الشاهد الشعري في مبحثي الفصاحة والبلاغة (1/3
المبحث الأول: الفصاحة
تقديم:
الحق أن الشاهد الشعري كان - ولا يزال - ذا تأثير بالغ في مسيرة الدرسالبلاغي والنقدي، بَلْهَ اللغوي قديمًا وحديثًا، وظلَّ الشاهد الشعري فيالدرس البلاغي مَثَار نقاش بين البلاغيين والنقَّاد؛ وقد أدَّى هذا إلىازدياد حركة النشاط النقدي، وبخاصة فيما يتَّصل بنقد الخطاب الشعري
وإن ما يلفت النظر أنالشاهد الشعري ظلَّ يتردَّد في كتب البلاغة القديمة من عصرٍ إلى عصر،متنقِّلاً من متن إلى تلخيص إلى شرح، ولعل السبب في ذلك كون البلاغة فيذلك الوقت تنحو نحوًا تعليميًّا؛ (قاعدة ومثال لإيضاح القاعدة)، فكانوايستخدمون البيت الشعري مثالاً أو شاهدًا على القاعدة، وإنْ أدَّى ذلك إلىبَتْرِه عن سياقه، ومن ثَمَّ أصدروا بعض الأحكام على بعض هذه الشواهد بعدمفصاحتها أو بلاغتها.
لذلكرأيت أن أتناول قضية الشاهد الشعري في مبحثي الفصاحة والبلاغة تناولاًيهدف في المقام الأول إلى إعادة النظر في قراءة هذه النصوص الشواهد قراءةفاحصة متأنِّية، فربما تَقِفُنَا هذه القراءة على خطأ استمرَّ واستقرَّ،أو تعود علينا برأي صحيح آنَ أن يُعرَفَ ويُؤمَّ، ولا سيَّما أن روح اللغةمن السيولة بحيث لا تنضبط في مقولات.
لذلككان نظري إلى الشاهد - سواء أكان كلمةً أم تركيبًا - في إطار موقفه منالقصيدة، وتأمُّل معناه في سياقاته المتعدِّدة؛ لأن هذه السياقات هيالأبعاد الفاعلة في تفسير النص والكشف عن العلاقات المتداخِلَة في لغته،وأن النص نسيج متكامل يتداخَل فيه إيقاع الذات وإيقاع البيئة والمجتمعوالثقافة.
على كلِّحال إن معاودة قراءة التراث البلاغي والنقدي محاولة للوصل بين ماتوارَثناه وبين ما نُعاصِره وما يُستَحدث، ولكن دون التعصُّب للتراث أوالتقليل من شأنه.
♦ ♦ ♦
توطئة:
إن البلاغيين في توجُّههم نحو مباحث البلاغة قدَّموا دراسة موسَّعة حولالمواصَفَات الأوَّلية التي يجب أن تتوافَر في الصياغة على مستوى الإفراد،وعلى مستوى التركيب، وانطلقوا في ذلك من خلال مصطلحين من أظهر مصطلحاتهم؛هما (الفصاحة) و(البلاغة)؛ إذ هما شرطان مبدئيَّان للولوج في عالم الإبداعالأدبي.
فمصطلحالفصاحة في حدوده المعجمية يستدعي عملية توصيل بوصفها خطًّا أصيلاً فيكلِّ إبداع؛ إذ يعني المصطلح في مادَّته المعجمية (الظهور والبيان)[1].
فأمَّامنطقة عمل الفصاحة فهي (المفرد والمركَّب) بانضمام (المبدِع) إليهما،وأمَّا البلاغة فإن مادَّتها المعجمية حدودها المعرفية تُبنَى على (الوصولوالانتهاء).
