الهوية الشعرية وثقافة النص
سمر محفوض - سورية
الحداثة الشعرية ولادة أم ...؟
إن
المفردة في الشعر، من حيث هي سمة معنوية ملازمة للسمات النصية, تنتظر
الربط، وتنتظر العلاقة بين عناصرها وعناصر الأشياء الأخرى، والتي هي في
الأصل مجازية؛ أي الإفصاح عن حقيقة مفردات الوجود ومتناقضاتها ما أتاح
المجال لخلق المعجم.
_من
يتكلم الشاعر أم اللغة؟ إنه هو الفضاء وهي المحتوى، أي وجود غير محقق إلا
على متنها أحياناً. اللغة هي التي تتحدث من خلاله لأنها بنية، وهو تحوّل،
وهنا مقولة "موت الشاعر" لغوياً لا تنفصل عن موت الشعر, أي الإبداع المعني
بتحميل المفردة بفيض المعنى المؤسس لعملية الانتقال من العلاقات المعتمة
إلى الضوء من الغربة إلى الإعلان، في إطار سياق تحولات ليست بين طرفين
وحسب الشاعر والشعر، بل بين أطراف تمتد وتنتشر بقدر امتداد الجملة، أو
بشكل أدق؛ الصورة الكلية للحالة، لأن الرؤيا خلق للمحاكاة.
من
حق كل منا أن يحلم بما يشاء، وأن يدخل المعنى البلاغي الذي يختار، إنما
المشكلة في البلاغة ذاتها التي جعلت الإبداع وسيلة لتأكيدها وتسويغ
وجودها، بدلاً من كونها أداة لتذوق الشعر، وإدراك سحره، لتصبح هي الجمال
المطلق.
ربما
تجدني هنا نمطية ومنهجية، لكني أريد القول: هكذا أصبح الشعر جدليةً ونوعاً
من كابوس موجه يتخطى أبعاد الزمن. إذاً الجدل لن يتوقف عند الخروج من
المتاهة,
وفي انتظار من يناقش ويدير الحوار حول المنهج, والذي هو
وليد عملية تراكمية لتحولات البنية التأليفية لمجموعة تحولات الأخير منها
ليس النهائي بأي حال, سواء كان بشكل واع أو غير واع، فإن المحاولة الشعرية
لا تقوم على علاقات اعتباطية، وإنما على التميز في مهمة النهوض بعبء
التواصل بين الرؤيا الكلية والرؤيا الخلق والصيرورة التي تولد فيضاً من
المدلولات، دون الانتماء إلى مدارسها, للتعبير عن اللامحدود، وهو إنتاج نص
يُلزمنا بتأويله بمعنى التحويل، وبهذا المعنى نجعل الباطنية اللغوية آلية
منطقية قادرة على توليد المعنى للوصول للصيرورة.
عود على بدء
أيضاًً
وأيضاً.. الحداثة مفهوم مراوغ وملتبس، ومما يلفت النظر في ما يتعلق
بالحداثة الأدبية العربية والشعرية خصوصاً، والتي عمل شعراء الحداثة على
تفجير المصطلح داخلياً لإنتاج صور شعرية مدهشة.
ثمة
سؤال يطرح نفسه: هل ينهار الشعر تحت مشاريع إنتاجه، بحيث تبدو المفاهيم
المتناقضة والصيغ وهي تولد من بعضها, بدون توقف ودون تفاعل، أم فقط تبدو
رمزاً للطقس المنتظر لولادة لن تأتي، سواء كان الرحم العلامة اللغوية
والمتن الحامل؟ طبعاً أنا لست مع هذا الاتجاه..
الشاعر
ليس رحماً للتحول المؤكد أو علامته، فالرحم يبقى ضبابياً وغائباً، وغير
قابل للإخصاب على صعيد الواقع الذابل والرؤية، على الرغم من إيحاءاتها
بالتفتح والخلق مصفرة ذابلة يلفها السراب, والحياة الواعدة للشعر في
الواقع السائد ليست حياة للحياة، لكنها حياة للموت.. للصمت! كلنا متورطون
بالحداثة مع أو ضد أو بجانب. بهذا المعنى نعم؛ هو موت الشعر لأنه موت
التوق. الكتابة تحتاج إلى مناخ صحي لتنمو، ونحن نعيش في فضاء كبريتي,
والشعر يؤكد كل مرة أنه دلالة حيوية على معنى تمثل النص في الوعي
واللاوعي، وهذا محكوم بالمكوّن الثقافي للشاعر المعاصر وماهيته, أي بالأفق
الفني الإبداعي من الأسطورة حتى الحدث, وتوافقها بالصيغ المنسجمة مع
الذاكرة الجماعية وأدبياتها ومعياريتها، بعيداً عن التعسف الذهني المسرف
في حجبه للمغايرة.
