- الصورة في النقد الحديث:
2-أ - عند النقاد الغربيين:
حصر النقاد الغربيون الصورة في ثلاث دلالات هي:
الصورة بوصفها نتاجا لعمل الذهن الإنساني أو(الصورة الذهنية):
وهذه الدلالة منبثقة من طروحات الدراسات السيكولوجية التي فتح أبوابها (فرويد) بمباحثه عن العقل الباطن،متجهة في هذا اتجاها سلوكيا من حيث الاهتمام بالصورة الذهنية كنتيجة لدينامية الذهن الإنساني في تأثيره بالإبداع الفني،و يكون التّركيز، في هذه الدلالة، موجّها نحو ما يحدث في ذهن القارئ، أوبعبارة أخرى، نتيجة الاستجابة التي تولّدها الصورة في ذهن المتلقي، وهي محدّدة بالحسّية، تصف العلاقة بين «العبارة المكتوبة في الصفحة، والإحساس الذي تولّده في الذهن، ويتضمّن بحث مشكلتين متوازيتين، تتصل أولهما بوصف القدرات الحسّية لذهن الشاعر، بطريقة موضوعية وتحليلية، وتتصل ثانيتها، بفحص واختيار وربما تحسين قدرة القرّاء على تقدير قيمة الصورة في الشعر، والمنهج المستخدم في ظلّ هذا التعريف منهج (إحصائي)، بمعنى، أن يقرأ الدارس القصيدة التي يحلّلها، ثم يسجّل بطريقة إحصائية وتصنيفية الصور المختلفة التي يمكن أن تثيرها القصيدة في ذهنه».
وتولي هذه الدلالة العنصر الحسّي في الصورة الفنية أهمية بالغة،اذ تصنف الصور بحسب مادتها الى صور بصرية و ذوقية و شمية و سمعية و…أي الصور المستمدة من عمل الحواس، ولا فرق عندها بين الحقيقي والمجازي من الصور، وقد تركّز أحيانا على أحدهما، وغالبا على كليهما.
الصورة بوصفها نمطا يجسّد رؤية رمزية أو (الصورة الرامزة):
تشترك هذه الدلالة مع الدلالة السابقة في كونها نتاج مباحث الدراسات النفسية، وهي تهتم بوظيفة الصورة الفنية، «سواء كانت حقيقية أو مجازية، او كليهما معا باعتبارها رموزا تستمد فعاليتها من التداعي السيكولوجي.. وبالتالي، يهتم التحليل بتحديد وظيفة الصور المتكرّرة في القصيدة، باعتبارهذه الصور بمثابة لوازم نغمية، ووسائل بنائية، ورموز، تكشف عن دلالة القصيدة وما تشير إليه، كما يهتمّ التحليل بفحص العلاقة بين أنماط صور الشاعر ككلّ، وبين الأنماط المشابهة لها في الشعائر والأساطير».
و الصورة في رحابها تدرس من زاوية كونها تعبيرا رمزيا، فيركز على الأنماط المتكررة التي تدعى بـ(عناقيد الصورة)، وقد توسعت (كارولين سبريجن) بدراستها حول صور شكسبير في هذا المجال،وقيمة الصورة في هذه الدراسات يكمن في كونها تساعد على الكشف على المعاني العميقة التى توحي اليها القصيدة.
الصورة بوصفها مجازا أو (الصورة المجازية):
تنطوي، تحت هذه الدلالة، جميع التعابير والأساليب غير الحقيقية، من استعارة ومجاز وكناية، أو الأساليب البلاغية المعروفة.
إنّ ارتباط الصورة الفنية بالجانب الحسّي الذي تقدّمه الرؤية البصرية - كما سبق الإشارة إليه – هو أبسط هذه الدلالات، وأقربها إلى الذّهن، ويعدّ تعريف الناقد والشاعر الإنجليزي (سيسل دي لويس -) للصورة الفنية، وأنها « رسم قوامه الكلمات» التعريف الأقرب إلى الدلالة الحرفية لمصطلح الصورة التي تهتمّ بالنمط البصري.
