رحلة التّناصّية إلى النقد العربي القديم
تعددت الدراسات النقدية في العالم العربي التي جعلت نصب عينيها مناهج حديثة تسعى بها إلى تحقيق شعرية النص الأدبي. ولما كانت التناصية، في صورتها الحديثة، من أبرز المنطلقات للدرس النقدي الحديث فقد تضمنت دراسات شتى مظاهر من العود إلى الثقافة العربية رغبة في تجذير هذا المصطلح في الوعي النقدي.
أثمرت هذه المحاولات الجادة لتكريسه بإنجاز نقدات تتلمس الشبيه إجرائياً أو المماثل اصطلاحيا لتلك الرؤى النقدية من مصادرها المختلفة، وهي مصادر لم تكن كتب الأدب العربي القديم سوى الجانب اليسير منها. ذلك ما يتجلى بوضوح لدى سبر أغوار التراث العربي، إذ يتكشف مدى اشتمال هذا الموروث على ملامح كان منها ـ على سبيل المثال ـ المنجز التاريخي والفقهي وغير ذلك من العلوم، وهي التي تلمح إلى أن العرب كانوا على وعي بشظايا هذه الظاهرة التي عنوا بها في الدرس القديم.
مع بداية الثمانينيات بدأت بواكير الالتفات النقدي العربي إلى مصطلح التناصية بعد الانتشار السريع لمفهوم الحوارية الباختيني مع إرهاصات تكونه مع الباحث الروسي ( ميخائيل باختين : M , Bakhtin ) الذي وسع مفهوم الحوار في الرواية في سعيه إلى البحث عن مكونات الرواية النصية في بعض النصوص النثرية الإغريقية والرومانية القديمة، وقد رأى أن الرواية تسمح بأن تدخل إلى كيانها جميع الأجناس التعبيرية الأدبية منها كالقصص والأشعار والقصائد والمقاطع الكوميدية، وغير أدبية كالدراسات العلمية أو الدينية وغيرها، ولذلك فهو ينتهي إلى الرواية بوصفها نوعاً أدبياً مازال قيد التشكل.
وكانت البلغارية ( جوليا كريستيفا : J , Kristeva ) أول من ابتدع هذا المصطلح في دراساتها النقدية بين سنتي 1966و1967م، مع أنها أشارت إلى استعارتها له من باختين إذ اعترفت بفضله في التنظير النقدي له في إطار الشكلانية الروسية، بينما كان بارت وكريستيفا يستعملان هذا المصطلح في سياق نظري عام متصل بالكتابة النصية.
ثم توالت الجهود التي فعلت هذا الحقل عند الناقد الفرنسي ( رولان بارت : R , Barthes ) الذي أثرى هذا المصطلح في دراسات كانت إرهاصات بتبلوره في الثقافة الغربية في عام 1973م ولاسيما في كتابه ( لذة النص )، وتعد دراساته إحدى أبرز علامات تبلوره في الثقافة الغربية. وأخيراً حاول الفرنسي ( جيرار جينيت : G , Genette ) أن يحول هذا المصطلح إلى منهج بعد أن جمع أطرافه وفصل القول فيه، وذلك باعتماده على جهود سابقيه في كتابه (أطراس:Palimpsestes )، وهو الكتاب الذي نقل فيه موضوع الشعرية، وقام فيه بمحاولة لجمع شظاياه ونثاره.
وكان لازدهار الحركة النقدية في النقد الغربي وتنامي الجهود حول التناصية أثرها الإيجابي في النقد العربي، فقد تضاعفت الجهود العربية في إثراء هذا المصطلح عبر النقل والترجمة من اللغات التي نما فيها. وفي ظل هذه المتابعة الحثيثة أنتجت دراسات نظرية كثيرة، وأنجزت دراسات تطبيقية على نصوص أدبية مختلفة، وخصصت دوريات نقدية أعداداً خاصة لمعالجته، فقد خصصت دورية ( ألف) القاهرية للتناصية عددها الرابع في 1984م، كما أسهمت مجلة (الفكر العربي المعاصر) بعدد خاص عن التناصية في عددها الصادر في كانون الثاني 1989م، وكان ممن كتب في هذا العدد ( عبد الوهاب ترو ) عن مصــطلح ( الإنتاجــية ) عند كريستيفا مستعرضاً بعض الجهود الأخرى لباختين وجينيت .
إلا أن هذه الجهود قد اتخذت مسارين اثنين: يتمثل الأول في الاقتصار على معالجة المصطلح وتطبيقاته في صورته الحديثة دون العود إلى النقد القديم، ويسعى الثاني إلى استلهام ملامح من النقد العربي في ضوء هذا الإنجاز الجديد، لكن هذا الاستلهام لم يكن على هيئة أو صورة واحدة إذ بدا في صور افترضناها موضوعاً لهذه الورقة مع ضرورة الالتفات إلى طريقتين اثنتين لهذا الاستلهام وتتمثلان في النقدات المضمنة أثناء التناولات النقدية، أو المعالجات العامة للموضوع ذاته في البحوث و الدراسات.
لم تظهر الخطوات الأولى في هذا التناول النقدي الحديث على استحياء ولكنها بدت على جانب كبير من الأهمية، إذ تم إنجاز التكريس لهذا المصطلح من زاوية أو زوايا معينة كان لها تأثيرها على الدراسات اللاحقة، ما جعل بعض الباحثين يشيرون كثيراً إلى سوء الفهم له وطريقة تلقيه في ثقافتنا العربية، واختلاف صورته لدينا عن صورته في منابعه الأولى.
ومع أن هذا التساؤل له ما يبرره إلا أن هؤلاء لم يلتفتوا إلى أن سوء الفهم للتناصية لم يكن مؤطراً في حدود الأرض العربية، بل تجاوزه إلى الأرض الأولى التي تنامى فيها هذا المصطلح. فالنقاد الغرب الذين تداولوه تنوعت وجهات نظرهم.
لقي هذا المصطلح عدداً من الاختلافات المنهجية وكثرة التعاريف منذ لحظة انطلاقه مع رؤية كريستيفا، وذلك لكثرة الأقلام التي تلقفته في النقد الغربي فأشاعت فيه التعدد غير النهائي. إن هذا الاختلاف والتعدد يمكن أن يقرأ في الجانب الإيجابي الحسن إذ يتوضع في جانب من ( الثراء غير النهائي) الذي صاحب المصطلح، ويبدو ذلك أمراً طبيعياً إذا عرفنا أن من أبرز ملامح هذا المصطلح في ذاته اللانهائية وعدم البراءة.
وربما يتفق هذا العرض مع ما ألمح إليه ( مارك أنجينو) أحد المنظرين لمصطلح التناصية من أن المسألة ليست في معرفة ماذا نعني بالتناصية لكن : فيم تستخدم ؟ لأي شئ يصلح التناص أو يستعمل، وهل جدواها مرتبطة باللحظة التاريخية. إنه أداة نقدية تسمح لنا بإثارة إشكالية نقدية وفكرية أكثر منه مفهوماً محدداً بدقة(1).
أما حين نلج إلى الجانب السلبي للتجربة فسنعود إلى إشارة أخرى مرتبطة باتهامات كثيرة للمصطلح، فها هـو أحدهم يؤكد على وصف التناصية بأنها " مصطلح أسيء فهمه منذ ذلك الحين إذ كان مستعملاً ومنتهكاً كثيراً على جانبي المحيط الأطلسي، إذ ليس له علاقة ما بأمور التأثير لكاتب على آخـر، ولكنه إبدال موضـع أو أكثر من أنظمة الإشـارات إلى موضع آخر " (2) وسنعجب حين نعلم أنه يتصل برأي أحد المتابعين في الغرب لهذا المصطلح، وهو (ليون رودييه ) مترجم كتاب ( الرغبة في اللغة ) لجوليا كريستيفا.
وهناك رأي آخر يتوافق مع سابقه في أن التناصية التي دعـت إليها كريستيفا " مصطلح أسيء فهمه، فهو لا يحيل إلى إسناد مرجعية الكتاب إلى الكتب الأخرى، ولكنه يشير إلى تداخل الاختراقات في الممارسات الدلالية "(3).
وإذا أعدنا النظر إلى الجانب الآخر مرة أخرى سنلمح ما أشار إليه ( مارك أنجينو) الذي عد ترجمة ما كتب عن التناص عن مدرسة ( تارتو ) إلى الفرنسية سبباً في التعدد غير المجدي لهذا المصطلح. وبينما حمل النقد العربي هذا العبء أضيف إليه أعباء أخر، وهي تتمثل في صورة المصطلح في التراث النقدي. ما أسهم في إنتاج ذلك التعدد بوصفه وجهاً إيجابياً في الدرس النقدي، إذا سلمنا أن البحث النقدي لا تعنيه ولا تعوقه على الإطلاق التعريفات الكثيرة والمتعددة وغير المتجانسة لمصطلح التناص، بقدر ما تعنيه المناهج التي أولت وجود التناص في النص (4).
لذلك كله كان التساؤل بعد هذه التوطئة التي تؤكد على بعض مسارات الرؤى المتعددة المنبثقة من مراجعة التناولات النقدية الحديثة، وكان السعي إلى إجابة أو إجابات بشمولية لا تقف عند دراسة أو أكثر، ولكنها تتناول التناصية في ضوء إعادتها إلى حقول نقدية من الموروث العربي، وعلى أي المستويات تتم بلورتها في مهاد هذا التساؤل المقترح : كيف ارتحل النقاد العرب المعاصرين بمصطلح التناصية إلى بعض الحقول النقدية العربية القديمة ؟ وكيف نقرأ آثار تلك الرحلة ؟
لن تهدف هذه الورقة إلى منح إجابات جاهزة حول اشتمال النقد العربي القديم على مصطلح يحقق شعرية النص الأدبي كالتناصية، وإمكان التتشاكل أو الاختلاف، ولن تعطي أحكاماً نقدية فيما يتصل بآراء استلهمت تلك المفاهيم القديمة، ولكنها ستتضمن محاولتين اثنتين:
الأولى: استخلاص الاتجاهات النقدية الحديثة حول تلك المفاهيم النقدية التي يمكن أن تحمل ملمحاً أو ملامح من التناصية. والثانية : إنجاز قراءة جديدة تتوسل إلى الشمولية في تناولها، وتأمل أن تضع أسئلتها الأولى أمام هذه المفاهيم والرؤى.
حقول قديمة برؤى حديثة
يتضمن القسم الأول من هذا البحث تلك النقدات التي تشير إلى الأفكار النقدية العربية في حقولها القديمة، وهي المفاهيم التي رأى بعض النقاد العرب المعاصرين أنها تتقارب بصورة ما مع حقل التناصية النقدي مع انبثاق مصطلحات أكثر فاعلية من فضاءات هذا الحقل، إذ تضاعف عدد دارسيه وتزايدت مصطلحاته ليبدو المفهوم الأكثر ملاءمة لتحقيق شعرية النص. وقد تنوعت الحقول النقدية التي رآها نقادنا تتصل بالتناصية، فكانت مفاهيم السرقات والمعارضات الشعرية والاقتباس والتضمين والحفظ الجيد من المفاهيم المتداولة في الدرس النقدي .
