منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    مفهوم الفصاحة بَين ابن سِنان وَعبد القاهِر الجرجَاني

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    مفهوم الفصاحة بَين ابن سِنان وَعبد القاهِر الجرجَاني Empty مفهوم الفصاحة بَين ابن سِنان وَعبد القاهِر الجرجَاني

    مُساهمة   الخميس أكتوبر 21, 2010 9:50 am

    ناشر الموضوع : mahfoodh


    مفهوم الفصاحة بَين ابن سِنان وَعبد القاهِر الجرجَاني ـــ وليد سَراقبي

    بادئذي بدء لابد من القول: إن النقد العربي قد تطور تطوراً كبيراً منذ زمنبعيد في العصر الجاهلي إلى أوائل القرن الخامس الهجري، ففي العصر الجاهلينجد بعض الأخبار التي تعطينا فكرة عن بدايات نقدية عفوية، من ذلك مثلاًخبر احتكام امريء القيس وعلقمة الفحل إلى زوج امرئ القيس إذ قال امرؤالقيس:

    خليليَّ مرَّا بي على أم جندب *** لنقضي حاجات الفؤاد المعذب

    وقال علقمة:

    ذهبت من الهجران في كل مذهب *** ولم يكُ حقاً كل هذا التجنبِ

    وتابع كل منهما قصيدته فقالت لامريء القيس: علقمة أشعر منك. قال: وكيف ذلك؟ قالت: لأنك قلت:

    فللسوط ألهوب وللساق درّةٌ *** وللزجز منه وقع أهوج منعب

    فجهدت فرسك بسوطك، ومريته بساقك، وقال علقمة:

    فأدركهن ثانياً من عنانه *** يمرّ كمرّ الرائح المتحلِّب

    فأدرك طريدته وهو ثان من عنان فرسه لم يضربه بسوط، ولا مراه بساقٍ ولا زجزه(1).

    وفيعهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه الراشدين نجد كثيراً من الأحكامالنقدية، كقول النبي صلى الله عليه وسلم في أمية بن أبي الصلت: "آمن شعرهوكفر قلبه(2)" ومن ذلك أيضاً قول عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في زهيربن أبي سلمى: ".. إنه لا يمدح الرجل إلا بما فيه، ولا يعاظل فيالكلام.."(3).

    وهكذاظل النقد العربي يسير في حركة متطورة، فظهر له أعلامه كالأصمعي وابن سلاموابن قتيبة والمبرد وثعلب في القرن الثالث، وابن طباطبا وقدامه والآمدي فيالقرن الرابع، وبابن رشيق وأبي العلاء الأجلاء ومن بينهم أبو العلاءالمعري وعبد القاهر الجرجاني وابن سنان الخفاجي في القرن الخامس.

    وابنسنان هو الأمير عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي، كانواسع الثقافة تتلمذ على يد عدد من العلماء الأجلاء ومن بينهم أبو العلاءالمعري. كانت وفاته مسموماً عام (466 هـ)، وقد خلَّف لنا كتابه النقدي "سرالفصاحة" وكتاب "الصرفة" الذي ضاع مع ما ضاع من تراثنا الأدبي.

    وقبلأن أخوض في مفهوم الفصاحة لابد لي من أن أعرِّج قليلاً على المعاجماللغوية لنرى المدلول اللغوي لهذا اللفظ. يقول صاحب التاج/: "الفصحوالفصاحة: البيان. يقال: فصُح فصاحة فهو فصيح. وفصُحَ اللبن إذا أخذت عنهالرغوة، قال:

    وتحت الرغوة اللبن الفصيح (4)

    وقد وردت هذه اللفظة بهذه المعاني في قوله تعالى: ..وأخي هارون هو أفصح مني لساناً(5)" ووردت أيضاً في قول الرسول صلى اللهعليه وسلم: (أنا أفصح العرب لساناً بيد أني من قريش(6) ومن هنا نجد أنالفصاحة إنما هي الوضوح والإبانة وخلو الشيء مما يستره.

    وقدقصَر ابن سنان ـ في كتابه سر الفصاحة ـ الفصاحة على الألفاظ وحدها دونالمعاني فقال: "الفصاحة مقصورة على وصف الألفاظ، والبلاغة لا تكون إلاوصفاً للألفاظ مع المعاني، فلا يقال عن كلمة واحدة لا تدل على معنى يفضلعن مثلها بليغة، وإن قيل فيها فصيحة، وكل كلام بليغ فصيح وليس كل فصيحبليغاً(7)".

