قصائد احمد العجمي وثقافة الترميز
اثث احمد العجمي في مجموعته الشعرية (مساء في يدي)(*) تعاملاً جديداً مع جغرافية قصيدة النثر لنكون وعلى مدار المجموعة قبالة بوح متصل يتشذر تدوينياً الى ثلاث شذرات (اعني الشمس ، اشعل ثلجاً ، لانك النهار) مغلفة بجمل شعرية مشفرة تتقشر فنياً الى ثيمات اصغر تشكل فصوص المجموعة المترعة برؤى الشاعر ومواقفه ازاء (الراهن ، الآخر ، اليومي المعاش ) التي تتكثف فيها ذبذبات الشعر حد الومضة فتعيد تقنياتها التحديثية الى الذاكرة مقولة موريس بلانشو ( القصيدة تكتب شاعرها) بماتخلقه من اشتباكات دلالية تنجح في تضبيب الرؤية المسكوت عنها وهي تقنية اشتغلت عليها متون المجموعة برمتها اذ تستدرج افق التلقي الى فضاءات مغايرة لموقف النص الذي لن تصل اليه القراءة العجلى بل القراءة التي تتوخى فك الرموز والشفرات واجتياز فخاخ المشاكسة ويصدق هذا على عنونة المجموعة (مساء في يدي) التي تحيل الى اكثر من دلالة يتشاجر فيها ليل امرىء القيس مع ليل النابغة ليتخلق ليل جديد نجده يقف صامتاً حائراً امام البطانة الاولى لهذه العنونة (اعني الشمس) التي تتقشر في ظهر الصفحة الى (لن اجدكم وسأبقى ارسم المصباح الخارجي) لتضاء رؤية فلسفية للانا وللاخر على حد سواء تنجح في استدعاء ملامح ديوجينوس ومصباحه الباحث عن الحقيقة في وهج النهار الا ان المخيال الشعري يجعلنا قبالة ديوجينوس معاصر يوقد ذات المصباح بحثاً عن اكسير الصداقة الضائع والذي مظهره المتن صرخة مدوية تتحرك من عمق اللحظة الراعفة لتستقر في رحم الآتي (لن اجدكم) وقد عزز الفعل (ارسم ) التوحد بين وهج النص ووهج ذلك المصباح لتتكثف عتمة الاغتراب الزمكاني وهو اغتراب يحايث عتمة المساء (العنونة الاساس) وتفضي هذه العنونة دلالياً الى العنونة الثانية (اشعل ثلجاً) وبطانتها (مرة اخرى تكون المسافة فراشة) وهي بالضرورة ستفضي الى العنونةالاخيرة (لأنك النهار) وبطانتها (عندما يأتي النهار سأكون بجانبه) لنكون قبالة فواصل مضيئة تفتت عتمة المساء وتؤثت لقصيدة سيرية تؤرخ لعذابات الانسان المعاصر الذي اعلن منذ البدء عن سلطته على عتمة المساء وقدرته على اعادة صياغته وتشكيله بدلالة (اليدين ) ، لاحظ مثلاً كيف يشتغل المخيال الشعري في الشذرة الثانية (اشعل ثلجاً)(1) على ايقاد تقنية المونتاج السينمائي الذي يتشفر من خلاله النص ويخلق رغبة لدى القاريء لفك هذه التشفيرات حين يكون قبالة لوحة تبدو في ظاهرها مبعثرة متناثرة الا انها في مضمرها الايحائي تخفي احداثاً واحاديث يقوم القارىء باضاءة تفاصيلها الغائبة والربط فيما بينها. ، تأمل مثلاً الفص الموسوم بـ (آثار)(2) :
عطر يصدح / شمعة نائمة بعمق/ وذاك جورب يضيء / وهذه الشراشف متماسكة / كأسان/ وزجاجة شعر
أطلال سيجار/ لم تكمل أثارتها / وتلك منشفة فرحة / وفي الزاوية الزجاجية / طباشير همس متقطع/ لابد انهما كانا هنا/ قبل ان / تهدأ المصابيح !)
