منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    المبحث الثاني : اتجاهات السيميائيات

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    المبحث الثاني : اتجاهات السيميائيات Empty المبحث الثاني : اتجاهات السيميائيات

    مُساهمة   الأحد ديسمبر 19, 2010 9:11 am

    [center] المبحث الثاني : اتجاهات السيميائيات
    أدى تطور السيميائيات وتعدد منابعها إلى ظهور عدد من التيارات أو الاتجاهات السيميائية. ويقصد "بالاتجاه" –في المستوى الاصطلاحي- أن ثمة تنظيما أو جماعة بشرية مكونة من أفراد تجمع بينهم أمور وخصائص معينة. وقد تحدث غيرُ واحد من الدارسين عن اتجاهات السيميولوجيا. ومن الواضح أن هؤلاء قد اختلفوا في تحديد هذه الاتجاهات، وذلك تبعا لاختلاف المرتكَزات المعرفية والخلفيات النظرية التي ينطلقون منها.
    لقد تحدث جورج مونان في كتابه (مدخل إلى السيميولوجيا) عن اتجاهين سيميائيين بارزين؛ أولهما "سيميولوجيا التواصل" (Sémiologie de communication)، وثانيهما سماه "سيميولوجيات الدلالة" (Sémiologies de la signification). وقد وقف الرجل عند كل منهما على حدة، معرفا به، وذاكرا أعلامَه البارزين.. ويقسم محمد السرغيني الاتجاهات السيميولوجية إلى ثلاثة أنواع رئيسة، هي : الاتجاه الأمريكي؛ ويمثله بيرس بامتياز، والاتجاه الروسي ممَثَّلا في الشكلانية الروسية ومدرسة طارتو، والاتجاه الفرنسي الذي عرف اختلافات جمة وزعته إلى مدارسَ عدةٍ. وخصص الدكتور حنون مبارك الفصل الرابع من كتابه "دروس في السيميائيات" بالحديث عن الاتجاهات السيميوطيقية الحديثة، حيث قسمها إلى سبعة اتجاهات بارزة كالتالي: سيميولوجيا سوسير، وسيميولوجيا التواصل، وسيميولوجيا الدلالة، وسيميوطيقا بيرس، ورمزية كاسّيرر، وسيميوطيقا الثقافة، والسيميوطيقا ومسألة المرجع. وسنكتفي في هذا المقام بالحديث عن اتجاهاتٍ أربعةٍ يبدو أنها أبرزُ الاتجاهات السيميائية وأشهرُها:
    أ) سيميوطيقا بيرس:
    كان بيرس فلكيا وعالِم مساحة الأرض (Géodesiste)، بحيث شارك في الندوة العالمية الأولى لعلماء الأرض التي انعقدت في باريس عام 1876. وقام في العام نفسِه بأبحاث في المرصد حول حساب الجاذبية. وكان –كذلك- منطقيا وفيلسوفا ذرائعيَ التوجه. وقد تحكمت طبيعة ثقافته في صياغة نظريته حول العلامة.
    ولفهم سيميوطيقا بيرس الفهم السليمَ، لا مناص من ربطها –حسب دولودال- بفلسفته التي تتسم بكونها استمرارية وواقعية وذرائعية. فهي استمرارية، لأنها تتعارض مع النزعة الواحدية (Monisme) والنزعة الثنـائية (Dualisme)؛ إذ تأخذ على الواحدية جمودَها ويقينيتها، وتذهــب –خلافا للثنائية- إلى أن الفكر ليس مَلَكة عارفة خارج الشيء المراد معرفتُه، وإنما هو سيرورة في الأشياء واستمرارية خلاقة معها. وهي فلسفة واقعية في معارضتها للنزعة الاسمية (Nominalisme) التي تذهب إلى أن الوقائع التي ينبغي الاهتمام بها هي تلك الكامنة وراء الإدراك، وأكد بيرس –في المقابل- أهمية الواقع الذي من شأنه أن يزودنا بمعرفة حقيقية. ومن هنا الطابع الاجتماعي والجدَلي لفلسفة بيرس. وهي أخيرا فلسفة ذرائعية (أوتداولية) ، لأن منهجها يُفْضي إلى وقائعَ عمليةٍ.