    ويقولفي مكان آخر من الكتاب: "الفصاحة نعت للألفاظ إذا وجدت على شروط عدة، ومتىتكاملت تلك الشروط فلا مزيد على فصاحة تلك الألفاظ(Cool".

    ويقسمابن سنان شروط الفصاحة قسمين: "الأول يخص اللفظة المفردة، والثاني يخصالكلام المركَّب. أما الشروط فصاحة اللفظة المفردة فهي ثمانية شروط:

    الأول:أن تكون اللفظة مؤلفة من حروف متباعدة المخارج، لأن الحروف التي هي أصواتتجري "من السمع مجرى الألوان من البصر، ولاشك في أن الألوان المتباينة إذاجُمعت كانت في النظر أحسن من الألوان المتقاربة. ولهذا كان البياض معالسواد أحسن منه مع الصفرة لقرب ما بينه وبين الأصفر، وبُعد ما بينه وبينالأسود(9)" ومن الأمثلة الشعرية على ذلك قول امرئ القيس(10):

    غدائره مستشزرات إلى العلا *** تضل العقاص في مثنَّى ومرسلٍ

    وقدتبعه في شرطه هذا كثير من علماء البلاغة والبيان كالقزويني في كتابه"التلخيص" والسيوطي في كتابه "عقود الجمان في المعاني والبيان"(11).

    ويؤخذعليهم في هذا الشرط جعلهم الشذوذ قاعدة وشرطاً، لأن جلَّ كلام العرب ـ وهمأرباب الفصاحة والبيان ـ إنما هو بعيد عن مثل هذه المشكلات اللفظية.

    ثمأن التنافر الذي يقع في كلمة لا يعني أن مفردات الحروف مستكرهة، وإن كانتمختلفة في العذوبة والسلاسة، "لكن الاستكراه إنما يعرض من أجل التأليف لمايحصل بسببه من التنافر والثقل"(12).

    وقدرد يحيى بن حمزة العلوي ـ وهو من علماء القرن السابع ـ على قول ابن سنانفقال: "... قد بان من حسن تصرف واضع اللغة امتناعه من الجمع بين العينوالحاء، والغين والخاء،... وما ذلك إلا لما يحصل من تأليف هذه من البشاعةوالثقل على الألسنة في النطق"(13).

    "وليسذلك من أجل ما يحصل من تقارب مخارج الحروف، وتباعدها، كما يزعمه ابن سنانوغيره من أرباب هذه الصناعة ـ فإنهم عوَّلوا على أن القرب منها يكون سبباًفي قبح اللفظ، والتباعد فيها يكون سبباً في حسن اللفظ، وهذا فاسدٌ، فإنهربما يعرض لما كانت حروفه متباعدة استكراه في النطق، وهذا كقولنا: "ملَعَ"أي: عدا، فالعين من حروف الحلق، والميم من الشفة، واللام من الوسط، ومعذلك فهي ثقيلة على اللسان ينبو عنها الذوق ولا تستعمل في كلام فصيح. وربماعرض لما تقاربت حروفه حسنُ الذوق في اللسان فكان حسناً ومثاله: ذقته بفمي،فإن الباء والفاء والميم محلها أحرف متقاربة شفوية وهي رقيقة حسنة يخفمحملها على اللسان..."(14).

    الثاني:أن تتألف الكلمة تأليفاً خاصاً بحيث لو تقدم حرف على آخر في اللفظ لما كانلها في ذلك الحسن الذي حازته من قبل مثل كلمة (غصن فإن لها جرساً يختلف عنقولنا: (عسلوج) ويختلف عنه لو قدمنا أحد الأحرف على غيره، "وهذا التأليفالمخصوص قد يكون من جهة الاشتقاق كقول أبي الطيب(15):

    إذا سارت الأحداج فوق نباته *** تفاوح مسك الغانيات ورندُه

    فإنكلمة (تفاوح) في قمة الفصاحة". وهنا لانجد لابن سنان دليلاً أو حجة يمكنأن يركن إليها المرء، اللهم إلا استحسانه هو لهذه اللفظة أو تلك. إلا أنمحمد بن علي الجرجاني ـ في كتابه الإشارات والتنبيهات ـ يعلل استحسان ابنسنان هذا فيقول:

    "التحقيق أن المزية في نحو: عذب، وغصن، وفوح، معلَّلة بعلتين:

    إحداهما:أن كل واحد منها مركَّبٌ أعدل تركيب، وهو الثلاثي الساكن الوسط، حرفللابتداء به، وحرف للإعراب والوقوف عليه، وحرف للفصل بينهما ولا يحتاجالفاصل إلى حركة.