حقاّ، إنّه ليس بالإمكان إهمال الدّور الذي يمثله الجانب الحسّي في مجال مدركاتنا، كونه من أهمّ وسائل التأثير بالصورة، وتَمْكينها في النّفس، وتقوية جانب المدركات فينا. فالتقديم الحسّي يساعدنا كثيرا على فهم الصورة الفنية، وإظهار مجال الجمال والإبداع فيها، خاصة، فيما ارتبط بتصوير المعنويات أو الأمور المجرّدة التي لا تخضع إلى المشاهدة ولا تدرك بالمعاينة. وهذا الذي يعتمده الفن والأدب.
بيد أن هذا الأمر ليس حكرا على الفنانين والأدباء وحدهم، بل قد يشمل جميع الناس. فالناس في أحاديثهم اليومية، عادة ما يستعينون بهذا التجسيد الحسي في تقريب واقعهم الخارجي، أو تقرير عالمهم الداخلي، قصد توضح حقيقة غير مرئية أو غير مشاهدة.. ويبقى السؤال: هل الصورة الفنية هي نتاج رؤية بصرية دوما؟
إنّ الصورة ليست نتاج رؤية بصرية دائما، إذ إنّ هناك صورا تتكوّن من عناصر تجريدية بحتة، لا علاقة لها بالبصر مطلقّا، ولعلّ هذا ما جعل أغلب النقاد الغربيين المعاصرين يتجاوزون المفهوم البصري للصورة، لأنّ الناس كما قال (أوستن وويليك) يختلفون اختلافا شديدا في درجة تبصّرهم، وهاهو (إزرا باوند) -منّظر الحركات الشعرية المعاصرة-، يتسوّر في تعريفه الذي صاغه للصورة الفنية الدلالة التجسمية التي اعتنقها أصحاب الاتجاه المادي أو(التصويري) في الشعر، إذ يقول عنها: هي «تلك التي تقدّم عقدة فكرية أو عاطفية في برهة من الزمن». ومن هنا، اكتسبت الصورة الفنية مفهوما جديدا، لتصبح كلاّ متكاملاّ، تمتزج فيها المصادر الخارجية من حسّية وموضوعية بالذات الشاعرة.
وثمّة ملاحظة وجب ذكرها هاهنا، ذلك أنّ الدلالة الحسّية التي ارتبطت بالصورة الفنية، جعلت بعض النقاد والدارسين المحدثين والمعاصرين يميلون إلى الأخذ بمصطلح (الاستعارة) بدلا من مصطلح (الصورة)، خاصة، عند (ريتشاردز) الذي يقول: «والصورة نفسها مضلّلة، إذ إننا لولم نحذرها، لانتهينا إلى أنّ الصورة تقدّم إدراكا حرفيا لشيء موجود بالفعل» ويقول جون مدلتون مري «كلّ ما يقال عن الصورة في الشعر، يمكن أن يصب في الاستعارة».
والظاهر عند هؤلاء النقاد، أنّ مصطلح (استعارة) أعمّ وأشمل من مصطلح (صورة)، هذا الذي لا نجده عند بعضهم الآخر من النقاد والدارسين المحدثين. فـ (كارولين سبرجن) – مثلا – ترى أنّ الصورة مصطلح عام، ينضوي تحته الأسلوب التشبيهي والاستعاري والمجازي بوجه عام. تقـول: «إنني أستعمل مصطلح صورة هنا، بحيث يشمل كل من (التشبيه) و (التشبيه المضغوط المركّز)، وأقصد به (الاستعارة). إنّ مصطلح (صورة) يجب أن نفهمه على أنّه يتضمّن كلّ صورة خيالية يعبّر عنها الشاعر، بواسطة انفعاله وتفكيره، سواء أكانت هذه الصورة الخيالية تشبيها، أم استعارة، بما تحمله الكلمات من معنى رحيب، لذ ينبغي أن نبعد عن قولنا الإيحاء الذي يجعل المصطلح معبّرا عن الصورة البصرية فقط.