قالأبو هلال: "أمَّا الفصاحة فقد قال قومٌ: إنها من قولهم: أفصح فلان عمَّافي نفسه إذا أظهره، والشاهد على أنها هي الإظهار قولُ العرب: أفصح الصبح،إذا أضاء، وأفصح الأعجمي، إذا أبان بعد أن لم يكن يفصح ويبين، أمَّاالبلاغة: سميت بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه"[2]، ثميخلص إلى النتيجة المنطقية التالية، وهي "أن البلاغة والفصاحة ترجعان إلىمعنًى واحد وإن اختلف أصلاهما؛ لأن كلَّ واحد منهما إنما هو الإبانة عنالمعنى والإظهار له"[3].
ومعنى ذلك: أن البلاغة تستدعي حضور المبدِع والمتلقِّي على صعيد واحد، فكلاهما يظلُّ في حالة انتظار لبلوغ المنطقة الدلالية.
إنجمالية البلاغة هي جمالية التلقِّي والتأويل؛ لأن غاية البليغ أن يؤثِّرفي المتلقِّي، وغاية المتلقِّي الكلام البليغ وتأمُّله ليصل إلى كمالاللذَّة[4].
ومنطقةعمل (البلاغة) أولاً (الكلام والمتكلم)، فلا تعلُّق لها بالإفراد؛ لأنالمفردة غير مستهدَفة في ذاتها، بل لا بُدَّ من وجودها في سياق.
وبينالمصطلحَين علاقةٌ تتحرك من المصطلح الأول (الفصاحة) إلى الثاني(البلاغة)، على معنى أن الفصاحة تدخل ضمن مواصفات البلاغة دون العكس، إنالكلمة الفصيحة تجمُل إلى جانب جرسها ووقعها في الأذن وحركة اللسان بهاإيحاءً بالمعنى وظلالاً وموسيقا.
ويؤكِّدعبدالقاهر أن الفصاحة هي فصاحة تأليف، وأن هذا التأليف لا بُدَّ أن يقودإلى معنًى، وأن المعنى في تركيبٍ ما لا يمكن أن يظلَّ هو هو في تركيبٍ آخردون أن يفقد بعض مزاياه وبعض حُسْنِه وزِينته، ويمثِّل لذلك بقوله: "إنسبيل المعاني سبيلُ أشكال الحلي؛ كالخاتم، والشَّنف، والسوار، فكما أن منشأن هذه الأشكال أن يكون الواحد منها غُفْلاً ساذجًا، لم يعمل صانعه فيهشيئًا أكثر من أنْ أتى بما يقلع عليه اسم الخاتم إن كان خاتمًا، والشَّنْفإن كان شنفًا، وأن يكون مصنوعًا بديعًا قد أغرب صانعه فيه، كذلك سبيلالمعاني، أن ترى الواحد منها غفلاً ساذجًا عاميًّا موجودًا في كلام الناسكلهم، ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصوت فيالمعاني، فيصنع فيه ما يصنع الصَّنَعُ الحاذق حتى يُغْرِب في الصنعة،ويدقُّ في العمل، ويُبدِع في الصياغة"[5].
♦ ♦ ♦
المبحث الأول: الفصاحة
أولاً: الفصاحة في الكلمة المفردة:
اشترط البلاغيون لفصاحة الكلمة مجموعةً من المواصفات الصوتية والدلالية،ومُجْمَل هذه المواصفات سلامتها من (تنافر الحروف - الغرابة - مخالفةالوضع/ القياس)[6]، ولعلنا نلاحظ أنها مواصفات سلبية[7]، لا تقوَى علىتشكيل الجمال، سواء عن طريق الصحة أو الدقة، ولكن تُبعِد الكلام عن الخطأ،وهذه الشروط تصنع حواجز على مقتضيات الأسلوب والمقام؛ إذ قد يقتضي الموقفأحيانًا لفظة غريبة أو متنافِرة الحروف أو عامية، أو غير ذلك مما يتوجَّبهالسياق؛ ليعبِّر بأمانة عن ثقافة المبدِع وبخاصَّة إذا كان من أهلالبادية[8]، ولا يزال هذا الاقتضاء كائنًا في الشعر، ويأتي في كلِّ أنواعالشعر إلى يومنا هذا.