    ثانيتهما:أن كل واحد مركَّب من حروف متباعدة في المخرج، مرتبة فيه على سمت واحد،وحركة واحدة للآلة، فإن العين من أسفل المخارج، والذال من أوسطها، والباءمن أعلاها، وكذلك الغصن. وأما فوح: فترتيب حروفه في المخرج بالعكس فإنالفاء من أعلى المخارج، والواو من أوسطها، والحاء من أسفلها. ولو قدمالذال على العين في عذب وقيل: ذَعبٌ احتاجت الآلة إلى حركتين: حركة منأوسط المخرج إلى أسفلها، وحركة من أسفلها إلى أعلاها، لذلك تثقل ولا يكونلها ذلك القبول في السمع، أما نحو: عساليج الشوحط، والجرَشَّى فكراهةالسمع له للغرابة"(16).

    الثالث: أن تكون اللفظة غير متوعرة ولا وحشية كقول أبي تمام (17):

    لقد طلعت في وجه مصر بوجهه *** بلا طائر سعدٍ ولا طائر كهلِ

    فكلمة(كهل) ـ في رأيه ـ قبيحة نابية وهذا شرط ـ وإن كان غير منكر الحسن ـ إلاأنه من الواجب عدم إطلاق هذا التعميم لأن قضية الغرابة أمر نسبي وهيمتعلقة بالأرضية الثقافية للقارئ.

    الرابع: أن تبتعد اللفظة عن العامية والابتذال كقول أبي تمام(18):

    جليِّت والموتُ مبدٍ حرَّ صفحتِه *** وقد تفرغن في أفعاله الأجلُ

    فإن لفظة (تفرعن) عامية وغير فصيحة، وهنا أجد لزاماً عليَّ الاعتراف بتوفيق ابن سنان في تأصيل هذا الأصل البلاغي.

    الخامس:أن تكون اللفظة بعيدة عن الشذوذ، جارية على العرف العربي. وهذا الشرط شامللكل ما ينكره أهل اللغة وعلماء النحو من التصرف الفاسد في الكلمة فيعبَّربها عن غير ما وضعت له كقول أبي تمام(19):

    حلَّت محلَّ البكر من معطى وقد *** زفَّت من المعطى زفاف الأيِّم

    فقدوضع الشاعر لفظة (الأيَّم) مكان الثيِّب، والكلمتان ليستا مترادفتين فيالمعنى لأن الأيَّم التي لا زوج لها بكراً كانت أو ثيِّباً(20).

    وكقول الشاعر(21):

    وإذا الفتى طرح الكلام معرِّضاً *** في مجلس أخذ الكلام اللذ عنى

    فإن (اللذ) ـ في رأيه ـ غير فصيحة مع أنها لغة قليلة في الذي، وقد وردت في شعرنا العربي، قال الشاعر(22):

    جشأت فقلت اللذ خشيت ليأتين *** فإذا أتاك فلات حين مناصِ

    وهذاالانتقاد في غير محله، لأن ابن سنان ينتقد العرب الفصحاء الذين لولاهم لماكان لنا أن نضع شيئاً من قواعد اللغة العربية. أما بالنسبة إلى بيت أبيتمام فكان على ابن سنان أن يوجه نقده إلى الشاعر لا إلى كلمة التي لم يحسنالشاعر استعمالها. وها نجد ابن سنان يعترف قائلاً: ".. وكل ذلك ـ وإن لميؤثر كبير تأثير ـ فإني أوثر صيانتها منه لأن الفصاحة تنبي عن اختيارالكلمة وحسن طلاوتها، ولها من الأمور صفة نقص يجب إطراحها. على أن ماذكرته يختلف في بعض المواضع دون بعض على قدر التأويل فيه وحكمه"(23).

