول الدلالية بتعدد الأغراض، وأن يتضمن المعجم الشعري العام معاجم خاصة يتصل كل منها بغرض محدد، ولا يخرج عنه إلا انزياحا لنكتة بلاغية، كتأكيد المدح بما يشبه الذم، وتأكيد الذم بما يشبه المدح، ومخاطبة الممدوح من الملوك بمثل مخاطبة المحبوب والصديق، كما كان يفعل المتنبي(تبحرا في الألفاظ والمعاني، ورفعا لنفسه عن درجة الشعراء، وتدريجا لها إلى مماثلة الملوك). -8- وما أكثر ما كان الشعراء ينقلون اللفظة من غرض إلى غرض، فيفطن النقاد إلى صنيعهم، ويواجهونه بما يستحق من استحسان أو استهجان، ومن هذا القبيل ما فعله أبو تمام حين قال في وصف حسناء: (لها منظر قيد النواظر لم يزل يروح ويغدو في خفارته الحب) وقد وقف البغدادي على هذا البيت مطريا، معتبرا إياه توليد بديع من بديع، معقبا عليه بقوله عن صاحبه: [فإنه ولد قوله (قيد النواظر) من قول امرئ القيس 'قيد الأوابد)، لأن هذه اللفظة التي هي (قيد) انتقلت بإضافتها من الطرد إلى النسيب، فكأن النسيب تولد من الطرد، وتناول اللفظ المفرد لا يعد سرقة]. -9- هذه الإشارة ومثلها، بقدر ما تعبر عن موقف نقدي، فإنها تدل كذلك على وعي هؤلاء النقاد بأن لكل غرض ألفاظا خاصة، تحقق داخل التركيب نوعا من التماسك والانسجام. وكما اهتم النقاد والبلاغيون القدامى بطبيعة اللفظة الشعرية وخصوصياتها المميزة، وضعوا لها شروطا تضمن فصاحتها وقدرتها على التأثير، إذ ألحوا على أن تكون حلوة مستعذبة، غير عامية ولا سوقية مبتذلة، وبقدر ما دعوا إلى تنكب الركيك والخنث والسفساف من الألفاظ، شددوا على ضرورة الابتعاد عن المهمل والمتقعر، وهو ما كانوا يطلقون عليه الغريب والوحشي أو الحوشي. ولم يغفلوا الإشارة إلى تطور المعجم الشعري تبعا للتغيرات الاجتماعية الناتجة عن تعاقب الحقب والأزمنة، وانتقال الناس من مرحلة البداوة إلى مرحلة التحضر، وكلام القاضي الجرجاني في هذا معروف مشهور. -10- لأجل هذا، تعقب النقاد من تعاطي الغريب من المحدثين كأبي تمام والمتنبي، واعتبروا اللفظ المعيار في الشعر ما كان وسطا بين الغرابة والابتذال. يقول أبو هلال: (وأما الجزل والمختار من الكلام فهو الذي تعرفه العامة إذا سمعته، ولا تستعمله في محاوراتها).-11- غير أن المستعذب من الألفاظ ?في نظر حازم- يشفع له استعذابه في أن يخفى على عامة الجمهور، لأن غموضه قد يجلوه ما يجاوره في العبارة أو تكشفه معرفة خاصة الجمهور له. -12- هذه باختصار مجمل القضايا الهامة التي طرحها نقدنا القديم حول المعجم الشعري، فماذا عن النقد الحديث؟ ما هي خصائص الكلمة الشعرية في تصور المحدثين وبماذا تتسم؟ يرى (جان كوهن) أن الكلمة الشعرية حية، وملونة وحارقة ومنشدة ومزعزعة للإحسانس. -13- ولكن، هل تنسحب هذه الصفات على سائر الكلمات التي يتكون منها النص الشعري؟ من الواضح أن كلمات الشعر ليست على مستوى واحد من الأهمية والقدرة على التأثير. فهناك كلمات تقتضيها مواضعات التركيب، ويستدعيها الأسلوب، وليست لها خصوصية تأثيرية في ذاتها ما لم يشحنها الشاعر بشحنة انفعالية يقتضيها البناء الفني للقصيدة. وتندرج في هذا الصنف الروابط وما شاكلها. لأجل ذلك، يميز (بيير غيرو) بين كلمات المعنى وكلمات البنية، أو بين الكلمات الأسس في الجملة النحوية وأدوات الربط.-14- ومعلوم أن كلمات المعنى هي التي تحتل الصدارة على المستوى المعجمي للقصيدة، أما كلمات العلاقة أو البنية أو الربط فأهميتها تتجلى أساسا على مستوى التركيب، إذ هي التي تحدد العلاقة بين الوحدات المعجمية داخل العبارة. وإذا كانت الكلمة الشعرية مقتطعة من جسد اللغة، فمن الطبيعي أن ينصب الاهتمام على موازنتها بمثيلتها في اللغة العادية ليتبين الخلاف بينهما وتبرز أوجه المفارقة. وذلك ما فعله مولينو وتامين. فهما يريان أن (اللغة العشرية بالرغم من كونها تتأسس انطلاقا من عمق لغة التواصل، فإنها ?