في
الحقيقة، وعلى صعيد الواقع والوعي، هناك تجارب رائدة ومبشرة ومهمة أضافت
للحداثة, أسماء وقامات شعرية تركت بصمتها؛ أدونيس وتجاربه المبهرة
والمثيرة للجدل الذي حقق بهاءً شعرياً كفعل خارق شمولي فاغر القلب يستقرئ
رموزه, ويحرسها كصدام معنى الكون والكائن بذاكرة إشراقية للجوانية على
مستوى الطروحات المؤلة لجوهر نظريتها. والراحل سركون بولص، شاعر قدم رؤية
شعرية خاصة لجدلية المحايثة, احتكمت إلى فهم عميق للكتابة منسجم مع مقومات
الكائن الشعري المرتبط بماهية الثقافة الأم، إنه يحث على كتابة نص شعري
كمفهوم جمالي بعيداً عن النظريات على مستوى النص، وهو هنا يسعى إلى
استعادة روح جديدة تؤكد الهوية الشعرية، وكذلك يدعو إلى ممارسة غفران
القصيدة, بدعوى المستقبل، وتجاوز حالة الآنية المتهالكة. كما أسس أنسي
الحاج وعياً شعرياً مرتجأً للبناء الأدبي في حياة النص بموازاة حيوات
الوعي. بول شاؤول، وبتأثر من النزعة الغربية, يحاول بعث الحياة بالقصيدة
المعيشة كوجود فاعل ومنفعل على جانب مهم من روح الشعرية العربية الحديثة
على مستوى الموسيقا, والفن التواصلي والصدام أيضاً. خليل حاوي جرب مشروعه
الحداثي كوليد مشروع حمّله إخفاقات الهزيمة البشرية كسمة. نزار قباني
ومشروعه الرائد كتشكيل ايقاعي للجسد المحمّل بأناقة شعرية راقية، تجذب
الوجدان بجمالية فريدة يماثل إيقاعات الجسد بحركات الروح كتجليات تتوامض
وتتجلى ولا تتجسد. محمد بنيس قدم مشروعه من حيث البحث عن هوية وانزياح
اللغة.
إشراقات النص الحداثوي.. ما له وما عليه
الصورة
بناء شعري رشيق ينطوي على إثارة تمهيدية تتشابك وتنفرج وفق انفجار لغوي
يؤدي إليها، مخلفاً في الذاكرة حالة مبهرة وممتعة, لها قدرة هائلة على
الانطباع في الذاكرة التي يحوزها المعنى الحيوي لمفهوم الخلود الشعري.
بالطبع شخصياً لست مشغولة بحماسة كبيرة أو قليلة بإنتاج واختبار مصطلح
نقدي أكثر حضوراً، أو اقل صخباً، بل بتلمس حساسية شعرية/ نثرية قادرة على
موضعة مادتها الشعرية، وتخليق فضاءاتها بأناة، وعمق الشخصية الإنسانية
وتجاربها الجديرة بالكشف، وأسلبتها وجدلها في سياقها المناسب, ولحظتها
المناسبة بعيداً عن قوانين النسبة والتناسب والكم والكيف، لأن الشعر هو
حوار مع العالم لا حكاية معزولة مشغولة بدقة المعنى فقط، وهي ملاحظة لا بد
أن تقودنا بالضرورة والحتمية إلى اعتماد دلالات الواقع الشعري، لامتلاك
معايير المفهوم موضوعياً، على اعتبار أن "الشعر ديوان العرب"، هي مقولة
تتأس معرفياً على سند اجتماعي وتاريخي تعمّق وتشجر فيه الشعر في وعي ولا
وعي مجتمع، في إطار محيط زماني/ مكاني محدد، يلزمنا بقراءة الواقع/
الاستقراء المعرفي، يشير إلى غربة الشعر والأدب عموماً، وتراجع الجماهيرية
على اعتبار أن الشاعر والمتلقي هما من الوسط الأدبي ضمن شبكة متابعين
ومنتجين للأدب, أما الجماهير الغفيرة فهي غالباً لم تسمع بنا إلا ما قل من
استثناءات تدفع إلى إعادة تعريف بعض الأدباء.