انت في هذه القصيدة ازاء بنية قصصية متكاملة تحمل في مخزوناتها الايحائية احداثاً محمومة تتكيء الى منتجة واعية للتقنيات السردية التي تفضح توق النص الى اشراك التلقي في اعادة صياغة المنتج اللاحق الذي يتمحور حول سقوط الحب في شرك الغواية الجسدية فانت قبالة (مؤنث / مذكر) قام المخيال الشعري بدمجهما بقرينة (كأسين) وقبالة حدث تمترس باستار الليل (قبل ان تهدأ المصابيح) وقبالة مكان مغلق شكل مدار اً تتقشر اغلفته وصولاً الى لبه ، بدءاً بالعنونة (آثار) التي شكلت اضاءة كاشفة لمساحته الجغرافية وقد تحركت عليها انوات النص وانتهاء بتفاصيل المكان التي شكلت مساند سردية قصصية اضاءتها(شمعة نائمة بعمق ) لتشي الى ماسبقها من يقظة مختزلة غير مذكورة وهي بالضرورة تحيل الى زمنين احدهما منصرم متوهج شهد حدث اللقاء والاخر مرمد مطفأ التقطته كاميرا النص (نوم الشمعة + هدوء المصابيح) لنكون ازاء (ليل / نهار) و(نوم / يقظة)و(حضور / غياب) و(حركة / سكون)،بل ان (عطراً يصدح + زجاجة شعر ) تنجح في ان تكون شفرات تتقشر عن الملامح الخارجية للكينونتين المتحركتين على مسرح النص لنصغي الى صوتيهما (همس متقطع ) ونشهد تفاصيل حدث الوقوع في شرك الجسد الذي تمحور حوله المخيال الشعري (شراشف متماسكة + منشفة فرحة + جورب يضيء) ، وتستوقفك الوداعة الظاهرية وحيادية السرد التي تنجح في ان تهرب نوايا النص لتظهر واضحة في الخاتمة (لابد انهما كانا هنا /قبل ان /تهدأ المصابيح!) التي افلحت في ارباك قناعة التلقي ، ففي الوقت الذي اوهمك النص فيه بانه قد توصل الى استنتاجات مشابهة لاستناجاتك ، فانه قد بث رؤاه ازاء الحدث في غضون شفرات مفخخة تمظهرت في (زجاجة شعر + كاسين + زاوية زجاجية ) و(طباشير الهمس) و(أطلال سيجار لم تكتمل اثارتها) لتضيء تصادماً وتصالباً دلالياً مقصوداً يفضي تارة الى ان تشهد عياناً ذروة الاغتراب الزمكاني ليكون صوت النص بوحاً نازفاً يتحسس تفاصيل امكنة كانت معقلاً للعشق الروحي والجسدي وتارة اخرى تلمح من خلاله ادانة للحدث وشجباً تجده منعكساً على زخم الزجاج القابل للكسر والذي يذكر بالوقوع في شرك المحظور والطباشير الذي يذكر بالمحو و اطلال الرماد المكتنز بذاكرة آفلة .
وقد يضيء المتخيل الشعري في الشذرة الثالثة (لانك النهار )(3) فضاء سوريالياً ينطلق من اليومي والانساني والمحتمل صوب المتخيل والعجائبي والمطلق والغامض لتشكيل صور تستنطق المسكوت عنه في فضاءات ملبدة بتراجيديا الانسان ، تأمل الفص الموسوم بـ (فرح)(4) :
هذا اليوم
سأسميه طفلاً
وسأترك كل اطرافي تطير
سأضع وردة
على الشاطىء
وسأناقش زوجتي
في لون مشطها الضائع
واذا مارأيت السماء
سأصافحها برفق
وسأنقل رفاة ابي
الى قبر امي
سأعطي الملائكة
قمصاناً للسهرة
وحتماً سأكتب رسالة
الى زنزانة فارغة
كما
سأعمل اكثر مما يتخيله الماء
لأني رأيت الوطن
عالقاً بجناح فراشة !