    السادس:ألا تكون الكلمة قد عُبِّر بها عن أمر آخر يكره ذكره، فإذا وردت ـ وهي غيرمقصود بها ذلك المعنى ـ قُبحت وإن كملت فيها صفات الفصاحة السابقة كقولعروة بن الورد(24):

    قلت لقوم في الكنيف تروَّحوا *** عشية بتنا عند ماوان رزَّحِ

    فإنلفظة (الكنيف) أصبحت تدل فيما بعد على الساتر الذي يستر الحدث. وهذا الشرطلا يمكن التسليم به فنتَّهم عروة بن الورد بعدم الفصاحة ـ وهو من هو ـ لأنالكلمة أخذت من المعاني ما لم يكن لها من قبل!!

    السابع: أن تكون الكلمة قليلة الحروف وإلا خرجت عن وجوه الفصاحة كقول أبي الطيب(25):

    إن الكرام بلا كرامٍ منهم *** مثل القلوب بلا سويداواتها

    فكلمة (سويداواتها) غير فصيحة في رأي ابن سنان وذلك بسبب كثرة حروفها. ولكن ما الذي يقوله ابن سنان في قوله تعالى: فسيكفيكهم الله؟!هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الشاعر لم يخطئ في استعمال الكلمة لأنه لماذكر القلوب بصيغة الجمع كان من الأفضل له أن يعبر عن السويداء بصيغة الجمع.

    الثامن:ألا تستعمل الكلمة المصغرة للتعبير عن معنى لطيف أو خفي في معان تناقضالمعاني السابقة كالتعظيم والتهويل كما في قول الشاعر: (26)

    وكل أناس سوف تدخل بينهم *** دويهية تصفرّ منها الأناملُ

    فقداستعمل الشاعر لفظة (دويهية) مصغرة في معنى التعظيم والتهويل. وهذا ـ فيرأيي ـ ليس شرطاً عاماً لأن الألفاظ المصغَّرة قليلة في اللغة العربية، ثمإن معنى التعظيم في اللفظ المصغَّر قد اطراد في كلام العرب كقول الحباب بنالمنذر في يوم السقيفة:

    "أنا جُذيلها المحكَّك وعذيقها المرجَّب(27)

    وكأنيبابن سنان وقد أحس ـ بعد عرضه لشروطه تلك ـ بما قد يوجَّه إليه من نقدفطلب من قارئه أن يبسط له العذر في حديثه عن اللفظة وفصاحتها محتجاً بأنتلك القواعد إنما حصلت له بالدربة فهو لم يأخذها عن كتاب مؤلف، ولا قوليوى "ولهذا لست أدعي السلامة من الخلل والعصمة من الزلل وأعترفبالتقصير(28)".

    أما بالنسبة إلى فصاحة الكلام المؤلف فقد عدَّ ثمانية شروط أيضاً جلها وضع لفصاحة الألفاظ المفردة، منها:

    آـ أن يكون تأليف الكلام من مخارج متباعدة، "لأن تقارب الحروف في النظمأقبح منه في اللفظة المفردة، وتعليل ذلك أن اللفظة المفردة لا يستمر فيهاتكرار الحروف مثلما يستمر في الكلام المنظوم"(29) ومن ذلك قول أبي الطيبالمتنبي: (30)

    ولا الضعفُ حتى يتبع الضعف ضعفه *** ولا ضعفُ ضعفِ الضعف بل مثله ألف

    ولاشك في أن هذا الشرط حسنٌ، فالمعري ـ مع تعصبه لأبي الطيب ـ قال عند سماعه بيت المتنبي هذا "هذا والله شعر مدبر"(31).

    ويستطردابن سنان بعد هذا الشطر للرد على أبي الحسن الرماني النحوي قوله: "إنالتأليف على أضرب ثلاثة، متنافر، ومتلائم في الطبقة الوسطى، ومتلائم فيالطبقة العليا وهو القرآن الكريم، يقول ابن سنان: "إن هذا غير صحيح إذالتأليف على ضربين ليس إلا، وهما: المتنافر والمتلائم وقد يكون المتلائمما بعضه أشد تلاؤماً من بعض على حسب ما يقع التأليف، وكذلك المتنافر منهما يكون بعضه أشد في التنافر من بعض (32)".

    ولذلكلا يرى فرقاً بين القرآن الكريم وكلام العرب الفصيح، وهذا ناتج بالطبع عنأنه يعتبر الإعجاز القرآني راجعاً إلى صرف الله العرب عن معارضته وهذه هيالفكرة التي ان ينادي بها زعيم المعتزلة النظَّام.