المشكلة
الأخرى هي أن غالبية ما ينشر في منابرنا الثقافية ليس معياراً صادقا
للحداثة، لأنه لا أحد يغيب عن ذهنه رداءة المؤسسات، بمعنى أن النشر هو
بأفضل حالاته حصيلة علاقات شخصية تجعل المبدع الحقيقي والمتلقي أيضاً
مشككاً بجدوى أي تظاهرة أو مهرجان ثقافي، وهذا لا يعني أبدا أن القصيدة
الحديثة عاجزة عن تحديد هويتها، أو توصيف وتعيين رداءتها، بل هو قراءة
للواقع، وهو أيضاً في الحقيقة وعياً لجوهر انشطار المعنى التحديثي
للشعرية.
وتتشكل
الصورة المشهدية ببساطة كمجتمع ما زال يتمسك بأدواته المعرفية منذ زمن
غابر، بينما الشعر مشروع وجداني متجدد, وتلك مأساته ووجعه، وكذلك ميزته
التي تجعله الأكثر صلاحاً لتقديم مجتمعه بكل مأساويه نتاجه وجنوحه
واستشرافه أيضاً، دون كثير اهتمام بمفاهيم جامدة .
موقع الثقافة العربية من الحداثة
أطلت
الحداثة العربية بوساطة الآخر، أي من الخارج، ولم تكن كالغربية من الداخل/
فرنسيس بيكون (1561-1626) بدحضه للمنطق الأرسطي، وبمؤازرة ظروف ثورية
شاملة على كافة الأصعدة، وما كرسته من انقلاب في النظم المعرفية, وبدء
تأسيس لأنطولوجيا مغايرة كظرف موضوعي للحداثة الغربية، وبعد ظهور الآثار
الرهيبة للثورة الصناعية التي نقلت المجتمع الغربي إلى الطور الكولونيالي
وما رافقها من تغيرات تجاوزت كل الثوابت، وما رافق ذلك من إحباط بسبب
مشروع الحداثة الذي قام بالرغم من كل شيء بتحقيق الدولة الوطنية الحديثة،
والانتقال من العبودية إلى المواطنة كمشروع ثقافي ضمن السياقات التاريخية
والموضوعية لكل أشكال الإبداع الجديدة شكلاً ومضموناً تلك التي أنتجتها
المخيلة الفكرية الأوربية بمدارسها وتياراتها الفلسفية, أدّت إلى
ولادة قصيدة النثر، وقدمت مفهوماً نقدياً ثورياً لنظرية البنيوية، وكذلك
التفكيكية، ولاحقاً التحطيمية أيضاً.
إن
أزمة الشعر العربي اليوم شائكة متفردة، تبدأ موضوعاً من إشكالية العلاقة
التاريخية بين الثقافة والسلطة، وافتقار المجتمعات العربية إلى بنى وحوامل
حقيقية اجتماعية من مؤسسات فكرية، وهي ذات حساسيات متقاطعة ومتشابكة,
تحاول استقراء المشهد الشعري وإن تتجاوز لغتها المتداولة، بحيث تصنع فضاء
شعرياً يعيش للمستقبل، وتقدم اقتراحات حداثية بالنسبة للمخيلة واللغة
والدلالة والموضوع والبحث عن كينونتها، عبر التجريب عبوراً إلى شخصية
الكاتب عموماً، ومدى قدرته على التواصل مع محيطه.
هل نجحت الحداثة الشعرية العربية في اختطاط مشروعها؟
من بين المعايير التي تحسب للتجربة الحداثوية العربية:
- الاحتفاء بالتجريب وعدم الركون إلى النمطي من أساليب التعبير.
- اعتماد التأويل وعدم المباشرة من خلال الصورة الشعرية المنجزة, وتوظيف الأسطورة من كل البيئات والثقافات.
- التعاطي مع القصيدة كوحدة عضوية.
- فردانية الخطاب الشعري الذاتي.
- قيام الشعرية الحديثة على رفع الحاجز بين الكشف والتنبؤ لصالح الإبداع الكامن.
