[
abdulsalam_fazaziمقدمـة: أهمية العنوان الشعري في دراسة النص
يشتغل مكون العنوان في الأدب العربي، باعتباره مرشدا دالا إلى النص الفكري والنقدي .. الخ) الذي يتصدره،
ولكنه مع ذلك أهمل في مجال الشعر، وترك مكانه لهيمنة مكونات أخرى لعبت دورا هاما في التواصل مع المتلقي، ونخص بالذكر المطالع التي كانت معيارا من معايير الحكم على جودة الشعر، بالإضافة إلى الجمل التي تسبق القصائد الشعرية كصيغ تقديمية[1].
كان العنوان في هذه المرحلة مجرد عتبة يتعدى بها إلى غيره[2]، فهو يلعب دور تحديد نوعية المادة وموضوعها، فيبين لنا أن هذا الكتاب – مثلا- يوازي بين المتنبي وخصومه[3]، وذاك يقدم تعريفات للشعر ويحاول وضع ميزان وعيار في طرق نظمه.[4]
ومع ظهور الشعر الحديث، عني بالعنونة سواء فيما يتعلق بالجانب الإبداعي لدى الشعراء، أو من خلال الدراسات السميولوجية التي تناولت العنوان باعتباره علامة دالة تسم النص وتبرز مجموع الدلالات المركزية فيه[5]. وهكذا أصبحنا أمام عناوين تحتاج ذاتها إلى التحليل والتناول النقدي.
وقد ذهب الدكتور جميل حمداوي حين حديثه عن النص الموازي لدى جيرار جينيت، إلى اعتبار العنوان مظهرا وقسما من أقسام النصية يعتبر بمفرده جنسا أدبيا مستقلا كالنقد والتقديم. . . الخ، ويعني هذا أن له مبادئه التكوينية ومميزاته التجنيسية[6]. فالعنوان في الشعر الحديث صار مكونا قائم الذات، منسجما يحقق مجموعة من الأهداف والوظائف سواء تعلق الأمر بما بينه وبين خطاب النص، أو بالتأثير الذي يحدثه في نفس المتلقي الذي يحاول فك شفراته وإعطائه دلالات وأبعاد، سعيا وراء فهمه واستيعابه.
إن الشعر الحديث جعل من العنوان نصا ثانيا موازيا للقصيدة، فأصبح بالإمكان الحديث عن شعرية العناوين كما كنا نتحدث عن شعرية القصيدة[7]، وبالتالي« يمكن قراءة تلك العناويـن مفردة بوصفها نصوصا، أو قراءتها بوصفها جملة متمفصلة عبر عدة أعمال، أوجملة متمفصلة عبر عدة نصوص في العمل الواحد »[8]. وبذلك نستطيع دراسة الأسس الجمالية التي يحتويها العنوان، لدوره في فهم معنى النص؛ فهو المفتاح الذي نلج به إلى النص وهو العنصر الذي يجذ بنا إليه ويخلق فينا حرارة وشوقا نحو القصيدة.
فما الذي جعل من العنوان مرتكزا أساسيا نسعى إلى دراسته؟ وهل جاء هذا التقدير كله من خلال كون العناوين تتطلبه لذاتها وفي ذاتها، أم لأننا نحب أن نجعل منه مكونا نستطيع به استنباط الرسالة التي يود الشاعر إيداعها في أعماقنا ودواخلنا؟ هل الجمالية التي يكتسيها هذا العنصر نابعة من كونه يتألف من عناصر فنية وجمالية تتجلى في نصيته، أم أنهـا نابعة من الشكل الذي يأتينا به العنوان الشعري الجديد؟
إن ذلك يرجع إلى حيثيات متعددة لعل أبرزها تلك الوظيفة التي يلعبها العنوان في النص الشعري الحديث فهو« الذي يسمي القصيدة ويعينها ويخلق أجواءها النصية والتناصية، عبر سياقاتها الداخلي والخارجي، علاوة على السؤال الإشكالي الذي تطرحه القصيدة »[9]. وهذا ما يمكن أن ندلل به على ما تعرفه الساحة الأدبية - بخصوص الإبداع الشعري - من نزوع العنونة الشعرية نحو التعمق والوسم والبحث عن الوسائل التي بإمكانها أن تجعل من العنوان أكثر شاعرية، وأكثر دلائلية على النص خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار ما له من وظائف كثيرة يسهم « تحديدها في فهم النص وتفسيره وخاصة إذا كان نصا معاصرا»[10].
وإذا كان « الانتقال إلى قراءة النص يمثل اختبارا لتوقعات القراءة، واستكشافا للطرائق التي يتعالق فيها النص وعنوانه، ففي مرحلة تلقي النص تكتشف القراءة صدق أو خيبة توقعاتها »[11]. فإننا سنحاول تناول نموذج إجرائي من أعمال الشاعرة العراقية وفاء عبد الرزاق، لما لها من جمالية ومتانة في نصها الموازي - العناوين - نخص بالذكر:
ديوان : امنحني نفسي والخارطة / حكاية منغولية /امرأة بزي جسد /..