1- التنافر:
ويبدو أن مسألة التنافر كانت محدودة في الواقع اللغوي؛ ومن ثَمَّ نلحظ أننماذج التنافر كانت قليلة يتوارَثها البلاغيون خلَفًا عن سلَف؛ مثل كلمة(البُعَاق) التي يقولون: إن معناها (السحابة الممطرة) ولكنها صعبة فيالنطق، غريبة على الأذن لقلَّة استعمالها، خاصة إذا قِيست بكلمتي(الدِّيمَة) و(المُزْنَة)، يقول ابن الأثير: "هذه اللفظات الثلاثة من صفاتالمطر، وهي تدلُّ علي معني واحد، ومع هذا فإنك ترى لفظتي (المُزْنَة)و(الدِّيمة) وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال، وترى لفظ (البُعاق) وماجرى مجراه متروكًا لا يستعمل"[9].
ومثل ذلك كلمة (الهُعْخُعُ) في قول أحد الأعراب حينما سُئِل عن ناقته فقال: "تركتُها ترعى الهُعْخُع"[10].
يقول السيوطي في "المزهر": قال ابن دريد في "الجمهرة": "اعلم أن الحروفإذا تقارَبت مخارجها كانت أثقل على اللسان منها إذا تباعدت؛ لأنك إذااستعملت اللسان في حروف الحلق دون حروف الفم ودون حروف الذلاقة، كلَّفتهجرسًا واحدًا وحركات مختلفة"[11].
ومن الكلمات التي يعسر النطق بها أيضًا ويخرجها البلاغيون من دائرة الفصاحة كلمة (مُستَشزِرات) في قول امرئ القيس يصف شعر محبوبته:
وتفيض كتب البلاغة في تفسير منشأ الصعوبة في الكلمة التي استخدمها امرؤالقيس، وتكاد تتَّفق على أن الصعوبة في الكلمة هنا نشَأَت من اجتماع حروفٍخاصَّة هي السين والشين والزاي "وذلك لتوسُّط الشين وهي مهموسة رخوة بينالتاء - وهي مهموسة شديدة - والزاي وهي مجهورة"[13].
ولوأن الشاعر استبدل بعض الحروف بحروفٍ أخرى لأمكنه تلافي هذه الصعوبة، فقدكان في إمكانه أن يقول: (مستشرفات)، فيستقيم له المعنى والوزن، ويَسْلَممن الوقوع في التنافر[14].
وقدقدَّم البلاغيون مجموعةً من المبرِّرات الصوتية التي تحدِّد مفهومالتنافُر سلبًا وإيجابًا؛ حيث عزَاه بعضهم إلى التباعُد الشديد أو القُربالشديد في المخرج، ومن خلاله يمكن الحكم بالقيمة رفضًا أو قبولاً، وقدأشار إلى ذلك ابن فارس (ت395هـ)، عندما قال: "...ضربٌ لا يجوز ائتلافحروفه في كلام العرب بَتَّةً؛ وذلك كجيمٍ تؤلَّف مع كاف، أو كاف تقدَّمعلى جيم، وكعينٍ على غين، أو حاء مع هاء أو غين، فهذا وما أشبه لايأتلف"[15].
أمَّاابن الأثير فقد قرَّر أن حاسَّة السمع هي الحَكَم في هذا المقام؛ لذلكيقول: فإن قيل: من أيِّ وجه عَلِم أرباب النظم والنثر الحسَن من الألفاظحتى استعملوه، وعَلِموا القبيح منها حتى نَفَوْه ولم يستعملوه؟ قلت فيالجواب: إن هذا من الأمور المحسوسة التي شاهِدُها من نفسها؛ لأن الألفاظداخلة في حيِّز الأصوات، فالذي يستلذُّه السمع منها ويميل إليه هو الحسن،والذي يكرهه وينفر منه هو القبيح، ثم استشهد بأن السمع يستلذُّ صوت البلبلوصوت الشحرور، بينما يكرَه صوت الغراب وينفر عنه[16].