مع ذلك- غالبا ما تأخذ أشكالا مباينة لها، لدرجة تصبح معها غير مفهومة، بسبب التغيرات العديدة التي تجريها على لغة التواصل). -15- وفي سياق هذه الموازنة بين النسقين اللغويين التواصلي والشعري يرى لوتمان (أن لغة النص الشعري، كلغة كاملة ومستقلة، تشبه اللغة الطبيعية في مجملها، تشبهها وليست جزءا منها)، وأن (الوجود الشعري... لا يتمتع فقط بمتن كلامي خاص، بل وبنظامه الذاتي من المترادفات والمتضادات، ففي بعض النصوص يمكن "للحب أن يكون مرادفا للحياة، وفي نصوص أخرى قد يرادف الموت، وفي طائفة ثالثة قد يترادف الليل والنهار والحياة والموت... غير أن هذه الكلمات نفسها، حتى وهي تتمتع بمعناها الخاص في البنية الشعرية، لا تفقد دلالاتها المعجمية، ولاشك أن الصراع والتوتر بين هذين النمطين من أنماط الدلالة شديد الوضوح، وبخاصة أنه يعبر عنهما كليهما في النص برمز لغوي واحد هو الكلمة). -16- إن موقف (لوتمان) هنا يرتكز على الجانب الدلالي للفظة الشعرية وهو فيما استنتجه، بناء على الموازنة التي عقدها بين الكلام الشعري والعادي، لا يكاد يخرج عما أسماه (جان كوهن) إثر ذلك بالخرق الدلالي، والذي أدرجه ضمن أنماط الخرق التي تعتري اللغة الشعرية، ومنطلقه في ذلك كله أن الشعرية تتحدد بالمجاز. -17- وإذا كان المجاز ينبثق من سياق التركيب، فإنه ينصب على دلالة اللفظة المفردة فيحولها عما وضعت له، أي ينقلها من مستوى دلالي لآخر، وذلك ما يحصل في الشعر. ومن القضايا التي اشترك في إثارتها اللغويون قديما وحديثا، واعتبرها الشعريون المعاصرون من صميم مباحثهم قضية الدلالة الذاتية للصوت التي تنبثق عن تراكمها وتفاعلها داخل الكلمة دلالة مستقلة تساهم مع غيرها في تشكيل بنية التركيب. ولاشك أن ابن جني كان رائدا بمباحثه في هذا الميدان، حين جعل لكل صوت دلالة ذاتية تميزه عن غيره، وتتميز به الكلمة عن سواها.-18- وهو في هذا متأثر ?لا محالة- بتيار الطبيعيين اليونان الذين ذهبوا إلى أن الكلمة تعبر طبيعيا عن مدلولها. وهو ما يتنافى مع القول باعتباطية اللغة. وقد بلغ هذا التيار أوجه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حيث ادعى بعض الدارسين أن أصوات اسم الشخص تدل على ملامحه النفسية والجسدية، ولم يكف من غلواء هذا الاتجاه إلا مجيء البنيوية وقولها باعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول. غير أن القول بدلالة الصوت الذاتية ما لبث أن عاد إلى سالف أمجاده مع (الكراتيليين) الجدد والباحثين الغربيين في مجال الشعرية، ومن أبرزهم (كاترين كربرات أوريكسيوني) التي ذهبت إلى أن الخطاب الشعري يحاول ?بوعي أو بدونه- مقاومة الاعتباط وترديد الأصوات المناسبة للمضمون. -19- ولقد أعطت نظرية التلقي نفسا جديدا للمعجم الشعري بتركيزها على فاعلية القارئ، الذي لم يعد مع (بارت) مجرد مستهلك، بل تحول إلى منتج. ومن هذه الزاوية، ينظر (ريفاتير) للشعر انطلاقا مما سماه نهج (القارئ المثالي) ويقدمه باعتباره (قضية استجابة) من القارئ، ومن ثم فالكلمة الشعرية هي (الباعث) لهذه الاستجابة، التي لا يمكنها أن تتحقق إلا إذا أفسح لها القارئ المجال كي تتسرب إلى نفسه، وتتفاعل داخل سياقه الذهني.