2 - ب- عند النقاد العرب المحدثين:
يمكننا حصر اتجاهات النقاد العرب المحدثين حول مفهومهم للصورة في ثلاث اتجاهات هي:
اتجاه تبنى طروحات النقاد الأوربيين الغربيين،ونفى عن العرب معرفتهم للصورة الفنية إذ التفت بعضهم إلى النقد الغربي، واقتبس منه الكثير من الدراسات وراح يطبق ما نهل من معارف وأفكار على نصوص شعرية قديمة، فتراءت له صورة المرأة رمزا للمعبودة الشمس، وصورة الثور الوحشي رمزا للمعبود القمر…، وهذا الذي اعتنقه كلّ من علي البطل في دراسته الموسومة بـ(الصورة في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها) ونصرت عبد الرحمن في كتابه (الصورةالفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث).
أما الدكتور مصطفى ناصف في (الصورة الأدبية)، ونعيم اليافي في (مقدمة لدراسة الصورة الفنية،وتطوردراسة الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث) فلم يبعدا عن سابقيهم في الاعتماد على النقد الأوربي،وتبني طروحاتهم في حقل الصورة.فها هو ناصف - متأثرا بالفكر الغربي- يرى أن مصطلح الاستعارة أهدى من مصطلح الصورة و أنّ كلمة (صورة) تستعمل –عادة – للدلالة على «كل ماله صلة بالتعبير الحسّي، وتطلق أحيانا مرادفة للاستعمال الاستعاري للكلمات، ذلك أنّ لفظ (الاستعارة) إذا حسن إدراكه، قد يكون أهدى من لفظ (الصورة)، وأنّ (الصورة) – إن جاز الحديث المفرد عنها- لن تستقلّ بحال عن الإدراك الاستعاري»
واتجاه ثان – على قلّته – تشبّث بالقديم،وأعلى من شأنه،فلم يلتفت إلاّ لما أفرزه الفكر العربي القديم من أفكار ونظريات،ويمثّل هذا الاتجاه الدكتور كمال حسن البصير بكتابه (بناء الصورة الفنية في البيان العربي).
واتجاه أخير معتدل،قرأ بعين الناقد البصير،فأقرّ فضل القديم،وبيّن ميزة الجديد الملائم وأوضحه، ومن هؤلاء علي إبراهيم أبو زيد في (الصورة الفنية في شعر دعبل الخزاعي)، وعبد الله صالح نافع في (الصورة الشعرية في شعر بشار بن برد) و بشرى موسى صالح في (الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث)، وجابر عصفور في (الصورة الفنية في التراث العربي القديم).
وإذا انتقلنا إلى التعاريف المصاغة للصورة وجدناها كثيرة لا يمكن حصرها في مبحث كهذا، ونكتفي باستعراض بعضها، فأحمد الشايب يقول عنها:«هي المادة التي تتركب من اللغة بدلالتها اللغوية والموسيقية، ومن الخيال الذي يجمع بين عناصر التشبيه والاستعارة والطباق وحسن التعليل »)، أمّا الدكتور علي صبح قيقول عنها:« هي التركيب القائم على الإصابة في التنسيق الفني الحي لوسائل التعبير التي ينتقيها وجود الشاعر – أعني خواطره ومشاعره وعواطفه - المطلق لعالم المحسّات ؛ ليكتشف عن حقيقة المشهد أوالمعنى، في إطار قوي نام محس مؤثّر، على نحو يوقظ الخواطر والمشاعر في الآخرين، و عبد القادر القط يرى فيها:«الشّكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينّظمها الشاعر في سياق بياني خاص ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكاملة في القصيدة مستخدما طاقات اللغة وإمكانيتها في الدلالة والتركيب والايقاع والحقيقة والمجاز والترادف والتضاد والمقابلة والمجانسة وغيرها من وسائل التعبير الفني »، أمّا عبد الفتاح صالح نافع فيرى فيها:«الصيغة اللفظية التي يقدّم فيها الأديب فكرته، ويصوّر تجربته، ويتضمّن اصطلاح الصورة الشعرية جميع الطرق الممكنة لصناعة نوع التعبير الذي يرى عليـه الشيء مشابها أو متفقا مع آخر، ويمكن أن يتركز في ثلاثة أصناف هي: التشبيه والمجاز والرمز»
إنّ اصطلاح (الحقيقة والمجاز) قد اتخذ في النقد الحديث والمعاصر اسم (الصورة) ونحن في دراستنا هذه، آثرنا مصطلح (الصورة) بدل مصطلح (الاستعارة) ذلك أنّ مصطلح (الصورة)، في نظرنا، أوسع وأشمل، فهو يشمل أنماطا تعبيرية مختلفة، بلاغية وغير بلاغية، فهناك أنماط غير بلاغية لا ترتبط بالمجاز مطلقا، وهي مع ذلك، تشكِّل صورة فنية.وما الميل إلى استخدام مصطلح (استعارة) بدل مصطلح (صورة) من بعض النقاد الغربيين والعرب – إلاّ انطلاقا من ادراكهم لطبيعة (الاستعارة)التي لها القدرة على تخطّي الحدود، وكسر الحواجز، وإذابة الفواصل، وخلق التفاعل والتجانس بين جميع العلاقات.
وخلاصة القول لا نرى في الصورة الفنية مجرد وصف تقريري،أومحاكاة أمينة للواقع الخارجي، أو الطبيعة وواقع الحياة، فحسب، بقدر ما نرى فيها أيضا الومضة التلقائية التي تفرض نفسها على المبدع في لحظة من الزمن كتعبير عن حالة نفسية وشعورية.
2-أ - عند النقاد الغربيين:
حصر النقاد الغربيون الصورة في ثلاث دلالات هي:
الصورة بوصفها نتاجا لعمل الذهن الإنساني أو(الصورة الذهنية):
وهذه الدلالة منبثقة من طروحات الدراسات السيكولوجية التي فتح أبوابها (فرويد) بمباحثه عن العقل الباطن،متجهة في هذا اتجاها سلوكيا من حيث الاهتمام بالصورة الذهنية كنتيجة لدينامية الذهن الإنساني في تأثيره بالإبداع الفني،و يكون التّركيز، في هذه الدلالة، موجّها نحو ما يحدث في ذهن القارئ، أوبعبارة أخرى، نتيجة الاستجابة التي تولّدها الصورة في ذهن المتلقي، وهي محدّدة بالحسّية، تصف العلاقة بين «العبارة المكتوبة في الصفحة، والإحساس الذي تولّده في الذهن، ويتضمّن بحث مشكلتين متوازيتين، تتصل أولهما بوصف القدرات الحسّية لذهن الشاعر، بطريقة موضوعية وتحليلية، وتتصل ثانيتها، بفحص واختيار وربما تحسين قدرة القرّاء على تقدير قيمة الصورة في الشعر، والمنهج المستخدم في ظلّ هذا التعريف منهج (إحصائي)، بمعنى، أن يقرأ الدارس القصيدة التي يحلّلها، ثم يسجّل بطريقة إحصائية وتصنيفية الصور المختلفة التي يمكن أن تثيرها القصيدة في ذهنه».
وتولي هذه الدلالة العنصر الحسّي في الصورة الفنية أهمية بالغة،اذ تصنف الصور بحسب مادتها الى صور بصرية و ذوقية و شمية و سمعية و…أي الصور المستمدة من عمل الحواس، ولا فرق عندها بين الحقيقي والمجازي من الصور، وقد تركّز أحيانا على أحدهما، وغالبا على كليهما.
