تجليات التناص في الشعر العربي القديم
محمد مصابيح الأربعاء، 26 أغسطس 2009 23:38 نقد ومراجعات - نقد وتحليل
إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقويم القُرّاء: / 0
الأسوأالأفضل
إن دأب الشاعر العربي الجاهلي على استدعاء كل ما يحتاج إليه من الموروث الشعري والأدبي ،لصقل موهبته،وتربية حسه الموسيقي ،وتهذيب نفسه وتربيتها على النهج الذي يريده لها، جعلهمحولا ومجددا ،ينتج نصوصا جديدة ،غاية في الإبداع ،وغاية في التمسك والانتماء إلى جذوره الأولى، ولعل ذلك ما جعل عنترة بن شداد العبسي يتذمر من كثرة النصوص السابقة ،والتي لم يدع له أصحابها ما يقول ،حتى قال ،قولته: ([1])
هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم
ومن ذلك أيضا تجربة سويد بن كراع العكلي،عندما يبين صعوبة اهتدائه إلى النص المتخيل، في ذهنه من نصوص كثيرة ومغايرة،"فكلما حاول الاقتراب منه وجد أنه يتشكل،وعندما نقرأ أبياته اللاحقة، يتبين لنا أن الشاعر كان يدرك بوعي، الإرث الشعري (النصوص) السابقة ،وعندما لجأ إلى المعارضة، والمماثلة ،والاختلاف وممارسة الإنزياح لكسر الاتجاه الدلالي والوصول إلى مبتغاه ،صعب عليه التحوير والشكل ولذلك أنشد : ([2])
أَبيتُ بِأَبوابِ القَوافي كَأَنَّما أُصادي بِها سِرباً مِنَ الوَحشِ نُزَّعا
أُكَالِئُها حَتّى أُعرِّسَ بَعدَما يَكونُ سُحَيرٌ أَو بُعَيدُ فَأَهجِعا
عَواصي إِلاّ ما جَعَلتُ أَمامَها عَصا مِربَدٍ تَغشى نُحوراً وَأَذرُعا
أَهَبَت بِغُرِّ الآبِداتِ فَراجَعَت طَريقاً أَملَّتهُ القَصائِدُ مَهيَعا
بَعيدَةَ شَأوٍ لا يَكادُ يَرُدُّها لَها طالِبٌ حَتّى يَكِلَّ وَيَظلَعا
إِذا خِفتُ أَن تُروى عَلَيَّ رَدَدتُها وَراءَ التَراقي خَشيَةً أَن تَطَلَّعا
وَجَشَّمَني خَوفُ اِبنِ عَفّانَ رَدَّها فَثَقَّفتُها حَولاً حَريداً وَمَربَعا([3])
إن ما انتهى إليه العلامة عبد الرحمن بن خلدون،ومن سبقه ،من أن الشاعر المبتدئ لكي يصل إلى درجة الإبداع ،عليه أن يحفظ أشعار العرب ويرويها ،ويتعرف على مناقبهم وأمثالهم وجميع ثقافتهم، ثم يتجرد من ذلك كله،ويحذو حذوه قي التأليف كما يحذو البناء على القالب والنساج على المنوال.
إنه لدليل قاطع على تبلور(نظرية التناص) في أذهان هؤلاء،وقد عرفوا ما لها من شأن في تجديد الإنتاج النصي، وتوليده عن طريق الاتصال مع تراثهم أو مخزونهم الثقافي،وتضمين ما يمكن تضمينه،والتأثر بما يجب التأثر به،حفاظا على النهج،وإبقاء لعناصر الهوية العربية البدوية،وصيانتها من الاندثار،هذا من جهة، ومن ناحية أخرى كانوا أكثر وعيا بأن " وظيفة الخطاب التواصلية، تستند إلى وظيفة نصية كامنة في علامات النص وشفراته"([4]) وبالتالي فإذا ما اكتسب المبدع أدواته من النصوص السابقة،نسج على منوالها ونحا نحوها ،وفي الأخير فإنه حتما سيوصل الخطاب المبدع عبر علامات النص السابق،عن طريق النص الجديد.
والتناص كما عرفته العرب نوعان: خارجي(تقاطع مع النصوص الأخرى،نصوص الغير)وداخلي(ذاتي،يمثل تقاطع نصوص ذات الشاعر ).
التناص في النقائض.
(النقائض)لغة،جمع (نقيضة) من نقض البناء ،إذا هدمه،والحبل إذا حله، وضده الإبرام،يكون للحبل والعهد،وناقضه مناقضة:خالفه،و (المناقضة) أن يتكلم بماهو ضد معناه، والمناقضة في الشعر أن ينقض الشاعر ما قاله الأول فيجيء بغير ماقاله.([5]) أما اصطلاحا : فالنقيضة هي أن يتجه الشاعر بقصيدته إلى شاعر آخر هاجيا أو مفتخرا،فيعمد الآخر إلى الرد عليه بقصيدة مضادة هاجيا أو مفاخرا، على أن ينسج على منوال غريمه ،وزنا وقافية ورويا،فيفسد عليه معانيه، ويردها إليه،أو يزيد عليها.
والنقائض عرفت في العهد الجاهلي،أيام العصبية القبلية،وترعرعت بين القبائل العربية،ثم شهدت أوج ازدهارها في العصر الأموي،على يد شعراء الأحزاب السياسية، -إن صح التعبير- الفرزدق وجرير والأخطل ، فرسان النقائض، ومن جاء بعدهم كالراعي النميري، وذي الرمة…
ولعل ما كان يضرم نار النقائض،ويؤججها هو العصبية القبلية، التي تجلت في العصر الأموي ،وعلت حتى على الرابطة الدينية مما ولد الخلافات الاجتماعية والسياسية التي نتج عنها زيغ عن الجادة وانحراف عن الصواب وإثارة الفتن واشتعال الحروب والنزاعات كوقعة صفين ،ووقعة الجمل ومصرع عبد الله بن الزبير،ومقتل الحسين بن على (ض)،وطغيان الحجاج بن يوسف الثقفي وغيرها.