-2- إن معجم الشاعر مستمد من منجم اللغة، وكل كلمة فيه تجر وراءها تاريخا مديدا يعي الشاعر بعضه، ويخفى عنه البعض الآخر. ولكن هذا المختفي لا يتلاشى إطلاقا، بل يظل كالنار الكامنة خلف الرماد لا تلبث أن تتوهج إذا وجدت من يحركها وينفض الرماد عنها. كذلك الكلمة الشعرية تظل حبلى بكل شحناتها الدلالية، ويستقبلها المتلقي حسب معجمه الذي يختلف عن معجم الشاعر، فيسقط على الألفاظ دلالات ربما لم تخطر إطلاقا ببال الشاعر أثناء إبداعه للنص، وبهذا تتنوع الدلالات وتتضاعف، ويكتسب الشعر قيما جديدة على يد المتلقي، وتختلف هذه القيم من متلف لآخر، بل تختلف لدى المتلقي نفسه من لحظة لأخرى. وبهذا تصير الكلمة الشعرية إشارة حرة ذات أبعاد وإيحاءات وتداعيات لا صلة لها بالحياد والموضوعية كما هو الشأن بالنسبة للغة العلم مثلا. فالكلمة الشعرية إذن، كما وصفها أحد الدارسين (بذرة لزرع جديد ينبت في خيال القارئ). -21- وصفوة القول أن المعجم الشعري نال من العناية ما يستحق قديما وحديثا، ومع ذلك، فإنه لا يزال يثير بعض التساؤلات التي ترجع في عمقها وجوهرها إلى طبيعة النص الحربائية وخصائصه المستعصية عن الإدراك الدقيق، وإلى تداخل اللغة الشعرية مع اللغة الطبيعية. وإذا كان تناول أسلافنا العرب لمعجم الشعر قد ظل محدودا بشروطه التاريخية، وملابساته الثقافية، فإنه، بالرغم من ذلك، متسم بالأصالة، منطلق من طبيعة الشعر العربي وخصوصياته، معتمد على نماذجه، خلافا لما هو الشأن بالنسبة للدراسات النقدية المعاصرة عند العرب التي ?إن هي لم ترتد نحو التراث فلا مناص لها من الاتجاه نحو الغرب، حيث التنظير قائم على إبداعات لا تمت إلى طبيعة شعرنا العربي بصلة، ومع ذلك، فإن الإفادة من النقد الغربي المعاصر ممكنة ومشروعة فيما هو من قبيل خصائص الشعر المشتركة التي تطبع التجربة الإنسانية في كل زمان ومكان. ويبقى السؤال الجوهري مطروحا: هل تنفرد بعض الكلمات بخصائص شعرية تميزها عن غيرها؟ أم إنه ليست هناك كلمات شعرية وأخرى غير شعرية، وإنما هناك (تشعير) للكلمات كيفما كانت؟ إنه سؤال موجه للنقاد مهما اختلفت أجناسهم ومشاربهم.
عبد العزيز الحلوي (دراسة العدد 15 -يناير 2006)
الهوامش :
1- أنظر على سبيل المثال ما كتبه الدكتور محمد مفتاح حول (المعجم بين القصدية والاعتباطية) في كتابه (تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناص 63-67).
2- الشعر والشعراء 83
3- العمدة 257
4- نفسه
5- سر الفصاحة 166
6- أخبار أبي تمام
30 7- المثل السائر 3/212-213
8- يتيمة الدهر 1/191
9- خزانة الأدب 1/351
10- الوساطة 18. يقول الجرجاني : (فلما ضرب الإسلام بجرانه، واتسعت ممالك العرب، وكثرت الحواضر، ونزعت البوادي إلى القرى، وفشا التأدب والتظرف اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله، وعمدوا إلى كل شيء ذي أسماء كثيرة اختاروا أحسنها سمعا، وألطفها من القلب موقعا، وإلى ما للعرب فيه لغات فاقتصروا على أسلسها وأشرفها... وتجاوزوا الحد في طلب التسهيل حتى تسمحوا ببعض اللحن، وحتى خالطتهم الركاكة والعجمة، وأعانهم على ذلك لين الحضارة وسهولة طباع الأخلاق...).
11- الصناعتين 64-65.
12- منهاج البلغاء 29. يقول حازم القرطاجني: (... كما أن اللفظ المستعذب وإن كان لا يعرفه جميع الجمهور مستحسن إيراده في الشعر لأنه مع استعذابه قد يفسر معناه، لمن لا يفهمه، ما يتصل به من سائر العبارة. وإن لم يكن في الكلام ما يفسره لم يعوز أيضا وجدان مفسره لكونه مما يعرفه خاصة الجمهور أو كثير منهم. والإتيان بما يعرف أحسن). 13
- اللغة الراقية ونظرية الشعر 129-176. وانظر: في سيمياء الشعر القديم 42.
14- انظر: تأبط شعرا 64-65 حيث أشار إلى ذلك. 15
- مدخل إلى التحليل اللساني للعشر 87.
16- تحليل النص الشعري "بنية القصيدة" 126-127.
17- اللغة الراقية ونظرية الشعر18. وانظر كذلك: في سيمياء الشعر القديم 50-51.
18- تناول ابن جني القيمة التعبيرية للصوت في أكثر من موضع من كتابه (الخصائص)، أبرز هذه المواضع في (باب القول على أصل اللغة أإلهام هي أم اصطلاح) 1/40-48 ؛ وفيه إشارة إلى هذا المذهب وترجيح له، وكذلك في (باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني) 2/152-168، حيث يزيد القضية تفسيرا وتفصيلا.