    وتقوم سيميوطيقا بيرس على المنطق والظاهِراتية (Phénoménologie) والرياضيات. والمنطقُ –بمعناه الدقيق- هو علم الشروط الضرورية المُوصِلة إلى الصدق، أما بمعناه العام فهو علم القوانين الضرورية للفكر؛ وبأسلوب آخر، هو علم الفكر الذي تجسده العلامات. إنه "السيميوطيقا العامة" كما يقول بيرس. والمنطق البيرسي هو منطق العلاقات الذي يعد الأساسَ والضامن للتصور الثلاثي للمَقُولات والعلامات. أما الظاهراتية، فهي الدراسة التي تصف خاصيات الظواهر في مقولاتها الثلاث. وقد استندت السيميوطيقا البيرسية إلى ظاهراتية متميزة. يقول دولودال: "إن ظاهرية بيرس لها كأصل ظاهرية كانط وليس ظاهرية هوسرل. ولكي يعطيها بيرس تمييزا عن ظاهرية كانط (وهيجل) فقد أعطاها اسم (الفانيروسكوب) -Phanéroscopie-، وفهمها وعرفها في حدود واقعيته، بدون استتْباع سيكولوجي، وذلك في خطابٍ وجهه إلى ويليام جيمس، باعتبارها "وصفا لما هو أمام الفكر أو في الوعي مثلما هو ظاهر في مختلف أنواع الوعي"، التي هي ثلاثة لا أقل ولا أكثر". كما تتأسس سيميوطيقا بيرس على فرضية مسماة "بالبروتوكول الرياضي" والتي تكون العلامة وَفْقَها ثلاثية. وقد سبق لبيرس أن بَرْهن على الطابع الضروري للثلاثية (Trichotomie)، ذلك بأنه لا يمكننا أن نفكر في العدد (1) دون أن نتصور في الوقت نفسه حده، ولْنُسَمِّه (2). لكن تصور (1) و(2) بوصفهما كيانين منعزلين يستلزم ثالثا من طبيعة أخرى. يقول بيرس : "يستحيل تكوين ثالث أصيل بتغيير الزوج ودون إدخال أي عنصر تختلف طبيعته عن طبيعة الواحد أو الزوج"، وهذا العنصر هو العنصر الثالث. فالثلاثية –إذاً- ضرورية وكافية في آن واحد؛ ضرورية منطقيا، وكافية تداوليا. ضرورية لبناء علاقات متناهية بيد أنها كافية؛ بمعنى أنها تسد حاجات الاقتصاد بواسطة الاختزال الممكن لأي عدد يتجاوز 3 إلى توليفات من 3.
    ويرى بيرس أن العلامات –كيفما كانت طبيعتها- يجب أن تعالَج في إطارها المنطقي. ويذهب إلى أن أي تحليل لابد أن يتم عن طريق العلامات؛ لأنها –من جهة- تمكننا من التفكير والتواصل مع الآخرين، ومن جهة أخرى تمكننا من إعطاء معنىً لما يقترحه علينا الكون. والعلامات – في نظر بيرس- متساوية من حيث الأهميةُ، لذا عُنِيَ باللسانية منها وبغير اللسانية.
    تركز سيميوطيقا بيرس على ثلاثة أبعاد رئيسة، هي : البعد النحوي، ويسميه تشارلز موريس (Ch. Morris) "البعد التركيبي" أو "النظْمي"، والبعد الدلالي أو الوجودي، والبعد التداولي أو المنطقي. وكل واحد منها يتضمن ثلاثَ علاماتٍ. وفيما يأتي بيانُ ذلك:
    -أ- البعد الأول (التركيبي) : وهو بعد الممثل (Représentamen) منظوراً إليه في علاقته مع ذاته. والممثل –باعتباره علامة رئيسة- يتفرع إلى ثلاث علامات فرعية (Sous-signes) تبعا لعلاقته بالمقولات الفانيروسكوبية الثلاث (الأولية / Priméité والثانوية / Secondéité والثالثية / Tiercéité). وذلك على النحو التالي :
    * العلامة الوصفية (Qualisigne) : وهي الصفة التي تشكل علامة. ولا يمكن أن تشتغل إلا وهي متجسدة –ماديا- في العلامة الفردية. ومثال العلامة الوصفية اللون الدال على شيء مّا.
    * العلامة الفردية (Sinsigne) : ويعرفها بيرس بأنها "شيء أو حدث موجود وواقعي في شكل علامة"، كما أنها "موضوع أو حدث فردي". ويمكن أن نمثل لهذه العلامة بالنصْب التَذكاري أو بعَرَض (Symptôme) داء معين.
    * العلامة العُرْفية (Légisigne) : هي قانون أو قاعدة أو مبدأ عام في شكل علامة. وتعد أنساق الكتابة الخاضعة لقواعد الصرف والنحو علامات عرفية.
    -ب- البعد الثاني (الدلالي): وهو بعد الموضوع (Objet). ويتعلق الأمر هنا بالعلامة منظورا إليها في علاقتها بموضوعها الذي تحيل إليه. ويتكون هذا البعد من ثلاث علامات فرعية كالآتي :
    * الأيقونة (Icône): وهي تشبه الموضوع الذي تمثله. يقول حنون مبارك: "إن الأيقونة صورة تَستنسخ نموذجا". والصورة الفوتوغرافية مثالٌ لهذا النوع من العلامات.
    * القرينة (Indice): وهي تنسج علاقة مباشرة أو ملاصِقة مع موضوعها. ومثالها الدخان الذي هو أَمَارة على وجود النار.
    * الرمز (Symbole) : وهو يحيل إلى موضوعه بفضل قانون أو أفكار عامة مشتركة. وتعد كل علامة تعاقُدية (أو اصطلاحية) رمزا. والرمز –باعتباره علامة فرعية ثالثة لبعد الموضوع- نوعان؛ أحدهما مجرد (Abstrait)، وهو "شكل منحلّ (Dégénéré) عن الرمز الذي ليس لموضوعه إلا طابع عام". والآخر متميز (Singulier)، وهو "شكل آخر منحل عن الرمز الذي يكون موضوعه فردا موجودا، بحيث لا يعني هذا الموضوع إلا الطبائع التي يملكها هذا الفرد".