    بـ أن يكون التأليف جارياً على قواعد النحو العربي. ولا يخفي أنه يلتقي ـفي هذا الشرط ـ مع الإمام عبد القاهر الجرجاني، الذي كان يلح على توخيمعاني النحو في النظم.

    ج ـ ألا يكون التأليف قد عُبِّر به عن أمر آخر يُكره ذكره، كقول عروة ابن الورد: (33).

    قلت لقوم في الكنيف تروَّحوا *** عشية بتنا عند ماوان رزَّحِ

    وهذا شرط صادفناه عند حديثه عن اللفظة المفردة، إضافة إلى أننا لا نسلِّم به كما مر معنا.

    ومنهذا الشروط أيضاً الابتعاد عن الكلمة ذات الحروف الكثيرة، والابتعاد عنالتصغير الدال على غير معناه...، إلى ما هنالك من شروط وضعها للفظ المفردوأعادها هنا مرة أخرى عند الحديث عن فصاحة الكلام المركَّب.

    ثميتحدث عن أثر التقديم والتأخير في الكلام الفصيح، وعن دور التشبيهوالاستعارة والكناية، والمحسنات اللفظية والمعنوية والمبالغة إلى غير ذلكمن الشروط التي لا علاقة لها بالفصاحة. إضافة إلى إدخاله عيوب القوافي منإيطاء وسناد، وإقواء وغير ذلك من شروط فصاحة الكلام المنظوم في رأيه.

    ولكييتضح مفهوم الفصاحة عند الخفاجي أكثر فأكثر لابد من أن أعقد مقارنة بينهوبين أحد أئمة البلاغة المعاصرين لابن سنان، كالإمام عبد القاهر الجرجانيالذي هو بحق شيخ البلاغيين بغير منازع.

    وإذاكان ابن سنان قد قسم شروط الفصاحة قسمين: قسماً يرجع إلى اللفظ وحده،وقسماً يعود إلى التأليف، فإن عبد القاهر يقف على طرفي نقيض معه. فقد كانبفكره الكلي يجعل مدار الفصاحة على النظم الذي هو تلاؤم اللفظة مع أختهاالسابقة أو اللاحقة ولذلك "ينبغي أن يُنظر إلى الكلمة قبل دخولها فيالتأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي بها يكون العلم أخباراً، ونهياً،واستخباراً أو تعجباً، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلىإفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة، هل يُتصور أن يكونبني اللفظتين تفاضل في الدلالة حتى تكون هذه أدل على معناها الذي وضعت لهمن صاحبتها..؟ وهل تجد أحداً يقول: هذه اللفظة فصيحة إلا وهو يعتبر مكانهامن النظم وحسن ملاءمة معناها لمعاني جاراتها، وفضل مؤانستها لأخواتها؟!"(34).

    وممنأخذ برأي الجرجاني هذا، يحيى بن حمزة العلوي في كتابه "الطراز" حيث قال:اعلم أن الألفاظ إذا كانت مركبة لإفادة المعنى فإنها يحصل لها بمزيةالتركيبة حظٌ لم يكن حاصلاً مع الإفراد" (35).

    فلوكانت الكلمة حسنة كمن حيث هي لفظ أو اتصفت بمزايا الشرف والحسن علىانفرادها دون النظر إلى حالها مع أخواتها، " لما اختلف بها الحال ولكانتإما أن تحسن أبداً أو لا تحسن أبداً (36)

    ولكنلا يعني هذا أن الفصاحة ـ عند الجرجاني ـ ليست سوى ضم الألفاظ بعضها إلىبعض دون ترابط في المعنى لأنه "لو كان لمجرد الضم تأثير في الفصاحة لكانينبغي إذا قيل: "ضحك خرج" أن يحدث من ضمِّ ضحك إلى خرج فصاحة" ثم إنالفصاحة ليست العلم بغريب اللغة، وقواعد الإعراب أو ما طريقه طريق الحفظدون الاستعانة بالنظر والفكر إذ أننا "نقرأ السورة الطويلة من القرآنالكريم فلا نجد فيها من الغريب شيئاً، ولو كانت أكثر ألفاظه غريبة لكانمحالاً أن يدخل ذلك في الإعجاز، والعرب ـ هم من هم ـ في العلم بغريباللغة، ولكان بإمكان معارضته"(37).