يُفهَممن كلام ابن الأثير أن الأُذُن عند البلاغيين قاضٍ نافذ القضاء؛ ذلك أنناإذا سألنا شخصًا ما عن لفظة: أحسنة هي أم قبيحة؟ فلا نتصوَّر أنْ يمهلناحتى تعبر مخارج الحروف، ثم يحكم بالحسن أو بالقبح[17]، وكأن الحسن عندهمعلومٌ قبل إدراك التقارُب أو التباعُد، وممَّن تابَع ابنَ الأثير في هذاالرأي القلقشندي في "صبح الأعشى"[18].
وَفَرْعٍ يَزِينُ المَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ أَثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ
غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى العُلاَ تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنًّى وَمُرْسَلِ[12]
ويرى العلوي (ت745هـ) أن المرجع في ذلك كله والمقياس الصحيح الذوق والطبع السليم[19].
•ولكن ينبغي أن يُلاحَظ أن استعمال هذا المقياس يحتاج إلى وعي وذوق؛ لأنهناك كلمات ثقيلة على اللسان، ولكن ثِقَلَها من أهم مظاهر فصاحتها؛ حيثإنَّ هذا الثقل يصوِّر معناها بحق، انظر كلمة (اثَّاقَلتم) في قوله -تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُانْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} [التوبة: 38]، تجد فيهاقدرًا من الثِّقَل الفصيح؛ لأنه يصف تقاعسهم وتثاقلهم، وخلودهم إلى الأرض،واستشعارهم مشقَّة الجهاد، "ويتصوَّر الخيال ذلك الجسم المتثاقِل، يرفعهالرافعون في جهد، فيسقط من أيديهم في ثقل، إن في هذه الكلمة (طِنًّا) علىالأقل من الأثقال، ولو أنك قلت: تثاقلتم لخفَّ الجرس، ولضاع الأثَرالمنشود، ولتوارَت الصورة المطلوبة التي رسمها هذا اللفظ واستقلَّبرسمها"[20].
يقولالجاحظ: "ومتى شاكَل - أبْقاك الله - اللفظ معناه، وأعرب عن فحواه، وكانلتلك الحال وَفْقًا، ولذلك القدر لِفقًا، وخرج من سَمَاجة الاستكراه،وسَلِم من فساد التكلُّف - كان قمينًا بحسن الموقع وباندفاع المستمع"[21]،فالمعوَّل عند الجاحظ على كون اللفظ مُشاكِلاً لمعناه، مُعرِبًا عن فحواه؛ذلك "لأن حسن دلالة اللفظ على المعنى بحيث لا يخلُفه فيه غيره، مقدَّم علىمراعاة خفَّة لفظه"[22]، وذلك نحو كلمة (مستشزرات) التي وصف بها امرؤالقيس شعر محبوبته، فقد عابها النقَّاد ووصفوها بالتنافر والثِّقَلوالبشاعة[23]، مع أنها فصيحة قارَّة في موضعها، مصوِّرة للمعنى، غنيةبالدلالة.