يشتبك في المتن المألوف بالعجائبي بطريقة مربكة تجعل التأويل يتردد كثيراً في استبطان البؤر الدلالية المفخخة بالمبتكر الذي يفتت رتابة المحكي ليخلق دهشة مقلقة تتحرك لتفتت ذاكرة التلقي وتعيد صياغتها وفق مناخات طريفة تجعلك قبالة مسرح عبثي يضج بالاثارة امام النظارة الا انه يخفى خلف كواليسه عويلاً ونواحاً وهو ما يتحقق على اكثر من مستوى ولعل اولها : العنونة الشعرية (فرح) التي شكلت عتبة مشاكسة ومراوغة تتضاد كلياً مع المنتج اللاحق و تجعلك في كل مرة تعيد النظر بطروحاتها في حركة دائرية بينها وبين المنتج اللاحق للتحقق من مصداقيتها التي تتفتت لتكون وجهاً آخر للفجيعة والوجع ، ويتكيء المستوى الثاني الى معمار القصيدة القائم على انتقال استهلالة القصيدة المترعة بمفارقة مقلقة(لأني رأيت الوطن /عالقاً بجناح فراشة !) الى الخاتمة ، لتتشكل منها و من العنونة قلادة دلالية مربكة تؤطر المتن لتضيء ترميزاته التي تهتك وعبر تكرار (سين الاستقبال) حجب الآني ( سأسمي اليوم) والمألوف المباشر (سأناقش زوجتي / في لون مشطها الضائع ) لتستشرف آفاق المطلق (واذا مارأيت السماء / سأصافحها برفق ) والغامض (وسأنقل رفاة ابي/ الى قبر امي / سأعطي الملائكة/قمصاناً للسهرة ) والغريب (وحتماً سأكتب رسالة/ الى زنزانة فارغة ) والانساني (سأعمل اكثر مما يتخيله الماء ) ، ويتغذى المستوى الثالث من البنية الاسطورية التراجيدية فنلمح تماهياً بين ملامح الانا الساردة وملامح اوديب المستلة من عمق الذاكرة الجمعية وعبر انخطافات ترميزية يعيها المتن ويستشعرها افق التلقي بدءاً بالوقوع في شرك الخطيئة التراجيدية التي تتخطى صنيع الذات الانسانية لتكون خطيئة (وطن معلق على جناح فراشة) - ولايمكن النظر الى (الوطن) في هذه الصورة المقلقة دلالياً بوصفه ذاكرة تختزن المكان والهوية وانما بنية شعرية امتلكت ابعاداً ايحائية متسعة تستوعب القيم والمثل والرؤى السامية - ومروراً بالرغبة في ايقاع العقاب الجسدي والنفسي على الذات والمتمظهرة في ( وحتماً سأكتب رسالة / الى زنزانة فارغة) فلاتكون الزنزانة والحالة هذه الا مكاناً لاتقبر فيه الهوية الفكرية حسب وانما الكيان الجسدي برمته وهو مايصدق ايضاً على (سأجعل كل اطرافي تطير) التي تتحايث مع الرغبة في التخلص من قفص المادة وعتمة الجسد ، وانتهاء بالرغبة في خلق مصالحة سوريالية للبنية التراجيدية الاصل (سأنقل رفاة ابي/ الى قبر امي/ سأعطي الملائكة / قمصاناً للسهرة ) وهي مصالحة مرهونة بمصالحة الذات مع المطلق (واذا مارأيت السماء / سأصافحها برفق) لذا فان المخيال الشعري استدعى اداة الشرط (اذا) ليعيد صياغة الراهن المعاش وقد اطلقها صرخة مدوية منذ الاستهلالة (هذا اليوم ساسميه طفلاً) ولاتكون عبارة (سأضع وردة /على الشاطىء ) الا اشارة دامغة الى عبثية الحياة وربما تحركت هذه الوردة لتكون شاهداً من شواهد هذا الغياب او معادلاً ترميزياً للغياب الجسدي او قل وجهاً معاصراً لنرسيس المتعبد في محراب المكان .