إنما
أيضاً ما يحسب على الحداثة العربية وتجربتها أنها هادنت الموروث وأجهضت
الطبقة الوسطى كحامل ومولد اجتماعي للإبداع الحداثوي, حيث أكدت
الاستراتيجيات الفكرية للمجتمعات كافةً أن التحدي الكبير الذي سيواجه
العالم في السنوات القادمة، هو تحدّ أخلاقي ثقافي يلح على تعزيز أسباب
حضوره الفعال، وربما أصبح وجود الشعوب أصلاً مرهوناً بوجودها الثقافي.
إن
المطلوب هو تعميق وتعميم المعرفة الموضوعية والنقدية بالذات الحضارية,
وتجديد الخطاب الفكري، وتدعيم دور مؤسسات الاستنتاج الفكري الثقافي
والتفاعل فيما بينها، لأن ذلك هو الحد الفاصل بين المجتمعات البدائية التي
لا تعني بالذاكرة, والمجتمعات المتحضرة التي تنظر إلى المعرفة بوصفها
تراكم وبناء، لا مجرد انقطاعات وبدايات مكررة. التمسك بفكرة التفاعل كونها
جزء من الحياة الإبداعية مرادف لمفهوم التواصل والتراكم المعرفي للتجارب
والخبرات، وهذا جزء مهم يحترم عقل المبدع والمتلقي للخروج برؤى جديدة
منفتحة على الآخر، وواعية للتحولات التي حدثت، وتحدث كتوازٍ بين الحبر
وشبكة الإنترنيت وإمكاناته في زمن ماضٍ وحاضر وفي جميع الأزمنة. الثقافة
فعل حضور تشاركي عالي في أطواره العالية قادر على بسط طمأنينة تحاول إقامة
جسور فنية بين الوعي والرؤى أملاً بتجربة تفصح عن تورّطها النبيل بالإبداع
الحداثي. ليست هي الجغرافيا الذاكرة، بل الحرص على أن نكون ما نشاء من
خلال التفاعل.
هي أسئلة شديدة الإلحاح، وإيمان عميق بقدرة الشعر، وخصوصيته التي تجاري الخلق والذي هو توأم النبوءة الوحيد.
سمر محفوض - سورية
الحداثة الشعرية ولادة أم ...؟
إن
المفردة في الشعر، من حيث هي سمة معنوية ملازمة للسمات النصية, تنتظر
الربط، وتنتظر العلاقة بين عناصرها وعناصر الأشياء الأخرى، والتي هي في
الأصل مجازية؛ أي الإفصاح عن حقيقة مفردات الوجود ومتناقضاتها ما أتاح
المجال لخلق المعجم.
_من
يتكلم الشاعر أم اللغة؟ إنه هو الفضاء وهي المحتوى، أي وجود غير محقق إلا
على متنها أحياناً. اللغة هي التي تتحدث من خلاله لأنها بنية، وهو تحوّل،
وهنا مقولة "موت الشاعر" لغوياً لا تنفصل عن موت الشعر, أي الإبداع المعني
بتحميل المفردة بفيض المعنى المؤسس لعملية الانتقال من العلاقات المعتمة
إلى الضوء من الغربة إلى الإعلان، في إطار سياق تحولات ليست بين طرفين
وحسب الشاعر والشعر، بل بين أطراف تمتد وتنتشر بقدر امتداد الجملة، أو
بشكل أدق؛ الصورة الكلية للحالة، لأن الرؤيا خلق للمحاكاة.
من
حق كل منا أن يحلم بما يشاء، وأن يدخل المعنى البلاغي الذي يختار، إنما
المشكلة في البلاغة ذاتها التي جعلت الإبداع وسيلة لتأكيدها وتسويغ
وجودها، بدلاً من كونها أداة لتذوق الشعر، وإدراك سحره، لتصبح هي الجمال
المطلق.