    -جـ- البعد الثالث (التداولي) : وهو بُعْد المؤول (Interprétant)، ويخص الأمر هنا العلامة منظورا إليها في علاقتها بالمؤول. ويتفرع هذا البعد إلى مؤول أول ومؤول ثان ومؤول ثالث تبعا لنوعية العلاقة التي يعقدها مع المقولات الثلاث، وذلك كما يأتي :
    * الفِدْليل (Rhème) : ويترجمه حنون مبارك "بالخبر"، والسرغيني "بالمسنَد إليه"، ويستعمل آخرون مصطلح "سمة" مقابلا للفظ الأجنبي (Rhème)، ويقتصر بعض الباحثين على ترجمة هذا المصطلح ترجمة حرفية "رِيم".. ويقصد بالفدليل في السيميوطيقا البيرسية علامة الإمكانية الكيفية (Possibiqualitative)؛ أي إنه مُدْرَك باعتباره يمثل هذا النوع أو ذاك من الموضوع الممكن. ويمكن للفدليل أن يمدنا بإخبار (أو معلومة)، إلا أنه لا يؤوَّل بوصفه شيئا يمدنا بإخبار ما.
    * العلامة الإخبارية (Dicisigne): وهي تخبر وتعطي معلومة تتعلق بموضوع العلامة. ويعرفها دولودال بأنها "العلامة التي تكون بالنسبة لمؤولها علامة وجود واقعي: إنها تقدم إعلاما يتعلق بموضوعه". ويمكن أن نمثل لهذه العلامة بالجملة البيانية.
    * البرهان (Argument) : وهو علامة تشكل بالنسبة إلى مؤولها علامة قانون. ولو لم يكن للاستدلال (Raisonnement) بعد سيكولوجي لسماه بيرس به. ولأن البرهان "ثالثي بسبب مبدإ "تراتبية المقولات"، فإنه التعبير المختَصَر للعلامة التامة : أي العلامة العرفية الرمزية البرهانية".
    ويمكن أن نلخص الأبعاد الثلاثة المذكورة، وتفريعاتها المترتبة عن علاقتها بالمقولات الثلاث في الجدول أسفله :

    الأولية
    الثانوية
    الثالثية
    1
    العلامة الوصفية
    العلامة الفردية
    العلامة العرفية
    2
    الأيقونة
    القرينة
    الرمز
    3
    الفدليل
    العلامة الإخبارية
    البرهان

    مما سبق، يتبدى لنا أن العلامة في سيميوطيقا بيرس علاقة ثلاثية بين ثلاثة عناصر أو علامات رئيسة (الممثل-الموضوع-المؤول)؛ أي:
    الموضوع
    المؤول الممثل
    ولا يمكن أن تقوم العلامة إلا بوجود هذه العناصر الثلاثة مجتمعة. وهذا ما أسْماه بيرس "السيميوزيس" (Semiosis). وكل علامة من العلامات الثلاث المتقدمة ثلاثية الطابع. معنى هذا أن ثمة تسعَ علامات فرعية (انظر الجدول السابق). ومن الناحية النظرية، نحصل على 33؛ أي على 27 صنفا من العلامات الممكنة. إلا أن بيرس اختصرها في عشرة أصناف، هي: العلامة الوصفية الأيقونية الفدليلية (الشعور بالاحمرار مثلا)، والعلامة الفردية الأيقونية الفدليلية (رسم بياني معطى مثلا)، والعلامة الفردية القرينية الفدليلية (الصراخ التلقائي مثلا)، والعلامة الفردية القرينية الإخبارية (دوارة الهواء مثلا)، والعلامة العرفية الأيقونية الفدليلية (رسم بياني عام مثلا)، والعلامة العرفية القرينية الفدليلية (اسم الإشارة مثلا)، والعلامة العرفية القرينية الإخبارية (صراخ في الزقاق مثلا)، والعلامة العرفية الرمزية الفدليلية (اسم عام مشترك مثلا)، والعلامة العرفية الرمزية الإخبارية (التحليل القياسي مثلا)، والعلامة العرفية الرمزية البرهانية (العلاقة التضمينية مثلا). ويترتب عن ربط العلامات بعضها ببعض 66 نوعاً من العلامات السيميائية... ولكن الملاحَظ أن الاهتمام الأكبر قد انصب على الثلاثية الثانية المشكلة للبعد الدلالي؛ أي على العلامات الفرعية التالية : الأيقونة والقرينة والرمز.
    خلاصة القول إن سيميوطيقا بيرس "ليست مجرد أدوات إجرائية يمكن استثمارها في قراءة ظواهر معينة، لكنها بالإضافة إلى ذلك تصور متكامل للكون، الذي هو سلسلة لا متناهية من الأنساق السيميائية. إذ يستحيل فصل العلامة عن الواقع، لأن هذا الأخير عبارة عن سلسلة من العلامات التي لا تنفك تحيل على علامات جديدة تدرج ضمن سلسلة أخرى من الإحالات. وهكذا دواليك".

    ب) سيميولوجيا سوسير :
    يعد سوسير أبا اللسانيات الحديثة. ذلك بأنه أنفق جزءا غير يسير من حياته في دراسة اللغة، وخلف دروسا قيمة ورائدة في هذا الشأن. وقد طبع هذا التوجه اللساني نظرية سوسير العامة حول العلامة التي أطلق عليها اسم (Sémiologie).
    لم يتناول سوسير السيميولوجيا إلا عَرَضًا في فترة لم يشق فيها البحث اللساني طريقه بَعْدُ. وعليه، لم يكن بوُسْع هذا العلم الجديد أن يتبلْور بعدُ باعتباره مجالا معرفيا مخصوصا، إذِ اقتصر على تقديم تصور عام لهذا العلم وموضوعه ووظيفته وعلاقته باللسانيات.