وقد تتحول القصيدة الى متن بصري يشتغل على ايقاد الذاكرة الشعرية واللونية معاً ، لاحظ مثلاً الفص الموسوم بـ (لون) (5) من الشذرة ذاتها:
لقد اقترب الفجر
ها انا اسمع
عجلاته
واتحسس
فرشاته
وهي تغير
لون السماء !
تشكل عجلات الفجر المفتاح المفخخ الذي من خلاله نلمح رؤية النص ازاء الحياة والوجود ، فهذه العجلات التي ستدوس بشراسة عالم الذات المتكلمة تحيل الى ليل جديد لامرىء القيس يستدعي صرخته البرمة بعتمة ليله :
الاايها الليل الطويل الا انجل
بصبح وما الاصباح منك بامثل
فتجعلنا نرقب حركة عيون احمد العجمي الذي لايجد في تغيير لون السماء تحولاً في مدارات ليله الخاص ونشهد حركة انامله وهي تنزع عن الفجر الوانه الزاهية لتمنحه لوناً محايثاً لليل ومثلما نزعت عن اغاريد الصباح شدوها لتمنحها صوتاً محايثاً لصرير العجلات الذي يوحي شكلها بدائرية الزمن التي تتحرك على شكل دوامات سوداء تنجح في رسم جورنيكا جديدة تعكس عمق الدمار النفسي المتخلق من جنازر النفي والالغاء .
وتنطلق الشذرة الاولى (اعني الشمس)(6) من الهم الفرداني الى الهم الكوني ليكون البوح صكاً من صكوك الحرية التي تمارسها الذات بعيداً عن تابوهات الحاضر و المتن ينجح ووفقاً لمناخاته المرمدة ان يدين هذا النمط من البوح المتعلق باستار الحلم فراراً من هجير الراهن وعبرمساءلة جادة لدور الكلمة في تعذيب الذات المبدعة لاسيما حين يكون الابداع فخاً اخر من فخاخ الهروب من الواقع ، تأمل الفص الموسوم بـ(تفسير)(7) :
كل مارويته لك
لم يحدث !
فانا عندما انام وحدي
تشعر الاحلام بالالفة
فتملأ
كل اغصان الحجرة
وهذا سبب وجيه كي ابتسم
وتصبح السماء زرقاء !
أي بوح ملبد بالمفارقة هذا الذي وضعه امامنا احمد العجمي ؟ واية دوائر دلالية هذه التي اثث منها وبها جغرافية المتن ؟! هذه الدوائر التي تحركت حركة ارتدادية تتعاكس مع عقارب الساعة ومع المألوف النصي قد تمظهرت في اكثر من مستوى ، ولعل اولها اضاءه الفعلان المضارعان (ابتسم + انام) وقد نزع عنهما النص حركتهما الزمنية المألوفة المتجهة من الآني الى الآتي لتتحرك ووفقاً لمناخ الحلم وآليات الراهن المرمد من الآتي الى المنصرم الى ما لانهاية ، وهو قلب لمنطقية الزمن تطال الفعل الماضي (رويته) لنلمح اتجاه حركة عجلات الزمن فيه من لحظة السرد الشعري الى الآتي الى ما لانهاية ويتأكد هذا التأويل في استجلاب الاداة (لم) لقلب زمن الفعل(يحدث) من الآتي الى المنصرم وثانيهما الحركة المعكوسة للدايولوج والذي يتحرك في المألوف النصي من داخل الذات الى خارجها هذه الحركة التي ستبدأ في الاستهلالة من خارج الذات لتنتهي ببوح راعف تمحور حول المباهج التي اطفأها سعير الراهن المضاء بعذابات لاتنتهي . ويتمظهرالمستوى الثالث بلحظة التنوير المنبثقة من (كل ما رويته لك / لم يحدث) التي خطفها المخيال الشعري من خاتمة المتن ليثبتها في المستهل توقاً الى تخليق بلورة شعرية مغايرة اضاءت ومنذ العتبة الاولى عذابات الذات المتكلمة والمكلومة لنشهد عياناً لحظة المكاشفة التي تعني ضمناً مواجهتين اولاهما: مواجهة الذات التي وجدت نفسها خارج فضاءات الحلم و ثانيهما :مواجهة الآخر (الانثى المخاطبة والمجرورة بحرف الجر الى فراديس الحلم) وهي مواجهة تعني بتر لحظة الحلم والعبور الى ترميدات الراهن بل ان هذه العتبة الدلالية المكتنزة بالمرارة والخيبة تتكرر ايحائياً بتكرار الاسطر الشعرية المتصدرة بافعال التحول (تصبح + تشعر + تملاً ) لتتكرر معها دوامات الخيبة التي تشبه دوائر الماء وهي تتسع لتغرق الذات المترقبة وليغوص الحلم حجراً منسياً في قاع الذاكرة واللاشعور.