وسنعمد في دراستنا هذه تناول العناوين في كليتها أولا ثم التفصيل بعد ذلك في دراسة كل عنوان في ذاته قصد استكناه واستنباط تلك الجماليات التي يحتويها الإبداع في المرحلة المعاصرة، مجسدا في دواوين الشاعرة.
جماليات الإبداع في العناوين: تمهيد:
تضم الأعمال الإبداعية في ثناياها، تسعة وتسعين عنوانا جد متناسقة فيما بينها، حتى إنه ليسهل علينا الربط بين مكوناتها وجعلها بمثابة عمل واحد،كتبت في غرض واحد وفي زمن واحد كذلك، وهذا ما سنشير إليه فيما بعد.
ومن خلال كون هذه الأعمال التي وقع عليها اختيارنا ترتبط فيما يمكن تسميته إطارا[12] يجمع مكونات الإبداع ككل، فإننا سنحاول دراسة تشعباتها وعناصر انسجاميتها.
فالمبدعة تهيئ لنا فضاء- إطارا- ممكنا عن الآخر (الذات الكاتبة في علاقة جدلية بالذات المنكتبة) وهذا ما يجعلها تتذكر عنهما معا أشياء متناثرة في الذات وفي الرحيل، إنها لن تستطيع أن تتذكر إلا أن الذات المنكتبة غائبة جسدا وحاضرة روحا؛ « فقط أراك/دعوة البحر/ بغداد/ امرأة بزي جسد/ عقاب ام ثواب/ غزو وجراد/ لها، لي، لا اعرف...»، وكيف يمكنها تجاوز مشكلة غياب الذات المنكتبة إلا بمناجاتها وتمجيدها وذكر أهم الخصال الحميدة فيها. فهي عندها؛ «أريج باذخ» تفوح رائحته العطرة رغما عن غيابها.
بعد كل هذا يتغير إيقاع الكتابة ليصير بمثابة تصريح ذاتي وتأوه داخلي؛ « تملكني شك الأسماء/ وكامرأة جمرة/ حرقت دثار القبح/ ربما تغضب نجمه صوتي/ وهي تحتل معناه..../ هل تصبح الصحراء بحرا/ وهل من يجمع الرمل لخاتمي؟»، فأي جانب تشبه فيه الشاعرة – الذات المخاطبة – جمرة كذات مخاطبة؟ لعل وجه الشبه يكمن في القصيدة الموالية؛ «حينما تبرد نحلة خرساء / تحوم حول كاسي وردة/ يخرس النهر في يوم ماطر/ وتلتصق بانزلاق الوقت/ جامحة الزفير»، فالشاعرة بمثابة نحلة حاضنة كما الجمرة حاضنة للحنين والغياب والخوف والأمل.
والمبدعة تعانق مفهوم احتضان الآخر المجسد في الوطن بشكل جنوني، كذلك حاضنة للقاء مع الآخر (الوطن) الطرف المخاطب والخوف عليه والأمل في معانقته «حوار بين شبرين»:
العالم مجرد شبر تدلى من حبله
وقيد يدي التي لم تنل غير تخثر الفصول.
المنسية الملتصقة على حائط
يرفض أيامه أنا
وأنا الوطن الذي
نزع وطنه وتعرى للثلج...
ثم تعود الشاعرة بعد ذلك إلى التذكر والوفاء لكل شيء؛ « يا من تموت الف مرة في البصرة
وتنفلق بغداد
لراية دثرتك
فأقرا شعلة دفتي
كم حكيت لدارها عن عروس المعجزة...« اقرأ وحدث »، إنه وفاء منها للآخر/ البصرة، الذي تغنت به في القصائد السالفة؛ نشيد وفاء لذلك الذي هيأت له كل شيء وجعلت له منها محتضنا وأريجا باذخا وشبها لجمرة الهوى.
لكن الوطن الذي تود الشاعرة السفر إليه يظل فعال حروف من جمر يحسن السفر من دونها ما دام ارتداؤها لن يشكل إلا عبئا عليها، إن عنوان«أقرا وحدث»ولكونه خاتمة واستنتاجا نهائيا خلصت إليه الشاعرة بعد سفر شاق مع الشوق والحنين في القصائد السابقة:
يا وطنا ابحث عنه اقترب
فانا امرأتك المؤجلة... نفس العنوان.
هكذا نخلص بداية إلى أن العناوين المتضمنة في الديوان قيد الدرس كلها تحقق انسجاما في ذاتيتها أولا، وفي علاقتها ببعضها ثانيا.