أ) السرقات الأدبية :
أعاد أغلب النقاد العرب المعاصرين إلى السرقات الأدبية وهجاً نقدياً جديداً،بعد أن حظيت بهذا الوهج في النقد القديم عند نهوضها كفكرة لها ظروفها وملابساتها، أو لعلهم تناولوها في إطار من المفاهيم الأخرى وكأنهم يسعون إلى إعادة زراعة حقل مهجور بآليات حديثة وصالحة لمعالجته. إن الآراء التي تناولت السرقات الأدبية لكونها جذوراً أو أصولا للتناصية كان لها من الشيوع ما أوحى، أحيانا، بتطابق تام بين التناصية والسرقات، ويكاد يجمع أغلب من تناول التناصية في علاقتها بموروثنا النقدي على أن السرقات تحمل صلة ما مع التناصية. من هنا كانت الحاجة إلى استعراض هذه الرؤى والأفكار في مستوياتها المختلفة:
1. السرقات الأدبية عبر مصطلح التناصية وتصحيح الرؤية القديمة :
ظل النظر إلى السرقات الأدبية وغيرها مما أشار إليه نقدنا القديم بآليات جديدة هاجساً لعدد من النقاد المعاصرين، فهم يشيرون إليها بمنظورهم الحديث المنبثق من النظرية الحديثة. وتحظى هذه الرؤية بقبول عند أغلب الدارسين مع اختلاف مشاربهم، وممن أشار إلى ذلك عبد الله الغذامي الذي عرض لمصطلح التناصية بعده " نظرة جديدة نصحح بها ما كان الأقدمون يسمونه بالسرقات، أو وقع الحافر على الحافر بلغة بعضهم "(5). ويبدو فعل التصحيح المقترح في هذه الرؤية متصلاً بجانبين اثنين أحدهما التحول من الأحكام الأخلاقية التي كانت سائدة ورمت بظلالها على السرقات الأدبية مع كون بعض النقاد القدامى تباعدوا عن ذلك، والثاني يتصل برصد ملامح القديم بأداوت حديثة.
2. السرقات الأدبية بوصفها شبه نظرية قديمة تحتاج إلى إعادة البناء:
ومن أبرز هؤلاء الذين رأوا في السرقات الأدبية شبه نظرية تحتاج إلى إعادة البناء من جديد عبد الملك مرتاض الذي جعلها من أكبر القضايا النقدية التي يجب الاهتمام بها، وذلك بعد أن رآها فكرة تحتاج إلى صياغة جديدة وقراءة بأدوات تقنية جديدة. وختم بحثه بالإشارة إلى كون التناصية " تبادل التأثر والعلاقات بين نص أدبي ما، ونصوص أدبية أخراة. وهذه الفكرة كان الفكر النقدي العربي عرفها معرفة معمقة تحت شكل السرقات الشعرية "(6).
وقد كان لمرتاض مراوحة في تصنيفه للسرقات من الفكرة التي ابتدرها في عنوانه مع ـ تأكيده عليها في أكثر من موقع ـ إلى النظرية التي عرض لها في بحثه، مندفعاً إلى ضرورة إقامة بناء جديد على أنقاض بناء السرقات " ولعل من أكبر القضايا النقدية، التي تصادفنا في التراث النقدي العربي أن تكون نظرية السرقات الشعرية التي كان معظم النقاد العرب القدامى قد تناولوها بشيء من التحليل. فما حقيقة هذه الفكرة التي يمكن أن ترقى إلى مستوى النظرية النقدية؟".
ومع اتفاق الدعوتين السابقتين للغذامي ومرتاض في كونهما تمثلان اقتراحاً لتحديث السرقات الأدبية إلا أنهما تفترقان في تصور كل منهما وموقف كل منهما في النظر إلى السرقات أولاً، ومن ثم إمكان التغيير وشموله. فقد كان مرتاض مندفعاً إلى ضرورة الإسراع في إيجاد الحل معتمداً على ضرورة الابتعاد عن ( الخضوع والخنوع ).
وقد أثار ما اقترحه مرتاض موقفاً نقدياً في عمل تال قدمه صالح الغامدي في الدورية نفسها بعنوان ( تعقيبات وملاحظات على السرقات والتناص ) اقترح فيه عدم الاندفاع وراء العواطف تحت شعار ( سبقناهم )، ورأى فيه عدم توافق السرقات مع التناصية، ووصف محاولة مرتاض بأنها لم تكن ناجحة " لأننا نعتقد بأن النجاح لم يحالف الكاتب على الإطلاق فهناك فرق بين أن نستعين ببعض معطيات النظريات النقدية الغربية وبين أن ندعي سبقنا نحن العرب إلى اكتشافها بصورة أو بأخرى"(7).
لكن النظرة إلى السرقات الأدبية وغيرها بوصفها تناصاً كانت محور عمل آخر انطلق من ذلك المنظور لمرتاض يمكن أن ندرج ما عرض له محمد عبد المطلب في العدد الثالث من الدورية نفسها بعنوان ( التناص عند عبد القاهر الجرجاني ) وقد ذكر في دراسته تلك ملامح عامة كالاقتباس والتضمين والسرقات وملامح خاصة بالجرجاني كالتشبيه والاستعارة.
3. إهمال النظر إلى السرقات الأدبية:
تندرج في هذا المستوى الدعوات التي عدت ملامح من التناصية موجودة في الموروث النقدي القديم ولم تحدد السرقات ضمن تلك الأفكار الموجودة لدى العرب التي تتوازى مع التناصية. ومن أبرز هؤلاء صبري حافظ الذي أهمل السرقات تماماً عند تناوله للتناصية، مع أنه أشار إلى مفاهيم قديمة أخرى، لكنه عد معرفة الاقتباس والتضمين والمعارضة من التطلع إلى معرفة منجز العرب في هذه المسألة ، إنها نظرة تحمل تأكيداً على التطلع والتأمل للاستلهام بعيداً عن التعامل معها كآليات أو إجراءات تكون التناصية. وقد رأى حافظ ضرورة العمل على الحوار الجدلي الخلاق بين هذه المنجزات الحديثة وإنجازات النقد العربي في عهوده القديمة"( .
4. الدعوة إلى التمييز والفصل بين المفاهيم القديمة والحديثة:
ومن أبرز من دعا إلى ضرورة التمييز بين القديم والحديث محمد مفتاح، فقد خصص فصلاً في كتابه ( تحليل الخطاب الشعري استراتيجية التناص ) وهو الفصل السادس الذي كان بعنوان (التناص ) عرض فيه إلى التداخل الكبير بين التناص وبعض الحقول النقدية الأخرى مثل (المثاقفة) و( السرقات ). ومع إشارته إلى إمكان التطابق في بعض الملامح للسرقات الأدبية مع التناصية إلا أنه يرى ضرورة التأكيد على " الدراسة العلمية التي تقتضي أن يميز كل مفهوم من غيره ويحصر مجاله لتجنب الخلط. على أن هذا العمل يقتضي دراسة مفصلة تتناول كل مفهوم على حدة وتتناول الظروف التاريخية والأبستيمية التي ظهر فيها . ويؤكد على أن التناص ظاهرة لغوية معقدة تستعصي على الضبط والتقنين إذ يعتمد في تمييزها على ثقافة المتلقي وسعة معرفته وقدرته على الترجيح"(9).
وهناك رأي يوافق ـ إلى حد ما ـ هذا الرأي لرجاء عيد الذي يدعو إلى ضرورة التحليل المتأني لما يعرف تحت مصطلح السرقات لأن ذلك سيزيل ضبابا كثيفاً تتغيم بسببه حدود المصطلح ومدى صحته، وربما تنتفي تلك الريبة التراثية تجاه النصوص لا لنقع في خطأ النقد القديم تحت مصطلحه السابق السرقة، وإنما لتتبع تحولات تلك النصوص واستكشاف قيم تحركها وتوظيفها وما تضيفه في إعادة إبداع جديد وتشكيل مخالف (10).
5. السرقات والإجبار في ضوء التناصية:
التفريق بين السرقة والإجبار في النقد القديم في ضوء مصطلح التناصية كان من أبرز الملاحظات النقدية التي رصدها محمد بنيس في كتابه ( الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها ) الذي درس فيه بنيات الشعر العربي الحديث، ومع أن قراءته لتلك الحقول كانت مختصرة في إشارته إلى التفريق الذي أدركه العرب القدامى، فأشار إلى أن الشعراء والشاعريين فرقوا ـ في قراءاتهم المتفحصة ـ بين اللغة والأسلوب من جهة، وبنية الخطاب ـ أكان بيتاً أم قصيدة ـ من جهة ثانية. وهكذا أنزلوا الأولى منزلة السرقة، والثانية منزلة الإجبار الذي هو شرط أسبق في بناء الخطاب (11).
ب ) المعارضات الشعرية:
كانت المعارضات الشعرية ـ لأنها أحد الحقول النقدية القديمة ـ مستنداً آخر ارتهن إليه بعض النقاد العرب في توافقه مع التناصية، ولكنها جاءت تالية في المرتبة بعد السرقات الأدبية، إذ نلحظ قلة الآراء التي تقول بالمعارضات ملمحاً قديماً للتناصية، وقد عرضنا رأي صبري حافظ في ذلك إذ عدها مشتركة مع الاقتباس والتضمين في حملها لتلك الملامح، ولكن هناك إشارات أخرى اقتصرت على المعارضات.
ومن ذلك ما لمح إليه عبد الرحمن السماعيل من توافق التناصية مع ظاهرة المعارضة الضمنية التي تأتي بشكل تلقائي بعيد عن قصد المعارضة الصريحة أو السرقة بسبب التداخل الشديد بين القنوات التراثية في أعماق اللاوعي عند الشاعر المتأخر. ويضيف السماعيل صورة لدعم اقتراحه في تطابق المعارضة الضمنية مع التناصية، ويعلل ذلك لأن ارتباط الشاعر بتراثه كارتباط أحد الأغصان في شجرة كبيرة ببقية أغصانها، فهو لا يستطيع أن ينفصل عنها مستقلاً بنفسه أو مبتعداً عن جذوره التي تربطه بغيره من الأغصان فيأتي حاملاً نفس السمات والملامح التي تحملها بقية الأغصان وإن اختلفت طولاً وقصراً (12). ومن النقدات التي يوردها تلك الإشارة التي دونها الحاتمي عن دور تداخل الكلام في كلام العرب، فهو كلام " ملتبس بعضه ببعـض، وآخـذ أواخره من أوائله، والمبتدَع منه والمخترع قليل إذا تصفحته وامتحنته . والمحترِس المتحفظ من المتقدمين والمتأخرين لا يسلم أن يكون آخذاً من كلام غيره، وإن اجتهد في الاحتراس، وتخلل طريق الكلام، وباعد في المعنى، وأقرب في اللفظ، وأفلت من شباك التداخل ... ومن ظن أن كلامه لا يلتبس بكلام غيره فقد كذب ظنه وفضحه امتحانه".