وقد يشكل المخيال الشعري صورة كاريكتورية تنبع من ذاكرة المكان تقترب في تكويناتها من تشكيلات الكوميديا السوداء . تأمل مثلاً الفص الموسوم بـ(وحدة)( من الشذرة ذاتها:
كيف اترك
ليلة مقمرة
أليس من الحكمة
ان احضنك
واترك الهواء يحرسنا ؟
هذا كل ما سمعته
من ذكر حشرة الليل
وأنا ذاهب الى الفراش
وحدي!
ان الطرافة الترميزية تبدأ منذ الشذرة الصوتية المفخخة التي تصدرت المتن (كيف اترك / ليلة مقمرة /أليس من الحكمة / ان احضنك /واترك الهواء يحرسنا ؟) ليتسنى لهذا التساؤل ان يغدق ايحاءاته المريرة على جسد النص برمته لتتكثف - وعبر مكاشفة ترميزية تنقل مايكرفون الصوت الى ضمير النص (هذا كل ماسمعته / من ذكر حشرة الليل) - المفارقة الحادة بين ماهو كائن وما يجب ان يكون وقد تمظهر في مفصلين الاول اوقد تقنية الاسقاط الفني( Projection)(9) التي نجحت - وعبر انسنة الموجودات (ذكر حشرة الليل)(المستعارله) في تكريس فضاء درامي متوتر يشخص الموجودات ليشيىء في الوقت نفسه اناسي المكان – في تمرير خطاب ايديولوجي يعكس محنة افتقاد الشريك الثقافي والفكري والنفسي بل والجسدي (وانا ذاهب الى الفراش وحدي) وقد اضاء تفاوت النبر الصوتي بين المستهل والخاتمة فمن حوار خارجي (دايولوج) ملفع بالنشوة الى حوار داخلي (مونولوج) مؤطر بسلاسل الوحشة التي تحركت من العنونة (وحدة) لتعانق الكلمة التي اقفل عليها النص (وحدي) اضاء الهوة الفاجعة بين الانا -التي انفصلت تركيبياً ونحوياً- والاخر تارة وبينها و بين الراهن الملبد بعتمة النفي تارة اخرى .
وقد يشتغل احمد العجمي على تقنية التناص التي يخترمها المخيال الشعري حين يصهرها في بوتقة النص ليعيد صياغتها فتكون مفتوحة على كل التاويلات ، تامل مثلاً الفص الموسوم بـ(بحث)(10) في الشذرة الاولى:
قد تلاحظون
انني افتح
علب الكارتون،
او افتش بين
اوراق الشجر
المتساقط ،
وحيناً انظر
في وجوهكم ،
إنني اكرر ذلك
بحثاً عن ليلة خفيفة
ذات طقس رائع
امضيتها وحدي !
يتحرك المتن وفق نسقين الاول غائب مسكوت عنه يستند الى الصوت المنتمي الى عمق الذاكرة الشعرية العربية وهو يدين المكان واناسيه :
اني لأفتح عيني حين افتحها
على كثير ولكن لا ارى احدا!!