ولكينتصوَّر فصاحة هذه الكلمة وثراء دلالتها، لا بُدَّ أن نستعرض الأبيات التيوردت الكلمة في سياقها؛ لأن الكلمة لا يُدرَك معناها المقصود ولا تُدرَكدلالتها إذا فُصِلت عن سياقها الذي وردت فيه، يقول امرؤ القيس:
وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ بِمُعَطَّلِ
المبحث الأول: الفصاحة
تقديم:
الحق أن الشاهد الشعري كان - ولا يزال - ذا تأثير بالغ في مسيرة الدرسالبلاغي والنقدي، بَلْهَ اللغوي قديمًا وحديثًا، وظلَّ الشاهد الشعري فيالدرس البلاغي مَثَار نقاش بين البلاغيين والنقَّاد؛ وقد أدَّى هذا إلىازدياد حركة النشاط النقدي، وبخاصة فيما يتَّصل بنقد الخطاب الشعري
وإن ما يلفت النظر أنالشاهد الشعري ظلَّ يتردَّد في كتب البلاغة القديمة من عصرٍ إلى عصر،متنقِّلاً من متن إلى تلخيص إلى شرح، ولعل السبب في ذلك كون البلاغة فيذلك الوقت تنحو نحوًا تعليميًّا؛ (قاعدة ومثال لإيضاح القاعدة)، فكانوايستخدمون البيت الشعري مثالاً أو شاهدًا على القاعدة، وإنْ أدَّى ذلك إلىبَتْرِه عن سياقه، ومن ثَمَّ أصدروا بعض الأحكام على بعض هذه الشواهد بعدمفصاحتها أو بلاغتها.
لذلكرأيت أن أتناول قضية الشاهد الشعري في مبحثي الفصاحة والبلاغة تناولاًيهدف في المقام الأول إلى إعادة النظر في قراءة هذه النصوص الشواهد قراءةفاحصة متأنِّية، فربما تَقِفُنَا هذه القراءة على خطأ استمرَّ واستقرَّ،أو تعود علينا برأي صحيح آنَ أن يُعرَفَ ويُؤمَّ، ولا سيَّما أن روح اللغةمن السيولة بحيث لا تنضبط في مقولات.
لذلككان نظري إلى الشاهد - سواء أكان كلمةً أم تركيبًا - في إطار موقفه منالقصيدة، وتأمُّل معناه في سياقاته المتعدِّدة؛ لأن هذه السياقات هيالأبعاد الفاعلة في تفسير النص والكشف عن العلاقات المتداخِلَة في لغته،وأن النص نسيج متكامل يتداخَل فيه إيقاع الذات وإيقاع البيئة والمجتمعوالثقافة.
على كلِّحال إن معاودة قراءة التراث البلاغي والنقدي محاولة للوصل بين ماتوارَثناه وبين ما نُعاصِره وما يُستَحدث، ولكن دون التعصُّب للتراث أوالتقليل من شأنه.
♦ ♦ ♦
توطئة:
إن البلاغيين في توجُّههم نحو مباحث البلاغة قدَّموا دراسة موسَّعة حولالمواصَفَات الأوَّلية التي يجب أن تتوافَر في الصياغة على مستوى الإفراد،وعلى مستوى التركيب، وانطلقوا في ذلك من خلال مصطلحين من أظهر مصطلحاتهم؛هما (الفصاحة) و(البلاغة)؛ إذ هما شرطان مبدئيَّان للولوج في عالم الإبداعالأدبي.
فمصطلحالفصاحة في حدوده المعجمية يستدعي عملية توصيل بوصفها خطًّا أصيلاً فيكلِّ إبداع؛ إذ يعني المصطلح في مادَّته المعجمية (الظهور والبيان)[1].
فأمَّامنطقة عمل الفصاحة فهي (المفرد والمركَّب) بانضمام (المبدِع) إليهما،وأمَّا البلاغة فإن مادَّتها المعجمية حدودها المعرفية تُبنَى على (الوصولوالانتهاء).
قالأبو هلال: "أمَّا الفصاحة فقد قال قومٌ: إنها من قولهم: أفصح فلان عمَّافي نفسه إذا أظهره، والشاهد على أنها هي الإظهار قولُ العرب: أفصح الصبح،إذا أضاء، وأفصح الأعجمي، إذا أبان بعد أن لم يكن يفصح ويبين، أمَّاالبلاغة: سميت بلاغة لأنها تنهي المعنى إلى قلب السامع فيفهمه"[2]، ثميخلص إلى النتيجة المنطقية التالية، وهي "أن البلاغة والفصاحة ترجعان إلىمعنًى واحد وإن اختلف أصلاهما؛ لأن كلَّ واحد منهما إنما هو الإبانة عنالمعنى والإظهار له"[3].