ينفي رجاء عيد في بحثه الذي أشرنا إليه أن تكون المعارضة الشعرية تناصية، معتمداً في ذلك، في استهلاله على رأي لكروتشه يدعو فيه إلى عدم المقارنة بين نص وآخر أو الموازنة بين عمل وعمل، وهو الذي حدد فيه إنه لا يجوز أن نقارن نصاً بنص أو نوازن عملاً بعمل، فليست كل معارضة يمكن أن تندرج تحت التناص. وأخرج بذلك أغلب معارضات البارودي وحافظ إبراهيم من هذا المصطلح.
ويمكن أن يندرج تحت ذلك ما رآه سعيد يقطين الذي وصف النقائض بين جرير والفرزدق خير مثال لمفهوم النصية الجامعة ( Hypertextuality )(13)، و هذه العلاقة هي التي تصل بين نص أدبي ( ب ) ونص أدبي سابق ( أ)، وهما يلتصقان ببعضهما . ويورد تركي المغيض العلاقة نفسها في دراسة عن شعر البارودي؛ بعد أن يحدد معاناة المصطلح في النقد العربي الحديث وذلك في تعدد الصياغات والترجمات التي شكلته عربياً، في عنوان بحث واحد جمع فيه التناص والمعارضات ( التناص في معارضات البارودي)(14).
جـ) الاقتباس والتضمين
يقترح عدد آخر من النقاد الاقتباس والتضمين بوصفهما فكرتين تحملان الملمح القديم للمصطلح الحديث ( التناصية )، ومن هؤلاء النقاد صبري حافظ الذي أشار نظرياً إلى ذلك. وقد عرض رجاء عيد للتضمين فيعده ألصق من غيره بالتناص وهو يراه حاملاً لوظائف عدة منها توثيق الدلالة أو تأكيد موقف أو ترسيخ المعنى أو لمؤازرة نص رفضاً لمقولة أو نفياً لمعتقد وهو يستبعد الاستشهاد المجاني والتداعي الذهني من ذلك. ويختلف رجاء عيد عن سابقه لكونه قام بإجراء بعض الممارسات النقدية على نماذج من شعر أمل دنقل وصلاح عبد الصبور وغيرهما من شعراء العصر الحديث.
ويعدد أحمد الزعبي مصطلحات الاقتباس والتضمين والاستشهاد على أنها نماذج من التناص يستحضرها الكاتب إلى نصه الأصلي لوظيفة فنية أو فكرية منسجمة مع السياق الروائي سواء كان هذا التناص نصاً تاريخياً أم دينياً أم أدبياً ويسمي هذا النوع ( التناص المباشر )، وهو الاقتباس بلغة النص نفسها التي ورد فيها، وضرب أمثلة من ذلك: الآيات القرآنية، والأحاديث والأشعار والقصص، أما ما يقتبس بروحه أو مضمونه عن طريق التلميح أو الإشارة أو الرمز فهم التناص غير المباشر(15).
إن بعض الدراسات التي وسمت نفسها بالقراءة التناصية التي ارتكنت إلى الاقتباس في النص المقروء، ما أدى إلى إلغاء وظيفة التناصية بوصفها قراءة متكاملة للنص، لا تميل إلى التجزئة أو الاقتباسات الظاهرة التي يشملها النص قدر توظيف ذلك كله في إطار نصي مقترح يتضمنه نص آخر.
د) الحفظ الجيد
كان لمرتاض إشارات أخرى في بحثه الذي عرضنا له سابقاً عن السرقات والتناصية مثل إشارته إلى المصطلح الذي ذكره القاضي الجرجاني ( لطيف السرق )، وإشارته إلى ( الحفظ الجيد لابن خلدون ). وفي مــقدمة ابن خلـــدون تتبلور تلك الأفكار السابقة، وتتجلى بصورة أكثر دقة، حيث يصدر آراء نقدية هــامة تتسم بالجــدة، فقد أكـّـد على(ثـقافــة الشاعر )، ورأى أن اللسـان لا يقوم إلا بالصناعة والتـدريب، وقد خصص فصـلاً ســـماه (في صناعة الشعر وتعلمه ) كان من أبرز ما أورده فيه ( والملكات اللسانـية كلــها إنما تكتسب بالصــناعة ).
لقد قدر " ابن خلدون " أهمية المحفوظ وجودته، فبقدر جودته يجيد المبدع استعمال تلك الملكات الشعرية، أو النثرية، حتى أن الشاعر يتميز عن غيره من العروضيين والفقهاء والبلاغيين، لأن له قوالب أجاد وضع كـلامه فــي إطارها ويبدو الحفظ الجيد ولطيف السرق كما نلحظ أمرين متصلين بالمؤلف الذي غلب على طابع المنجز النقدي العربي؛ فقد حث ابن رشيق الشعراء على حفظ الشعر والخبر ومعرفة النسب وأيام العرب.
قراءة الرحلة
إن جميع النقدات السابقة التي أوردتها ليست سوى نماذج من التناول النقدي لتلك الأفكار النقدية القديمة في ضوء مفهوم التناصية، فالتجربة النقدية الحديثة أنتجت عدداً كبيراً من الدراسات النقدية التي وظفت التناصية واستثمرتها نظرياً أو ممارسة، وتجدر الإشارة إلى هذه الآراء النقدية لها أثارها الإيجابية الكبيرة في إثراء التواصل مع هذا المصطلح الحديث.
أسهمت هذه الاستنتاجات في سهولة نقل المصطلح ذاته إلى القارئ العربي، ومكنت كثيراً من الدراسات التطبيقية أن تقوم على أساس من هذا التداخل بين المفاهيم، لكني أعود، بعد هذا الإيجاز للتجربة، لأقدم قراءة لهذه القراءات السابقة لمصطلح التناصية وما نتج منها من انثيال لحقول نقدية قديمة كانت مخبوءة عن النقد العربي الحديث، وهي قراءة تستبعد الموافقة مع تلك المقترحات، أو المواءمة فيما عرضنا له من نقدات، إنها محاولة تثير التساؤلات وتمتنع عن الإجابات المحددة، وستسعى إلى تشكيل بعض المحددات في سبيل نقد إضفاء ملمح تناصي على هذه الأفكار السابقة.
أوجد هذا المدخل الذي عرض لتجربة المصطلح النقدي وانعكاساته في الثقافة العربية عدداً من الأسئلة التي لا أخالها تقبل إجابات جاهزة وسريعة، ولكنها تأمل أن تضع بعض المحددات التي تنطلق من المصطلح النقدي الحديث في ذاته لتتجاوزه إلى ما تم عرضه من أفكار نقدية.
كان منطلق أغلب الباحثين الذين أحالوا إلى السرقات أو التضمين أو وقع الحافر عل الحافر مرتهناً إلى كون هذا المصطلح الحديث يحتاج إلى إعادة درسه في إطار من الوعي النقدي العربي ولذا كان الاستلهام السريع لصياغة المصطلح في وضع يتلاءم مع النقد العربي الحديث، وكانت أولى مراحل تلك الصياغة مع ( التناصية ) في الترجمة النهائية التي استقر بها الحال في النقد العربي للمصطلح النقدي الغربي Intertextuality هذا المصطلح الذي مر بترجمات كثيــرة ومنها (تداخل النصوص ) و ( التناص ). وقد ظهرت الحاجة إلى هذا الإلحاق في التناصية حينما تعددت المصطلحات التابعة له وتشعبت استخداماته، ويأتي ذلك في إطار ترويض الخطاب النقدي للمفهوم حتى يصبح متصرفاً فيه بالصوغ والاستنباط حتى ينصاع قالبه الصرفي ليفرز صوراً جديدة مبتكرة(16). في الجانب الآخر، وبنظرة إلى المصطلح الغربي نفسه، سنجد أنه يصل بمادته إلى مفردة لاتينية دالة على الاختلاط والنسج، ما يشي بنقل الفاعل إلى حقل مشترك، والفعل هنا مغيب الفاعل. وتستحضر مفردة التناصية في نطقها ذلك النسيج والاختلاط مع كون هذا يعود إلى مادة المفردة اللاتينية لكنه ينبئ عن تفاعل حي، لعله لا يتصل بالكاتب قدر اتصاله بالنص.
أما المصطلح العربي المقابل ( التناصية ) فقد انبثق من ( نص ) الفعل العربي الدال على الرفع والحركة والاستقصاء، وكلها أفعال تنقلنا إلى البعد الرأسي، وهي أفعال تشي بدور الفاعل. وتحمل هذه الصيغة علامات التداخل في صيغة ( تفاعل )، ما يشير إلى تنوع وتعدد في التفاعل الذي يوجد في المصطلح لا في الجذر، بينما وجد التفاعل هناك في المصطلح وفي الجذر أيضاً.
لقد حددت المعاجم العربية ملامح من هذا فأشارت إلى النص باعتباره الإسناد إلى الرئيس الأكبر، وإلى أصل النص بوصفه منتهى الأشياء، ومبلغ أقصاها، وهو تعريف يتوافق مع محاولات البحث الدائمة عن صاحب النص الأول الذي تتصل به النصوص، ومن ذلك السعي الحثيث وراء صاحب نص بدئي، يمكن وصفه بـالنص ( الجنيني ) والإغراق في محاولات تحديده؛ كان لذلك المسعى دوره الكبير في عدم الدقة في تلك العلاقات القائمة بين النصوص، إذا استثنينا علم العروض للخليل بن أحمد الفراهيدي.
بدت تلك التحولات في الترجمة منسجمة مع التدرج الجديد في نقل المصطلح من عنصر إلى آخر من عناصر الاتصال الستة، حيث نقل اهتمام الدراسات النقدية من المؤلف إلى النص ثم إلى المتلقي. كان هم الدرس النقدي التركيز على المؤلف، وفي هذا السياق دعا ما يكل ريفاتير إلى التمييز بين ما يتصل بدور القارئ وما يتصل بالنص، وذلك في بحثه الذي عنونه بـ ( دينامية التناصية الاستجابة الإلزامية للقارئ ) " وحين نتحدث عن معرفة التناص، فإننا يجب أن نميز بين المعرفة الحقيقية للشكل والمحتوى لذلك التناص ومجرد الإدراك بأن تناصا كهذا موجود ويمكن تقصيه تدريجيا في مكان ما. ربما كان هذا الوعي كافيا لصنع تجربة أدبية لدى القراء، و يمكنهم من ذلك إدراكهم بأن هناك بعض الأشياء مفقودة في النص: فجوات تحتاج إلى التعامل معها، مرجعيات لاتزال مجهولة، إحالات ترسم ترديداتها المتوالية في الشكل العام للنص الذي لم يكتشف بعد. في حالات كهذه يكون إحساس القراء بوجود تناص كامن كافياً للإشارة إلى الموقع الذي سيظهر به ذلك التناص شيئاً فشيئاً. هذا النوع من استجابة القارئ الأولية يحتم التمييز بين التناص والتناصية. فالتناصية هي شبكة الوظائف التي تعين وتنظم العلاقات بين النص والتناص" (17).