في دراستنا لهذه للعناوين وباعتبارها كما تمت الإشارة منسجمة ومتماسكة تحقق جمالية تركيبية في الربط بين مكوناتها، لا بد لنا إذن أن ندرسها من خلال العلاقة بين مكوناتها العنوانية؛ أي العلاقة التي تشكل بها هذه العناوين نسقا واحدا يشكل دواوين في ديوان واحد. وما دمنا في هذا الصدد فلا بد لنا أن نأخذ بعين الاعتبار كل السبل التي ستوصلنا إلى مبتغانا انطلاقا من شكل كتابة هذه العناوين، سواء تعلق الأمر بالترتيب الزمني الذي تأخذه أو بالحيز المكاني الذي تشغله، وهذا الجانب من الدراسة لن يتأتى لنا ما لم نقم بالربط بين العناوين وزمن كتابة القصائد بالإضافة إلى العلاقة التي تربط بين قصائد الديوان ظاهريا ومن خلال شكل تدوينها كذلك.
يبدأ الديوان بالقصيدة »المنبورة« ؛ « البيت يمشي حافيا»، فهذا العنوان هو بمثابة عنوان للديوان ككل لذلك يحق لنا أن نتساءل عن السبب الكامن وراء جعل هذا العنوان على غلاف الديوان دون غيره؟ هل يرجع ذلك إلى أنه يحمل في بنيته ما يؤهله فنيا وجماليا لأن يكون كذلك، أم هو مجرد اختيار اعتباطي من طرف الشاعرة؟ أكيد أنه لن يكون إلا اختيارا جماليا مبنيا على اعتبارات فنية ودلالية، سنحاول ملامستها مسترشدين دائما بكون الديوان حيزا وصيغة عرض وتقديم مناسب للقصائد التي قد تكون الشاعرة نشرتها في منابر أخرى* أو ألقتها في لقاءات متعددة. والديوان هو الحلة التي ارتضتها الشاعرة بعد التعامل مع القصائد بالتنقيح والزيادة والنقص، وذلك بانتقال النصوص من فضاء تداولي تدويني إلى آخر[13].
اختارت الشاعرة إذن أن تجعل من قصيدة «البيت يشي حافيا »عنوانا للديوان ككل، وذلك يرجع في نظرنا إلى عدة أسباب أولها قد تكون قصائد الديوان منظمة وفق تسلسل زمني متتابع، والقصيدة عنوان الديوان متفردة زمنيا عن القصائد الأخرى؛ إذ كانت كتابتها كما أوردت الشاعرة ذلك في:2002 /2003*.
وبالإضافة إلى هذا المؤشر الزمني، الذي يظل أكثر المؤشرات احتمالا، يأتي المؤشر المضموني حيث أن قصيدة :« البيت يمشي حافيا » هي بمثابة افتتاح أو مقدمة لتقبل ما سيأتي من القول الشعري؛ إنها تهيئ الآخر (المتلقي) لتقبل واستيعاب الخطاب الذي سيأتي متضمنا في القصائد الموالية، إنها بمثابة القلب لجسد القصائد ككل، وبالتالي يمكننا قراءة عناوين قصائد الديوان كما يلي :
-« البيت يمشي حافيا » ← «فصل جنون الورق»
- وفيها أبواب: 1 - باب الدخول / أنا بعض هذا الباب /نصفان لباب /باب الظما / كتابة ترقص بباب / زهرة تطرق الباب / الجمار باب لا يهجع / معطف يرفع ياقة باب / باب الصفير / باب متعرج الصبر /باب سرير / باب لحصاد الروح / باب لانتباه النهر / باب حلم الملح /باب البحر /باب كأنه يشبهك / باب بذرة / باب في المرآة /باب ورقة الاكتشاف .....
2 – فصل جنون الورق: ورقة ضدين / ورقة جاهلة / ورقة قبلة / ورقة تهتز بلا ريح / ورقة للرجال / ورقة للملك / ورقة للمغني / ورقة بلا لون / للغضب أوراق / حبر أوراق / عناق لون لورقة....
3 – أ..و..ر..ا..ق : ورقة عشتار / ورقة في صندوق / مرفأ للموت وورقة / ورقة دمعة / كلام لا يفهم ورقة / ورقة طائر الليل / ورقة مسروقة / عذراء / صورة إليك / صورة لوفاء / صورة وشرارة...
وتبقى كل الاحتمالات واردة ما دام النص الشعري مفتوحا لأجل أن يؤول وينسج لنا دلالات عميقة، ليستطيع المتلقي باعتباره مرسلا إليه – المؤول الأول – ومعطي دلالات القصيدة الأولى، وفقا لمعرفته الخلفية[14] وما خبأه من إمكانيات التعامل مع النص الشعري بعمق دلالاته.