والنسق الاخر حاضر منطوق به يهيمن على المساحة التدوينية لنص احمد العجمي وعبر تحولات وانخطافات سيرصد التاويل ابعادها الدلالية بدأ بالمتوازية الايحائية المتشكلة من (اني لأفتح) التي تقف في مواجهة (انني افتح ) وهي تشي باندغام الصوتين (الماضي / الحاضر) وهتك الحجب الزمنية التي تفصل بين الصرختين ، فكل من هاتين الكينونتين تؤكد فردانيتها واغترابها عبر التحام الذات المتكلمة المطلة من(ياء المتكلم) (اني = انني ) الا ان الانخطافة الدلالية التي نلمحها على مرايا النص تكمن في المحمول اللفظي (افتح) ففي النسق الغائب يحيل الى قمة اليقظة حين اقترن بالعين وفي ذلك اعلان عن العزوف عن الآخر (الكثير) بكل تفاصيله المكتنزة بالعدائية والمخاتلة حد التربص في حين قرن النسق الحاضرلاحمد العجمي هذا المحمول اللفظي بالحركة صوب الآخر(الكثير) المرموز له بـ (علب الكارتون+اوراق الشجر المتساقط) . وقد كرر النسقان هذه الحركة فقد اشار الاول عبر فعل التكرار (افتح /افتحها) وصرح بها الثاني حين قال (انني اكرر ذلك) ، واذا كان النسق الغائب قد اختار الانغلاق على الذات بعيداً عن هجير الآخر لانه قال حين افتحها وهذا يعني بانه قلما يفتحها ، فان النسق الحاضر اختار ايضاً الانتقال من هجير الآخر الى الانغلاق على الذات حين اعلن في خاتمة المتن بـ(بحثاً عن ليلة خفيفة / ذات طقس رائع / امضيتها وحدي!) ، واذا كان النسق الاول قد تمترس بالصورة البصرية (افتح عيني + افتحها+ لاارى) فان النسق الثاني قد فعل ذلك ايضاًولكنه خرج من اطار الحاسة الواحدة ليشرك حاسة اللمس والسمع المخزونة في فتح علب الكارتون والتفتيش بين اوراق الشجر المتساقط الا ان حاسة البصر تعود لتتربع على عرش الصورة حين يعلن (انظر الى وجوهكم) ، واذا كان النسق الاول قد بقي حبيس ليل الاغتراب وحركة المقلة الباحثة عن الشريك الثقافي والفكري واحساسات الخيبة لغيابه فان هذه التراجيدية تبدو بشكل ادق في النسق الثاني حين يشغل المخيال الشعري تقنياته التشكيلية فلايكون ذلك الاخر الا هشيماً(اوراق الشجر المتساقط) او افكاراً معلبة ومقولبة على فراغ(علب كارتون) لنكون قبالة ليل حميم يجده النص ملاذاً من هذه الانوات التي منحها الترميز التشكيلي ابعاداً تراجيكوميدية لتمرير خطاب يدين الراهن المعاش وترميداته التي تحاصر الفرد الاعزل الذي ابصرنا حركة يديه المحمومة ونظراته الملهوفة والباحثة عن اكسير الصداقة .
خلاصة القول : فان احمد العجمي في مجموعته(مساء في يدي) قد ارخ لحداثته الشعرية حين نجح في طرح صياغة شعرية خاصة تؤكد قدرة الشاعر المعاصر على صياغة القصيدة الملحمية التي يتداخل فيها التشكيلي بالدرامي بالاسطوري متجاوزاً بذلك الادعاءات التي تسعى الى خنق خرائط قصيدة النثر بحجة التكثيف تارة والتشفير اخرى وليعيد بهذه الهيكلية البنائية قراءة الثقافة الشعرية المعاصرة . بل يمكن القول بانه صاغ بنية شعرية مدهشة تحمل في مضمرها مناخاً روائياً يستنطق عناصر السرد بتفاصيلها وضمائرها التي نشهد من خلالها حركة السارد وهو يغير موقعه من السارد العليم الى السارد غير العليم الى صيرورته ذاتاً تشترك مع الانوات في حركتها على مسرح النص زد على ذلك انه قد جعل من العنونة الجانبية (اعني الشمس + اشعل ثلجاً + لانك النهار) فواصل سردية تنقل افق التلقي الى مناخات يعلو فيها الحوار ويخفت وتتألق الامكنة التي تغشاها عتمة المساء الذي بقي متربعاً على عرش البطولة منذ العنونة.