إذاً نحن أمام ثلاثة عناصر من عناصر الاتصال يمكن أن يتصل بها هذا المصطلح النقدي في صورة ما: المرسل والرسالة والمرسل إليه. فما يتصل بالمرسل ( المؤلف ) يندرج في إطار التأثير، وما اتصل بالرسالة ( النص ) يندرج في إطار التناص، وما يتصل بالمرسل إليه ( المتلقي ) يندرج في إطار التناصية، وهذا ما يجعلنا نعود لتلمس المفاهيم النقدية القديمة، ولكن ضمن التصور بالتركيز على المرسل إليه. وتبدو هذه الخطوة مهمة في التعرف على توضع ملامح من التناصية، لكونها فكرة قديمة في نقدنا العربي، في العنصر المتصل بالمؤلف، وهو أمر كان له آثاره التي سنلمح بعضاً منها. إن معرفة النقد العربي لظاهرة التداخل والتشعب في الكلام متعددة، لكن هذه المعرفة جاءت منصبة على المرسل، إذ أكدت على دور المؤلف ليس فيما ورد من مقاطع نقدية فحسب، ولكننا نلحظ ذلك في أسماء الحقول ذاتها، فالسرقات ووقع الحافر على الحافر وتوارد الخواطر والحفظ الجيد تعابير أولية انبثقت من التركيز على الذوات والاهتمام بهذا الجانب. إنها تستحضر المرسل وتؤكد على دوره الأهم.
يتحدد لدينا بعد ذلك سؤال الحقل النقدي القديم نفسه الذي كان مرتهناً إلى المؤلف، لنتجاوزه إلى الحقل موضوع التناول الذي يمكن وصفه بأنه مختلف، فبينما كان الشعر هو الحقل الذي اعتمدت عليه المفاهيم القديمة من سرقات ومعارضات وغيرهما، انطلقت دراسات التناصية من الحقل الروائي مع باختين الذي كان يبحث عن المكونات النصية للرواية، ومع كريستيفا التي اعتمدت في دراستها لهذا المصطلح على مجمل دراسات باختين في الرواية، حيث أقامته على البناء الباختيني حول مفهوم الحوارية، وخصصت جهدها لتعميقه وفحصه، فانبثق منه كثير من المصطلحات الإجرائية الفرعية المتنوعة. وقد عدت كريستيفا رواية ( جيهان دوسانتري ) الرواية الوحيدة من كتابات " دي لاسال " التي تكون نسخاً وتجميعاً أو مراسلات ســفر، أو رسائل مواساة، وهي حكايات تبنى كخطاب تاريخي، أو كفسيفساء لا متجانسة من النصوص. إن هذين المنطلقين يشكلان اختلافاً في التناول إلى حد كبير ويفضيان إلى تصورات سنعرض لها .
كان من المعتاد أن يتفاخر النقاد العرب القدماء بمعرفة ذلك النص الأول ويتنافسون في الكشف عنه بطريقتي الحفظ أو السماع بوصفهما وسيلتين لهما الدور الفاعل في حركة الثقافة آنذاك، إذ تزخر كتب الأدب العربي بالترويج لهاتين الطريقتين، فهذا " ابن الأثير " يسعد بتنبيه جمهور المتلقين حول شعر " ابن الخياط " معتمداً على حفظه لشعر المتنبي "وكنت سافرت إلى الشام في سنة سبع وثمانين وخمسمائة، ودخلت مدينة دمشق؛ فوجدت جماعة من أدبائها يلهجون ببيت من شعر ابن الخياط في قصيد له أولها: خذا من صبا نجد أماناً لقلبه، ويزعمون أنه من المعاني الغريبة، وهو:
أغار إذا آنست في الحي أنه حذاراً عليه أن تكون لحبه
فقلت لهم : هذا البيت مأخوذ من شعر أبي الطيّب المتنبي في قوله :
لو قلت للدنف المشوق فديته ممــا به لأغـــرته بفـــدائـه
وقول أبي الطيب أدق معنى، وإن كان قول ابن الخياط أرق لفظاً، ثم إني وقفتهم مواضع كثيرة من شعر ابن الخياط قد أخذها من شعر المتنبي"(18).
إن التركيز على دور المرسل في النقد القديم، ومعالجة التجربة الشعرية قد أوجدا ما يمكن الاصطلاح عليه ( تجزئة النصوص) في إطار ( التناول الجزئي) الذي يركز على اقتباس ما، وهو السائد في أغلب المنقول إلينا ويوظفه ويصله بغيره من الشواهد الجزئية أيضاً، وقد ساعدت القصيدة العربية لكونها أبياتاً شعرية على هذه التجزئة. ويرى بعض الباحثين العرب قد أولوا العناية الكبرى للصنف الخاص من التفاعل النصي وهي أن يقيم نص ما علاقة مع نص آخر محدد. وتظهر هذه العلاقة من خلال البيت الواحد أو القصيدة، ويعود السبب في ذلك إلى أن تحليلاتهم كانت جزئية للنصوص وليست كلية، فالعلاقة بين النصوص لم يكن ينظر إليها من خلال النص في كليته. كان البحث عن الشاهد أساسيا في نمط تفكيرهم. وقد أدى ذلك إلى وقوع بعض الدارسين المعاصرين في ممارساتهم في التجزئة ذاتها التي تمت بتوظيف شاهد أو شاهدين من النص وعد ذلك من القراءة التناصية. ما جعل نظرتهم في تلك الممارسة تجزيئية وخاصة جداً، لذلك كان هم الباحث في البيت الشعري الذي يستوقفه أن يجد له نظيراً في خلفيته الأدبية والنقدية فيجد له علاقة بسابقة ويحدد نوع العلاقة، ويوجد لها مصطلحاً . يبرز لنا هذا بجلاء في حديثهم عن النص المحلل من خلال الصيغة التي حددها يقطين نحو:
قال الشاعر …
ومنه قول الشاعر … (19).
وقد تعددت ملامح هذه الظاهرة في التراث النقدي ولو عدنا إلى ما يراه القاضي الجرجاني في ذلك لأدركنا كيفية التناول لهذه الظاهرة " وقد أحسن أحمد بن أبي طاهر في محاجة البحتري لما ادعى عليه السرق قوله:
والشعر ظهر طريق أنت راكبه فمنه منشعب و غير منشعب
وربما ضم بين الركب منهجه وألصق الطنب العالي على الطنب
وإنما أقول : قال فلان كذا، وقد سبقه إليه فلان فقال كذا" (20).
يمكننا أن نستخلص من ذلك : إن العناية بهذه الظاهرة على المستوى النقدي قد شابها في أغلب الأحيان نظرة جزئية توسلت إلى أن تفتش في جزئيات النصوص وتبتسر بعضها، كما ترمي إلى محاولة التوصل اللاهثة إلى النص الأساس أو ما يمكن وصفه بالنص الأول ( النص الفحل ) الذي انبثق منه بنيان النص الجديد. إن هذا الاهتمام لدى النقاد العرب القدامى لم يكن نابعاً من تصور للنص الشعري كاملاً، ولكنهم اهتموا بالبيت الشعري المجرد الذي يوشك أن يختزل من سياقه أحياناً.
ويضاف إلى تلك المحددات السابقة محدد آخر ويتبلور فيما أضافه التركيز على المتلقي في النقد الحديث الذي يشير إلى علاقة أخرى، لا تكتفي بتأثير السابق على اللاحق، فالمفهوم القديم لا يؤثر على المفهوم الجديد فحسب، ولكن التأثير يمتد إلى تأثير الجديد على القديم، وعلى ذلك كان من الضروري أن تهتم التناصية بالتبادل بين النصوص الذي لا يكون في إطار علاقة أحادية الاتجاه، بل يمتد إلى علاقات أوسع وأشمل، إنه يمتد ليكون ذا اتجاهات مختلفة، حين نقرأ رواية سقيفة الصفا بعد قراءتنا رواية العصفورية سيكون ذلك صانعاً لمرحلة جديدة من التلقي.
تظل التناصية مصطلحاً حديثاً كان له التأثير على المصطلحات السابقة ذاتها، إذ كان له القدرة على خلق اتجاه قرائي جديد للسرقات الأدبية التي تناولها القدماء. وينطبق الأمر نفسه على المعارضات الشعرية وغيرها من الأفكار النقدية في حقولها القديمة، ما يشير إلى كون التناصية مرحلة جديدة ينطلق فيها القارئ مع النص، وهذه المرحلة تمكنه من جعل النص مفتوحاً أمام اللاحق والسابق والمعاصر في علاقات تتجاوز الموافقة أو المعارضة أو السرقة.
هوامش :
1) انظر : مارك أنجينو : التناصية بحث في انبثاق حقل مفهومي وانتشاره، ترجمة محمد خير البقاعي، علامات،ج18،مارس 1996م، ص 124- 156).
2)
Kristeva : Desire in Language A Semiotic Approach to Literature and Art , Translated by Thomas Gara ,Alice Jardine , and Leon S .Roudies , Columbia University Press , 1980. p 15.
وانظر: محمد عناني. المصطلحات الأدبية الحديثة،لونجمان، القاهرة،1996م.( التناص).
3) John Lechte: Julia Kristeva, Routledge,London,1990.P104.
4) حسن محمد حماد : تداخل النصوص في الرواية العربية بحث في نماذج مختارة، الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، 1997م. ص 10.
5) عبدالله الغذامي: الخطيئة والتكفير، دار سعاد الصباح،الكويت، 1993م،ط2، ص 56.
6) عبدالملك مرتاض : فكرة السرقات الأدبية ونظرية التناص، علامات عدد1،مايو 1991م.ص 69ـ93.
7) صالح الغامدي: ملاحظات وتعقيبات على السرقات والتناص، علامات ع2، ص 183-189.
صبري حافظ : التناص وإشاريات العمل الأدبي، مجلة أ لف، ع4، 1984.ص 26ـ30.
9) محمد مفتاح : تحليل الخطاب الشعري استراتيجية التناص،المركز الثقافي، الدار البيضاء، 1986،ط 2. ص 119.
10) رجاء عيد :النص والتناص، علامات 18 مجلد5،ديسمبر 1995 م.ص175-208.
11) محمد بنيس : الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها، دار توبقال، الدار البيضاء، 1990، ط1، ج3، ص 183.
12) عبدالرحمن السماعيل: المعارضات الشعرية، النادي الأدبي، جدة، 1994م. ص 26 .
13) سعيد يقطين: التفاعل النصي والترابط النصي، علامات ج32، مجلد8،مايو1999م، ص217-236.
14) تركي المغيض: التناص في معارضات البارودي، مجلة أبحاث اليرموك، مجلد9، عدد2،1991م، ص85ـ154.
15) أحمد الزعبي: التناص التاريخي والديني مقدمة نظرية مع دراسة تطبيقية في رواية رؤيا لها، مجلة أبحاث اليرموك، مجلد13، عدد1، 1995م، ص 169ـ200.
16) عبد السلام المسدي: المصطلح النقدي، مطبعة كوتيب، تونس، 1994م، ص 121.
17) Michael Wortton , Judith Still : Intertextuality Theories and practices , Manchester Press , 1990 .( Michael Riffaterre: Compulsory reader response. P56-78.
18) ضياء الدين بن الأثــير : المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، 1990م . جـ2، ص346-347 .
19) سعيد يقطين : الرواية والتراث السردي، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء،1992م. ص 19.