19- الدلالة الحافة 27-35.
20- الخطيئة والتكفير 76-77. 21- نفسه 26.
مما لاشك فيه أننا لا نستطيع تناول المعجم الشعري تناولا جادا إلا في ضوء نظرية شاملة تؤطر هذا النوع المتميز من الإبداع. وعناصر هذه النظرية ?في تصورنا- هي ما يلي:
1- ماهية الشعر وطبيعته
2- مكوناته وخصائصه
3- وظيفته وفوائده
4- علاقته بالحياة.
وفي إطار المكونات والخصائص، ينضوي الحديث عن المعجم الشعري. ذلك أن القصيدة بنية شمولية تضم بنى جزئية داخلية، تنطلق من الحرف إلى الكلمة، ومن الكلمة إلى الجملة، ومن الجملة إلى السياق، ومن السياق إلى النص، ثم إلى نصوص أخرى، إذ لا شيء يمنعها من الانتقال إليها بواسطة الإيحاء والتداعي وكافة أنماط التناص.
إن أول ما ينبغي التركيز عليه في أية دراسة معجمية هو الطابع اللغوي للشعر. فالشعر لغة، أو -إذا شئنا- هو مستوى راق من مستوياتها، ومن هذا المنطلق، صح لدى الكثيرين جعله موضوعا للدرس اللساني الذي يرى من حقه أن ينصب على سائر الأشكال اللغوية بما فيها الشعر، فأي تحليل للنص الشعري ينطلق من اللغة، من مستوياتها الصوتية والمعجمية والتركيبية والدلالية. وتستمد الوحدات المعجمية (أو المورفيمات) قيمتها من كونها العناصر الكبرى التي يتكون منها التركيب بصنفيه: النحوي والبلاغي. وهي ذات وظيفة ثنائية: تراكمية وتراتبية، فهي لا تقتصر على تشكيل حقول دلالية داخل النص بوساطة الاشتقاق والترادف وما إليهما من أنواع القرابة المعنوية التي يحققها تراكم مفردات بعينها، بل تتجاوز هذه الوظيفة إلى توفير عنصر الإبداعية وخلق الكون الشعري المتميز عندما تنتظم داخل التركيب بكيفية تتيح لها أن تتفاعل على نمط مخصوص. غير أن هذه الوحدات ليست وقفا على الشعر وحده، بل تشاركه فيها سائر أنماط القول، فضلا عن الفنون النثرية التي تنضوي مع الشعر ضمن نظرية الأدب. ومن هنا، فإن دراسة المعجم الشعري تتم عبر الأسئلة التي يطرحها علماء اللغة، وهم في الإجابة عنها يختلفون، بالرغم من أن الفرق بين الخطاب العادي واللغة العلمية من جهة، ولغة الشعر من جهة ثانية واضح جدا، ولعل من أبرز هذه الأسئلة ما يثار حول مدى اعتباطية المعجم الشعري أو قصديته، أي حول وجود أو عدم وجود علاقة بين اللفظ ومدلوله داخل القصيدة. -1- إن أوضح ما يميز لغة الشعر عن سواها عنصران فنيان هما: الإيقاع، والانفعال القائم على التصوير والتخييل. وبديهي أن الاختلاف بين الشعر وباقي أنماط اللغة، يقتضي اختلافا بين الكلمة الشعرية وغيرها من الكلمات، وإذا كان الأمر كذلك، فما حدود هذا لاختلاف؟ ما هي خصوصيات الكلمة الشعرية ووظيفتها؟ وهل يجوز أن تنقل إلى غيرها من فنون القول؟ وبالتالي: هل يجوز أن ينقل معجم الميادين الأخرى إلى الشعر، كمعجم المهن والصنائع والعلوم؟ ألا يمكن أن يحصل التداخل بين هذه المعاجم داخل الإبداع الشعري؟ ومن جهة أخرى إلى أي حد تستطيع لغة الخطاب العادي أن تقتحم أسوار الشعر، وتتربع على عرشه؟ لقد بدأ وعي الأقدمين بتميز المعجم الشعري عن غيره منذ القرن الهجري الثاني، كما تكشف عن ذلك إشارات تنم عن تصور عام فضفاض لهذا المعجم، من هذه الإشارات ما أثر عن خلف حيث قال: [قال لي شيخ من أهل الكوفة: أما عجبت من الشاعر قال: (أنبت قيصوما وحثجاثا) فاحتمل له، وقلت أنا: (أنبت إجاصا وتفاحا) فلم يحتمل لي؟ ] -2- وواضح من كلام هذا الشيخ تعايش نمطين معجميين في شعر هذه المرحلة: أحدهما بدوي يقبله النقاد، والآخر حضري يرفضه المحافظون منهم، فهم لم يستسيغوه بعد، لقرب العهد ببداية الانفصام بين البداوة والحضارة. هذا التصور العام للمعجم الشعري الذي ساد خلال القرون الهجرية الأولى، سيتحدد بوضوح لدى ابن رشيق في قوله : (وللشعراء ألفاظ معروفة، وأمثلة مألوفة، لا ينبغي للشاعر أن يعدوها ولا أن يستعمل غيرها...). -3- وهو في كلامه هنا لا يترك اللغة ملكا مشاعا بين الفنون الأدبية جميعها من شعر وخطابة وأمثال وكتابة، بل يتحدث عن اصطلاح الكتاب (على ألفاظ بأعيانها، سموها الكتابية، لا يتجاوزونها إلى سواها). -4- وهذا الرأي يتبناه ابن سنان الخفاجي في (سر الفصاحة) حيث يرى أنه: (من وضع الألفاظ موضعها ألا يستعمل في الشعر المنظوم والكلام المنثور من الرسائل والخطب ألفاظ المتكلمين والنحويين والمهندسين ومعانيهم والألفاظ التي تختص بها أهل المهن والعلوم...). -5- ومن هذا المنطلق، عابوا على أبي تمام قوله: (تسعون ألفا كآساد الشرى نضجت أعمارهم قبل نضج التين والعنب) بدعوى أن التين والعنب ليس مما يذكر في الشعر وأنه مستهجن. -6- كما عابوا عليه استعمال ألفاظ الفلسفة وعلم الكلام والفقه وغيره في بعض أشعاره. والسبب في ذلك انطلاقهم من تصور معياري لفصاحة الألفاظ وجودتها، واضعين نصب أعينهم قصائد البدو الجفاة، التي نظمت قبل ازدهار الحضارة العربية الإسلامية وانتشار العمران، متجاهلين ما استجد من الألفاظ بسبب عامل التمدن ورقي العلوم، غافلين أو متغافلين عن اتساع ثقافة الشاعر وأثر ذلك في شعره. وقد تصدى ابن الأثير للرد على ابن سنان الخفاجي معقبا على رأيه المذكور بقوله: (وهذا الذي أنكره ابن سنان هو عين المعروف في هذه الصناعة... وسأبين فساد ما ذهب إليه فأقول: أما قوله إنه يجب على الإنسان إذا خاض في علم أو تكلم في صناعة أن يستعمل ألفاظ أهل العلم وأصحاب تلك الصناعة، فهذا مسلم إليه، ولكنه شذ عنه أن صناعة المنظوم والمنثور مستمدة من كل علم وكل صناعة، لأنها موضوعة على الخوض في كل معنى، وهذا لا ضابط له يضبطه ولا حاصر يحصره، فإذا أخذ مؤلف الشعر أو الكلام المنثور في صوغ معنى من المعاني وأداه ذلك إلى استعمال معنى فقهي أو نحوي أو حسابي أو غير ذلك فليس له أن يتركه ويحيد عنه، لأنه من مقتضيات ذلك المعنى الذي قصده). -7- ولا يخفى أن موقف ابن الأثير هذا أكثر تفهما لوضع الشعراء المحدثين، وملابساتهم الثقافية والحضارية. والخلاصة أن موقف النقاد القدامى من قضية المعجم الشعري في استقلاله أو تداخله مع مجالات أخرى، قد تحدد استنادا إلى النماذج الإبداعية التي اعتمدوها في عملية الاستقراء التي وجهت تنظيرهم النقدي، فالذين ارتكزوا على الشعر القديم قالوا باستقلال المعجم الشعري وتميزه، والذين نظروا إلى الشعر المحدث أو المولد ذهبوا إلى إمكان استعارة الشعر ?أحيانا- ألفاظ أهل المهن ومصطلحات العلوم والفنون، وإن كانت مكملة تدفع إليها الضرورة التعبيرية، ولا تشكل إلا حيزا ثانويا إلى جانب المعجم الشعري الموروث المتميز بأصالته. وتجدر الإشارة هنا إلى أن ابن سنان الخفاجي وابن الأثير كليهما لم يميزا ?كما فعل ابن رشيق قبلهما- بين المعجم الشعري ومعجم النثر الفني، وكأنهما بهذا الموقف لا يضعان حدودا صارمة على مستوى الألفاظ بين هذين النوعين اللذين قد لا يفصل بينهما إلا الوزن. وإذا كان الشعر العربي يتنوع إلى أغراض، فهذا يقتضي أن تتعدد الحقول الدلالية بتعدد الأغراض، وأن يتضمن المعجم الشعري العام معاجم خاصة يتصل كل منها بغرض محدد، ولا يخرج عنه إلا انزياحا لنكتة بلاغية، كتأكيد المدح بما يشبه الذم، وتأكيد الذم بما يشبه المدح، ومخاطبة الممدوح من الملوك بمثل مخاطبة المحبوب والصديق، كما كان يفعل المتنبي(تبحرا في الألفاظ والمعاني، ورفعا لنفسه عن درجة الشعراء، وتدريجا لها إلى مماثلة الملوك). -8- وما