الصورة بوصفها نمطا يجسّد رؤية رمزية أو (الصورة الرامزة):
تشترك هذه الدلالة مع الدلالة السابقة في كونها نتاج مباحث الدراسات النفسية، وهي تهتم بوظيفة الصورة الفنية، «سواء كانت حقيقية أو مجازية، او كليهما معا باعتبارها رموزا تستمد فعاليتها من التداعي السيكولوجي.. وبالتالي، يهتم التحليل بتحديد وظيفة الصور المتكرّرة في القصيدة، باعتبارهذه الصور بمثابة لوازم نغمية، ووسائل بنائية، ورموز، تكشف عن دلالة القصيدة وما تشير إليه، كما يهتمّ التحليل بفحص العلاقة بين أنماط صور الشاعر ككلّ، وبين الأنماط المشابهة لها في الشعائر والأساطير».
و الصورة في رحابها تدرس من زاوية كونها تعبيرا رمزيا، فيركز على الأنماط المتكررة التي تدعى بـ(عناقيد الصورة)، وقد توسعت (كارولين سبريجن) بدراستها حول صور شكسبير في هذا المجال،وقيمة الصورة في هذه الدراسات يكمن في كونها تساعد على الكشف على المعاني العميقة التى توحي اليها القصيدة.
الصورة بوصفها مجازا أو (الصورة المجازية):
تنطوي، تحت هذه الدلالة، جميع التعابير والأساليب غير الحقيقية، من استعارة ومجاز وكناية، أو الأساليب البلاغية المعروفة.
إنّ ارتباط الصورة الفنية بالجانب الحسّي الذي تقدّمه الرؤية البصرية - كما سبق الإشارة إليه – هو أبسط هذه الدلالات، وأقربها إلى الذّهن، ويعدّ تعريف الناقد والشاعر الإنجليزي (سيسل دي لويس -) للصورة الفنية، وأنها « رسم قوامه الكلمات» التعريف الأقرب إلى الدلالة الحرفية لمصطلح الصورة التي تهتمّ بالنمط البصري.
حقاّ، إنّه ليس بالإمكان إهمال الدّور الذي يمثله الجانب الحسّي في مجال مدركاتنا، كونه من أهمّ وسائل التأثير بالصورة، وتَمْكينها في النّفس، وتقوية جانب المدركات فينا. فالتقديم الحسّي يساعدنا كثيرا على فهم الصورة الفنية، وإظهار مجال الجمال والإبداع فيها، خاصة، فيما ارتبط بتصوير المعنويات أو الأمور المجرّدة التي لا تخضع إلى المشاهدة ولا تدرك بالمعاينة. وهذا الذي يعتمده الفن والأدب.
بيد أن هذا الأمر ليس حكرا على الفنانين والأدباء وحدهم، بل قد يشمل جميع الناس. فالناس في أحاديثهم اليومية، عادة ما يستعينون بهذا التجسيد الحسي في تقريب واقعهم الخارجي، أو تقرير عالمهم الداخلي، قصد توضح حقيقة غير مرئية أو غير مشاهدة.. ويبقى السؤال: هل الصورة الفنية هي نتاج رؤية بصرية دوما؟
إنّ الصورة ليست نتاج رؤية بصرية دائما، إذ إنّ هناك صورا تتكوّن من عناصر تجريدية بحتة، لا علاقة لها بالبصر مطلقّا، ولعلّ هذا ما جعل أغلب النقاد الغربيين المعاصرين يتجاوزون المفهوم البصري للصورة، لأنّ الناس كما قال (أوستن وويليك) يختلفون اختلافا شديدا في درجة تبصّرهم، وهاهو (إزرا باوند) -منّظر الحركات الشعرية المعاصرة-، يتسوّر في تعريفه الذي صاغه للصورة الفنية الدلالة التجسمية التي اعتنقها أصحاب الاتجاه المادي أو(التصويري) في الشعر، إذ يقول عنها: هي «تلك التي تقدّم عقدة فكرية أو عاطفية في برهة من الزمن». ومن هنا، اكتسبت الصورة الفنية مفهوما جديدا، لتصبح كلاّ متكاملاّ، تمتزج فيها المصادر الخارجية من حسّية وموضوعية بالذات الشاعرة.