20) القاضي الجرجاني : الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي البجاوي،المكتبة العصرية، بيروت، ص 215.
madwani@hotmail.com
تعددت الدراسات النقدية في العالم العربي التي جعلت نصب عينيها مناهج حديثة تسعى بها إلى تحقيق شعرية النص الأدبي. ولما كانت التناصية، في صورتها الحديثة، من أبرز المنطلقات للدرس النقدي الحديث فقد تضمنت دراسات شتى مظاهر من العود إلى الثقافة العربية رغبة في تجذير هذا المصطلح في الوعي النقدي.
أثمرت هذه المحاولات الجادة لتكريسه بإنجاز نقدات تتلمس الشبيه إجرائياً أو المماثل اصطلاحيا لتلك الرؤى النقدية من مصادرها المختلفة، وهي مصادر لم تكن كتب الأدب العربي القديم سوى الجانب اليسير منها. ذلك ما يتجلى بوضوح لدى سبر أغوار التراث العربي، إذ يتكشف مدى اشتمال هذا الموروث على ملامح كان منها ـ على سبيل المثال ـ المنجز التاريخي والفقهي وغير ذلك من العلوم، وهي التي تلمح إلى أن العرب كانوا على وعي بشظايا هذه الظاهرة التي عنوا بها في الدرس القديم.
مع بداية الثمانينيات بدأت بواكير الالتفات النقدي العربي إلى مصطلح التناصية بعد الانتشار السريع لمفهوم الحوارية الباختيني مع إرهاصات تكونه مع الباحث الروسي ( ميخائيل باختين : M , Bakhtin ) الذي وسع مفهوم الحوار في الرواية في سعيه إلى البحث عن مكونات الرواية النصية في بعض النصوص النثرية الإغريقية والرومانية القديمة، وقد رأى أن الرواية تسمح بأن تدخل إلى كيانها جميع الأجناس التعبيرية الأدبية منها كالقصص والأشعار والقصائد والمقاطع الكوميدية، وغير أدبية كالدراسات العلمية أو الدينية وغيرها، ولذلك فهو ينتهي إلى الرواية بوصفها نوعاً أدبياً مازال قيد التشكل.
وكانت البلغارية ( جوليا كريستيفا : J , Kristeva ) أول من ابتدع هذا المصطلح في دراساتها النقدية بين سنتي 1966و1967م، مع أنها أشارت إلى استعارتها له من باختين إذ اعترفت بفضله في التنظير النقدي له في إطار الشكلانية الروسية، بينما كان بارت وكريستيفا يستعملان هذا المصطلح في سياق نظري عام متصل بالكتابة النصية.
ثم توالت الجهود التي فعلت هذا الحقل عند الناقد الفرنسي ( رولان بارت : R , Barthes ) الذي أثرى هذا المصطلح في دراسات كانت إرهاصات بتبلوره في الثقافة الغربية في عام 1973م ولاسيما في كتابه ( لذة النص )، وتعد دراساته إحدى أبرز علامات تبلوره في الثقافة الغربية. وأخيراً حاول الفرنسي ( جيرار جينيت : G , Genette ) أن يحول هذا المصطلح إلى منهج بعد أن جمع أطرافه وفصل القول فيه، وذلك باعتماده على جهود سابقيه في كتابه (أطراس:Palimpsestes )، وهو الكتاب الذي نقل فيه موضوع الشعرية، وقام فيه بمحاولة لجمع شظاياه ونثاره.
وكان لازدهار الحركة النقدية في النقد الغربي وتنامي الجهود حول التناصية أثرها الإيجابي في النقد العربي، فقد تضاعفت الجهود العربية في إثراء هذا المصطلح عبر النقل والترجمة من اللغات التي نما فيها. وفي ظل هذه المتابعة الحثيثة أنتجت دراسات نظرية كثيرة، وأنجزت دراسات تطبيقية على نصوص أدبية مختلفة، وخصصت دوريات نقدية أعداداً خاصة لمعالجته، فقد خصصت دورية ( ألف) القاهرية للتناصية عددها الرابع في 1984م، كما أسهمت مجلة (الفكر العربي المعاصر) بعدد خاص عن التناصية في عددها الصادر في كانون الثاني 1989م، وكان ممن كتب في هذا العدد ( عبد الوهاب ترو ) عن مصــطلح ( الإنتاجــية ) عند كريستيفا مستعرضاً بعض الجهود الأخرى لباختين وجينيت .
إلا أن هذه الجهود قد اتخذت مسارين اثنين: يتمثل الأول في الاقتصار على معالجة المصطلح وتطبيقاته في صورته الحديثة دون العود إلى النقد القديم، ويسعى الثاني إلى استلهام ملامح من النقد العربي في ضوء هذا الإنجاز الجديد، لكن هذا الاستلهام لم يكن على هيئة أو صورة واحدة إذ بدا في صور افترضناها موضوعاً لهذه الورقة مع ضرورة الالتفات إلى طريقتين اثنتين لهذا الاستلهام وتتمثلان في النقدات المضمنة أثناء التناولات النقدية، أو المعالجات العامة للموضوع ذاته في البحوث و الدراسات.
لم تظهر الخطوات الأولى في هذا التناول النقدي الحديث على استحياء ولكنها بدت على جانب كبير من الأهمية، إذ تم إنجاز التكريس لهذا المصطلح من زاوية أو زوايا معينة كان لها تأثيرها على الدراسات اللاحقة، ما جعل بعض الباحثين يشيرون كثيراً إلى سوء الفهم له وطريقة تلقيه في ثقافتنا العربية، واختلاف صورته لدينا عن صورته في منابعه الأولى.
ومع أن هذا التساؤل له ما يبرره إلا أن هؤلاء لم يلتفتوا إلى أن سوء الفهم للتناصية لم يكن مؤطراً في حدود الأرض العربية، بل تجاوزه إلى الأرض الأولى التي تنامى فيها هذا المصطلح. فالنقاد الغرب الذين تداولوه تنوعت وجهات نظرهم.
لقي هذا المصطلح عدداً من الاختلافات المنهجية وكثرة التعاريف منذ لحظة انطلاقه مع رؤية كريستيفا، وذلك لكثرة الأقلام التي تلقفته في النقد الغربي فأشاعت فيه التعدد غير النهائي. إن هذا الاختلاف والتعدد يمكن أن يقرأ في الجانب الإيجابي الحسن إذ يتوضع في جانب من ( الثراء غير النهائي) الذي صاحب المصطلح، ويبدو ذلك أمراً طبيعياً إذا عرفنا أن من أبرز ملامح هذا المصطلح في ذاته اللانهائية وعدم البراءة.
وربما يتفق هذا العرض مع ما ألمح إليه ( مارك أنجينو) أحد المنظرين لمصطلح التناصية من أن المسألة ليست في معرفة ماذا نعني بالتناصية لكن : فيم تستخدم ؟ لأي شئ يصلح التناص أو يستعمل، وهل جدواها مرتبطة باللحظة التاريخية. إنه أداة نقدية تسمح لنا بإثارة إشكالية نقدية وفكرية أكثر منه مفهوماً محدداً بدقة(1).
أما حين نلج إلى الجانب السلبي للتجربة فسنعود إلى إشارة أخرى مرتبطة باتهامات كثيرة للمصطلح، فها هـو أحدهم يؤكد على وصف التناصية بأنها " مصطلح أسيء فهمه منذ ذلك الحين إذ كان مستعملاً ومنتهكاً كثيراً على جانبي المحيط الأطلسي، إذ ليس له علاقة ما بأمور التأثير لكاتب على آخـر، ولكنه إبدال موضـع أو أكثر من أنظمة الإشـارات إلى موضع آخر " (2) وسنعجب حين نعلم أنه يتصل برأي أحد المتابعين في الغرب لهذا المصطلح، وهو (ليون رودييه ) مترجم كتاب ( الرغبة في اللغة ) لجوليا كريستيفا.
وهناك رأي آخر يتوافق مع سابقه في أن التناصية التي دعـت إليها كريستيفا " مصطلح أسيء فهمه، فهو لا يحيل إلى إسناد مرجعية الكتاب إلى الكتب الأخرى، ولكنه يشير إلى تداخل الاختراقات في الممارسات الدلالية "(3).
وإذا أعدنا النظر إلى الجانب الآخر مرة أخرى سنلمح ما أشار إليه ( مارك أنجينو) الذي عد ترجمة ما كتب عن التناص عن مدرسة ( تارتو ) إلى الفرنسية سبباً في التعدد غير المجدي لهذا المصطلح. وبينما حمل النقد العربي هذا العبء أضيف إليه أعباء أخر، وهي تتمثل في صورة المصطلح في التراث النقدي. ما أسهم في إنتاج ذلك التعدد بوصفه وجهاً إيجابياً في الدرس النقدي، إذا سلمنا أن البحث النقدي لا تعنيه ولا تعوقه على الإطلاق التعريفات الكثيرة والمتعددة وغير المتجانسة لمصطلح التناص، بقدر ما تعنيه المناهج التي أولت وجود التناص في النص (4).
لذلك كله كان التساؤل بعد هذه التوطئة التي تؤكد على بعض مسارات الرؤى المتعددة المنبثقة من مراجعة التناولات النقدية الحديثة، وكان السعي إلى إجابة أو إجابات بشمولية لا تقف عند دراسة أو أكثر، ولكنها تتناول التناصية في ضوء إعادتها إلى حقول نقدية من الموروث العربي، وعلى أي المستويات تتم بلورتها في مهاد هذا التساؤل المقترح : كيف ارتحل النقاد العرب المعاصرين بمصطلح التناصية إلى بعض الحقول النقدية العربية القديمة ؟ وكيف نقرأ آثار تلك الرحلة ؟
لن تهدف هذه الورقة إلى منح إجابات جاهزة حول اشتمال النقد العربي القديم على مصطلح يحقق شعرية النص الأدبي كالتناصية، وإمكان التتشاكل أو الاختلاف، ولن تعطي أحكاماً نقدية فيما يتصل بآراء استلهمت تلك المفاهيم القديمة، ولكنها ستتضمن محاولتين اثنتين:
الأولى: استخلاص الاتجاهات النقدية الحديثة حول تلك المفاهيم النقدية التي يمكن أن تحمل ملمحاً أو ملامح من التناصية. والثانية : إنجاز قراءة جديدة تتوسل إلى الشمولية في تناولها، وتأمل أن تضع أسئلتها الأولى أمام هذه المفاهيم والرؤى.
حقول قديمة برؤى حديثة
يتضمن القسم الأول من هذا البحث تلك النقدات التي تشير إلى الأفكار النقدية العربية في حقولها القديمة، وهي المفاهيم التي رأى بعض النقاد العرب المعاصرين أنها تتقارب بصورة ما مع حقل التناصية النقدي مع انبثاق مصطلحات أكثر فاعلية من فضاءات هذا الحقل، إذ تضاعف عدد دارسيه وتزايدت مصطلحاته ليبدو المفهوم الأكثر ملاءمة لتحقيق شعرية النص. وقد تنوعت الحقول النقدية التي رآها نقادنا تتصل بالتناصية، فكانت مفاهيم السرقات والمعارضات الشعرية والاقتباس والتضمين والحفظ الجيد من المفاهيم المتداولة في الدرس النقدي .