الهوامش :
(*): صدر للشاعر احمد العجمي:
• ربما انا ، 1999
• العاشق ، 1997
• زهرة الروع ، 1995
• المناسك القرمزية ، 1990
• نسل المصابيح ، 1990
• انما هي جلوة ورؤى، 1987
• مساء في يدي ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر ، بيروت 2003
(1): تتشكل شذرة (اشعل ثلجاً) من عشر قصائد وهي على التوالي : معرفة ، تأمل ، آثار ، صورة ، صباحاً ، هكذا ، فانوس ، ثقة ، جراح ، شحنة . ينظر : مساء في يدي ، ص39، ص41، ص44، ص46، ص49، ص 52، ص 55، ص62، ص63، ص 64.
(2): نفسه ، ص 44
(3): تتشكل شذرة (لانك النهار)من خمس عشرة قصيدة وهي على التوالي : لون ، حلم ، فرح ، قراءة ، وردة ، دعوة ، ثلج ، هدية ، رغوة ، حدس ، احتضان ، اجراس ، هواء ، زهرة ، فراشة ، ينظر: مساء في يدي : ص 69، ص 70، ص 72، ص 75، ص 77، ص 80، ص82، ص84، ص 86، ص89، ص 91، 93، ص96، ص 98، ص100.
(4): نفسه ، ص 72
(5): نفسه ، ص 69
(6): تتشكل شذرة (اعني الشمس)من ثمان عشرة قصيدة وعلى التوالي( ظنون ، بحث ، اختيار، وحدة ، صداقة ، محاولة ، متعة ، تفسير، سفر ، ثرثرة ، نقد ، هروب ، عزف ، حفيف، غواية ، ذكريات، حزن ، نجوم ، ينظر : نفسه ، ص 7، ص8، ص10، ص 12، ص13، ص14، ص16، ص17، ص 18، ص 20، ص 21، ص 23، ص 25، ص 26، ص28، ص 30، ص32، ص 34.
(7): نفسه، ص 17
(: نفسه ، ص12
(9): الاسقاط الفني في ابسط تعريفاته هو ((العملية النفسية التي يحول بها الفنان تلك المشاهد الغريبة التي تطلع عليه من أعماقه اللاشعورية ، يحولها إلى موضوعات خارجية يمكن أن يتأملها الآخرون )) – على حد تعبير كارل غوستاف يونج - ويربط الدكتورمصطفى سويف بين الاسقاط والترميز في قوله : ((بان الإسقاط هو عملية لا غنى عنها في فهم عملية الامتصاص(Introjection) حيث يسكب الشخص احاسيسه في شيء ما ، -أي يموضعها- وبذلك يتسنى له أن يفصل بينها وبين الذات ، وبقدر ما يكون هذا الشيء رمزا فان صاحبه يكون مبدعاً عبقريا )) . من الواضح أن ما يهم هذه الدراسة هو الانعكاس الفني – إذا صح التعبير – وهو الذي يفضي إلى ترميز الاشياء والظواهر الطبيعية (الحية والجامدة) التي يسقط عليها المبدع احساسات شتى متباينة فتستحيل مادة لرموز متوترة لا حصر لها . وللاستزادة ينظر: د. مصطفى سويف ، الأسس النفسية للإبداع العربي ، دار المعارف ، ط3 ، القاهرة 1969م ، ص203 ومابعدها ، كما ينظر : كتابنا : القصيدة وفضاء التاويل ، وزارة الثقافة ، صنعاء 2004، ص 150
(10) :مساء في يدي، ص 8