فشكلت تلك الأحداث وقودا لقرائح الشعراء الذين شحذوها للذود عن أولياءهم وانتماءاتهم السياسية،وللتكسب في أغلب الأحيان، فتهاجوا وتفاخروا،فكان الأخطل لسان حال قومه تغلب،يحتج للأمويين حتى سمي شاعر القصر،وشاعر أمير المؤمنين،وكان جرير لسان حال قيس عيلان، أما الفرزدق فكان زعيم تميم ومحاميها.
ومما يروى من نقائض جرير والفرزدق،أن جرير لبس درعا وركب فرسا فبلغ ذلك الفرزدق ،فلبس هو الآخر ثياب وشيء وقام ينشد بجرير والناس يسعون فيما بينهما بأشعارهما،فقال الفرزدق(من الطويل): ([6])
عَجِبتُ لِرامي الضَأنِ في حُطَمِيَّةٍ وَفي الدِرعِ عَبدٌ قَد أُصيبَت مَقاتِلُه
وَهَل تَلبِسُ الحُبلى السِلاحَ وَبَطنُها إِذا اِنتَطَقَت عِبءٌ عَلَيها تُعادِلُه
أَفاخَ وَأَلقى الدِرعَ عَنهُ وَلَم أَكُن لِأُلقِيَ دِرعي مِن كَمِيٍّ أُقاتِلُه
والقصيدة طويلة جدا تحوي على( ثمان وثمانين) بيتا فرد جرير بعد أن بلغه الخبر،قائلا (من الطويل): ([7])
أَنا البَدرُ يُعشي طَرفَ عَينَيكَ فَاِلتَمِس بِكَفَّيكَ يا اِبنَ القَينِ هَل أَنتَ نائِلُه
لَبِستُ أَداتي وَالفَرَزدَقُ لُعبَةٌ عَلَيهِ وِشاحا كُرَّجٍ وَجَلاجِلُه
أَعِدّوا مَعَ الحَليِ المَلابَ فَإِنَّما جَريرٌ لَكُم بَعلٌ وَأَنتُم حَلائِلُه
فالملاحظ أن القصيدتين من البحر الطويل، وبنفس القافية، والروي، وفي ذات الموضوع وهو من
أكمل وجوه التناص،الذي عرفته العرب،في أيام عزها.
ويقول الفرزدق هاجيا جريرا ومفاخرا بقومه(من الكامل)[8])
إِنَّ اِستِراقَكَ يا جَريرُ قَصائِدي مِثلُ اِدِّعاءِ سِوى أَبيكَ تَنَقَّلُ
وَاِبنُ المَراغَةَ يَدَّعي مِن دارِمٍ وَالعَبدُ غَيرَ أَبيهِ قَد يَتَنَحَّلُ
لَيسَ الكِرامُ بِناحِليكَ أَباهُمُ حَتّى تُرَدُّ إِلى عَطِيَّةَ تُعتَلُ
فيرد جرير بالنقيض في قصيدة قوامها واحد وخمسين بيتا (من الكامل)قائلا:
أَعدَدتُ لِلشُعَراءِ سُمّاً ناقِعاً فَسَقَيتُ آخِرَهُم بِكَأسِ الأَوَّلِ
لَمّا وَضَعتُ عَلى الفَرَزدَقِ مَيسَمي وَضَغا البَعيثُ جَدَعتُ أَنفَ الأَخطَلِ
أَخزى الَّذي سَمَكَ السَماءَ مُجاشِعاً وَبَنى بِناءَكَ في الحَضيضِ الأَسفَلِ
فقال الفرزدق مفتخرا(من الكامل): ([9])
إِنَّ الَّذي سَمَكَ السَماءَ بَنى لَنا بَيتاً دَعائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطوَلُ
بَيتاً بَناهُ لَنا المَليكُ وَما بَنى حَكَمُ السَماءُ فَإِنَّهُ لا يُنقَلُ
بَيتاً زُرارَةُ مُحتَبٍ بِفِنائِهِ وَمُجاشِعٌ وَأَبو الفَوارِسِ نَهشَلُ
أما ما وقع من المساجلات بين جرير والأخطل، فقد هجا الأخطل بني كليب، فقال
في قصيدة (من الكامل ):
كَذَبَتكَ عَينُكَ أَم رَأَيتَ بِواسِطٍ غَلَسَ الظَلامِ مِنَ الرَبابِ خَيالا
وَتَغَوَّلَت لِتَروعَنا جِنِّيَّةٌ وَالغانِياتُ يُرينَكَ الأَهوالا
أَبَني كُلَيبٍ إِنَّ عَمَّيَّ اللَذا قَتَلا المُلوكَ وَفَكَّكا الأَغلالا
وَلَقَد جَشِمتَ جَريرُ أَمراً عاجِزاً وَأَرَيتَ عَورَةَ أُمِّكَ الجُهّالا
فنقض جرير معانيه،ووصل نسيبه بهجاء تغلب قوم الأخطل في تفاعل نصي شيق فقال
مما قاله(من الكامل)أيضا: ([10])
حَيِّ الغَداةَ بِرامَةَ الأَطلالا رَسماً تَحَمَّلَ أَهلُهُ فَأَحالا
وَالتَغلِبِيُّ إِذا تَنَحنَحَ لِلقِرى حَكَّ اِستَهُ وَتَمَثَّلَ الأَمثالا
حَمَلَت عَلَيكَ حُماةُ قَيسٍ خَيلَها شُعثاً عَوابِسَ تَحمِلُ الأَبطالا
ما زِلتَ تَحسِبُ كُلَّ شَيءِ بَعدَهُم خَيلاً تَشُدُّ عَلَيكُمُ وَرِجالا
عَبَدوا الصَليبَ وَكَذَّبوا بِمُحَمَّدٍ وَبِجِبرَئيلَ وَكَذَّبوا ميكالا
لا تَطلُبَنَّ خُؤولَةً في تَغلِبٍ فَالزَنجُ أَكرَمُ مِنهُمُ أَخوالا
"فالنقائض تقع في صلب التناص،وأنها التناص بعينه"([11]) وذلك لكون الشاعر من أصحاب هذا الجنس ،ما إن تلسع أذناه بأبيات غريمه ،حتى يفرغ عليها ما ينكث غزلها ويحول معناها إلى الاتجاه المعاكس، على جرسها ومنوالها كي تكون الرد الفاصل منه على غريمه ،من دون لبس أو شك،وذلك من أرقى ما وصل إليه التناص في تطبيقاته.