أ) السرقات الأدبية :
أعاد أغلب النقاد العرب المعاصرين إلى السرقات الأدبية وهجاً نقدياً جديداً،بعد أن حظيت بهذا الوهج في النقد القديم عند نهوضها كفكرة لها ظروفها وملابساتها، أو لعلهم تناولوها في إطار من المفاهيم الأخرى وكأنهم يسعون إلى إعادة زراعة حقل مهجور بآليات حديثة وصالحة لمعالجته. إن الآراء التي تناولت السرقات الأدبية لكونها جذوراً أو أصولا للتناصية كان لها من الشيوع ما أوحى، أحيانا، بتطابق تام بين التناصية والسرقات، ويكاد يجمع أغلب من تناول التناصية في علاقتها بموروثنا النقدي على أن السرقات تحمل صلة ما مع التناصية. من هنا كانت الحاجة إلى استعراض هذه الرؤى والأفكار في مستوياتها المختلفة:
1. السرقات الأدبية عبر مصطلح التناصية وتصحيح الرؤية القديمة :
ظل النظر إلى السرقات الأدبية وغيرها مما أشار إليه نقدنا القديم بآليات جديدة هاجساً لعدد من النقاد المعاصرين، فهم يشيرون إليها بمنظورهم الحديث المنبثق من النظرية الحديثة. وتحظى هذه الرؤية بقبول عند أغلب الدارسين مع اختلاف مشاربهم، وممن أشار إلى ذلك عبد الله الغذامي الذي عرض لمصطلح التناصية بعده " نظرة جديدة نصحح بها ما كان الأقدمون يسمونه بالسرقات، أو وقع الحافر على الحافر بلغة بعضهم "(5). ويبدو فعل التصحيح المقترح في هذه الرؤية متصلاً بجانبين اثنين أحدهما التحول من الأحكام الأخلاقية التي كانت سائدة ورمت بظلالها على السرقات الأدبية مع كون بعض النقاد القدامى تباعدوا عن ذلك، والثاني يتصل برصد ملامح القديم بأداوت حديثة.
2. السرقات الأدبية بوصفها شبه نظرية قديمة تحتاج إلى إعادة البناء:
ومن أبرز هؤلاء الذين رأوا في السرقات الأدبية شبه نظرية تحتاج إلى إعادة البناء من جديد عبد الملك مرتاض الذي جعلها من أكبر القضايا النقدية التي يجب الاهتمام بها، وذلك بعد أن رآها فكرة تحتاج إلى صياغة جديدة وقراءة بأدوات تقنية جديدة. وختم بحثه بالإشارة إلى كون التناصية " تبادل التأثر والعلاقات بين نص أدبي ما، ونصوص أدبية أخراة. وهذه الفكرة كان الفكر النقدي العربي عرفها معرفة معمقة تحت شكل السرقات الشعرية "(6).
وقد كان لمرتاض مراوحة في تصنيفه للسرقات من الفكرة التي ابتدرها في عنوانه مع ـ تأكيده عليها في أكثر من موقع ـ إلى النظرية التي عرض لها في بحثه، مندفعاً إلى ضرورة إقامة بناء جديد على أنقاض بناء السرقات " ولعل من أكبر القضايا النقدية، التي تصادفنا في التراث النقدي العربي أن تكون نظرية السرقات الشعرية التي كان معظم النقاد العرب القدامى قد تناولوها بشيء من التحليل. فما حقيقة هذه الفكرة التي يمكن أن ترقى إلى مستوى النظرية النقدية؟".
ومع اتفاق الدعوتين السابقتين للغذامي ومرتاض في كونهما تمثلان اقتراحاً لتحديث السرقات الأدبية إلا أنهما تفترقان في تصور كل منهما وموقف كل منهما في النظر إلى السرقات أولاً، ومن ثم إمكان التغيير وشموله. فقد كان مرتاض مندفعاً إلى ضرورة الإسراع في إيجاد الحل معتمداً على ضرورة الابتعاد عن ( الخضوع والخنوع ).
وقد أثار ما اقترحه مرتاض موقفاً نقدياً في عمل تال قدمه صالح الغامدي في الدورية نفسها بعنوان ( تعقيبات وملاحظات على السرقات والتناص ) اقترح فيه عدم الاندفاع وراء العواطف تحت شعار ( سبقناهم )، ورأى فيه عدم توافق السرقات مع التناصية، ووصف محاولة مرتاض بأنها لم تكن ناجحة " لأننا نعتقد بأن النجاح لم يحالف الكاتب على الإطلاق فهناك فرق بين أن نستعين ببعض معطيات النظريات النقدية الغربية وبين أن ندعي سبقنا نحن العرب إلى اكتشافها بصورة أو بأخرى"(7).
لكن النظرة إلى السرقات الأدبية وغيرها بوصفها تناصاً كانت محور عمل آخر انطلق من ذلك المنظور لمرتاض يمكن أن ندرج ما عرض له محمد عبد المطلب في العدد الثالث من الدورية نفسها بعنوان ( التناص عند عبد القاهر الجرجاني ) وقد ذكر في دراسته تلك ملامح عامة كالاقتباس والتضمين والسرقات وملامح خاصة بالجرجاني كالتشبيه والاستعارة.
3. إهمال النظر إلى السرقات الأدبية:
تندرج في هذا المستوى الدعوات التي عدت ملامح من التناصية موجودة في الموروث النقدي القديم ولم تحدد السرقات ضمن تلك الأفكار الموجودة لدى العرب التي تتوازى مع التناصية. ومن أبرز هؤلاء صبري حافظ الذي أهمل السرقات تماماً عند تناوله للتناصية، مع أنه أشار إلى مفاهيم قديمة أخرى، لكنه عد معرفة الاقتباس والتضمين والمعارضة من التطلع إلى معرفة منجز العرب في هذه المسألة ، إنها نظرة تحمل تأكيداً على التطلع والتأمل للاستلهام بعيداً عن التعامل معها كآليات أو إجراءات تكون التناصية. وقد رأى حافظ ضرورة العمل على الحوار الجدلي الخلاق بين هذه المنجزات الحديثة وإنجازات النقد العربي في عهوده القديمة"( .
4. الدعوة إلى التمييز والفصل بين المفاهيم القديمة والحديثة:
ومن أبرز من دعا إلى ضرورة التمييز بين القديم والحديث محمد مفتاح، فقد خصص فصلاً في كتابه ( تحليل الخطاب الشعري استراتيجية التناص ) وهو الفصل السادس الذي كان بعنوان (التناص ) عرض فيه إلى التداخل الكبير بين التناص وبعض الحقول النقدية الأخرى مثل (المثاقفة) و( السرقات ). ومع إشارته إلى إمكان التطابق في بعض الملامح للسرقات الأدبية مع التناصية إلا أنه يرى ضرورة التأكيد على " الدراسة العلمية التي تقتضي أن يميز كل مفهوم من غيره ويحصر مجاله لتجنب الخلط. على أن هذا العمل يقتضي دراسة مفصلة تتناول كل مفهوم على حدة وتتناول الظروف التاريخية والأبستيمية التي ظهر فيها . ويؤكد على أن التناص ظاهرة لغوية معقدة تستعصي على الضبط والتقنين إذ يعتمد في تمييزها على ثقافة المتلقي وسعة معرفته وقدرته على الترجيح"(9).
وهناك رأي يوافق ـ إلى حد ما ـ هذا الرأي لرجاء عيد الذي يدعو إلى ضرورة التحليل المتأني لما يعرف تحت مصطلح السرقات لأن ذلك سيزيل ضبابا كثيفاً تتغيم بسببه حدود المصطلح ومدى صحته، وربما تنتفي تلك الريبة التراثية تجاه النصوص لا لنقع في خطأ النقد القديم تحت مصطلحه السابق السرقة، وإنما لتتبع تحولات تلك النصوص واستكشاف قيم تحركها وتوظيفها وما تضيفه في إعادة إبداع جديد وتشكيل مخالف (10).
5. السرقات والإجبار في ضوء التناصية:
التفريق بين السرقة والإجبار في النقد القديم في ضوء مصطلح التناصية كان من أبرز الملاحظات النقدية التي رصدها محمد بنيس في كتابه ( الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها ) الذي درس فيه بنيات الشعر العربي الحديث، ومع أن قراءته لتلك الحقول كانت مختصرة في إشارته إلى التفريق الذي أدركه العرب القدامى، فأشار إلى أن الشعراء والشاعريين فرقوا ـ في قراءاتهم المتفحصة ـ بين اللغة والأسلوب من جهة، وبنية الخطاب ـ أكان بيتاً أم قصيدة ـ من جهة ثانية. وهكذا أنزلوا الأولى منزلة السرقة، والثانية منزلة الإجبار الذي هو شرط أسبق في بناء الخطاب (11).
ب ) المعارضات الشعرية:
كانت المعارضات الشعرية ـ لأنها أحد الحقول النقدية القديمة ـ مستنداً آخر ارتهن إليه بعض النقاد العرب في توافقه مع التناصية، ولكنها جاءت تالية في المرتبة بعد السرقات الأدبية، إذ نلحظ قلة الآراء التي تقول بالمعارضات ملمحاً قديماً للتناصية، وقد عرضنا رأي صبري حافظ في ذلك إذ عدها مشتركة مع الاقتباس والتضمين في حملها لتلك الملامح، ولكن هناك إشارات أخرى اقتصرت على المعارضات.
ومن ذلك ما لمح إليه عبد الرحمن السماعيل من توافق التناصية مع ظاهرة المعارضة الضمنية التي تأتي بشكل تلقائي بعيد عن قصد المعارضة الصريحة أو السرقة بسبب التداخل الشديد بين القنوات التراثية في أعماق اللاوعي عند الشاعر المتأخر. ويضيف السماعيل صورة لدعم اقتراحه في تطابق المعارضة الضمنية مع التناصية، ويعلل ذلك لأن ارتباط الشاعر بتراثه كارتباط أحد الأغصان في شجرة كبيرة ببقية أغصانها، فهو لا يستطيع أن ينفصل عنها مستقلاً بنفسه أو مبتعداً عن جذوره التي تربطه بغيره من الأغصان فيأتي حاملاً نفس السمات والملامح التي تحملها بقية الأغصان وإن اختلفت طولاً وقصراً (12). ومن النقدات التي يوردها تلك الإشارة التي دونها الحاتمي عن دور تداخل الكلام في كلام العرب، فهو كلام " ملتبس بعضه ببعـض، وآخـذ أواخره من أوائله، والمبتدَع منه والمخترع قليل إذا تصفحته وامتحنته . والمحترِس المتحفظ من المتقدمين والمتأخرين لا يسلم أن يكون آخذاً من كلام غيره، وإن اجتهد في الاحتراس، وتخلل طريق الكلام، وباعد في المعنى، وأقرب في اللفظ، وأفلت من شباك التداخل ... ومن ظن أن كلامه لا يلتبس بكلام غيره فقد كذب ظنه وفضحه امتحانه".
ينفي رجاء عيد في بحثه الذي أشرنا إليه أن تكون المعارضة الشعرية تناصية، معتمداً في ذلك، في استهلاله على رأي لكروتشه يدعو فيه إلى عدم المقارنة بين نص وآخر أو الموازنة بين عمل وعمل، وهو الذي حدد فيه إنه لا يجوز أن نقارن نصاً بنص أو نوازن عملاً بعمل، فليست كل معارضة يمكن أن تندرج تحت التناص. وأخرج بذلك أغلب معارضات البارودي وحافظ إبراهيم من هذا المصطلح.