ربما
تجدني هنا نمطية ومنهجية، لكني أريد القول: هكذا أصبح الشعر جدليةً ونوعاً
من كابوس موجه يتخطى أبعاد الزمن. إذاً الجدل لن يتوقف عند الخروج من
المتاهة,
وفي انتظار من يناقش ويدير الحوار حول المنهج, والذي هو
وليد عملية تراكمية لتحولات البنية التأليفية لمجموعة تحولات الأخير منها
ليس النهائي بأي حال, سواء كان بشكل واع أو غير واع، فإن المحاولة الشعرية
لا تقوم على علاقات اعتباطية، وإنما على التميز في مهمة النهوض بعبء
التواصل بين الرؤيا الكلية والرؤيا الخلق والصيرورة التي تولد فيضاً من
المدلولات، دون الانتماء إلى مدارسها, للتعبير عن اللامحدود، وهو إنتاج نص
يُلزمنا بتأويله بمعنى التحويل، وبهذا المعنى نجعل الباطنية اللغوية آلية
منطقية قادرة على توليد المعنى للوصول للصيرورة.
عود على بدء
أيضاًً
وأيضاً.. الحداثة مفهوم مراوغ وملتبس، ومما يلفت النظر في ما يتعلق
بالحداثة الأدبية العربية والشعرية خصوصاً، والتي عمل شعراء الحداثة على
تفجير المصطلح داخلياً لإنتاج صور شعرية مدهشة.
ثمة
سؤال يطرح نفسه: هل ينهار الشعر تحت مشاريع إنتاجه، بحيث تبدو المفاهيم
المتناقضة والصيغ وهي تولد من بعضها, بدون توقف ودون تفاعل، أم فقط تبدو
رمزاً للطقس المنتظر لولادة لن تأتي، سواء كان الرحم العلامة اللغوية
والمتن الحامل؟ طبعاً أنا لست مع هذا الاتجاه..
الشاعر
ليس رحماً للتحول المؤكد أو علامته، فالرحم يبقى ضبابياً وغائباً، وغير
قابل للإخصاب على صعيد الواقع الذابل والرؤية، على الرغم من إيحاءاتها
بالتفتح والخلق مصفرة ذابلة يلفها السراب, والحياة الواعدة للشعر في
الواقع السائد ليست حياة للحياة، لكنها حياة للموت.. للصمت! كلنا متورطون
بالحداثة مع أو ضد أو بجانب. بهذا المعنى نعم؛ هو موت الشعر لأنه موت
التوق. الكتابة تحتاج إلى مناخ صحي لتنمو، ونحن نعيش في فضاء كبريتي,
والشعر يؤكد كل مرة أنه دلالة حيوية على معنى تمثل النص في الوعي
واللاوعي، وهذا محكوم بالمكوّن الثقافي للشاعر المعاصر وماهيته, أي بالأفق
الفني الإبداعي من الأسطورة حتى الحدث, وتوافقها بالصيغ المنسجمة مع
الذاكرة الجماعية وأدبياتها ومعياريتها، بعيداً عن التعسف الذهني المسرف
في حجبه للمغايرة.
في
الحقيقة، وعلى صعيد الواقع والوعي، هناك تجارب رائدة ومبشرة ومهمة أضافت
للحداثة, أسماء وقامات شعرية تركت بصمتها؛ أدونيس وتجاربه المبهرة
والمثيرة للجدل الذي حقق بهاءً شعرياً كفعل خارق شمولي فاغر القلب يستقرئ
رموزه, ويحرسها كصدام معنى الكون والكائن بذاكرة إشراقية للجوانية على
مستوى الطروحات المؤلة لجوهر نظريتها. والراحل سركون بولص، شاعر قدم رؤية
شعرية خاصة لجدلية المحايثة, احتكمت إلى فهم عميق للكتابة منسجم مع مقومات
الكائن الشعري المرتبط بماهية الثقافة الأم، إنه يحث على كتابة نص شعري
كمفهوم جمالي بعيداً عن النظريات على مستوى النص، وهو هنا يسعى إلى
استعادة روح جديدة تؤكد الهوية الشعرية، وكذلك يدعو إلى ممارسة غفران
القصيدة, بدعوى المستقبل، وتجاوز حالة الآنية المتهالكة. كما أسس أنسي
الحاج وعياً شعرياً مرتجأً للبناء الأدبي في حياة النص بموازاة حيوات
الوعي. بول شاؤول، وبتأثر من النزعة الغربية, يحاول بعث الحياة بالقصيدة
المعيشة كوجود فاعل ومنفعل على جانب مهم من روح الشعرية العربية الحديثة
على مستوى الموسيقا, والفن التواصلي والصدام أيضاً. خليل حاوي جرب مشروعه
الحداثي كوليد مشروع حمّله إخفاقات الهزيمة البشرية كسمة. نزار قباني
ومشروعه الرائد كتشكيل ايقاعي للجسد المحمّل بأناقة شعرية راقية، تجذب
الوجدان بجمالية فريدة يماثل إيقاعات الجسد بحركات الروح كتجليات تتوامض
وتتجلى ولا تتجسد. محمد بنيس قدم مشروعه من حيث البحث عن هوية وانزياح
اللغة.