ومن روائع التناص أيضا ذلك النمط الذي أطلقت عليه العرب تسمية "السرقات"
وهو مصطلح قديم تجنبه بعض النقاد القدامى،كابن قتيبة،والقاضي الجرجاني،وأبو الفرج الأصفهاني،إذ أخذوا بدله مصطلح "التوارد" أوما شاكله،كـ"الإقتباس"وهو أن يضمّن الشاعر أبيات قصيدته، شيئا من القرآن، أو الحديث النبوي، أو الحكم والأمثال السائرة، ودعاه الحاتمي"الاجتلاب" و مثله في الاقتباس من القرآن الكريم،قول الشاعر (من المتقارب) : ([12])
فيا عِظْمها من أمور فإنا جميعا إلى ربنا راجعونا
أما مصطلح "التضمين"فهو اجتلاب بيت شعري،أو نصفه من شعر الغير،وإدخاله في شعر الشاعر،دون الادعاء بملكيته،وقد استحسن ذلك ،وهناك ألوان أخرى من المصطلحات المستعملة وهي ذات صلةبالتناص،كمصطلح (العقد)وهو نظم المنثور على شاكلة البيت الآتي(من البسيط): ( [13])
وَلَم يَكلنا إِلى الأَهواءِ بارِئُنا بَل أَرسَلَ الرُسلَ مِن حينٍ إِلى حينِ
ومصطلح (النقل) وهو نقل المعنى من غرض إلى غرض أدبي آخر.
ومصطلح (الاحتذاء):وقد عرفه القاضي الجرجاني بكونه موازاة شاعر لشاعر آخر في صورة أو معنى. كقول أبي الشيص الخزاعي (من الكامل)
أَجِدُ المَلامةَ في هَواكِ لَذيذَةً حُبّاً لِذكرِكِ فَليَلُمني اللُوَّمُ
وقول المتنبي (من الكامل): ([14])
أَأُحِبُّهُ وَأُحِبُّ فيهِ مَلامَةً إِنَّ المَلامَةَ فيهِ مِن أَعدائِهِ
وقد رصد الدكتور محمد عزام مصطلحات كثيرة ،ذات صلة بمصطلح (التناص)وتحقق التفاعل ما بين النصوص،وذلك عائد إلى فعل التأثير والتأثر الذي مورس في مجال الشعر العربي القديم ،عن وعي أو غير وعي،([15])ومن الأفعال التي استهجنها النقاد العرب واستقبحوها ،ما اصطلح على تسميته "انتحالا" أو "نحلا" لكونه أخذ مما للغير وادعاء ملكيته من قبل منتحله،وهذا النوع مما يصح تسميته "سرقة أدبية" .
وعلى ذلك فإن عملية التأثير والتأثر في مجال الشعر، لايمكن أن تستغني عن "الاحتذاء" أو "التقليد" خاصة وأن الشاعر كان لا بد له لكي يكون شاعرا أن يحفظ أشعار العرب ويرويها،ثم يتخلص منها بعد ذلك ،لكي يتأتى له قول الشعر، وعلى هذا لا يمكن للشاعر أن يسلم من نهب ما لغيره عن وعي ،أو عن غير وعي.
وهذا الشكل من التناص،حتى إن حدث عند العرب القدامى ،على سبيل التقليد أو التأثر
غير الواعي،أو الاحتذاء الإيجابي، على سبيل المثاقفة، فقد صرف النقاد في التنقيب عنه جهدا كبيرا تحت طائلة رصد السرقات، إما من منطلقات أخلاقية ،حتى يظهروا صاحب الملكية،ويفضحوا القراصنة،أومن منطلق تهجمي على شعراء وصلوا إلى المجد،فأراد النقاد الانتقاص من قيمهم ومراكزهم التي بلغوها،كما حدث مع المتنبي ،وأبي تمام ،وأبي نواس وغيرهم. ومن أمثلة التناص المصنف قديما من ضمن السرقات،قول الأعشى (من المتقارب) ([16])
وَكَأسٍ شَرِبتُ عَلى لَذَّةٍ وَأُخرى تَداوَيتُ مِنها بِها
وقول أبي نواس وقد زاد وله فضل الزيادة([17])
دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَومَ إِغراءُ وَداوِني بِالَّتي كانَت هِيَ الداءُ
وهنا تناص في الغرض الشعري(الخمريات) وكذلك في المعنى،حيث كلاهما وصف الخمرة بكونه الداء والدواء في آن واحد.
وكذلك قال النظار بن هاشم الأسدي(من الوافر):
يعف المرء ما استحيا بخير ويبقى نبات العود ما بقي اللحاء
وما في أن يعيش المرء خير إذا ما المرء زايله الحياء
ونسج أبو تمام على منوال معناها ومبناها قائلا(من الوافر) ([18]).
يَعيشُ المَرءُ ما اِستَحيا بِخَيرٍ وَيَبقى العودُ ما بَقِيَ اللِحاءُ
فَلا وَاللَهِ ما في العَيشِ خَيرٌ وَلا الدُنيا إِذا ذَهَبَ الحَياءُ
وقد قال بشار بن برد كذلك مثلهما(من الوافر)([19]).