ويمكن أن يندرج تحت ذلك ما رآه سعيد يقطين الذي وصف النقائض بين جرير والفرزدق خير مثال لمفهوم النصية الجامعة ( Hypertextuality )(13)، و هذه العلاقة هي التي تصل بين نص أدبي ( ب ) ونص أدبي سابق ( أ)، وهما يلتصقان ببعضهما . ويورد تركي المغيض العلاقة نفسها في دراسة عن شعر البارودي؛ بعد أن يحدد معاناة المصطلح في النقد العربي الحديث وذلك في تعدد الصياغات والترجمات التي شكلته عربياً، في عنوان بحث واحد جمع فيه التناص والمعارضات ( التناص في معارضات البارودي)(14).
جـ) الاقتباس والتضمين
يقترح عدد آخر من النقاد الاقتباس والتضمين بوصفهما فكرتين تحملان الملمح القديم للمصطلح الحديث ( التناصية )، ومن هؤلاء النقاد صبري حافظ الذي أشار نظرياً إلى ذلك. وقد عرض رجاء عيد للتضمين فيعده ألصق من غيره بالتناص وهو يراه حاملاً لوظائف عدة منها توثيق الدلالة أو تأكيد موقف أو ترسيخ المعنى أو لمؤازرة نص رفضاً لمقولة أو نفياً لمعتقد وهو يستبعد الاستشهاد المجاني والتداعي الذهني من ذلك. ويختلف رجاء عيد عن سابقه لكونه قام بإجراء بعض الممارسات النقدية على نماذج من شعر أمل دنقل وصلاح عبد الصبور وغيرهما من شعراء العصر الحديث.
ويعدد أحمد الزعبي مصطلحات الاقتباس والتضمين والاستشهاد على أنها نماذج من التناص يستحضرها الكاتب إلى نصه الأصلي لوظيفة فنية أو فكرية منسجمة مع السياق الروائي سواء كان هذا التناص نصاً تاريخياً أم دينياً أم أدبياً ويسمي هذا النوع ( التناص المباشر )، وهو الاقتباس بلغة النص نفسها التي ورد فيها، وضرب أمثلة من ذلك: الآيات القرآنية، والأحاديث والأشعار والقصص، أما ما يقتبس بروحه أو مضمونه عن طريق التلميح أو الإشارة أو الرمز فهم التناص غير المباشر(15).
إن بعض الدراسات التي وسمت نفسها بالقراءة التناصية التي ارتكنت إلى الاقتباس في النص المقروء، ما أدى إلى إلغاء وظيفة التناصية بوصفها قراءة متكاملة للنص، لا تميل إلى التجزئة أو الاقتباسات الظاهرة التي يشملها النص قدر توظيف ذلك كله في إطار نصي مقترح يتضمنه نص آخر.
د) الحفظ الجيد
كان لمرتاض إشارات أخرى في بحثه الذي عرضنا له سابقاً عن السرقات والتناصية مثل إشارته إلى المصطلح الذي ذكره القاضي الجرجاني ( لطيف السرق )، وإشارته إلى ( الحفظ الجيد لابن خلدون ). وفي مــقدمة ابن خلـــدون تتبلور تلك الأفكار السابقة، وتتجلى بصورة أكثر دقة، حيث يصدر آراء نقدية هــامة تتسم بالجــدة، فقد أكـّـد على(ثـقافــة الشاعر )، ورأى أن اللسـان لا يقوم إلا بالصناعة والتـدريب، وقد خصص فصـلاً ســـماه (في صناعة الشعر وتعلمه ) كان من أبرز ما أورده فيه ( والملكات اللسانـية كلــها إنما تكتسب بالصــناعة ).
لقد قدر " ابن خلدون " أهمية المحفوظ وجودته، فبقدر جودته يجيد المبدع استعمال تلك الملكات الشعرية، أو النثرية، حتى أن الشاعر يتميز عن غيره من العروضيين والفقهاء والبلاغيين، لأن له قوالب أجاد وضع كـلامه فــي إطارها ويبدو الحفظ الجيد ولطيف السرق كما نلحظ أمرين متصلين بالمؤلف الذي غلب على طابع المنجز النقدي العربي؛ فقد حث ابن رشيق الشعراء على حفظ الشعر والخبر ومعرفة النسب وأيام العرب.
قراءة الرحلة
إن جميع النقدات السابقة التي أوردتها ليست سوى نماذج من التناول النقدي لتلك الأفكار النقدية القديمة في ضوء مفهوم التناصية، فالتجربة النقدية الحديثة أنتجت عدداً كبيراً من الدراسات النقدية التي وظفت التناصية واستثمرتها نظرياً أو ممارسة، وتجدر الإشارة إلى هذه الآراء النقدية لها أثارها الإيجابية الكبيرة في إثراء التواصل مع هذا المصطلح الحديث.
أسهمت هذه الاستنتاجات في سهولة نقل المصطلح ذاته إلى القارئ العربي، ومكنت كثيراً من الدراسات التطبيقية أن تقوم على أساس من هذا التداخل بين المفاهيم، لكني أعود، بعد هذا الإيجاز للتجربة، لأقدم قراءة لهذه القراءات السابقة لمصطلح التناصية وما نتج منها من انثيال لحقول نقدية قديمة كانت مخبوءة عن النقد العربي الحديث، وهي قراءة تستبعد الموافقة مع تلك المقترحات، أو المواءمة فيما عرضنا له من نقدات، إنها محاولة تثير التساؤلات وتمتنع عن الإجابات المحددة، وستسعى إلى تشكيل بعض المحددات في سبيل نقد إضفاء ملمح تناصي على هذه الأفكار السابقة.
أوجد هذا المدخل الذي عرض لتجربة المصطلح النقدي وانعكاساته في الثقافة العربية عدداً من الأسئلة التي لا أخالها تقبل إجابات جاهزة وسريعة، ولكنها تأمل أن تضع بعض المحددات التي تنطلق من المصطلح النقدي الحديث في ذاته لتتجاوزه إلى ما تم عرضه من أفكار نقدية.
كان منطلق أغلب الباحثين الذين أحالوا إلى السرقات أو التضمين أو وقع الحافر عل الحافر مرتهناً إلى كون هذا المصطلح الحديث يحتاج إلى إعادة درسه في إطار من الوعي النقدي العربي ولذا كان الاستلهام السريع لصياغة المصطلح في وضع يتلاءم مع النقد العربي الحديث، وكانت أولى مراحل تلك الصياغة مع ( التناصية ) في الترجمة النهائية التي استقر بها الحال في النقد العربي للمصطلح النقدي الغربي Intertextuality هذا المصطلح الذي مر بترجمات كثيــرة ومنها (تداخل النصوص ) و ( التناص ). وقد ظهرت الحاجة إلى هذا الإلحاق في التناصية حينما تعددت المصطلحات التابعة له وتشعبت استخداماته، ويأتي ذلك في إطار ترويض الخطاب النقدي للمفهوم حتى يصبح متصرفاً فيه بالصوغ والاستنباط حتى ينصاع قالبه الصرفي ليفرز صوراً جديدة مبتكرة(16). في الجانب الآخر، وبنظرة إلى المصطلح الغربي نفسه، سنجد أنه يصل بمادته إلى مفردة لاتينية دالة على الاختلاط والنسج، ما يشي بنقل الفاعل إلى حقل مشترك، والفعل هنا مغيب الفاعل. وتستحضر مفردة التناصية في نطقها ذلك النسيج والاختلاط مع كون هذا يعود إلى مادة المفردة اللاتينية لكنه ينبئ عن تفاعل حي، لعله لا يتصل بالكاتب قدر اتصاله بالنص.
أما المصطلح العربي المقابل ( التناصية ) فقد انبثق من ( نص ) الفعل العربي الدال على الرفع والحركة والاستقصاء، وكلها أفعال تنقلنا إلى البعد الرأسي، وهي أفعال تشي بدور الفاعل. وتحمل هذه الصيغة علامات التداخل في صيغة ( تفاعل )، ما يشير إلى تنوع وتعدد في التفاعل الذي يوجد في المصطلح لا في الجذر، بينما وجد التفاعل هناك في المصطلح وفي الجذر أيضاً.
لقد حددت المعاجم العربية ملامح من هذا فأشارت إلى النص باعتباره الإسناد إلى الرئيس الأكبر، وإلى أصل النص بوصفه منتهى الأشياء، ومبلغ أقصاها، وهو تعريف يتوافق مع محاولات البحث الدائمة عن صاحب النص الأول الذي تتصل به النصوص، ومن ذلك السعي الحثيث وراء صاحب نص بدئي، يمكن وصفه بـالنص ( الجنيني ) والإغراق في محاولات تحديده؛ كان لذلك المسعى دوره الكبير في عدم الدقة في تلك العلاقات القائمة بين النصوص، إذا استثنينا علم العروض للخليل بن أحمد الفراهيدي.
بدت تلك التحولات في الترجمة منسجمة مع التدرج الجديد في نقل المصطلح من عنصر إلى آخر من عناصر الاتصال الستة، حيث نقل اهتمام الدراسات النقدية من المؤلف إلى النص ثم إلى المتلقي. كان هم الدرس النقدي التركيز على المؤلف، وفي هذا السياق دعا ما يكل ريفاتير إلى التمييز بين ما يتصل بدور القارئ وما يتصل بالنص، وذلك في بحثه الذي عنونه بـ ( دينامية التناصية الاستجابة الإلزامية للقارئ ) " وحين نتحدث عن معرفة التناص، فإننا يجب أن نميز بين المعرفة الحقيقية للشكل والمحتوى لذلك التناص ومجرد الإدراك بأن تناصا كهذا موجود ويمكن تقصيه تدريجيا في مكان ما. ربما كان هذا الوعي كافيا لصنع تجربة أدبية لدى القراء، و يمكنهم من ذلك إدراكهم بأن هناك بعض الأشياء مفقودة في النص: فجوات تحتاج إلى التعامل معها، مرجعيات لاتزال مجهولة، إحالات ترسم ترديداتها المتوالية في الشكل العام للنص الذي لم يكتشف بعد. في حالات كهذه يكون إحساس القراء بوجود تناص كامن كافياً للإشارة إلى الموقع الذي سيظهر به ذلك التناص شيئاً فشيئاً. هذا النوع من استجابة القارئ الأولية يحتم التمييز بين التناص والتناصية. فالتناصية هي شبكة الوظائف التي تعين وتنظم العلاقات بين النص والتناص" (17).