إشراقات النص الحداثوي.. ما له وما عليه
الصورة
بناء شعري رشيق ينطوي على إثارة تمهيدية تتشابك وتنفرج وفق انفجار لغوي
يؤدي إليها، مخلفاً في الذاكرة حالة مبهرة وممتعة, لها قدرة هائلة على
الانطباع في الذاكرة التي يحوزها المعنى الحيوي لمفهوم الخلود الشعري.
بالطبع شخصياً لست مشغولة بحماسة كبيرة أو قليلة بإنتاج واختبار مصطلح
نقدي أكثر حضوراً، أو اقل صخباً، بل بتلمس حساسية شعرية/ نثرية قادرة على
موضعة مادتها الشعرية، وتخليق فضاءاتها بأناة، وعمق الشخصية الإنسانية
وتجاربها الجديرة بالكشف، وأسلبتها وجدلها في سياقها المناسب, ولحظتها
المناسبة بعيداً عن قوانين النسبة والتناسب والكم والكيف، لأن الشعر هو
حوار مع العالم لا حكاية معزولة مشغولة بدقة المعنى فقط، وهي ملاحظة لا بد
أن تقودنا بالضرورة والحتمية إلى اعتماد دلالات الواقع الشعري، لامتلاك
معايير المفهوم موضوعياً، على اعتبار أن "الشعر ديوان العرب"، هي مقولة
تتأس معرفياً على سند اجتماعي وتاريخي تعمّق وتشجر فيه الشعر في وعي ولا
وعي مجتمع، في إطار محيط زماني/ مكاني محدد، يلزمنا بقراءة الواقع/
الاستقراء المعرفي، يشير إلى غربة الشعر والأدب عموماً، وتراجع الجماهيرية
على اعتبار أن الشاعر والمتلقي هما من الوسط الأدبي ضمن شبكة متابعين
ومنتجين للأدب, أما الجماهير الغفيرة فهي غالباً لم تسمع بنا إلا ما قل من
استثناءات تدفع إلى إعادة تعريف بعض الأدباء.
المشكلة
الأخرى هي أن غالبية ما ينشر في منابرنا الثقافية ليس معياراً صادقا
للحداثة، لأنه لا أحد يغيب عن ذهنه رداءة المؤسسات، بمعنى أن النشر هو
بأفضل حالاته حصيلة علاقات شخصية تجعل المبدع الحقيقي والمتلقي أيضاً
مشككاً بجدوى أي تظاهرة أو مهرجان ثقافي، وهذا لا يعني أبدا أن القصيدة
الحديثة عاجزة عن تحديد هويتها، أو توصيف وتعيين رداءتها، بل هو قراءة
للواقع، وهو أيضاً في الحقيقة وعياً لجوهر انشطار المعنى التحديثي
للشعرية.
وتتشكل
الصورة المشهدية ببساطة كمجتمع ما زال يتمسك بأدواته المعرفية منذ زمن
غابر، بينما الشعر مشروع وجداني متجدد, وتلك مأساته ووجعه، وكذلك ميزته
التي تجعله الأكثر صلاحاً لتقديم مجتمعه بكل مأساويه نتاجه وجنوحه
واستشرافه أيضاً، دون كثير اهتمام بمفاهيم جامدة .