أكثر ما كان الشعراء ينقلون اللفظة من غرض إلى غرض، فيفطن النقاد إلى صنيعهم، ويواجهونه بما يستحق من استحسان أو استهجان، ومن هذا القبيل ما فعله أبو تمام حين قال في وصف حسناء: (لها منظر قيد النواظر لم يزل يروح ويغدو في خفارته الحب) وقد وقف البغدادي على هذا البيت مطريا، معتبرا إياه توليد بديع من بديع، معقبا عليه بقوله عن صاحبه: [فإنه ولد قوله (قيد النواظر) من قول امرئ القيس 'قيد الأوابد)، لأن هذه اللفظة التي هي (قيد) انتقلت بإضافتها من الطرد إلى النسيب، فكأن النسيب تولد من الطرد، وتناول اللفظ المفرد لا يعد سرقة]. -9- هذه الإشارة ومثلها، بقدر ما تعبر عن موقف نقدي، فإنها تدل كذلك على وعي هؤلاء النقاد بأن لكل غرض ألفاظا خاصة، تحقق داخل التركيب نوعا من التماسك والانسجام. وكما اهتم النقاد والبلاغيون القدامى بطبيعة اللفظة الشعرية وخصوصياتها المميزة، وضعوا لها شروطا تضمن فصاحتها وقدرتها على التأثير، إذ ألحوا على أن تكون حلوة مستعذبة، غير عامية ولا سوقية مبتذلة، وبقدر ما دعوا إلى تنكب الركيك والخنث والسفساف من الألفاظ، شددوا على ضرورة الابتعاد عن المهمل والمتقعر، وهو ما كانوا يطلقون عليه الغريب والوحشي أو الحوشي. ولم يغفلوا الإشارة إلى تطور المعجم الشعري تبعا للتغيرات الاجتماعية الناتجة عن تعاقب الحقب والأزمنة، وانتقال الناس من مرحلة البداوة إلى مرحلة التحضر، وكلام القاضي الجرجاني في هذا معروف مشهور. -10- لأجل هذا، تعقب النقاد من تعاطي الغريب من المحدثين كأبي تمام والمتنبي، واعتبروا اللفظ المعيار في الشعر ما كان وسطا بين الغرابة والابتذال. يقول أبو هلال: (وأما الجزل والمختار من الكلام فهو الذي تعرفه العامة إذا سمعته، ولا تستعمله في محاوراتها).-11- غير أن المستعذب من الألفاظ ?في نظر حازم- يشفع له استعذابه في أن يخفى على عامة الجمهور، لأن غموضه قد يجلوه ما يجاوره في العبارة أو تكشفه معرفة خاصة الجمهور له. -12- هذه باختصار مجمل القضايا الهامة التي طرحها نقدنا القديم حول المعجم الشعري، فماذا عن النقد الحديث؟ ما هي خصائص الكلمة الشعرية في تصور المحدثين وبماذا تتسم؟ يرى (جان كوهن) أن الكلمة الشعرية حية، وملونة وحارقة ومنشدة ومزعزعة للإحسانس. -13- ولكن، هل تنسحب هذه الصفات على سائر الكلمات التي يتكون منها النص الشعري؟ من الواضح أن كلمات الشعر ليست على مستوى واحد من الأهمية والقدرة على التأثير. فهناك كلمات تقتضيها مواضعات التركيب، ويستدعيها الأسلوب، وليست لها خصوصية تأثيرية في ذاتها ما لم يشحنها الشاعر بشحنة انفعالية يقتضيها البناء الفني للقصيدة. وتندرج في هذا الصنف الروابط وما شاكلها. لأجل ذلك، يميز (بيير غيرو) بين كلمات المعنى وكلمات البنية، أو بين الكلمات الأسس في الجملة النحوية وأدوات الربط.-14- ومعلوم أن كلمات المعنى هي التي تحتل الصدارة على المستوى المعجمي للقصيدة، أما كلمات العلاقة أو البنية أو الربط فأهميتها تتجلى أساسا على مستوى التركيب، إذ هي التي تحدد العلاقة بين الوحدات المعجمية داخل العبارة. وإذا كانت الكلمة الشعرية مقتطعة من جسد اللغة، فمن الطبيعي أن ينصب الاهتمام على موازنتها بمثيلتها في اللغة العادية ليتبين الخلاف بينهما وتبرز أوجه المفارقة. وذلك ما فعله مولينو وتامين. فهما يريان أن (اللغة العشرية بالرغم من كونها تتأسس انطلاقا من عمق لغة التواصل، فإنها ?