يَعيشُ المَرءُ ما اِستَحيا بِخَيرٍ وَيَبقى العودُ ما بَقِيَ اللِحاءُ
إِذا لَم تَخشَ عاقِبَةَ اللَيالي وَلَم تَستَحيِ فَاِفعَل ما تَشاءُ
فالملاحظ أن التناص في الأبيات السابقة،تناص معنى،وتناص ألفاظ كذلك،ووزن وقافية لدرجة أننا
نقول سرقة ،واضحة وجلية.
وانطلاقا من مقولة (جوليا كريستيفا):"كل نص هو امتصاص وتحوبل لنصوص أخرى"()نأتي إلى مصطلح "المعارضات"في الشعر العربي القديم،والذي يعني سير الشاعر حيال شاعر آخر،والإتيان بمثل ماأتى به،كما حدث في محاكمة أم جندب الطائية،بين زوجها أمرئ القيس وعلقمة الفحل،لما وصف كل منهما فرسه ،على روي واحد وقافية واحدة،فقال أمرؤ القيس(من الطويل): ([20])
خَليلَيَّ مُرّا بي عَلى أُمِّ جُندَبِ نُقَضِّ لُباناتِ الفُؤادِ المُعَذَّبِ
حتى وصل إلى قوله:
فَلِلسَوطِ أُلهوبٌ وَلِلساقِ دُرَّةٌ وَلِلزَجرِ مِنهُ وَقعُ أَهوَجَ مُتعَبِ
ثم أنشد علقمة (من الطويل):
ذَهَبتَ مِنَ الهِجرانِ في غَيرِ مَذهَبٍ وَلَم يَكُ حَقّاً كُلُّ هَذا التَجَنُّبُ
إلى أن بلغ قوله:
فأدركهن ثانيا من عنانه يمرّ كمر الرائح المتحلب([21]).
الشعرية والتناص.
يتداخل مجال الشعرية والتناصية،لإحداث تناص بينهما، ذلك لكون "الشعرية تتخذ موضوعها في بلورة الوسائل التقنية الكفيلة بتحليل الآثار الأدبية،باعتبارها خطابا أدبيا تظهر فيه مبادئ تناسل لانهائية من النصوص"([22]).
ومن هذا المنطلق نجد أن الخطاب الأدبي هو ملتقى الشعرية بالتناصية،باعتبار أن الخطاب يحتاج إلى وسائل تقنية كفيلة بالتحليل من جهة،ومن الجهة الثانية يعتبر مظهرا لمتتالية غير منتهية من النصوص،وذلك من اختصاص (التناصية) التي من شأنها رصد النصوص الغائبة، المنتهية إلى النص الماثل، فالتناصية إذا عليها أن تجيب عن الأسئلة الآتية:
1. 1. ما هو النص من حيث بعده التاريخي التطوري،وليس الألسني الآني؟
2. 2. ما هي الوسائل الكفيلة بتحديد النص الغائب،واستحضاره ،في النص الماثل ؟
3. 3. ما سر التناسل اللانهائي للنصوص؟
كما على الشعرية أن تجيب على أسئلة هي الأخرى.
1. 1. ما هو الأدب وما هو الشعر؟
2. 2. ما هي الوسائل الكفيلة بتمييز مستويات وخصائص ومكونات النص الأدبي؟
وبالتالي تصبح الشعرية،كما رآها بول فاليري"دراسة للخصائص النصية وللمعطيات اللغوية،و اسما لكل إبداع أو تأليف حيث تكون اللغة في آن الجوهر والوسيلة"([23]) وهذه المفاهيم التي نراها قاسما مشتركا بين الشعرية والتناص تجعلنا نقول( باجتماعهما على الدوام) لانخراطهما"في عالم الأنساق الدالة ،عالم السيميوطيقا"([24])ومن ثم فإن الشعرية،لا تشتغل مع التناصية وحسب ،بل مع كل العلوم التي تشتغل على النص،الكلام،أو الخطاب الأدبي.
الهوامش:
[1] -ابن الخطيب التبريزي ،شرح المعلقات العشر المذهبات ،تح :د عمر فاروق،دار الأرقم،بيروت ،ص 193.
[2] - ينظر : الجاحظ ،البيان والتبيين ،تح: المحامي فوزي عطوي ،دار صعب 1968 ط1 بيروت ص 1/219.
والأصفهاني ،الأغاني،تح:سمير جابر،دار الفكر 1989 ط 2 ،بيروت،ص12/399.
2-أصادي:أخاتل وأخادع نزّعا: غريبة أكالئها:أراقبها أعرس:أنز وأقيم
سحيرا: وقت السحر (القوافي) أهبت:دعوت الآبدات: المتوحشات(القوافي الشاردة) أملته: سلكته الحريد :الكامل
1- حسين جمعة، م،س، ص158.
[5] - ينظر: ابن منظور،لسان العرب: مادة (ن ق ض)
[6] - الموسوعة الشعرية،المجمع الثقافي،الإمارات العربية، الإصدار الثالث،2003.
[7] - م،ن
(- م،ن
[9] - المصدر ،س.
[10] - المصدر،س،ن.
[11] - محمد عزام ،النص الغائب،ص 92.
[12] -القول للشاعر:راشد بن جمعة الحبيسي ،(الموسوعة الشعرية).م،س.
[13] - القول للشاعر: محمد توفيق م،ن
[14] - المتنبى،الديوان،تح :عبد الرحمن البرقوقي،دار الكتاب العربي ،بيروت،ص
[15] - ينظر: د محمد عزام ،النص الغائب،ص 128،129،120.
[16] - الموسوعة الشعرية.م،س.
[17] - ديون أبي نواس،م،ن.
[18] -ديوان أبي تمام، م،س.
[19] -ديوان بشار بن برد، م،س.
[20] -ديوان أمرئ القيس،م،س.
[21] -ينظر : محمد عزام النص الغائب،ص 144.
[22] - عثماني ميلود، شعرية تودوروف،م،س ،ص5
[23] - م،س،ص10.
[24] - م،س،ن،ص 5.
*- باحث في مجال النقد العربي المعاصر متحصل على الماجستير- جامعة سيدي بلعباس/الجزائر.