ومعنى ذلك: أن البلاغة تستدعي حضور المبدِع والمتلقِّي على صعيد واحد، فكلاهما يظلُّ في حالة انتظار لبلوغ المنطقة الدلالية.
إنجمالية البلاغة هي جمالية التلقِّي والتأويل؛ لأن غاية البليغ أن يؤثِّرفي المتلقِّي، وغاية المتلقِّي الكلام البليغ وتأمُّله ليصل إلى كمالاللذَّة[4].
ومنطقةعمل (البلاغة) أولاً (الكلام والمتكلم)، فلا تعلُّق لها بالإفراد؛ لأنالمفردة غير مستهدَفة في ذاتها، بل لا بُدَّ من وجودها في سياق.
وبينالمصطلحَين علاقةٌ تتحرك من المصطلح الأول (الفصاحة) إلى الثاني(البلاغة)، على معنى أن الفصاحة تدخل ضمن مواصفات البلاغة دون العكس، إنالكلمة الفصيحة تجمُل إلى جانب جرسها ووقعها في الأذن وحركة اللسان بهاإيحاءً بالمعنى وظلالاً وموسيقا.
ويؤكِّدعبدالقاهر أن الفصاحة هي فصاحة تأليف، وأن هذا التأليف لا بُدَّ أن يقودإلى معنًى، وأن المعنى في تركيبٍ ما لا يمكن أن يظلَّ هو هو في تركيبٍ آخردون أن يفقد بعض مزاياه وبعض حُسْنِه وزِينته، ويمثِّل لذلك بقوله: "إنسبيل المعاني سبيلُ أشكال الحلي؛ كالخاتم، والشَّنف، والسوار، فكما أن منشأن هذه الأشكال أن يكون الواحد منها غُفْلاً ساذجًا، لم يعمل صانعه فيهشيئًا أكثر من أنْ أتى بما يقلع عليه اسم الخاتم إن كان خاتمًا، والشَّنْفإن كان شنفًا، وأن يكون مصنوعًا بديعًا قد أغرب صانعه فيه، كذلك سبيلالمعاني، أن ترى الواحد منها غفلاً ساذجًا عاميًّا موجودًا في كلام الناسكلهم، ثم تراه نفسه وقد عمد إليه البصير بشأن البلاغة وإحداث الصوت فيالمعاني، فيصنع فيه ما يصنع الصَّنَعُ الحاذق حتى يُغْرِب في الصنعة،ويدقُّ في العمل، ويُبدِع في الصياغة"[5].
♦ ♦ ♦
المبحث الأول: الفصاحة
أولاً: الفصاحة في الكلمة المفردة:
اشترط البلاغيون لفصاحة الكلمة مجموعةً من المواصفات الصوتية والدلالية،ومُجْمَل هذه المواصفات سلامتها من (تنافر الحروف - الغرابة - مخالفةالوضع/ القياس)[6]، ولعلنا نلاحظ أنها مواصفات سلبية[7]، لا تقوَى علىتشكيل الجمال، سواء عن طريق الصحة أو الدقة، ولكن تُبعِد الكلام عن الخطأ،وهذه الشروط تصنع حواجز على مقتضيات الأسلوب والمقام؛ إذ قد يقتضي الموقفأحيانًا لفظة غريبة أو متنافِرة الحروف أو عامية، أو غير ذلك مما يتوجَّبهالسياق؛ ليعبِّر بأمانة عن ثقافة المبدِع وبخاصَّة إذا كان من أهلالبادية[8]، ولا يزال هذا الاقتضاء كائنًا في الشعر، ويأتي في كلِّ أنواعالشعر إلى يومنا هذا.