    إن السيميولوجيا السوسيرية تعنى بعموم العلامات في نطاق المجتمع. وهي بذلك ظاهرة سوسيولوجية. كما أنها فرع من علم النفس العام. ويبدو التأثير السيكولوجي في نظرية سوسير واضحا في تعريفه للعلامة باعتبارها كيانا نفسيا قوامه عنصران يرتبطان –جدليا- وَفْقَ علاقة اعتباطية. وقد ركز سوسير –في المحل الأول- على اللسانيات في بناء نظريته حول العلامة، بحيث استمد العديد من مبادئه ومفاهيمه السيميولوجية من المجال اللساني.
    إن العلامة اللغوية هي محور مشروع سوسير السيميولوجي. وقد عمل تلاميذه (مثل بويسنس) على المضي قُدُماً في هذا المشروع العام تَحْدوهم الرغبة في إنجاز نظرية سيميائية تَمْتََح أساسا من الطروحات اللسانية، خاصة وأن الدراسات اللغوية في تلك الفترة كانت في أوْج عطائها وذُروة تطورها. وقد ذهب أولئك التلاميذ بنظرية سوسير مذاهبَ شتى، من ذلك ما ذهب إليه بارث في حديثه عن علاقة السيميولوجيا باللسانيات.
    وتقوم العلامة –حسب سوسير- على ركنين متضايفين، هما : التصور/المدلول والصورة السمعية/الدال. وتعتبر العلاقة بينهما علاقة اعتباط، ودليله في ذلك تعدد الأسامي المسمية للمسمى الواحد. ويَستثني من هذه العلاقة أمرين؛ المحاكيات (Les onomatopées) وبعض صيغ الندبة والتعجب. كما أن سوسير أهمل علاقة العلامة بالواقع/المرجع (Référent)، وحدد أهمية العلامات انطلاقا من العلاقات الاختلافية والتعارضية على مستوى تجاور الدالات والمدلولات.
    وبالإضافة إلى العلامة الاعتباطية، تحدث سوسير عن العلامة الرمزية/العرفية المتسمة بخاصيات معينة. يقول: "ومن خاصية الرمز ألا يكون أبدا اعتباطيا في سائر وجوهه؛ فهو ليس خاليا ولا فارغا من كل محتوى مادي. إذ لا تزال فيه بقيةٌ من علاقة طبيعية بين داله ومدلوله. فالرمز الذي يشير إلى العدالة... لا يمكن أن نستبدله بأي رمز آخر كالعربة مثلا".
    وعلى الرغم من الطابع الثنائي للدليل، فإننا عندما نطلق العلامة ينصرف ذهننا مباشرة إلى جانب الدال فحسب. يقول سوسير: "فنحن نطلق لفظ "العلامة" على تركيب التصور والصورة السمعية. إلا أنه بوجه عام جرت عادة استخدام هذا المصطلح من حيث إنه يقصد به الصورة السمعية (أو الدال) وحْدَها، كما في لفظ شجرة ((ARBOR. وقد ننسى أنه إذا كان هذا اللفظ (ARBOR) يسمى علامة، فذلك راجع إلى كونه يحمل تصورا «للشجرة» حتى إن المعنى المحسوس أصبح يقتضي الفكرة الكلية".
    ومهما كان الأمر، فقد أسهم سوسير –بشكل كبير- في إرساء أسس السيميائيات الحديثة، ورسم صُواها البارزة. وكان لأفكاره واجتهاداته أثر كبيرٌ فيمن تلاه من السيميولوجيين واللسانيين.
    جـ) سيميولوجيا التواصل :
    بالنظر إلى أهمية التواصل (Communication) في الحياة الإنسانية، نشأ اتجاه في السيميائيات يعنى -أساسا- بالوظيفة الخاصة بالبنيات السيميوطيقية (أي التواصل). يقول ميتز : "تقترح سيميولوجيا التواصل –مبدئيا- دراسة اللغات التي أَسْميتها في موضع آخر "المتخصصة" (Spécialisés)؛ أي دراسة عدد من الحقول حيث اللغةُ والسنن/الشفرة (Code) يختلطان مؤقتا، قبل أن يتقلص العمل الاجتماعي للغة كلها –عمليا- إلى سَنَن واحد". ومن رواد هذا الاتجاه إيريك بويسنس ولويس برييطو..
    يرى بويسنس أن بالإمكان تعريف السيميولوجيا بوصفها دراسة طرق التواصل، أي دراسة الإواليات (Mécanismes) المستخدَمة لإحداث التأثير في الغير، والمعترَف بها -بتلك الصفة– من قبل الشخص الذي نتوخى التأثير فيه. إذاً، فعنصر التواصل هو الموضوع الرئيس في هذه السيميولوجيا، وخاصة "التواصل الإنساني".
    ويرى برييطو أن استعمال العلامات هو –وحده- الذي يحدد التواصل؛ بحيث يمكن الحديث عن فعل تواصلي أو فعل سيمي في كل لحظة يحاول فيها مرسِل (Distinateur) –وهو في طور إنتاج علامة ما- إمداد مرسَل إليه (Distinataire) بأَمَارة أو إشارة معينة (Indication). ويميز برييطو بين أمارات ثلاثٍ كالآتي:
    * الأمارات العفوية: مثل لون السماء الذي ينْبئ –بالنسبة إلى صياد السمك- بحالة البحر في اليوم الموالي.
    * الأمارات العفوية المغلوطة: مثل اللُّكنة التي ينتحلها متكلم ما رغبة منه في إيهامنا بأنه أجنبي.
    * الأمارات القصدية: مثل علامات المرور. وتدعى هذه الأمارات علامات (Signes).