محمد مصابيح الأربعاء، 26 أغسطس 2009 23:38 نقد ومراجعات - نقد وتحليل
إرسال إلى صديق طباعة PDF
تقويم القُرّاء: / 0
الأسوأالأفضل
إن دأب الشاعر العربي الجاهلي على استدعاء كل ما يحتاج إليه من الموروث الشعري والأدبي ،لصقل موهبته،وتربية حسه الموسيقي ،وتهذيب نفسه وتربيتها على النهج الذي يريده لها، جعلهمحولا ومجددا ،ينتج نصوصا جديدة ،غاية في الإبداع ،وغاية في التمسك والانتماء إلى جذوره الأولى، ولعل ذلك ما جعل عنترة بن شداد العبسي يتذمر من كثرة النصوص السابقة ،والتي لم يدع له أصحابها ما يقول ،حتى قال ،قولته: ([1])
هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم
ومن ذلك أيضا تجربة سويد بن كراع العكلي،عندما يبين صعوبة اهتدائه إلى النص المتخيل، في ذهنه من نصوص كثيرة ومغايرة،"فكلما حاول الاقتراب منه وجد أنه يتشكل،وعندما نقرأ أبياته اللاحقة، يتبين لنا أن الشاعر كان يدرك بوعي، الإرث الشعري (النصوص) السابقة ،وعندما لجأ إلى المعارضة، والمماثلة ،والاختلاف وممارسة الإنزياح لكسر الاتجاه الدلالي والوصول إلى مبتغاه ،صعب عليه التحوير والشكل ولذلك أنشد : ([2])
أَبيتُ بِأَبوابِ القَوافي كَأَنَّما أُصادي بِها سِرباً مِنَ الوَحشِ نُزَّعا
أُكَالِئُها حَتّى أُعرِّسَ بَعدَما يَكونُ سُحَيرٌ أَو بُعَيدُ فَأَهجِعا
عَواصي إِلاّ ما جَعَلتُ أَمامَها عَصا مِربَدٍ تَغشى نُحوراً وَأَذرُعا
أَهَبَت بِغُرِّ الآبِداتِ فَراجَعَت طَريقاً أَملَّتهُ القَصائِدُ مَهيَعا
بَعيدَةَ شَأوٍ لا يَكادُ يَرُدُّها لَها طالِبٌ حَتّى يَكِلَّ وَيَظلَعا
إِذا خِفتُ أَن تُروى عَلَيَّ رَدَدتُها وَراءَ التَراقي خَشيَةً أَن تَطَلَّعا
وَجَشَّمَني خَوفُ اِبنِ عَفّانَ رَدَّها فَثَقَّفتُها حَولاً حَريداً وَمَربَعا([3])
إن ما انتهى إليه العلامة عبد الرحمن بن خلدون،ومن سبقه ،من أن الشاعر المبتدئ لكي يصل إلى درجة الإبداع ،عليه أن يحفظ أشعار العرب ويرويها ،ويتعرف على مناقبهم وأمثالهم وجميع ثقافتهم، ثم يتجرد من ذلك كله،ويحذو حذوه قي التأليف كما يحذو البناء على القالب والنساج على المنوال.
إنه لدليل قاطع على تبلور(نظرية التناص) في أذهان هؤلاء،وقد عرفوا ما لها من شأن في تجديد الإنتاج النصي، وتوليده عن طريق الاتصال مع تراثهم أو مخزونهم الثقافي،وتضمين ما يمكن تضمينه،والتأثر بما يجب التأثر به،حفاظا على النهج،وإبقاء لعناصر الهوية العربية البدوية،وصيانتها من الاندثار،هذا من جهة، ومن ناحية أخرى كانوا أكثر وعيا بأن " وظيفة الخطاب التواصلية، تستند إلى وظيفة نصية كامنة في علامات النص وشفراته"([4]) وبالتالي فإذا ما اكتسب المبدع أدواته من النصوص السابقة،نسج على منوالها ونحا نحوها ،وفي الأخير فإنه حتما سيوصل الخطاب المبدع عبر علامات النص السابق،عن طريق النص الجديد.
والتناص كما عرفته العرب نوعان: خارجي(تقاطع مع النصوص الأخرى،نصوص الغير)وداخلي(ذاتي،يمثل تقاطع نصوص ذات الشاعر ).
التناص في النقائض.
(النقائض)لغة،جمع (نقيضة) من نقض البناء ،إذا هدمه،والحبل إذا حله، وضده الإبرام،يكون للحبل والعهد،وناقضه مناقضة:خالفه،و (المناقضة) أن يتكلم بماهو ضد معناه، والمناقضة في الشعر أن ينقض الشاعر ما قاله الأول فيجيء بغير ماقاله.([5]) أما اصطلاحا : فالنقيضة هي أن يتجه الشاعر بقصيدته إلى شاعر آخر هاجيا أو مفتخرا،فيعمد الآخر إلى الرد عليه بقصيدة مضادة هاجيا أو مفاخرا، على أن ينسج على منوال غريمه ،وزنا وقافية ورويا،فيفسد عليه معانيه، ويردها إليه،أو يزيد عليها.
والنقائض عرفت في العهد الجاهلي،أيام العصبية القبلية،وترعرعت بين القبائل العربية،ثم شهدت أوج ازدهارها في العصر الأموي،على يد شعراء الأحزاب السياسية، -إن صح التعبير- الفرزدق وجرير والأخطل ، فرسان النقائض، ومن جاء بعدهم كالراعي النميري، وذي الرمة…
ولعل ما كان يضرم نار النقائض،ويؤججها هو العصبية القبلية، التي تجلت في العصر الأموي ،وعلت حتى على الرابطة الدينية مما ولد الخلافات الاجتماعية والسياسية التي نتج عنها زيغ عن الجادة وانحراف عن الصواب وإثارة الفتن واشتعال الحروب والنزاعات كوقعة صفين ،ووقعة الجمل ومصرع عبد الله بن الزبير،ومقتل الحسين بن على (ض)،وطغيان الحجاج بن يوسف الثقفي وغيرها.