    فالفصاحةتعود في رأيه أولا وأخيراً إلى المعنى لأن "المزية التي من أجلها استحقاللفظ الوصف بأنه فصيحٌ عائدة في الحقيقة إلى معناه، ولو قيل إنها تكونفيه دون معناه ينبغي إذا قلنا في اللفظة: إنها فصيحة أن تكون الفصاحةواجبة لها بكل حال. ومعلوم أن الأمر بخلاف ذلك فإننا نرى اللفظة في غايةالفصاحة في موضع، ونراها بعينها فيما لا يحصى من المواضع وليس فيها منالفصاحة قليل ولا كثير"(38).

    وقدخالفه في رأيه هذا صاحب كتاب الطراز إذ قال: "فأما من زعم أن الفصاحةمتعلقها اللفظ لا غير فقد أبعد، فإن الألفاظ لا ذوق لها ولا يمكن الإصغاءإليها إلا لأجل دلالتها على معانيها، وأبعد من هذا من زعم أن متعلقالفصاحة المعنى فقط فإن المعاني إنما توصف بالبلاغة" (39).

    وواضحمن هذا القول أن صاحب الطراز لا يخالف الجرجاني وحده، وإنما يخالف ابنسنان أيضاً. وكأنما يريد أن يخرج برأي هو مزيج من الرأيين.

    والجرجانيحين ذهب مذهبه ذاك لم يكن ـ في اعتقادي ـ إلا رادَّاً على الرأي الذي قالبه الجاحظ في كتاب الحيوان: ".. والمعاني مطروحة في الطريق يعرفها العجميوالعربي، والبدوي والقروي، والمدني. وإنما الشأن في إقامة الوزن، وتخيُّراللفظ، وسهولة المخرج وكثرة الماء، وصحة الطبع وجودة السبك"(40).

    وحينمايتحدث الجرجاني عن الاستعارة والتشبيه والكناية فهو لا يتحدث عنها حديثاًيقف عند الظواهر الشكلية لهذه الأمور البلاغية. فالاستعارة ـ مثلاً ـ تثبتمعنى لا يعرفه السامع من اللفظ، وإنما يعرفه من معنى اللفظ فليس الغرض منقولنا: رأيت أسداً إلا مساواة الرجل للأسد في شجاعته. والسامع حينما يدركهذا المعنى لا يدركه من لفظ الأسد، ولكنه يعقله من معنى هذا اللفظ لأنهيعلم "أن لا معنى لجعله أسداً ـ مع العلم بأنه رجل ـ إلا أنه أراد بذلكبلوغه من شدة مشابهته للأسد مبلغاً يتوهم معه أنه أسد بالحقيقة"(41).

    والأمرنفسه بالنسبة إلى الكناية، ففي قولنا: "كثير الرماد" من الفصاحة والبيانما لا يكون إذا قلنا: هو كثير القرى والأضياف فإذا "نظرت إلى الكناية وجدتحقيقتها ومحصول أمرها أنها إثبات لمعنى أنت تعرف ذلك المعنى من طريقالمعقول دون طريق اللفظ"(42).

    ومن الأمثلة التي يناقشها الجرجاني محاولاً نفي الفضيلة عن اللفظ إلا من خلال نظمه مع أخوته، قوله تعالى: واشتقل الرأس شيباً (43)إذ يتساءل عن السبب الذي حاز به الفعل "اشتعل" الفضل والمزية؟! يقول: "..فإن السبب أنه يفيد مع لمعان الشيب في الرأس ـ الذي هو أصل المعنى ـالشمول وأنه قد شاع فيه، وأخذ من نواحيه وأنه استغراقه وعمَّ جملته، حتىلم يبق من السواد شيء أو لم يبق منه إلا ما لا يعتد به. وهذا مالا يكونإذا قيل: اشتعل شيب الرأس أو الشيب في الرأس. ووزان ذلك أنك تقول: اشتعلالبيت ناراً فيكون المعنى أن النار قد وقعت فيه وقوع الشمول، وأنها استولتعليه وأخذت في طرفيه ووسطه هذا التعبير من الشمول ما لا يعقل من اللفظالبتة، وإنما من إضافة الاشتعال للرأس معرِّفاً، وللشيب منكَّراً"(44).