1- التنافر:
ويبدو أن مسألة التنافر كانت محدودة في الواقع اللغوي؛ ومن ثَمَّ نلحظ أننماذج التنافر كانت قليلة يتوارَثها البلاغيون خلَفًا عن سلَف؛ مثل كلمة(البُعَاق) التي يقولون: إن معناها (السحابة الممطرة) ولكنها صعبة فيالنطق، غريبة على الأذن لقلَّة استعمالها، خاصة إذا قِيست بكلمتي(الدِّيمَة) و(المُزْنَة)، يقول ابن الأثير: "هذه اللفظات الثلاثة من صفاتالمطر، وهي تدلُّ علي معني واحد، ومع هذا فإنك ترى لفظتي (المُزْنَة)و(الدِّيمة) وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال، وترى لفظ (البُعاق) وماجرى مجراه متروكًا لا يستعمل"[9].
ومثل ذلك كلمة (الهُعْخُعُ) في قول أحد الأعراب حينما سُئِل عن ناقته فقال: "تركتُها ترعى الهُعْخُع"[10].
يقول السيوطي في "المزهر": قال ابن دريد في "الجمهرة": "اعلم أن الحروفإذا تقارَبت مخارجها كانت أثقل على اللسان منها إذا تباعدت؛ لأنك إذااستعملت اللسان في حروف الحلق دون حروف الفم ودون حروف الذلاقة، كلَّفتهجرسًا واحدًا وحركات مختلفة"[11].
ومن الكلمات التي يعسر النطق بها أيضًا ويخرجها البلاغيون من دائرة الفصاحة كلمة (مُستَشزِرات) في قول امرئ القيس يصف شعر محبوبته:
وتفيض كتب البلاغة في تفسير منشأ الصعوبة في الكلمة التي استخدمها امرؤالقيس، وتكاد تتَّفق على أن الصعوبة في الكلمة هنا نشَأَت من اجتماع حروفٍخاصَّة هي السين والشين والزاي "وذلك لتوسُّط الشين وهي مهموسة رخوة بينالتاء - وهي مهموسة شديدة - والزاي وهي مجهورة"[13].
ولوأن الشاعر استبدل بعض الحروف بحروفٍ أخرى لأمكنه تلافي هذه الصعوبة، فقدكان في إمكانه أن يقول: (مستشرفات)، فيستقيم له المعنى والوزن، ويَسْلَممن الوقوع في التنافر[14].
وقدقدَّم البلاغيون مجموعةً من المبرِّرات الصوتية التي تحدِّد مفهومالتنافُر سلبًا وإيجابًا؛ حيث عزَاه بعضهم إلى التباعُد الشديد أو القُربالشديد في المخرج، ومن خلاله يمكن الحكم بالقيمة رفضًا أو قبولاً، وقدأشار إلى ذلك ابن فارس (ت395هـ)، عندما قال: "...ضربٌ لا يجوز ائتلافحروفه في كلام العرب بَتَّةً؛ وذلك كجيمٍ تؤلَّف مع كاف، أو كاف تقدَّمعلى جيم، وكعينٍ على غين، أو حاء مع هاء أو غين، فهذا وما أشبه لايأتلف"[15].
أمَّاابن الأثير فقد قرَّر أن حاسَّة السمع هي الحَكَم في هذا المقام؛ لذلكيقول: فإن قيل: من أيِّ وجه عَلِم أرباب النظم والنثر الحسَن من الألفاظحتى استعملوه، وعَلِموا القبيح منها حتى نَفَوْه ولم يستعملوه؟ قلت فيالجواب: إن هذا من الأمور المحسوسة التي شاهِدُها من نفسها؛ لأن الألفاظداخلة في حيِّز الأصوات، فالذي يستلذُّه السمع منها ويميل إليه هو الحسن،والذي يكرهه وينفر منه هو القبيح، ثم استشهد بأن السمع يستلذُّ صوت البلبلوصوت الشحرور، بينما يكرَه صوت الغراب وينفر عنه[16].