إذاً نحن أمام ثلاثة عناصر من عناصر الاتصال يمكن أن يتصل بها هذا المصطلح النقدي في صورة ما: المرسل والرسالة والمرسل إليه. فما يتصل بالمرسل ( المؤلف ) يندرج في إطار التأثير، وما اتصل بالرسالة ( النص ) يندرج في إطار التناص، وما يتصل بالمرسل إليه ( المتلقي ) يندرج في إطار التناصية، وهذا ما يجعلنا نعود لتلمس المفاهيم النقدية القديمة، ولكن ضمن التصور بالتركيز على المرسل إليه. وتبدو هذه الخطوة مهمة في التعرف على توضع ملامح من التناصية، لكونها فكرة قديمة في نقدنا العربي، في العنصر المتصل بالمؤلف، وهو أمر كان له آثاره التي سنلمح بعضاً منها. إن معرفة النقد العربي لظاهرة التداخل والتشعب في الكلام متعددة، لكن هذه المعرفة جاءت منصبة على المرسل، إذ أكدت على دور المؤلف ليس فيما ورد من مقاطع نقدية فحسب، ولكننا نلحظ ذلك في أسماء الحقول ذاتها، فالسرقات ووقع الحافر على الحافر وتوارد الخواطر والحفظ الجيد تعابير أولية انبثقت من التركيز على الذوات والاهتمام بهذا الجانب. إنها تستحضر المرسل وتؤكد على دوره الأهم.
يتحدد لدينا بعد ذلك سؤال الحقل النقدي القديم نفسه الذي كان مرتهناً إلى المؤلف، لنتجاوزه إلى الحقل موضوع التناول الذي يمكن وصفه بأنه مختلف، فبينما كان الشعر هو الحقل الذي اعتمدت عليه المفاهيم القديمة من سرقات ومعارضات وغيرهما، انطلقت دراسات التناصية من الحقل الروائي مع باختين الذي كان يبحث عن المكونات النصية للرواية، ومع كريستيفا التي اعتمدت في دراستها لهذا المصطلح على مجمل دراسات باختين في الرواية، حيث أقامته على البناء الباختيني حول مفهوم الحوارية، وخصصت جهدها لتعميقه وفحصه، فانبثق منه كثير من المصطلحات الإجرائية الفرعية المتنوعة. وقد عدت كريستيفا رواية ( جيهان دوسانتري ) الرواية الوحيدة من كتابات " دي لاسال " التي تكون نسخاً وتجميعاً أو مراسلات ســفر، أو رسائل مواساة، وهي حكايات تبنى كخطاب تاريخي، أو كفسيفساء لا متجانسة من النصوص. إن هذين المنطلقين يشكلان اختلافاً في التناول إلى حد كبير ويفضيان إلى تصورات سنعرض لها .
كان من المعتاد أن يتفاخر النقاد العرب القدماء بمعرفة ذلك النص الأول ويتنافسون في الكشف عنه بطريقتي الحفظ أو السماع بوصفهما وسيلتين لهما الدور الفاعل في حركة الثقافة آنذاك، إذ تزخر كتب الأدب العربي بالترويج لهاتين الطريقتين، فهذا " ابن الأثير " يسعد بتنبيه جمهور المتلقين حول شعر " ابن الخياط " معتمداً على حفظه لشعر المتنبي "وكنت سافرت إلى الشام في سنة سبع وثمانين وخمسمائة، ودخلت مدينة دمشق؛ فوجدت جماعة من أدبائها يلهجون ببيت من شعر ابن الخياط في قصيد له أولها: خذا من صبا نجد أماناً لقلبه، ويزعمون أنه من المعاني الغريبة، وهو:
أغار إذا آنست في الحي أنه حذاراً عليه أن تكون لحبه
فقلت لهم : هذا البيت مأخوذ من شعر أبي الطيّب المتنبي في قوله :
لو قلت للدنف المشوق فديته ممــا به لأغـــرته بفـــدائـه
وقول أبي الطيب أدق معنى، وإن كان قول ابن الخياط أرق لفظاً، ثم إني وقفتهم مواضع كثيرة من شعر ابن الخياط قد أخذها من شعر المتنبي"(18).
إن التركيز على دور المرسل في النقد القديم، ومعالجة التجربة الشعرية قد أوجدا ما يمكن الاصطلاح عليه ( تجزئة النصوص) في إطار ( التناول الجزئي) الذي يركز على اقتباس ما، وهو السائد في أغلب المنقول إلينا ويوظفه ويصله بغيره من الشواهد الجزئية أيضاً، وقد ساعدت القصيدة العربية لكونها أبياتاً شعرية على هذه التجزئة. ويرى بعض الباحثين العرب قد أولوا العناية الكبرى للصنف الخاص من التفاعل النصي وهي أن يقيم نص ما علاقة مع نص آخر محدد. وتظهر هذه العلاقة من خلال البيت الواحد أو القصيدة، ويعود السبب في ذلك إلى أن تحليلاتهم كانت جزئية للنصوص وليست كلية، فالعلاقة بين النصوص لم يكن ينظر إليها من خلال النص في كليته. كان البحث عن الشاهد أساسيا في نمط تفكيرهم. وقد أدى ذلك إلى وقوع بعض الدارسين المعاصرين في ممارساتهم في التجزئة ذاتها التي تمت بتوظيف شاهد أو شاهدين من النص وعد ذلك من القراءة التناصية. ما جعل نظرتهم في تلك الممارسة تجزيئية وخاصة جداً، لذلك كان هم الباحث في البيت الشعري الذي يستوقفه أن يجد له نظيراً في خلفيته الأدبية والنقدية فيجد له علاقة بسابقة ويحدد نوع العلاقة، ويوجد لها مصطلحاً . يبرز لنا هذا بجلاء في حديثهم عن النص المحلل من خلال الصيغة التي حددها يقطين نحو:
قال الشاعر …
ومنه قول الشاعر … (19).
وقد تعددت ملامح هذه الظاهرة في التراث النقدي ولو عدنا إلى ما يراه القاضي الجرجاني في ذلك لأدركنا كيفية التناول لهذه الظاهرة " وقد أحسن أحمد بن أبي طاهر في محاجة البحتري لما ادعى عليه السرق قوله:
والشعر ظهر طريق أنت راكبه فمنه منشعب و غير منشعب
وربما ضم بين الركب منهجه وألصق الطنب العالي على الطنب
وإنما أقول : قال فلان كذا، وقد سبقه إليه فلان فقال كذا" (20).
يمكننا أن نستخلص من ذلك : إن العناية بهذه الظاهرة على المستوى النقدي قد شابها في أغلب الأحيان نظرة جزئية توسلت إلى أن تفتش في جزئيات النصوص وتبتسر بعضها، كما ترمي إلى محاولة التوصل اللاهثة إلى النص الأساس أو ما يمكن وصفه بالنص الأول ( النص الفحل ) الذي انبثق منه بنيان النص الجديد. إن هذا الاهتمام لدى النقاد العرب القدامى لم يكن نابعاً من تصور للنص الشعري كاملاً، ولكنهم اهتموا بالبيت الشعري المجرد الذي يوشك أن يختزل من سياقه أحياناً.
ويضاف إلى تلك المحددات السابقة محدد آخر ويتبلور فيما أضافه التركيز على المتلقي في النقد الحديث الذي يشير إلى علاقة أخرى، لا تكتفي بتأثير السابق على اللاحق، فالمفهوم القديم لا يؤثر على المفهوم الجديد فحسب، ولكن التأثير يمتد إلى تأثير الجديد على القديم، وعلى ذلك كان من الضروري أن تهتم التناصية بالتبادل بين النصوص الذي لا يكون في إطار علاقة أحادية الاتجاه، بل يمتد إلى علاقات أوسع وأشمل، إنه يمتد ليكون ذا اتجاهات مختلفة، حين نقرأ رواية سقيفة الصفا بعد قراءتنا رواية العصفورية سيكون ذلك صانعاً لمرحلة جديدة من التلقي.
تظل التناصية مصطلحاً حديثاً كان له التأثير على المصطلحات السابقة ذاتها، إذ كان له القدرة على خلق اتجاه قرائي جديد للسرقات الأدبية التي تناولها القدماء. وينطبق الأمر نفسه على المعارضات الشعرية وغيرها من الأفكار النقدية في حقولها القديمة، ما يشير إلى كون التناصية مرحلة جديدة ينطلق فيها القارئ مع النص، وهذه المرحلة تمكنه من جعل النص مفتوحاً أمام اللاحق والسابق والمعاصر في علاقات تتجاوز الموافقة أو المعارضة أو السرقة.
هوامش :
1) انظر : مارك أنجينو : التناصية بحث في انبثاق حقل مفهومي وانتشاره، ترجمة محمد خير البقاعي، علامات،ج18،مارس 1996م، ص 124- 156).
2)
Kristeva : Desire in Language A Semiotic Approach to Literature and Art , Translated by Thomas Gara ,Alice Jardine , and Leon S .Roudies , Columbia University Press , 1980. p 15.
وانظر: محمد عناني. المصطلحات الأدبية الحديثة،لونجمان، القاهرة،1996م.( التناص).
3) John Lechte: Julia Kristeva, Routledge,London,1990.P104.
4) حسن محمد حماد : تداخل النصوص في الرواية العربية بحث في نماذج مختارة، الهيئة العامة المصرية للكتاب، القاهرة، 1997م. ص 10.
5) عبدالله الغذامي: الخطيئة والتكفير، دار سعاد الصباح،الكويت، 1993م،ط2، ص 56.
6) عبدالملك مرتاض : فكرة السرقات الأدبية ونظرية التناص، علامات عدد1،مايو 1991م.ص 69ـ93.
7) صالح الغامدي: ملاحظات وتعقيبات على السرقات والتناص، علامات ع2، ص 183-189.
صبري حافظ : التناص وإشاريات العمل الأدبي، مجلة أ لف، ع4، 1984.ص 26ـ30.
9) محمد مفتاح : تحليل الخطاب الشعري استراتيجية التناص،المركز الثقافي، الدار البيضاء، 1986،ط 2. ص 119.
10) رجاء عيد :النص والتناص، علامات 18 مجلد5،ديسمبر 1995 م.ص175-208.
11) محمد بنيس : الشعر العربي الحديث بنياته وإبدالاتها، دار توبقال، الدار البيضاء، 1990، ط1، ج3، ص 183.
12) عبدالرحمن السماعيل: المعارضات الشعرية، النادي الأدبي، جدة، 1994م. ص 26 .
13) سعيد يقطين: التفاعل النصي والترابط النصي، علامات ج32، مجلد8،مايو1999م، ص217-236.
14) تركي المغيض: التناص في معارضات البارودي، مجلة أبحاث اليرموك، مجلد9، عدد2،1991م، ص85ـ154.
15) أحمد الزعبي: التناص التاريخي والديني مقدمة نظرية مع دراسة تطبيقية في رواية رؤيا لها، مجلة أبحاث اليرموك، مجلد13، عدد1، 1995م، ص 169ـ200.
16) عبد السلام المسدي: المصطلح النقدي، مطبعة كوتيب، تونس، 1994م، ص 121.
17) Michael Wortton , Judith Still : Intertextuality Theories and practices , Manchester Press , 1990 .( Michael Riffaterre: Compulsory reader response. P56-78.
18) ضياء الدين بن الأثــير : المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية، بيروت، 1990م . جـ2، ص346-347 .
19) سعيد يقطين : الرواية والتراث السردي، المركز الثقافي العربي،الدار البيضاء،1992م. ص 19.
20) القاضي الجرجاني : الوساطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي البجاوي،المكتبة العصرية، بيروت، ص 215.
madwani@hotmail.com