إذا كان هذا الديوان وغيره من دواوين للشاعرة وفاء عبد الرزاق –كما أسلفنا الذكر – يربط بين مكوناتها انسجام وتناسق تام بدا لنا من خلال مظاهر أولية؛ كالجمع بين القصائد تحت عنوان واحد دال، فإننا نتساءل عن أهم مظاهر الانسجام والتناسق من خلال علاقة المضمون بالشكل؛ نعني كيفية الربط بين طريقة كتابة القصائد (سواء تعلق الأمر بنقط الحذف مثلا أو الفواصل أو الكلمات أو مكونات القول الشعري الأخرى )، وطريقة انسجام الجمل وبالتالي تلاحم القصائد فيما بينها مضمونيا، وهذا ما سنحاول التلميح إليه بشكل من الأشكال لاحقا وباقتضاب.
نخلص مما سبق أننا أمام قصائد ترتبط فيما بينها أواصر متينة عبر عنها احتواؤها في فضاء تدويني شعري واحد، مما سيكون سندا لنا أثناء الدراسة سواء العنوا نية أو غيرها.
وباعتبار العنوان « من العناصر التي تكون أسلوبية النص الأدبي »[15]، وتساهم في جماليته وإعطائه قيمة فنية، فإننا في دراستنا للمتن الشعري لديوان وفاء اعبد الرزاق ارتأينا الغوص في ثنايا هذا ‘‘العنصر الإجرائي الذي يعتبر بمثابة مفتاح أساسي يتسلح به للولوج إلى أغوار النص العميقة ‘‘[16] معتمدين في ذلك منهجية محكمة كما اقترحها زميلنا الدكتور رشيد يحياوي، تبدأ بدراسة العناوين من خلال التجاور والعلاقات التي تربط فيما بينها وقد تطرقنا لذلك فيما سبق، ثم دراستها من خلال نصيتها وذلك بالوقوف عند كل عنوان في ذاته بالتركيز على الجوانب التركيبية والأسلوبية والدلالية فيه، وكيف تساهم في إذكاء شاعرية النص، ثم أخيرا محاولة الربط بين العناوين وخطاباتها سواء تعلق الأمر بجوانبها اللفظية أو الدلالية والإيحائية[17].
1-العنوان المنبور:« البيت يمشي حافيا »:جمالية التركيب والدلالة.
بعد أن تناولنا عناوين الديوان في كليتها، سنقف الآن عند كل عنوان على حدة محاولين إبراز تلك الجماليات التي يحتويها العنوان في القصيدة العربية المعاصرة، من خلال كيفية تركيبه وانسجا ميته ثم مساهمة ذلك كله في بناء الدلالة.
إذا كانت عناوين تشكل انسجاما تاما في كليتها كما سبق أن أشرنا، فإننا سنحاول هذا التماسك والجمالية التي يؤديها كل عنوان في الديوان[18]، بادئين بالعنوان :« البيت يمشي حافيا »، فهو أولا عنوان«نبري » باعتبار القصيدة (المنبورة) هي تلك التي تجعل عنوانا للديوان.
يتكون العنوان من ألفاظ ثلاثة؛ الأولى «البيت » وتتضمن كذلك مكونين نحويين هما الفعل والمفعول به إضافة إلى الفاعل، والمركب الثاني جاء عبارة عن فاعل مقدم.
نتساءل عما هيأه المخاطب باعتباره يوجه رسالة ربما ستكون متضمنة في ثنايا النص إلى مخاطب معلوم نفترض أن يكون هو المحبوب، فهو يحتمل القول ب:« البيت يمشي حافيا»؛ لابد أن نجده في ثنايا النص، وبالتالي لن يكون «الخطاب النصي إلا مسندا إلى هذا العنوان الذي هو بمثابة فكرة عامة أو محورية »[19]. إن العنوان هنا عبارة عن تساؤل ننتظر إجابة عنه وبشغف كبير أثناء غوصنا في ثنايا النص.
من الجانب التركيبي يضعنا العنوان في إشكال البحث عن تتمة مقنعة له، ثم التساؤل عمن يكون هذا المخاطب المفترض والمتمثل أساسا في المتلقي، مما يجعلنا نستنجد بالنص ومحاولة الرجوع إلى أبوابه المتضمنة للعناوين الفرعية المكونة للديوان. إن العنوان يشجعنا على تلقي النص ويحفزنا على استهلاكه وتناوله فهو بمثابة ترياق له[20].
فهل سنتمكن من معرفة ذاك الشيء الذي هيأته الشاعرة، ولمن؟ هذا ما سنحاول معرفته من خلال الربط بين مكوني العنوان والنص، وتلمس الأجوبة في الخطاب النصي.
إذا حاولنا تتبع مكون العنوان بمكوناته الثلاثة داخل القصيدة، فإننا لن نجد له تضمينا مباشرا اللهم في محاولتنا اقتحام بلاغته وتفكيكها داخل السياق الشعري، مستحضرين كل العناوين الفرعية..