وثمّة ملاحظة وجب ذكرها هاهنا، ذلك أنّ الدلالة الحسّية التي ارتبطت بالصورة الفنية، جعلت بعض النقاد والدارسين المحدثين والمعاصرين يميلون إلى الأخذ بمصطلح (الاستعارة) بدلا من مصطلح (الصورة)، خاصة، عند (ريتشاردز) الذي يقول: «والصورة نفسها مضلّلة، إذ إننا لولم نحذرها، لانتهينا إلى أنّ الصورة تقدّم إدراكا حرفيا لشيء موجود بالفعل» ويقول جون مدلتون مري «كلّ ما يقال عن الصورة في الشعر، يمكن أن يصب في الاستعارة».
والظاهر عند هؤلاء النقاد، أنّ مصطلح (استعارة) أعمّ وأشمل من مصطلح (صورة)، هذا الذي لا نجده عند بعضهم الآخر من النقاد والدارسين المحدثين. فـ (كارولين سبرجن) – مثلا – ترى أنّ الصورة مصطلح عام، ينضوي تحته الأسلوب التشبيهي والاستعاري والمجازي بوجه عام. تقـول: «إنني أستعمل مصطلح صورة هنا، بحيث يشمل كل من (التشبيه) و (التشبيه المضغوط المركّز)، وأقصد به (الاستعارة). إنّ مصطلح (صورة) يجب أن نفهمه على أنّه يتضمّن كلّ صورة خيالية يعبّر عنها الشاعر، بواسطة انفعاله وتفكيره، سواء أكانت هذه الصورة الخيالية تشبيها، أم استعارة، بما تحمله الكلمات من معنى رحيب، لذ ينبغي أن نبعد عن قولنا الإيحاء الذي يجعل المصطلح معبّرا عن الصورة البصرية فقط.
2 - ب- عند النقاد العرب المحدثين:
يمكننا حصر اتجاهات النقاد العرب المحدثين حول مفهومهم للصورة في ثلاث اتجاهات هي:
اتجاه تبنى طروحات النقاد الأوربيين الغربيين،ونفى عن العرب معرفتهم للصورة الفنية إذ التفت بعضهم إلى النقد الغربي، واقتبس منه الكثير من الدراسات وراح يطبق ما نهل من معارف وأفكار على نصوص شعرية قديمة، فتراءت له صورة المرأة رمزا للمعبودة الشمس، وصورة الثور الوحشي رمزا للمعبود القمر…، وهذا الذي اعتنقه كلّ من علي البطل في دراسته الموسومة بـ(الصورة في الشعر العربي حتى نهاية القرن الثاني الهجري دراسة في أصولها وتطورها) ونصرت عبد الرحمن في كتابه (الصورةالفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث).
أما الدكتور مصطفى ناصف في (الصورة الأدبية)، ونعيم اليافي في (مقدمة لدراسة الصورة الفنية،وتطوردراسة الصورة الفنية في الشعر العربي الحديث) فلم يبعدا عن سابقيهم في الاعتماد على النقد الأوربي،وتبني طروحاتهم في حقل الصورة.فها هو ناصف - متأثرا بالفكر الغربي- يرى أن مصطلح الاستعارة أهدى من مصطلح الصورة و أنّ كلمة (صورة) تستعمل –عادة – للدلالة على «كل ماله صلة بالتعبير الحسّي، وتطلق أحيانا مرادفة للاستعمال الاستعاري للكلمات، ذلك أنّ لفظ (الاستعارة) إذا حسن إدراكه، قد يكون أهدى من لفظ (الصورة)، وأنّ (الصورة) – إن جاز الحديث المفرد عنها- لن تستقلّ بحال عن الإدراك الاستعاري»
واتجاه ثان – على قلّته – تشبّث بالقديم،وأعلى من شأنه،فلم يلتفت إلاّ لما أفرزه الفكر العربي القديم من أفكار ونظريات،ويمثّل هذا الاتجاه الدكتور كمال حسن البصير بكتابه (بناء الصورة الفنية في البيان العربي).