    وموضوع السيميولوجيا –في نظر برييطو- هو العلامات القائمة على القصدية التواصلية. ولهذا سميت هذه السيميولوجيا "بسيميولوجيا التواصل". وهي حلْقة مهمة في سلسلة تطور السيميائيات الحديثة، نظرا إلى أهمية موضوعها ومجالها.
    د) سيميولوجيا الدلالة :
    لما كانت الأشياء تحمل دلالات وكانت للدلالة أهمية خطيرة في الواقع، فقد نشأ في مجال السيميائيات تيار يبحث في هذا الأمر؛ وهو تيار يعزى إلى الفرنسي رولان بارث الذي أوضح أن جانبا هاما من البحث السيميولوجي المعاصر مرده –بدون انقطاع- إلى مسألة الدلالة.
    تؤكد التجربة أن –بالإمكان- إنتاج الدلالة وتحقيق فعل التواصل بواسطة الأنساق السيميولوجية اللغوية وغير اللغوية. ولعل هذا ما حذا ببارث إلى أن يُسْنِد مهمة التواصل إلى أنساق اللغة وإلى الأشياء (Choses) على حد سواء. ويرى بارث أن اللغة هي مؤول كل الأنساق أيا كان نوعها.
    وإذا كان سوسير يستخدم مصطلحات "العلامة" (Signe) و"الدال (Signifiant) و"المدلول" (Signifié)، فإن بارث قد استعمل –مكانَها- مصطلحات "الدلالة" (Signification) و"التعبير" (Expression) و"المحتوى" (Contenu). ويقسم بارث –في مقال "عناصر السيميولوجيا" الصادر عام 1964- الدلالة إلى دلالة حقيقية تعيينية (Dénotation) ودلالة مجازية إيحائية (Connotation). كما قلَب الرجل نفسُه المعادلة السوسيرية الشهيرة فيما يخص طبيعة علاقة السيميولوجيا باللسانيات.
    ولم يفلت الطرح البارثي من سهام النقد، إذ وجهت إليه عدة انتقادات من قبل أنصار سيميولوجيا التواصل الذين عدوا ما أتى به بارث مجرد تجلٍّ بسيط. وهذا لا ينقص من قيمة جهود بارث في دراسة الدلالة والأنساق السيميوطيقية. وقد واصل تلاميذ بارث وآخرون السير في هذا الاتجاه، وقدموا أبحاثا ودراسات من الأهمية بمكانٍ.
    المبحث الثالث : مجالات تطبيق السيميائيات
    يطبَّق المنهج السيميائي في مجالات متعددة ومتنوعة، ويستعمل في معالجة العلامات اللغوية (النص الشعري مثلا) وغير اللغوية (اللوحة التشكيلية مثلا). ولا شك في أن الدارسين الغربيين قد حازوا قصب السبق والتفوق في هذا الشأن. يقول بيرس في إحدى رسائله إلى اللايدي ويلبي (Lady Welby) مشيرا إلى جدارة المنهج السيميوطيقي وصلاحيته لمقاربة مختلف الأشكال العَلامية: "لم أستطع أبدا دراسة أي شيء -رياضيات، أخلاق، ميتافيزيقا، جاذبية، دينامية الحرارة، بصريات، كيمياء، علم التشريح المقارَن، علم الفلك، علم النفس، صوتيات، اقتصاد، تاريخ العلوم، لعبة الورق، رجال ونساء، خمور، قِياسة –إلا وَفْق الدراسة السيميوطيقية".
    وقد وظف كريستيان ميتز المنهج السيميائي في دراسة السينما؛ أي الأشرطة السينمائية والأفلام باعتبارها علامات سمعية-بصرية. وصدرت له في هذا الصدد مجموعة من الكتابات والدراسات؛ من ذلك كتابه الهام الموسوم ب"Essais sur la signification au cinéma" والذي يقع في جزأين اثنين. وقد تحدث فيه –بإفاضةٍ- عن الخُدَع السينمائية، وعالجها معالجة سيميولوجيةً، وقسمها إلى ثلاثة مستويات، هي: مستوى الكاميرا (التقاط الصورة)، ومستوى المشهد السينمائي (عمل الممثلين)، ومستوى تركيب الفيلم. كما أنجز ميتز عملا أكاديميا أكثر تنظيرا في السيميولوجيا، وهــو" Langage et cinéma" الذي نُشر في باريس عام 1971. وقد استند فيه إلى معارفه النظرية حول السينما الروائية. وللرجل دراسة أخرى بعنوان (Le signifiant imaginaire-Psychanalyse et cinéma)، صدرت عام 1977. وفي كتابه "Essais sémiotiques"، تحدث ميتز عما أسْماه "سيميولوجيا السينما"... فهذه الدراسات وغيرُها تؤكد أن ميتز رائد في تجريب المنهج السيميائي في دراسة السينما. وقد اعتبرته برنارد توسان "مؤسس سيميولوجيا السينما". ومما قاله الرجل في هذا المضمار: "السيميولوجيا السينمائية جد حديثة، لكي تضطلع بعدة تطبيقات في كل مرة، جزء برنامجها الذي يعنى ببلورة نظام المكونات الفيلمية الكبرى، يبدو أنه قد اكتمل لكي نتمكن من عرض تطبيقه على الشريط المصور لفيلم بكامله".
    وبعد ميتز، تطورت الأعمال السيميولوجية المتمحورة حول دراسة السينما، وبلغت شأوا بعيدا. وقد ساعدها في ذلك مجلات كثيرة، منها مجلة (ça) الباريسية التي كان لها الفضل في نشر عدد من الأبحاث والمقالات في هذا الاتجاه.