البيت :فاعل يمشي: فعل حافيا: مفعول به
↓ ↓ ↓
فاعل← فعل ← مفعول به
وواضح أن الجواب على أحد الأطراف الواردة في تساؤلنا حول العنوان متواجد هنا:« البيت يمشي حافيا »؟ ← ولا نحتاج إلى إجابة استقرائية ما دامت الشاعرة تجيب عنه بوضوح في إهدائها قائلة«الوقت الذي يتوهج في جرح الذات هو وقتي الذي لم تجرح نوافذه ولم تيأس في مهج ينام الليل فيها على ضوء ترتد إليه الرمال كضفة تتذوق جدران البيت نبيذا »، وضمنيا نستشف أن المخاطب هو المحبوب المتمثل في هذه الفضاءات الملتصقة بالذاكرة الموشومة.
هذا فيما يخص المكون الذي ورد في النص ملائما لتركيب العنوان بوجه من الأوجه، أما فيما يخص الصيغ الأخرى فإننا نجد لفظة العنوان داخل النص متمثلة في اتصال في استمرارية الفعل في المستقبل «يمشي » من هنا نستنتج من الصيغ السالفة الذكر أن الشاعرة لم تتبع الصيغ التقريرية للفعل المضارع «يمشي» كما هو في العنوان، وإنما تحول المضارع واقع يتحقق، فهي لم تهيئ شيئا، وإنما سوف تهيئ له، فهو أمر مرتبط بالمستقبل، وقد يتحقق أو لا يتحقق.
الآن وقد تجلت أمامنا هذه الانسجامية، سننتقل إلى عناوين أخرى في الديوان، وسنقف عند ما يميز كل عنوان عن غيره من العناوين بنفس التسلسل المتبع في الديوان.
2 -عنوان عن الجسد – الذات : « البيت يمشي حافيا»
يتكون العنوان من ألفاظ ثلاثة؛ الأولى :«البيت» من اسم دال على توهج وفوح رائحة لفضاء طالما تغنى به الشعراء وهم يقفون ويستوقفون ويبكون ويستبكون[21]، أما اللفظة الثانية «يمشي» والمشي كناية عن الحياة والاستمرارية ضد السكون والموت المفترض، وحين نتوق إلى اختراق المسافات كيفما كانت نبدأ بالخطوة ليتلوها المسير، أما الكلمة الثالثة فهي « حافيا » لتدل رمزية مكونة حقا لصورة شعرية باذخة، حيث تستثمر الشاعرة المجهودات المبذولة في البلاغة القديمة والحديثة والمتعلقة بتحديد الأوجه البيانية ودرجة اشتغالها قوة وضعفا في الخطاب الشعري، والنتائج التي تمخضت عن الدرس البلاغي الحديث، بمعنى أننا سنراوح بين الثوابت والمتغيرات النظرية، من أجل الوصول إلى صياغة نسق يستغل كل إمكانياتها المفهومية والإجرائية لرصد المستويات الأسلوبية والدلالية في الصور الشعرية التي يزخر بها المتن الشعري عند الشاعرة انطلاقا طبعا من العناوين، ونحن في هذا الصدد نقف عند العنوان الرئيسي.
جاءت لفظة «البيت » كتعبير عن الحالة التي عليها هذا الـ«الفضاء»؛ تعبير عن سمو وعلو المكانة التي يحظى بها الفضاء كما هو وارد عند غاستون باشلار، على اعتبار أنه يشبه الركح بالنسبة للمسرح، حيث تتوالى فيه الأحداث بكل مقوماتها وتفاصيلها، وهذا يجعل منه مكونا يحمل أكثر من دلالة خصوصا إذا حاولنا ربطه بالجملة ككل:
- فنقرأ:
أكفان روحي
ثلاثون يتساقطون أياما بيدي
فأختلس عشقا ضبابا،
يتذوق نفسه
اتركه، يسيل بلعابه
أتراكم كثلج سكران،
لا اسمع سوى الصفير على ظهري.[22]
وهذا المقطع لا يتحدث عن رائحة الطيب ولا عن أي شيء مشابه، وإنما يغوص في معجم الجسد – الذات من خلال مجموعة من المفردات : اكفان روحي / أياما بيدي / عشقا ضبابا / الصفير على ظهري.....
- من القصيدة باب لحصاد الروح نقرأ:
يا عنقي المذبوح
الخنازير
استعذبت نومها
فلنغرد لعشاق مجهولين
ونتصاعد فما
يلتقط المطر.[23]
هنا كذلك يبقى المعجم المهيمن في هذا المقطع الأخير- هو معجم الجسد/ الذات، من خلال الألفاظ : عنقي/ المذبوح/ استعذبت نومها/ يلتقط المطر....
- ونقرأ في آخر في قصيدة أخرى :
كلما لبست ظلي
سالت المكان من أنت.
كلما اهتز الزمان
فوق سريري
هرولت بكارة السؤال.