واتجاه أخير معتدل،قرأ بعين الناقد البصير،فأقرّ فضل القديم،وبيّن ميزة الجديد الملائم وأوضحه، ومن هؤلاء علي إبراهيم أبو زيد في (الصورة الفنية في شعر دعبل الخزاعي)، وعبد الله صالح نافع في (الصورة الشعرية في شعر بشار بن برد) و بشرى موسى صالح في (الصورة الشعرية في النقد العربي الحديث)، وجابر عصفور في (الصورة الفنية في التراث العربي القديم).
وإذا انتقلنا إلى التعاريف المصاغة للصورة وجدناها كثيرة لا يمكن حصرها في مبحث كهذا، ونكتفي باستعراض بعضها، فأحمد الشايب يقول عنها:«هي المادة التي تتركب من اللغة بدلالتها اللغوية والموسيقية، ومن الخيال الذي يجمع بين عناصر التشبيه والاستعارة والطباق وحسن التعليل »)، أمّا الدكتور علي صبح قيقول عنها:« هي التركيب القائم على الإصابة في التنسيق الفني الحي لوسائل التعبير التي ينتقيها وجود الشاعر – أعني خواطره ومشاعره وعواطفه - المطلق لعالم المحسّات ؛ ليكتشف عن حقيقة المشهد أوالمعنى، في إطار قوي نام محس مؤثّر، على نحو يوقظ الخواطر والمشاعر في الآخرين، و عبد القادر القط يرى فيها:«الشّكل الفني الذي تتخذه الألفاظ والعبارات بعد أن ينّظمها الشاعر في سياق بياني خاص ليعبر عن جانب من جوانب التجربة الشعرية الكاملة في القصيدة مستخدما طاقات اللغة وإمكانيتها في الدلالة والتركيب والايقاع والحقيقة والمجاز والترادف والتضاد والمقابلة والمجانسة وغيرها من وسائل التعبير الفني »، أمّا عبد الفتاح صالح نافع فيرى فيها:«الصيغة اللفظية التي يقدّم فيها الأديب فكرته، ويصوّر تجربته، ويتضمّن اصطلاح الصورة الشعرية جميع الطرق الممكنة لصناعة نوع التعبير الذي يرى عليـه الشيء مشابها أو متفقا مع آخر، ويمكن أن يتركز في ثلاثة أصناف هي: التشبيه والمجاز والرمز»
إنّ اصطلاح (الحقيقة والمجاز) قد اتخذ في النقد الحديث والمعاصر اسم (الصورة) ونحن في دراستنا هذه، آثرنا مصطلح (الصورة) بدل مصطلح (الاستعارة) ذلك أنّ مصطلح (الصورة)، في نظرنا، أوسع وأشمل، فهو يشمل أنماطا تعبيرية مختلفة، بلاغية وغير بلاغية، فهناك أنماط غير بلاغية لا ترتبط بالمجاز مطلقا، وهي مع ذلك، تشكِّل صورة فنية.وما الميل إلى استخدام مصطلح (استعارة) بدل مصطلح (صورة) من بعض النقاد الغربيين والعرب – إلاّ انطلاقا من ادراكهم لطبيعة (الاستعارة)التي لها القدرة على تخطّي الحدود، وكسر الحواجز، وإذابة الفواصل، وخلق التفاعل والتجانس بين جميع العلاقات.
وخلاصة القول لا نرى في الصورة الفنية مجرد وصف تقريري،أومحاكاة أمينة للواقع الخارجي، أو الطبيعة وواقع الحياة، فحسب، بقدر ما نرى فيها أيضا الومضة التلقائية التي تفرض نفسها على المبدع في لحظة من الزمن كتعبير عن حالة نفسية وشعورية.