فشكلت تلك الأحداث وقودا لقرائح الشعراء الذين شحذوها للذود عن أولياءهم وانتماءاتهم السياسية،وللتكسب في أغلب الأحيان، فتهاجوا وتفاخروا،فكان الأخطل لسان حال قومه تغلب،يحتج للأمويين حتى سمي شاعر القصر،وشاعر أمير المؤمنين،وكان جرير لسان حال قيس عيلان، أما الفرزدق فكان زعيم تميم ومحاميها.
ومما يروى من نقائض جرير والفرزدق،أن جرير لبس درعا وركب فرسا فبلغ ذلك الفرزدق ،فلبس هو الآخر ثياب وشيء وقام ينشد بجرير والناس يسعون فيما بينهما بأشعارهما،فقال الفرزدق(من الطويل): ([6])
عَجِبتُ لِرامي الضَأنِ في حُطَمِيَّةٍ وَفي الدِرعِ عَبدٌ قَد أُصيبَت مَقاتِلُه
وَهَل تَلبِسُ الحُبلى السِلاحَ وَبَطنُها إِذا اِنتَطَقَت عِبءٌ عَلَيها تُعادِلُه
أَفاخَ وَأَلقى الدِرعَ عَنهُ وَلَم أَكُن لِأُلقِيَ دِرعي مِن كَمِيٍّ أُقاتِلُه
والقصيدة طويلة جدا تحوي على( ثمان وثمانين) بيتا فرد جرير بعد أن بلغه الخبر،قائلا (من الطويل): ([7])
أَنا البَدرُ يُعشي طَرفَ عَينَيكَ فَاِلتَمِس بِكَفَّيكَ يا اِبنَ القَينِ هَل أَنتَ نائِلُه
لَبِستُ أَداتي وَالفَرَزدَقُ لُعبَةٌ عَلَيهِ وِشاحا كُرَّجٍ وَجَلاجِلُه
أَعِدّوا مَعَ الحَليِ المَلابَ فَإِنَّما جَريرٌ لَكُم بَعلٌ وَأَنتُم حَلائِلُه
فالملاحظ أن القصيدتين من البحر الطويل، وبنفس القافية، والروي، وفي ذات الموضوع وهو من
أكمل وجوه التناص،الذي عرفته العرب،في أيام عزها.
ويقول الفرزدق هاجيا جريرا ومفاخرا بقومه(من الكامل)[8])
إِنَّ اِستِراقَكَ يا جَريرُ قَصائِدي مِثلُ اِدِّعاءِ سِوى أَبيكَ تَنَقَّلُ
وَاِبنُ المَراغَةَ يَدَّعي مِن دارِمٍ وَالعَبدُ غَيرَ أَبيهِ قَد يَتَنَحَّلُ
لَيسَ الكِرامُ بِناحِليكَ أَباهُمُ حَتّى تُرَدُّ إِلى عَطِيَّةَ تُعتَلُ
فيرد جرير بالنقيض في قصيدة قوامها واحد وخمسين بيتا (من الكامل)قائلا:
أَعدَدتُ لِلشُعَراءِ سُمّاً ناقِعاً فَسَقَيتُ آخِرَهُم بِكَأسِ الأَوَّلِ
لَمّا وَضَعتُ عَلى الفَرَزدَقِ مَيسَمي وَضَغا البَعيثُ جَدَعتُ أَنفَ الأَخطَلِ
أَخزى الَّذي سَمَكَ السَماءَ مُجاشِعاً وَبَنى بِناءَكَ في الحَضيضِ الأَسفَلِ
فقال الفرزدق مفتخرا(من الكامل): ([9])
إِنَّ الَّذي سَمَكَ السَماءَ بَنى لَنا بَيتاً دَعائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطوَلُ
بَيتاً بَناهُ لَنا المَليكُ وَما بَنى حَكَمُ السَماءُ فَإِنَّهُ لا يُنقَلُ
بَيتاً زُرارَةُ مُحتَبٍ بِفِنائِهِ وَمُجاشِعٌ وَأَبو الفَوارِسِ نَهشَلُ
أما ما وقع من المساجلات بين جرير والأخطل، فقد هجا الأخطل بني كليب، فقال
في قصيدة (من الكامل ):
كَذَبَتكَ عَينُكَ أَم رَأَيتَ بِواسِطٍ غَلَسَ الظَلامِ مِنَ الرَبابِ خَيالا
وَتَغَوَّلَت لِتَروعَنا جِنِّيَّةٌ وَالغانِياتُ يُرينَكَ الأَهوالا
أَبَني كُلَيبٍ إِنَّ عَمَّيَّ اللَذا قَتَلا المُلوكَ وَفَكَّكا الأَغلالا
وَلَقَد جَشِمتَ جَريرُ أَمراً عاجِزاً وَأَرَيتَ عَورَةَ أُمِّكَ الجُهّالا
فنقض جرير معانيه،ووصل نسيبه بهجاء تغلب قوم الأخطل في تفاعل نصي شيق فقال
مما قاله(من الكامل)أيضا: ([10])
حَيِّ الغَداةَ بِرامَةَ الأَطلالا رَسماً تَحَمَّلَ أَهلُهُ فَأَحالا
وَالتَغلِبِيُّ إِذا تَنَحنَحَ لِلقِرى حَكَّ اِستَهُ وَتَمَثَّلَ الأَمثالا
حَمَلَت عَلَيكَ حُماةُ قَيسٍ خَيلَها شُعثاً عَوابِسَ تَحمِلُ الأَبطالا
ما زِلتَ تَحسِبُ كُلَّ شَيءِ بَعدَهُم خَيلاً تَشُدُّ عَلَيكُمُ وَرِجالا
عَبَدوا الصَليبَ وَكَذَّبوا بِمُحَمَّدٍ وَبِجِبرَئيلَ وَكَذَّبوا ميكالا
لا تَطلُبَنَّ خُؤولَةً في تَغلِبٍ فَالزَنجُ أَكرَمُ مِنهُمُ أَخوالا
"فالنقائض تقع في صلب التناص،وأنها التناص بعينه"([11]) وذلك لكون الشاعر من أصحاب هذا الجنس ،ما إن تلسع أذناه بأبيات غريمه ،حتى يفرغ عليها ما ينكث غزلها ويحول معناها إلى الاتجاه المعاكس، على جرسها ومنوالها كي تكون الرد الفاصل منه على غريمه ،من دون لبس أو شك،وذلك من أرقى ما وصل إليه التناص في تطبيقاته.