    وطُبق المنهج السيميائي في مجال دراسة اللوحات الإشهارية والمُلْصَقات. وذلك بالنظر إلى التطور الكبير الذي شهده الإشهار، وإلى قابليته الواضحة للمقاربة السيميولوجية. تقول توسان: "الإشهار بالرغم من مناهِضيه (باسم إيديولوجيا شبه يِسارية أو نظرة قِـيمية لأشكال التعبير)، سوف يصبح الوسيلة الكبرى للتعبير الأيْقوني والسمعي –البصري في عصرنا هذا، ومجال استثمار كبير يضاهي الاستثمارات الخاصة بكاثيدرائيات العصر الوسيط".
    ومن الدارسين البارزين في هذا الميدان رولان بارث الذي كتب مجموعة من الأبحاث في معالجة الملصقات واللوحات الإشهارية. ومن ذلك دراسته الموسومة "ببلاغة الصورة" (Rhétorique de l'image) التي حلل فيها صورة إشهارية لشركة بانزاني (PANZANI) المختصة في صناعة المعجونات. وهو بذلك لا يسعى إلى "تأسيس علم لتحليل الإشهار، وإنما يسعى بصفة عامة إلى وضع "بلاغةٍ للصورة" كما يدل على ذلك عنوان الدراسة".
    وبالإضافة إلى بارث، تناول جورج بينينو (G. Peninou) الإرسالية الإشهارية، ودرسها في كتابه "Intelligence de la publicité : étude sémiotique" الصادر عام 1972. واهتم بهذا الموضوع كذلك جوردان (Jourdain)، ولابروز (Laprose)، ودورون (Durand) الذي يعد "أكبر منظِّر معاصر للأبحاث السيميولوجية حول الإشهار".
    لقد ظهرت مجموعة من الدراسات السيميولوجية في القصة المصورة (Band dessinée) بوصفها شكلا أدبيا موجها إلى الأطفال بصورة رئيسة. ويعد بيير فريزنولت دورييل (P. F. Deruelle) رائدا في هذا المجال وذلك بأطروحته الجامعية التي أنجزها عام 1970، وصدرت عن دار (Hachette) الفرنسية عامين بعد ذلك.
    واستُعمل المنهاج السيميائي في فن الرسم وفي قراءة اللوحات التشكيلية، وذلك مع أوبيرداميش (E.Damish) وجون لويس شيفر (J.L. Schefer) ولويس مارتان (L. Martin).. واستعمل كذلك في قراءة الصور الفوتوغرافية، وفي دراسة المسرح كما عند هيلبو. وطَبق بعضهم السيميولوجيا في مجال الموسيقى، وظهرت كتابات ومقالات قيمة في هذا الشأن، وكانت مجلة (Musique en jeu) المَحْضَن الأول للدراسات السيميولوجية الموسيقية عامي 1970 و1971م. إلا أنه "ليس من السهل تأسيس السيميائية الموسيقية؛ لأنها لا تعتمد فقط على المادة الموسيقية، ولكن أيضا على المادة الصوتية الموسيقية".
    يتعلق كل ما سبق ببعض العلامات غير اللسانية التي عولجت معالجة سيميائية. أما العلامات اللسانية، فقد حظيت باهتمام أعداد كبيرة من الباحثين. وهكذا، توسل كلود بريمون (C. Bremond) بالمنهج السيميائي في دراسة الحكاية في كتابه "Logique du récit"، وذلك تحت تأثير الشكلاني الروسي فلاديمير بروب (V.Propp) الذي احتفل كثيرا بدراسة الأدب الفولكلوري. في حين طبق تودوروف هذا المنهج في مجال الرواية، ووظفته كريستيفا في تحليل الأشعار وقراءتها... ودرس جون بودريار (J. Baudrillard) في كتابه Système des objets)) بشكل سيميوطيقي جداً دلالةَ الأشياء... الخ.
    المحور الثالث : السيميائيات : خصائصها وعلاقاتها بالمجالات الأخرى ونقدها.

    المبحث الأول : خصائص المنهج السيميائي
    بالرغم من تعدد جوانب المنهج السيميائي واتساع أصوله وفصوله، إلا أنه يحتفظ بخصائصَ ومميزاتٍ عامة تحكم مختلف عناصره، وتطْبع سائر أدواته الإجرائية والمِنهاجية. ويمكن أن نوجز خصائص هذا المنهاج في النقط الآتية:
    * إنه منهج داخلي محايِث (Immanent) : أي يركز على داخل النص، ويهدف –بالأساس- إلى بيان شبكة العلاقات القائمة بين عناصر الدال من حروف وكلمات وعبارات. وذلك من منطلق أن العلاقة التي تقوم بين العمل الأدبي ومحيطه الخارجي لا ترقى إلى مستوى تأسيس معنى عميق للنص.
    ويرى لويس بانيي (L. Panier) أن المحايثة –باعتبارها مبدأً- طريقة في التحليل يُؤْتَى بها لمراعاة انقسام النص إلى محتوىً (معنى) وتعبيرٍ (مبنى). والواقع أن هذا المبدأَ مستخلصٌ من الدراسات اللسانية، إذ تحدث سوسير عن مبدإ الاستقلالية، ووظف هلمسليف في أبحاثه مبدأ المحايثة. على اعتبار أن موضوع اللسانيات هو الشكل، لذلك لا حاجة إلى الاستعانة بما لا يرتبط بالشكل؛ ومن ثم وجب إقصاء كل واقعة "خارج لسانية"، لما له من انعكاس سَلبي على تجانس الوصف اللغوي.