    وفيالحقيقة إن البون شاسع بين مفهوم الفصاحة عند الجرجاني، ومفهومها عندالخفاجي. وذلك على الرغم من اتفاقهما ـ أحياناً ـ في بعض الأمور.. فابنسنان يبحث في الأدب من أدنى منازله وأقل جزئياته من صوت ومقطع ولفظ. لكنالجرجاني يذهب "مذهباً آخر في البحث البياني، وينظر نظرة لا تعرف إلاالكلَّ نظماً مستوي الأجزاء، كامل الصفات، وتنكر مكان الجزء إنكاراًواضحاً، ويصرّح بأن هذا الجزء لا أثر له في بناء العمل الأدبي"(45).

    إنفكر عبد القاهر ينطلق من نظرة كلية إلى الأدب، ولا يعد لأشلائه الممزقة أيتأثير. ولهذا فهو يحكم بتخطئة من قصر الفصاحة على اللفظ فقط من حيث هيأصوات منطوقة، وما ذلك إلا أن المعاني هي التي تترتب في النفس أولا، ثمتقفوها الألفاظ، فلا "يتصور أن تعرف للفظ موضعاً من غير أن تعرف معناه،وأنك تتوخى الترتيب في المعاني وتعمل الفكر هناك فإذا تم لك ذل أتبعتهاالألفاظ، وأنك إذا فرغت من ترتيب الألفاظ لم تحتج إلى أن تستأنف فكراً فيترتيب الألفاظ بل تجدها تترتب لك بحكم أنها خدم للمعاني(46).

    "إنالكلمة ثمرة الفكرة فمتى نضجت الفكرة سقطت كما تسقط الثمرة الناضجة ولكنهاتسقط على كلمتها" (47) أن الفكرة عندما تتصل إلى تمامها تصيح بكلمتها ـعلى حد تعبير أحدهم ـ.

    وأخيراًأود أن أقول للدكتور محمد عبد المنعم خفاجي، الذي يقول: (48) "إن كتاب "سرالفصاحة" أعمق كثيراً، وأشمل فكرة، وأوسع مدى، وأبلغ بياناً من كتابي"دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة" أود أن أقول له: هذا قولٌ مجانب للصواب،فيه الكثير الكثير من التجني على إمام فذ من أئمة العربية، تشهد له أبحاثهعلى خصب ملكته العقلية، وقدرته على الإقناع والبرهان. وقد أخذت نظريةالنظم التي قال بها منذ مئات السنين تحتل مكان الصدارة بين النظرياتاللغوية الحديثة ومن منا ينسى قوله تعالى: أما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض (49)؟!.

    الحواشي:

    (1) ديوان علقمة الفحل، ص 5.

    (2) ديوان أمية بن أبي الصلت، ص 126.

    (3) الأغاني، ج 10، ص 289.

    (4) تاج العروس، مادة "فصح" وأساس البلاغة أيضاً.

    (5) الآية 34 من سورة القصص.

    (6) تاج العروس، مادة "فصح".

    (7) سر الفصاحة، ص 60.

    (Cool المصدر السابق، 65 ـ 66.

    (9) المصدر نفسه، ص 66.

    (10) و(11) التلخيص، ص 24، وعقود الجمان، ص 4.

    (12) الطراز، ج1، ص 107.

    (13) الطراز، ج 1، ص 107 ـ 108.

    (14) الطراز، ج 1 ص 108.

    (15) ديوان المتنبي ج 2، ص 120، والإشارات والتنبيهات، ص 9.

    (16) سر الفصاحة، ص 75. والجرشى: النفس.

    (17) ديوان أبي تمام، ج 4، ص 523. ورواية الديوان: "بلا طائر سعد ولا طائر سهل".

    (18) ديوان أبي تمام، ج 3، ص 216. ورواية الديوان "في أوصاله".

    (19) ديوان أبي تمام، ج 3، ص 253.

    (20) سر الفصاحة، ص 83.

    (21) ديوان المتنبي، ج 4، ص 338.

    (22) مغنى اللبيب، ص 531.

    (23) سر الفصاحة، ص 91.

    (24) الأغاني، ج 14، ص 55. وللبيت رواية أخرى: "أقول لقوم...".

    (25) ديوان المتنبي، ج 1، ص 352.

    (26) سر الفصاحة، ص 95.

    (27) لسان العرب (عذق).

    (28) سر الفصاحة، ص 102.

    (29) سر الفصاحة، ص 125.