ومن روائع التناص أيضا ذلك النمط الذي أطلقت عليه العرب تسمية "السرقات"
وهو مصطلح قديم تجنبه بعض النقاد القدامى،كابن قتيبة،والقاضي الجرجاني،وأبو الفرج الأصفهاني،إذ أخذوا بدله مصطلح "التوارد" أوما شاكله،كـ"الإقتباس"وهو أن يضمّن الشاعر أبيات قصيدته، شيئا من القرآن، أو الحديث النبوي، أو الحكم والأمثال السائرة، ودعاه الحاتمي"الاجتلاب" و مثله في الاقتباس من القرآن الكريم،قول الشاعر (من المتقارب) : ([12])
فيا عِظْمها من أمور فإنا جميعا إلى ربنا راجعونا
أما مصطلح "التضمين"فهو اجتلاب بيت شعري،أو نصفه من شعر الغير،وإدخاله في شعر الشاعر،دون الادعاء بملكيته،وقد استحسن ذلك ،وهناك ألوان أخرى من المصطلحات المستعملة وهي ذات صلةبالتناص،كمصطلح (العقد)وهو نظم المنثور على شاكلة البيت الآتي(من البسيط): ( [13])
وَلَم يَكلنا إِلى الأَهواءِ بارِئُنا بَل أَرسَلَ الرُسلَ مِن حينٍ إِلى حينِ
ومصطلح (النقل) وهو نقل المعنى من غرض إلى غرض أدبي آخر.
ومصطلح (الاحتذاء):وقد عرفه القاضي الجرجاني بكونه موازاة شاعر لشاعر آخر في صورة أو معنى. كقول أبي الشيص الخزاعي (من الكامل)
أَجِدُ المَلامةَ في هَواكِ لَذيذَةً حُبّاً لِذكرِكِ فَليَلُمني اللُوَّمُ
وقول المتنبي (من الكامل): ([14])
أَأُحِبُّهُ وَأُحِبُّ فيهِ مَلامَةً إِنَّ المَلامَةَ فيهِ مِن أَعدائِهِ
وقد رصد الدكتور محمد عزام مصطلحات كثيرة ،ذات صلة بمصطلح (التناص)وتحقق التفاعل ما بين النصوص،وذلك عائد إلى فعل التأثير والتأثر الذي مورس في مجال الشعر العربي القديم ،عن وعي أو غير وعي،([15])ومن الأفعال التي استهجنها النقاد العرب واستقبحوها ،ما اصطلح على تسميته "انتحالا" أو "نحلا" لكونه أخذ مما للغير وادعاء ملكيته من قبل منتحله،وهذا النوع مما يصح تسميته "سرقة أدبية" .
وعلى ذلك فإن عملية التأثير والتأثر في مجال الشعر، لايمكن أن تستغني عن "الاحتذاء" أو "التقليد" خاصة وأن الشاعر كان لا بد له لكي يكون شاعرا أن يحفظ أشعار العرب ويرويها،ثم يتخلص منها بعد ذلك ،لكي يتأتى له قول الشعر، وعلى هذا لا يمكن للشاعر أن يسلم من نهب ما لغيره عن وعي ،أو عن غير وعي.
وهذا الشكل من التناص،حتى إن حدث عند العرب القدامى ،على سبيل التقليد أو التأثر
غير الواعي،أو الاحتذاء الإيجابي، على سبيل المثاقفة، فقد صرف النقاد في التنقيب عنه جهدا كبيرا تحت طائلة رصد السرقات، إما من منطلقات أخلاقية ،حتى يظهروا صاحب الملكية،ويفضحوا القراصنة،أومن منطلق تهجمي على شعراء وصلوا إلى المجد،فأراد النقاد الانتقاص من قيمهم ومراكزهم التي بلغوها،كما حدث مع المتنبي ،وأبي تمام ،وأبي نواس وغيرهم. ومن أمثلة التناص المصنف قديما من ضمن السرقات،قول الأعشى (من المتقارب) ([16])
وَكَأسٍ شَرِبتُ عَلى لَذَّةٍ وَأُخرى تَداوَيتُ مِنها بِها
وقول أبي نواس وقد زاد وله فضل الزيادة([17])
دَع عَنكَ لَومي فَإِنَّ اللَومَ إِغراءُ وَداوِني بِالَّتي كانَت هِيَ الداءُ
وهنا تناص في الغرض الشعري(الخمريات) وكذلك في المعنى،حيث كلاهما وصف الخمرة بكونه الداء والدواء في آن واحد.
وكذلك قال النظار بن هاشم الأسدي(من الوافر):
يعف المرء ما استحيا بخير ويبقى نبات العود ما بقي اللحاء
وما في أن يعيش المرء خير إذا ما المرء زايله الحياء
ونسج أبو تمام على منوال معناها ومبناها قائلا(من الوافر) ([18]).
يَعيشُ المَرءُ ما اِستَحيا بِخَيرٍ وَيَبقى العودُ ما بَقِيَ اللِحاءُ
فَلا وَاللَهِ ما في العَيشِ خَيرٌ وَلا الدُنيا إِذا ذَهَبَ الحَياءُ
وقد قال بشار بن برد كذلك مثلهما(من الوافر)([19]).