    ويبدو أن مبدأ المحايثة في غاية الوضوح والبساطة، بيد أنه يثير إشكالات نظرية ونقدية عدة. من ذلك ما يثيره من إشكالات مرتبطة بمكان وجوده؛ إذ لم يقمِ الاتفاقُ حول ما إذا كانت المحايثة موجودة داخل البنيات النصية، أم إنها لا تتعدى الوجود الذهني النظري... إن الأمر –حسب غريماص- شبيه بالإشكال المتعلق بمبدإ "الديالكتيك"؛ إذ إنه بالرغم من التسليم بوجود هذا المبدإ، يظل السؤال واردا حول فضاء وجوده: هل يقع داخل الأشياء أم داخل الأذهان؟
    * إنه منهج بنيوي: ذلك بأنه يستمد الكثير من مبادئه وعناصره من المنهج البنيوي اللساني. يقول صاحبا "دليل الناقد الأدبي": "إن التحليل السيميولوجي تَبَنى الإجراءات والمنهجية البنيوية التي أرْساها سوسير". ويظهر هذا –بجلاء- من خلال استقراء بعض المصطلحات الفاعلة في التحليل السيميائي، مثل : البنية (Structure)، والمستوى السطحي (Le niveau de surface)، والمستوى العميق (Le niveau de profond)، والنسق (Système)، والعلاقات (Relations)... وهذه كلها مصطلحات ازدهرت مع النقد البنيوي الذي يوصي بالاهتمام بداخليات النص.
    * إنه متميز الموضوع : فإذا كانت اللسانيات تعنى بالقدرة الجُمْلية؛ أي بتوليد الجملة بوصفها أكبر وحدة لغوية، فإن السيميائيات –وخاصة السردية (S. Narrative) – تهتم بالقدرة الخَطابية؛ أي ببناء الخطاب (Discours) وتنظيمه... ولعل هذا ما دفع بعض الدارسين إلى وسْم السيميائيات بصفة "النصية".
    المبحث الثاني : علاقة السيميائيات بالمجالات الأخرى (اللسانيات خاصة).
    مما لا شك فيه أن للسيمائيات علاقات بحقول معرفية أخرى. إذ سبق لنا أن رأينا –مع سيوسير- العلاقة القوية بين علم السيميولوجيا وبين السيكولوجيا من جهة، وبينه وبين السوسيولوجيا من جهة ثانية. كما أن للسيميولوجيا روابطَ مع أنواع أخرى من مجالات التفكير، حيث يقول جان كلود كردان: "من المؤكد أن علم السيميولوجيا هو التقْليعة الراهنة، إذ لا تمر شهورٌ دون أن نعثر على إحالات جديدة تشير إلى العلائق التي يقيمها مع شتى أنواع مجالات التفكير التي كانت تبدو إلى حد الآن في غير حاجة إليها: علم النفس، النقد المسرحي، التحليل الأيقوغرافي (علم الصور)، دراسة الأساطير، بل حتى تقنيات التوثيق...". ويقول الدكتور أنطوان طعمة: "إن الرموزية –أي السيميائيات- تلتقي مع علم يختص بالتفسير والتأويل هو الـHerméneutique. واللقاء مخْصب جدا". وللسيميائيات كذلك علاقات واضحةٌ بالمنطق والنحو والبلاغة وغيرها من العلوم. وما يُهِمنا في هذا المبحث هو أن نقف وقفة متأنية عند علاقة السيميائيات باللسانيات خاصةً.
    لقد أوْمَأ الدارسون إلى طبيعة هذه العلاقة، ودرسوها. وذكر بعضهم أن السيميائيات لم تكن متميزة من النظرية العامة للغة، بل كانت تابعة لها. ولكن –مع توالي الأيام- تطورت السيميائيات، واستحالت إلى علم قائم بذاته، وذلك من خلال "القيام بجمع شمْل العلوم والتحكم فيها، وإنتاج أدوات معرفية لمقاربة مختلف الظواهر الثقافية باعتبارها أنساقا تواصلية ودلالات".
    لقد ذهب سوسير إلى أن اللسانيات جزء من علم عام هو "السيميولوجيا". يقول: "وليس علم اللغة إلا جزءا من هذا العلم العام. وإن القوانين التي ستَكشف عنها السيميولوجيا ستكون قابلة للتطبيق على علم اللغة". ويقول في موضعٍ آخر: "أما بالنسبة إلينا، وخلافا لمن سبقنا، فنعتبر أن المسألة اللسانية هي قبل كل شيء مسألة سيميولوجية".
    وفي المقابل، يرى بارث أن اللسانيات أصل والسيميولوجيا فرع. يقول إن "اللسانيات ليست جزءا من النظرية العامة للعلامات... إن السيميولوجيا جزء من اللسانيات".
    وتجْدُر الإشارة إلى أن الدكتور محمد السرغيني في مؤلَّفه "محاضرات في السيميولوجيا" قد وقع في خلط واضح حين قال: "اعتبر سوسير اللغة أصلا والسيميولوجيا فرعا، وجعل إحداهما مرتبطة بالأخرى ارتباطَ عام بخاص". وكرر الخلط نفسَه حين قال في مكان آخر : "يفهم بارث السيميولوجيا إذن على أنها علم عام تعتبر الألسنة جزءا منه". فمن الواضح جدا أن الباحث قد نسب إلى سوسير ما حقه أن يُنْسَب إلى بارث، وأنه قد نسب إلى بارث ما حقه أن ينسب إلى سوسير !.