كلما مسحت جبهتي حصيرة
برق الرعد.
كلما مرضت برهة دونك
عاشرني المجهول.[24]
وهنا أيضا نجد بروزا لنفس المعجم، على أنه ارتبط هنا بمجال آخر وهو المكان من خلال مصطلحات مثل: سالت المكان / و: فوق سريري /حصيرة..، مع حضور دائم لمعجم الجسد – الذات : لبست / سالت المكان / مسحت / مرضت /عاشرني.
هناك مفارقة إذن بين لفظتي العنوان، وألفاظ النص الذي أسلفنا ذكرها من الناحية المعجمية على أقل تقدير، لذا يجب علينا دراسة العنوان في هذه القصائد باعتباره رمزا دالا[25] على مكونات النص. بمحاولة تتبع المكون العنواني داخل النص، سنجد أنه لم يذكر إلا مرة واحدة مرتبطا بضمير الغائب«هو»:
قال:شاخت الزهرة وهي تبني معي
حفنة من شباب غابة،
قلت: هو الكون يلبس أجفاني [26]
ولعلنا نجد في هذه الفقرة الشعرية تدعيما لما سبق وأن أشرنا إليه، حيث يضم في ثناياه معجمي الذات والجسد بالإضافة إلى معجم الطبيعة الذي أشرنا إليه في آخر القصيدة. وتبقى العلاقة بينهما أن المكون الطبيعي هو الواهب والمانح لعمر الزهرة التي تبقى أبدا ملتصقة بمكون: الجسد / الذات، وإن العنوان: حليب الوسادة: بهذا هو إشارة أو رمز إلى الهبة الطبيعية وصولا إلى الذات الشاعرة.
وإذا كان العنوان لم يرد في القصيدة إلا بتلك الصيغة الأحادية فقط، فإننا سنحاول استجلاء أهم الدلالات التي اكتساها من داخل الخطاب النصي وذلك باستخراج الألفاظ الدالة على « الجسد /الذات، باعتبارها متأثرة ومستقبلة، ثم الألفاظ الدالة على مكون« الطبيعة /الزهرة/الغابة».
إن أهم المفردات الدالة على المكون الأول هي: الروح/يدي/ معي/شباب/ أجفاني. .
أما معجم الطبيعة : غابة/ الماء/ الكون/ الزهرة. . .
فمعجم الذات إذن هو المعجم المهيمن على مكون القصيدة، ولعل توقفنا عند بعض المفردات بعينها يجعلنا أمام محاولات تأويلية لدلالة حليب الوسادة أهمها : الروح/يدي/ معي/شباب/ أجفاني. . ، وكل هذه المصطلحات وربطها بالذات الكاتبة يضع أمامنا كون حليب الوسادة متعلقا ببعضها، وهذا بالضبط ينسحب على القصائد الواردة في الديوان بأكمله: البيت يمشي حافيا.
3- العنوان الغنائي: «سفرة في صحن اليأس».
تتعدد وظائف العناوين الشعرية بتعدد سياقاتها ومجالاتها، حيث نستطيع دراسة العناوين كما يذهب إلى ذلك الدكتور جميل حمداوي بالإفادة من وظائف اللغة لياكبسون، فللعنوان وظيفة انفعالية ومرجعية، وانتباهية، وجمالية وميتالغوية.[27]
من هنا سنحاول دراسة عنوان «سفرة في صحن اليأس » على سبيل المثال لا الحصر من خلال الوظائف التي يؤديها، فهو أولا عنوان غنائي يساهم في جمالية النص وإذكاء فنيته، فهو عبارة عن خطاب موجه إلى« اليأس» من طرف الشاعرة تحاول من خلاله الإخبار بما بينهما من شبه، فالعنوان عبارة عن تصريح ذاتي يثير انتباه المتلقي لخرقه لما عهده هذا الأخير من أساليب التشبيه في التراث العربي القديم؛ كأن يوجد تقارب بين المشبه والمشبه به، وشبهت الشاعرة الذات الشاعرة كجسد وكإنسان باليأس كشيء غير ملموس لا نعرفه إلا من خلال وقعه وصوره المتعددة والمشكل للذات المنكتبة انطلاقا من الذات الكاتبة وصولا إلى نوع من الحلول بين الذاتين.
و تبقى العلاقة بين العنوان وخطابه إلى حد الآن غامضة دلاليا ولم تتبين بما فيه كفاية مما يحدو بنا إلى محاولة الربط بين العنوان وبداية ووسط ونهاية القصيدة، قصد استجلاء تلك العلاقة وذلك الدور الغنائي للعنوان في النص.
في بداية القصيدة:
‘‘خذ بخوري واحترق
أنت الكشف
واحتراب الطعنة بالقلب
مرارتك الحلوة ميلادي
تتنزه بتعذيبك الراشف قتلي...[28]
نجد في هذا المقطع ألفاظا دالة على حركة الموت: بخوري/ واحترق/الطعنة بالقلب/ قتلي.. فهناك إذن لدى الشاعرة فعل شبيه بما تقوم به النار من حركة.