مع ذلك- غالبا ما تأخذ أشكالا مباينة لها، لدرجة تصبح معها غير مفهومة، بسبب التغيرات العديدة التي تجريها على لغة التواصل). -15- وفي سياق هذه الموازنة بين النسقين اللغويين التواصلي والشعري يرى لوتمان (أن لغة النص الشعري، كلغة كاملة ومستقلة، تشبه اللغة الطبيعية في مجملها، تشبهها وليست جزءا منها)، وأن (الوجود الشعري... لا يتمتع فقط بمتن كلامي خاص، بل وبنظامه الذاتي من المترادفات والمتضادات، ففي بعض النصوص يمكن "للحب أن يكون مرادفا للحياة، وفي نصوص أخرى قد يرادف الموت، وفي طائفة ثالثة قد يترادف الليل والنهار والحياة والموت... غير أن هذه الكلمات نفسها، حتى وهي تتمتع بمعناها الخاص في البنية الشعرية، لا تفقد دلالاتها المعجمية، ولاشك أن الصراع والتوتر بين هذين النمطين من أنماط الدلالة شديد الوضوح، وبخاصة أنه يعبر عنهما كليهما في النص برمز لغوي واحد هو الكلمة). -16- إن موقف (لوتمان) هنا يرتكز على الجانب الدلالي للفظة الشعرية وهو فيما استنتجه، بناء على الموازنة التي عقدها بين الكلام الشعري والعادي، لا يكاد يخرج عما أسماه (جان كوهن) إثر ذلك بالخرق الدلالي، والذي أدرجه ضمن أنماط الخرق التي تعتري اللغة الشعرية، ومنطلقه في ذلك كله أن الشعرية تتحدد بالمجاز. -17- وإذا كان المجاز ينبثق من سياق التركيب، فإنه ينصب على دلالة اللفظة المفردة فيحولها عما وضعت له، أي ينقلها من مستوى دلالي لآخر، وذلك ما يحصل في الشعر. ومن القضايا التي اشترك في إثارتها اللغويون قديما وحديثا، واعتبرها الشعريون المعاصرون من صميم مباحثهم قضية الدلالة الذاتية للصوت التي تنبثق عن تراكمها وتفاعلها داخل الكلمة دلالة مستقلة تساهم مع غيرها في تشكيل بنية التركيب. ولاشك أن ابن جني كان رائدا بمباحثه في هذا الميدان، حين جعل لكل صوت دلالة ذاتية تميزه عن غيره، وتتميز به الكلمة عن سواها.-18- وهو في هذا متأثر ?لا محالة- بتيار الطبيعيين اليونان الذين ذهبوا إلى أن الكلمة تعبر طبيعيا عن مدلولها. وهو ما يتنافى مع القول باعتباطية اللغة. وقد بلغ هذا التيار أوجه في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر حيث ادعى بعض الدارسين أن أصوات اسم الشخص تدل على ملامحه النفسية والجسدية، ولم يكف من غلواء هذا الاتجاه إلا مجيء البنيوية وقولها باعتباطية العلاقة بين الدال والمدلول. غير أن القول بدلالة الصوت الذاتية ما لبث أن عاد إلى سالف أمجاده مع (الكراتيليين) الجدد والباحثين الغربيين في مجال الشعرية، ومن أبرزهم (كاترين كربرات أوريكسيوني) التي ذهبت إلى أن الخطاب الشعري يحاول ?بوعي أو بدونه- مقاومة الاعتباط وترديد الأصوات المناسبة للمضمون. -19- ولقد أعطت نظرية التلقي نفسا جديدا للمعجم الشعري بتركيزها على فاعلية القارئ، الذي لم يعد مع (بارت) مجرد مستهلك، بل تحول إلى منتج. ومن هذه الزاوية، ينظر (ريفاتير) للشعر انطلاقا مما سماه نهج (القارئ المثالي) ويقدمه باعتباره (قضية استجابة) من القارئ، ومن ثم فالكلمة الشعرية هي (الباعث) لهذه الاستجابة، التي لا يمكنها أن تتحقق إلا إذا أفسح لها القارئ المجال كي تتسرب إلى نفسه، وتتفاعل داخل سياقه الذهني.-2- إن معجم الشاعر مستمد من منجم اللغة، وكل كلمة فيه تجر وراءها تاريخا مديدا يعي الشاعر بعضه، ويخفى عنه البعض الآخر. ولكن هذا المختفي لا يتلاشى إطلاقا، بل يظل كالنار الكامنة خلف الرماد لا تلبث أن تتوهج إذا وجدت من يحركها وينفض الرماد عنها. كذلك الكلمة الشعرية تظل حبلى بكل شحناتها الدلالية، ويستقبلها المتلقي حسب معجمه الذي يختلف عن معجم الشاعر، فيسقط على الألفاظ دلالات ربما لم تخطر إطلاقا ببال الشاعر أثناء إبداعه للنص، وبهذا تتنوع الدلالات وتتضاعف، ويكتسب الشعر قيما جديدة على يد المتلقي، وتختلف هذه القيم من متلف لآخر، بل تختلف لدى المتلقي