يَعيشُ المَرءُ ما اِستَحيا بِخَيرٍ وَيَبقى العودُ ما بَقِيَ اللِحاءُ
إِذا لَم تَخشَ عاقِبَةَ اللَيالي وَلَم تَستَحيِ فَاِفعَل ما تَشاءُ
فالملاحظ أن التناص في الأبيات السابقة،تناص معنى،وتناص ألفاظ كذلك،ووزن وقافية لدرجة أننا
نقول سرقة ،واضحة وجلية.
وانطلاقا من مقولة (جوليا كريستيفا):"كل نص هو امتصاص وتحوبل لنصوص أخرى"()نأتي إلى مصطلح "المعارضات"في الشعر العربي القديم،والذي يعني سير الشاعر حيال شاعر آخر،والإتيان بمثل ماأتى به،كما حدث في محاكمة أم جندب الطائية،بين زوجها أمرئ القيس وعلقمة الفحل،لما وصف كل منهما فرسه ،على روي واحد وقافية واحدة،فقال أمرؤ القيس(من الطويل): ([20])
خَليلَيَّ مُرّا بي عَلى أُمِّ جُندَبِ نُقَضِّ لُباناتِ الفُؤادِ المُعَذَّبِ
حتى وصل إلى قوله:
فَلِلسَوطِ أُلهوبٌ وَلِلساقِ دُرَّةٌ وَلِلزَجرِ مِنهُ وَقعُ أَهوَجَ مُتعَبِ
ثم أنشد علقمة (من الطويل):
ذَهَبتَ مِنَ الهِجرانِ في غَيرِ مَذهَبٍ وَلَم يَكُ حَقّاً كُلُّ هَذا التَجَنُّبُ
إلى أن بلغ قوله:
فأدركهن ثانيا من عنانه يمرّ كمر الرائح المتحلب([21]).
الشعرية والتناص.
يتداخل مجال الشعرية والتناصية،لإحداث تناص بينهما، ذلك لكون "الشعرية تتخذ موضوعها في بلورة الوسائل التقنية الكفيلة بتحليل الآثار الأدبية،باعتبارها خطابا أدبيا تظهر فيه مبادئ تناسل لانهائية من النصوص"([22]).
ومن هذا المنطلق نجد أن الخطاب الأدبي هو ملتقى الشعرية بالتناصية،باعتبار أن الخطاب يحتاج إلى وسائل تقنية كفيلة بالتحليل من جهة،ومن الجهة الثانية يعتبر مظهرا لمتتالية غير منتهية من النصوص،وذلك من اختصاص (التناصية) التي من شأنها رصد النصوص الغائبة، المنتهية إلى النص الماثل، فالتناصية إذا عليها أن تجيب عن الأسئلة الآتية:
1. 1. ما هو النص من حيث بعده التاريخي التطوري،وليس الألسني الآني؟
2. 2. ما هي الوسائل الكفيلة بتحديد النص الغائب،واستحضاره ،في النص الماثل ؟
3. 3. ما سر التناسل اللانهائي للنصوص؟
كما على الشعرية أن تجيب على أسئلة هي الأخرى.
1. 1. ما هو الأدب وما هو الشعر؟
2. 2. ما هي الوسائل الكفيلة بتمييز مستويات وخصائص ومكونات النص الأدبي؟
وبالتالي تصبح الشعرية،كما رآها بول فاليري"دراسة للخصائص النصية وللمعطيات اللغوية،و اسما لكل إبداع أو تأليف حيث تكون اللغة في آن الجوهر والوسيلة"([23]) وهذه المفاهيم التي نراها قاسما مشتركا بين الشعرية والتناص تجعلنا نقول( باجتماعهما على الدوام) لانخراطهما"في عالم الأنساق الدالة ،عالم السيميوطيقا"([24])ومن ثم فإن الشعرية،لا تشتغل مع التناصية وحسب ،بل مع كل العلوم التي تشتغل على النص،الكلام،أو الخطاب الأدبي.
الهوامش:
[1] -ابن الخطيب التبريزي ،شرح المعلقات العشر المذهبات ،تح :د عمر فاروق،دار الأرقم،بيروت ،ص 193.
[2] - ينظر : الجاحظ ،البيان والتبيين ،تح: المحامي فوزي عطوي ،دار صعب 1968 ط1 بيروت ص 1/219.
والأصفهاني ،الأغاني،تح:سمير جابر،دار الفكر 1989 ط 2 ،بيروت،ص12/399.
2-أصادي:أخاتل وأخادع نزّعا: غريبة أكالئها:أراقبها أعرس:أنز وأقيم
سحيرا: وقت السحر (القوافي) أهبت:دعوت الآبدات: المتوحشات(القوافي الشاردة) أملته: سلكته الحريد :الكامل
1- حسين جمعة، م،س، ص158.
[5] - ينظر: ابن منظور،لسان العرب: مادة (ن ق ض)
[6] - الموسوعة الشعرية،المجمع الثقافي،الإمارات العربية، الإصدار الثالث،2003.
[7] - م،ن
(- م،ن
[9] - المصدر ،س.
[10] - المصدر،س،ن.
[11] - محمد عزام ،النص الغائب،ص 92.
[12] -القول للشاعر:راشد بن جمعة الحبيسي ،(الموسوعة الشعرية).م،س.
[13] - القول للشاعر: محمد توفيق م،ن
[14] - المتنبى،الديوان،تح :عبد الرحمن البرقوقي،دار الكتاب العربي ،بيروت،ص
[15] - ينظر: د محمد عزام ،النص الغائب،ص 128،129،120.
[16] - الموسوعة الشعرية.م،س.
[17] - ديون أبي نواس،م،ن.
[18] -ديوان أبي تمام، م،س.
[19] -ديوان بشار بن برد، م،س.
[20] -ديوان أمرئ القيس،م،س.
[21] -ينظر : محمد عزام النص الغائب،ص 144.
[22] - عثماني ميلود، شعرية تودوروف،م،س ،ص5
[23] - م،س،ص10.
[24] - م،س،ن،ص 5.
*- باحث في مجال النقد العربي المعاصر متحصل على الماجستير- جامعة سيدي بلعباس/الجزائر.