أما في وسط القصيدة فنقرأ:
عرف الوحدة في صندوق ضيق
وأوسع أضلاع البراءة
دفعة جديدة من العمق
ويموت القاع في يدي
كي ازهره بالعطر
وأعيده إليك.[29]
وهنا أيضا – في المقطع- نجد ألفاظا نسبت إلى الشاعرة وهي لها دلالات لمعجم الموت كـ: ويموت / القاع في يدي / الوحدة /صندوق ضيق .. إذن هناك استمرارية لما رأيناه في المقطع الأول.
وهكذا يستمر نفس الإيقاع ونفس السيمفونية الغنائية التي ابتدأت بها القصيدة. ومن خلال محاولاتنا للربط بين العنوان والقصيدة نستنتج أن علاقة الشبه المذكورة بين الذات الشاعرة، والموت واردة داخل النص، إن هذه القصيدة بمثابة قطعة غنائية عنوانها«سفرة في صحن اليأس » وتنوعت مقاطعها داخل القصيدة.
4- عنوان الأنشودة: « سفرة بتول».
إن أول ما يستوقفنا من خلال هذا العنوان هو إثارته للمتلقي، وذلك بالجمع بين مفردتين من حقلين متباعدين دلاليا؛ الأول «سفرة» وتدل على الرحيل بالإضافة إلى الجانب الموسيقي الذي تحمله خصوصا في مجال الشعر وإنشاده. أما المفردة الثانية «بتول» فهي من حقل القيم والأخلاق والقدسية وكذا الشيم الإنسانية المحمودة، وهي عموما لا تتعلق بالإنشاد، وإنما هي عبارة عن تصرفات يقوم بها المغيرين من الناس كدليل على الصفاء، والتفرد، بعيدا عن الافعال المتداولة بين بني البشر، وهي صفات متعالية يهبها الله من يشاء من عباده.
إن الجمع بين المفردتين يضع أمامنا أفقا للتأويلات والدلالات، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار كون كلمة «سفرة» جاءت هنا عبارة عن خبر لمبتدأ محذوف نقدره ب«هذه».
وإذا حاولنا تتبع المفردتين داخل المتن الشعري، فإننا نفاجأ حين لا نجد لها ذكرا إلا من خلال لفظة «سفرة» بمعزل عن المفردة الأخرى. كل هذا يشجعنا على اعتبار أن القصيدة التي نحن بصددها هي السفرة ذاتها، فالشاعرة وكأنها تقول لنا : « هذه سفرة بتول» وبعد ذلك تقدم لنا القصيدة.
إذا تم اعتبار القصيدة «سفرة» فإن ذلك يجعلنا نحاول أن نستشف دلالات تلك القدسية المنشد بها في القصيدة، أما كيفية السفر فهي مرتبطة بآليات اشتغال النص، وتقنياته الفنية وذلك لن يتأتى لنا ما لم نقم بتناول العلاقة التي تربط بين العنوان وبداية ووسط وآخر القصيدة – سفرة بتول.
- تبدأ القصيدة بـ:
‘‘كحل الرجاء
أجمل ما فيه
عشب..[30]
في هذا المقطع هناك دعوة إلى الآخر الذي يبدو من خلال المفردات المستعملة أنه المحبوب: كحل /الرجاء/ أجمل ما فيك. من هذا المقطع إذن نفترض أن الطرف المخاطب المنشد له هو المحبوب والعاشق في علاقات حب فيها تدرج روحاني منقطع النظير.
- ونقرأ في وسط القصيدة :
يخاف من زهرة بتول
قصدت زوبعة القلب
وجملت
الضلع الذي انزلق.[31]
من الجلي في هذا المقطع وضوح العبارات الدالة على الطرف الآخر (الأنثى) التي تنشدها الشاعرة في هذه القصيدة بعمقها الرمزي، فمن خلال الألفاظ : زهرة /بتول /زوبعة القلب/ الضلع الذي، نستشف أن الشاعرة توجه خطابها إلى المحبوبة وتنشدها أنشودتها هاته.
- وفي نهاية القصيدة نقرأ:
الأرض
السماء
أواه من الثنائي المحاصر
أين ابني خيمتي؟
آه
يا امرأة كلها واحد
من عاجلك
لتكوني فحولة اللهب؟[32]
نسجل في هذا المقطع انتقال الشاعرة إلى استعمال ضمير الـ:انت/ أنا/ في خطابها، فهي تتحدث في نهاية القصيدة عن مخاطبة مفترضة :عاجلك/ لتكوني/ التي هي الأخرى تعبر عن مدى الصلة بين الطرفين ويمكن اعتبار الذاتين عبارة عن جسد واحد.