نفسه من لحظة لأخرى. وبهذا تصير الكلمة الشعرية إشارة حرة ذات أبعاد وإيحاءات وتداعيات لا صلة لها بالحياد والموضوعية كما هو الشأن بالنسبة للغة العلم مثلا. فالكلمة الشعرية إذن، كما وصفها أحد الدارسين (بذرة لزرع جديد ينبت في خيال القارئ). -21- وصفوة القول أن المعجم الشعري نال من العناية ما يستحق قديما وحديثا، ومع ذلك، فإنه لا يزال يثير بعض التساؤلات التي ترجع في عمقها وجوهرها إلى طبيعة النص الحربائية وخصائصه المستعصية عن الإدراك الدقيق، وإلى تداخل اللغة الشعرية مع اللغة الطبيعية. وإذا كان تناول أسلافنا العرب لمعجم الشعر قد ظل محدودا بشروطه التاريخية، وملابساته الثقافية، فإنه، بالرغم من ذلك، متسم بالأصالة، منطلق من طبيعة الشعر العربي وخصوصياته، معتمد على نماذجه، خلافا لما هو الشأن بالنسبة للدراسات النقدية المعاصرة عند العرب التي ?إن هي لم ترتد نحو التراث فلا مناص لها من الاتجاه نحو الغرب، حيث التنظير قائم على إبداعات لا تمت إلى طبيعة شعرنا العربي بصلة، ومع ذلك، فإن الإفادة من النقد الغربي المعاصر ممكنة ومشروعة فيما هو من قبيل خصائص الشعر المشتركة التي تطبع التجربة الإنسانية في كل زمان ومكان. ويبقى السؤال الجوهري مطروحا: هل تنفرد بعض الكلمات بخصائص شعرية تميزها عن غيرها؟ أم إنه ليست هناك كلمات شعرية وأخرى غير شعرية، وإنما هناك (تشعير) للكلمات كيفما كانت؟ إنه سؤال موجه للنقاد مهما اختلفت أجناسهم ومشاربهم.
عبد العزيز الحلوي (دراسة العدد 15 -يناير 2006)
الهوامش :
1- أنظر على سبيل المثال ما كتبه الدكتور محمد مفتاح حول (المعجم بين القصدية والاعتباطية) في كتابه (تحليل الخطاب الشعري، استراتيجية التناص 63-67).
2- الشعر والشعراء 83
3- العمدة 257
4- نفسه
5- سر الفصاحة 166
6- أخبار أبي تمام
30 7- المثل السائر 3/212-213
8- يتيمة الدهر 1/191
9- خزانة الأدب 1/351
10- الوساطة 18. يقول الجرجاني : (فلما ضرب الإسلام بجرانه، واتسعت ممالك العرب، وكثرت الحواضر، ونزعت البوادي إلى القرى، وفشا التأدب والتظرف اختار الناس من الكلام ألينه وأسهله، وعمدوا إلى كل شيء ذي أسماء كثيرة اختاروا أحسنها سمعا، وألطفها من القلب موقعا، وإلى ما للعرب فيه لغات فاقتصروا على أسلسها وأشرفها... وتجاوزوا الحد في طلب التسهيل حتى تسمحوا ببعض اللحن، وحتى خالطتهم الركاكة والعجمة، وأعانهم على ذلك لين الحضارة وسهولة طباع الأخلاق...).
11- الصناعتين 64-65.
12- منهاج البلغاء 29. يقول حازم القرطاجني: (... كما أن اللفظ المستعذب وإن كان لا يعرفه جميع الجمهور مستحسن إيراده في الشعر لأنه مع استعذابه قد يفسر معناه، لمن لا يفهمه، ما يتصل به من سائر العبارة. وإن لم يكن في الكلام ما يفسره لم يعوز أيضا وجدان مفسره لكونه مما يعرفه خاصة الجمهور أو كثير منهم. والإتيان بما يعرف أحسن). 13
- اللغة الراقية ونظرية الشعر 129-176. وانظر: في سيمياء الشعر القديم 42.
14- انظر: تأبط شعرا 64-65 حيث أشار إلى ذلك. 15
- مدخل إلى التحليل اللساني للعشر 87.
16- تحليل النص الشعري "بنية القصيدة" 126-127.
17- اللغة الراقية ونظرية الشعر18. وانظر كذلك: في سيمياء الشعر القديم 50-51.
18- تناول ابن جني القيمة التعبيرية للصوت في أكثر من موضع من كتابه (الخصائص)، أبرز هذه المواضع في (باب القول على أصل اللغة أإلهام هي أم اصطلاح) 1/40-48 ؛ وفيه إشارة إلى هذا المذهب وترجيح له، وكذلك في (باب في إمساس الألفاظ أشباه المعاني) 2/152-168، حيث يزيد القضية تفسيرا وتفصيلا.
19- الدلالة الحافة 27-35.
20- الخطيئة والتكفير 76-77. 21- نفسه 26.