    ولجاك دريدا (Jacques Derrida) رأيٌ آخرُ في هذا المضمار. فهو –وإنْ اعترف بجهود بارث –دعا إلى تجاوز المقولة البارثية المذكورة آنفاً، وذهب في كتابه الشهير "في النحوية" إلى أن "الغراماتولوجيا" (Grammatologie) –الكتابة باعتبارها أثراً – هي الأصل الذي سيحل محل السيميولوجيا واللسانيات. لأن الغراماتولوجيا –كما يقول دريدا- "علم لم يتحقق بعدُ، ولن يستطيعَ أحد أن يقول ما هو، لكن له حقا في الوجود... والألسُنية ستكون مجرد جزء من ذلك العلم العام، وإن القوانين التي تكتشفها الغراماتولوجيا ستنسحب على الألسنية".
    المبحث الثالث : نقد السيميائيات.
    لم تَسْلَم السيميائيات من عيوبٍ ومآخذَ، شأنها في ذلك شأن سائر المناهج النقدية. وقد عرض تودوروف ودوكرو في معجميهما المشترَك أبرز المآخذ والانتقادات الموجهة إلى التحليل السيميائي.
    ينظر المتحمسون للسيميائيات إليها باعتبارها "علمَ العلوم". لكن دارسين آخرين ينظرون إليها نظرة مخالِفة. إذْ عدها بارث علما غيرَ كافٍ، وأكد تودوروف أنها ماتزال في طور تأسيس أصولها المعرفية على أرضية ثابتة، وأنه –رغم كل ما بذل من مجهود- لا يمكن الحديث عن بناء علمي متكامل. بل إن السيميائيات "تظل مجموعة من الاقتراحات أكثر منها كيانا معرفيا قائما على أساس متين". وفي السياق نفسِه ، يرى مارسيلو داسكال (Marcelo Dascal) أن السيميائيات ما تزال في مرحلتها الطفولية ولم تتحول بعدُ إلى علم قائمٍ على تجانُس منهجي ومعرفي، حيث يقول: "إن السيميولوجيا ما تزال في مرحلة ما قبل الأنموذج من تطورها كعلم".
    ومن المآخذ المسجلة على السيميائيات أنها غيرُ مستقلة بذاتها، بل متوقفة –في وجودها- على عدة علوم؛ وخاصة اللسانيات التي حاصرتْها من كل جهة، وهيمنت على إوالياتها الإجرائية. واعتبر بعضُهم التحليل السيميائي خليطا من علوم اللغة والنحو والبلاغة. وسبق لسوسير أن أكد انْبِناء السيميولوجيا على أساسيات علم النفس الاجتماعي...إلخ
    عِلاوة على هذا النقد الموجه إلى المنهج السيميائي من الناحية النظرية، هناك انتقادات أخرى توجه إليه من الجانب التطبيقي. ومن ذلك أنه مغْرق في التجريد والمنطق، خاصة مع مفهوم "المربع السيميائي" (Carré sémiotique).
    كما أن جل الدراسات السيميائية تنهج نهجا شكلانيا مستبعدا المحددات الاجتماعية والثقافية وغيرَها. وعليه، تقترب هذه الدراسات جدا من المقاربة البنيوية، خاصة وأنها كثيرا ما تستخدم المصطلحات السوسيرية نفسَها.
    إن المنهج السيميائي طُبق –بكثرةٍ- في دراسة العلامات البسيطة، في حين إن العلامات المعقدة والمنطوية على قدْر كبير من الجمال لم تنل حظها الأوفى من المقاربة السيميائية. يقول الدكتور عادل فاخوري: "بقيت الأبحاث السيميائية متوقفة عند تفسير العلامات البسيطة. والحال أن العلامات التي تتوفر فيها درجة عالية من الفن والجمال هي في كثير من الأحيان، وخصوصا في الأقاويل الشعرية واللوحات والأفلام والفيديوات. وعلى العموم في الأنساق المتعددة الوسائط، ذات تركيب يبدو أنه يخضع لقواعد منضبطة. وحتى الآن، على حد علمنا، لم يَجْرِ تحليل هذه التراكيب وتقنينها".
    ثم إن المنهج السيميائي يُسْقَط في كثير من التجارب النقدية بشكل آلي على جميع النصوص دون مراعاة خصوصية كل نص وطبيعته والجنس الأدبي الذي ينتسب إليه.
    ومهما قيل في نقد المنهج السيميائي وتَعداد نواقصه، فإنه ما يزال يحظى بمكانة مرموقة في المشهد النقدي المعاصر الذي يعج بزَخَمٍ من المناهج. ويمكن لمستخدِمه أن يحقق نتائجَ مهمةً إن أحسن توظيفه(*).
    خاتمة :
    تلكم باختصار لمحة عجلى إلى المنهج السيميائي الذي تبلور في البيئة الثقافية الغربية، واستطاع –نتيجة لاعتبارات عدة- أن يقتحم عددا من الثقافات؛ ومنها الثقافة العربية التي استوردت –في فترة من الفترات- هذا المنهج ووظفته في معالجة الظاهرة الأدبية... ورغم كل ما قيل عنها، فإن السيميائيات –كغيرها من المناهج- لها ما لها وعليها ما عليها.

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 08, 2024 8:34 am