موقع الثقافة العربية من الحداثة
أطلت
الحداثة العربية بوساطة الآخر، أي من الخارج، ولم تكن كالغربية من الداخل/
فرنسيس بيكون (1561-1626) بدحضه للمنطق الأرسطي، وبمؤازرة ظروف ثورية
شاملة على كافة الأصعدة، وما كرسته من انقلاب في النظم المعرفية, وبدء
تأسيس لأنطولوجيا مغايرة كظرف موضوعي للحداثة الغربية، وبعد ظهور الآثار
الرهيبة للثورة الصناعية التي نقلت المجتمع الغربي إلى الطور الكولونيالي
وما رافقها من تغيرات تجاوزت كل الثوابت، وما رافق ذلك من إحباط بسبب
مشروع الحداثة الذي قام بالرغم من كل شيء بتحقيق الدولة الوطنية الحديثة،
والانتقال من العبودية إلى المواطنة كمشروع ثقافي ضمن السياقات التاريخية
والموضوعية لكل أشكال الإبداع الجديدة شكلاً ومضموناً تلك التي أنتجتها
المخيلة الفكرية الأوربية بمدارسها وتياراتها الفلسفية, أدّت إلى
ولادة قصيدة النثر، وقدمت مفهوماً نقدياً ثورياً لنظرية البنيوية، وكذلك
التفكيكية، ولاحقاً التحطيمية أيضاً.
إن
أزمة الشعر العربي اليوم شائكة متفردة، تبدأ موضوعاً من إشكالية العلاقة
التاريخية بين الثقافة والسلطة، وافتقار المجتمعات العربية إلى بنى وحوامل
حقيقية اجتماعية من مؤسسات فكرية، وهي ذات حساسيات متقاطعة ومتشابكة,
تحاول استقراء المشهد الشعري وإن تتجاوز لغتها المتداولة، بحيث تصنع فضاء
شعرياً يعيش للمستقبل، وتقدم اقتراحات حداثية بالنسبة للمخيلة واللغة
والدلالة والموضوع والبحث عن كينونتها، عبر التجريب عبوراً إلى شخصية
الكاتب عموماً، ومدى قدرته على التواصل مع محيطه.
هل نجحت الحداثة الشعرية العربية في اختطاط مشروعها؟
من بين المعايير التي تحسب للتجربة الحداثوية العربية:
- الاحتفاء بالتجريب وعدم الركون إلى النمطي من أساليب التعبير.
- اعتماد التأويل وعدم المباشرة من خلال الصورة الشعرية المنجزة, وتوظيف الأسطورة من كل البيئات والثقافات.
- التعاطي مع القصيدة كوحدة عضوية.
- فردانية الخطاب الشعري الذاتي.
- قيام الشعرية الحديثة على رفع الحاجز بين الكشف والتنبؤ لصالح الإبداع الكامن.
إنما
أيضاً ما يحسب على الحداثة العربية وتجربتها أنها هادنت الموروث وأجهضت
الطبقة الوسطى كحامل ومولد اجتماعي للإبداع الحداثوي, حيث أكدت
الاستراتيجيات الفكرية للمجتمعات كافةً أن التحدي الكبير الذي سيواجه
العالم في السنوات القادمة، هو تحدّ أخلاقي ثقافي يلح على تعزيز أسباب
حضوره الفعال، وربما أصبح وجود الشعوب أصلاً مرهوناً بوجودها الثقافي.
إن
المطلوب هو تعميق وتعميم المعرفة الموضوعية والنقدية بالذات الحضارية,
وتجديد الخطاب الفكري، وتدعيم دور مؤسسات الاستنتاج الفكري الثقافي
والتفاعل فيما بينها، لأن ذلك هو الحد الفاصل بين المجتمعات البدائية التي
لا تعني بالذاكرة, والمجتمعات المتحضرة التي تنظر إلى المعرفة بوصفها
تراكم وبناء، لا مجرد انقطاعات وبدايات مكررة. التمسك بفكرة التفاعل كونها
جزء من الحياة الإبداعية مرادف لمفهوم التواصل والتراكم المعرفي للتجارب
والخبرات، وهذا جزء مهم يحترم عقل المبدع والمتلقي للخروج برؤى جديدة
منفتحة على الآخر، وواعية للتحولات التي حدثت، وتحدث كتوازٍ بين الحبر
وشبكة الإنترنيت وإمكاناته في زمن ماضٍ وحاضر وفي جميع الأزمنة. الثقافة
فعل حضور تشاركي عالي في أطواره العالية قادر على بسط طمأنينة تحاول إقامة
جسور فنية بين الوعي والرؤى أملاً بتجربة تفصح عن تورّطها النبيل بالإبداع
الحداثي. ليست هي الجغرافيا الذاكرة، بل الحرص على أن نكون ما نشاء من
خلال التفاعل.
هي أسئلة شديدة الإلحاح، وإيمان عميق بقدرة الشعر، وخصوصيته التي تجاري الخلق والذي هو توأم النبوءة الوحيد.