    (30) ديوان المتنبي، ج 3، ص 34.

    (31) سر الفصاحة، ص 108.

    (32) سر الفصاحة، ص 109.

    (33) الأغاني، ج 14، ص 55.

    (34) دلائل الأعجاز، ص 39.

    (35) الطراز، ج 1، ص 126.

    (36) دلائل الأعجاز، ص 42.

    (37) دلائل الأعجاز، ص 271، 273.

    (38) دلائل الأعجاز، ص 272، 273.

    (39) الطراز، ج 1، ص 123.

    (40) الحيوان ج 3، ص 131.

    (41) دلائل الأعجاز، ص 293.

    (42) دلائل الأعجاز، ص 292.

    (43) الآية 4 من سورة مريم.

    (44) دلائل الأعجاز، ص 75، 276.

    (45) البيان العربي، ص 149.

    (46) دلائل الأعجاز، ص 45.

    (47) نقلاً عن الدكتور أحمد مطلوب، ص 302.

    (48) انظر رأيه في العدد 66 من مجلة الفيصل.

    (49) الآية 17، من سورة الرعد.

    ***

    المصادر والمراجع:

    1 ـ أساس البلاغة للزمخشري. تحقيق: عبد الرحيم محمود ـ دار المعرفة ـ بيروت (1979).

    2 ـ الإشارات والتنبيهات، محمد بن علي الجرجاني، تحقيق: د. عبد القادر حسين ـ دار نهضة مصر ـ القاهرة. بلا.

    3 ـ الأغاني (ج 10، ص 14) نسخة مصور عن دار الكتب ـ نشر مؤسسة جمال للطباعة ـ بيروت.

    4 ـ البلاغة تطور وتاريخ، د. شوقي ضيف ـ القاهرة (965).

    5 ـ البيان العربي، د. بدوي طبانة ـ دار العودة ـ بيروت (1975).

    6 ـ تاج العروس، الزبيدي، طبع مطابع حكومة الكويت.

    7 ـ تاريخ النقد العربي ـ طه أحمد إبراهيم ـ دار الحكمة ـ دمشق ـ 1974.

    8 ـ التلخيص ـ للقزويني بشرح عبد الرحمن البرقوقي.

    9 ـ دلائل الأعجاز ـ عبد القاهر الجرجاني ـ تحقيق الدكتورين رضوان وفايز الداية ـ دار قتيبة دمشق ـ (1982).

    10 ـ ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي ـ تحقيق: محمد عبد عزام ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ بلا.

    11 ـ ديوان أمية بن أبي الصلت ـ الدكتور عبد الحفيظ السطلي ـ مكتبة أطلس ـ دمشق ط 3.

    12 ـ ديوان علقمة الفحل بشرح الأعلم الشنتمري ـ تحقيق الخطيب والصقال ـ دار الكتاب العربي حلب ط 1 (1969).

    13 ـ ديوان المتنبي بشرح البرقوقي ـ دار الكتاب العربي ـ بيروت 975.

    14 ـ سر الفصاحة ـ ابن سنان الخفاجي ـ تصحيح عبد المتعال الصعيدي ط 1 (943).

    15 ـ الطراز ـ يحيى بن حمزة العلوي ـ ج 1، مطبعة المقتطف ـ القاهرة (1914).

    16 ـ عقود الجمان في علم المعاني والبيان جلال الدين السيوطي ـ المطبعة الشرقية ـ القاهرة (1305 هـ).

    17 ـ القرآن الكريم.

    18 ـ القزويني وشروح التلخيص ـ د. أحمد مطلوب ـ مكتبة النهضة ـ بغداد (967).

    19 ـ لسان العرب ـ ابن منظور المصري ـ دار المعارف ـ القاهرة ـ بلا.

    20 ـ المعلقات العشر ـ التبريزي ـ تحقيق د. فخر الدين قباوة ـ المكتبة العربية ـ حلب (1970).

    21 ـ مغني اللبيب ـ ابن هشام الأنصاري ـ تحقيق د. مازن المبارك ـ دار الفكر ـ بيروت.

    22 ـ الموجز في شرح دلائل الأعجاز ـ د. جعفر دك الباب ـ مطبعة الجليل ـ دمشق (1980).



    مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 31 - السنة الثامنة - نيسان "أبريل" 1988 - شعبان 1408

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 08, 2024 8:54 am