يُفهَممن كلام ابن الأثير أن الأُذُن عند البلاغيين قاضٍ نافذ القضاء؛ ذلك أنناإذا سألنا شخصًا ما عن لفظة: أحسنة هي أم قبيحة؟ فلا نتصوَّر أنْ يمهلناحتى تعبر مخارج الحروف، ثم يحكم بالحسن أو بالقبح[17]، وكأن الحسن عندهمعلومٌ قبل إدراك التقارُب أو التباعُد، وممَّن تابَع ابنَ الأثير في هذاالرأي القلقشندي في "صبح الأعشى"[18].
وَفَرْعٍ يَزِينُ المَتْنَ أَسْوَدَ فَاحِمٍ أَثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ
غَدَائِرُهُ مُسْتَشْزِرَاتٌ إِلَى العُلاَ تَضِلُّ العِقَاصُ فِي مُثَنًّى وَمُرْسَلِ[12]
ويرى العلوي (ت745هـ) أن المرجع في ذلك كله والمقياس الصحيح الذوق والطبع السليم[19].
•ولكن ينبغي أن يُلاحَظ أن استعمال هذا المقياس يحتاج إلى وعي وذوق؛ لأنهناك كلمات ثقيلة على اللسان، ولكن ثِقَلَها من أهم مظاهر فصاحتها؛ حيثإنَّ هذا الثقل يصوِّر معناها بحق، انظر كلمة (اثَّاقَلتم) في قوله -تعالى -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُانْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ} [التوبة: 38]، تجد فيهاقدرًا من الثِّقَل الفصيح؛ لأنه يصف تقاعسهم وتثاقلهم، وخلودهم إلى الأرض،واستشعارهم مشقَّة الجهاد، "ويتصوَّر الخيال ذلك الجسم المتثاقِل، يرفعهالرافعون في جهد، فيسقط من أيديهم في ثقل، إن في هذه الكلمة (طِنًّا) علىالأقل من الأثقال، ولو أنك قلت: تثاقلتم لخفَّ الجرس، ولضاع الأثَرالمنشود، ولتوارَت الصورة المطلوبة التي رسمها هذا اللفظ واستقلَّبرسمها"[20].
يقولالجاحظ: "ومتى شاكَل - أبْقاك الله - اللفظ معناه، وأعرب عن فحواه، وكانلتلك الحال وَفْقًا، ولذلك القدر لِفقًا، وخرج من سَمَاجة الاستكراه،وسَلِم من فساد التكلُّف - كان قمينًا بحسن الموقع وباندفاع المستمع"[21]،فالمعوَّل عند الجاحظ على كون اللفظ مُشاكِلاً لمعناه، مُعرِبًا عن فحواه؛ذلك "لأن حسن دلالة اللفظ على المعنى بحيث لا يخلُفه فيه غيره، مقدَّم علىمراعاة خفَّة لفظه"[22]، وذلك نحو كلمة (مستشزرات) التي وصف بها امرؤالقيس شعر محبوبته، فقد عابها النقَّاد ووصفوها بالتنافر والثِّقَلوالبشاعة[23]، مع أنها فصيحة قارَّة في موضعها، مصوِّرة للمعنى، غنيةبالدلالة.
ولكينتصوَّر فصاحة هذه الكلمة وثراء دلالتها، لا بُدَّ أن نستعرض الأبيات التيوردت الكلمة في سياقها؛ لأن الكلمة لا يُدرَك معناها المقصود ولا تُدرَكدلالتها إذا فُصِلت عن سياقها الذي وردت فيه، يقول امرؤ القيس:
وَجِيدٍ كَجِيدِ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ إِذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ بِمُعَطَّلِ