إن القصيدة التي بين أيدينا عبارة عن أنشودة من الشاعرة وفاء منها لذلك الذي تغنت به في قصائد سابقة؛ لذلك الذي هيأت له منها كل شيء وجعلت له منها سفرة باذخة.
5- عنوان التألم: «بحر من رسل».
جاء العنوان الأخير عبارة عن مكونين نحويين، الأول المفردة « بحر » والثاني شبه الجملة «من جمر». إن هذا العنوان يحمل ثنائية التناقض، حيث لفظة البحر التي من المفروض أن تكون ملائمة تتوفر فيها كل شروط الأمان، لما لها من أهمية في التنقل والحركة أسندت إليها لفظتا «من رسل» والبحر كمدلول على القوة والحياة لانه في آخر المطاف مكون من مكونات الطبيعة أو العناصر الأربعة للحياة ، إذن يضعنا العنوان أمام إيحاءات ودلالات عميقة ومتشابكة.
يرد مكون العنوان داخل النص في صيغة لغوية واحدة:«ببحر من رسل»وما دون ذلك لا نجد له أثرا إلا من الناحية الدلالية لبعض الألفاظ التي تدل سواء على البحر كبحر، على اعتبار انه مكون وعنصر من العناصر الأربعة والحركة أو الحياة، فنجد:
- الألفاظ الدالة على البحر: البحر/الشواطئ/فضاء/لنشرب.
- الألفاظ الدالة على القوة والحياة : احتاج/ رسل/ آمنت/ كفرت/ النخيل/ ما زلت/ تتطلع/ سنمضي/ لنشرب.
ولكن ارتباط العنوان داخل القصيدة بجملة تدل على الأبجدية، يبقى مؤشرا على أن الحياة وافق الانتظار إنما هما صورتان ظاهرتان لما تدعو وتهفو إليه الشاعرة معنويا:
آمنت الشواطئ بحروفه
وكفرت النخيل..
ما زلت لا اعرفني..[33]
فهي – الشاعرة- نجحت في ترويض الشواطئ بحروفه الدالة على عظمته وهذا ما يجعلنا نتساءل عن موضوع النص وعن أهم الأغراض التي تقصدها الشاعرة بهذا البحر وكذا النتائج المستنبطة منه؟
- تبدأ القصيدة ب:
احتاج بحرا من رسل
تستوعبني
الدمعة قرآن
آمنت الشواطئ بحروفه..[34]
وفي هذه الصيغة لا نجد أي صدى للحياة بمفهومها المباشر، وإنما هناك تحد وتصوير لأفق انتظارها في الحياة تحد من الشاعرة لقوانين الحياة نفسها.
- وفي وسط القصيدة :
ما زلت لا اعرفني
في صمت البحث
الشمعة بالتوائها....[35]
وهنا نجد صدى لنهاية السفرة التي أبقت في نفس الشاعرة توهجا وعصفا، إنها سفرة اندهاش وتأمل وتوقع الذي قد يأتي أو لا يأتي.
- وتختم القصيدة ب:
سنمضي بعيدا
أيها الفراغ
لنشرب نخب وحدتك..[36]
حيث هناك عشق للمسافة ورغبة في السفر؛ هكذا مضت الشاعرة ومن خلال تكرار الفعل «مضيت» وفي آخر القصيدة نستنتج أن رحلة الشاعرة إنما كانت على أحر من الجمر؛كانت غاية في الروعة ولم تكن تتوق إلا لعشق وحب ظلا أبدا أفق انتظارها بامتياز.
إن دلالة البحر/ السفر في هذه القصيدة ما دام يحققا راحة نفسية وعشقا لدى الشاعرة لا يستبعد أن الشاعرة أرادت الاعتمار داخل ما هو صوفي، حيث يجد الصوفي لذته في اختراق المقدس انطلاقا من المدنس وهذا ما يتجلى لنا بوضوح في معجمها الصوفي والذي يحمل دلالات تدل على الحقيقة واليقين في هذا المقدس وبالتالي الوصول إلى درجات الكمال كي تتحقق الذات وتنصهر فيه بكل تجلياته.
الدكتور عبد السلام فزازي
جامعة ابن زهر أغادير المغرب
1- د. رشيد يحياوي ‘‘الشعر العربي الحديث :دراسة في المنجز النصي‘‘، ص: 108.
2- نفسه.ص: 110.
3- نقصد هنا كتاب ‘‘الوساطة بين المتنبي وخصومه‘‘ للقاضي الجرجاني.
4- .. .. ‘‘عيار الشعر‘‘ لابن طباطبا العلوي.
5- عثمان بدري ‘‘وظيفة العنوان الشعري الحديث: قراءة تأويلية لنماذج منتخبة‘‘، ص: 16.
6- د. جميل حمداوي ‘‘السيميوطيقا والعنونة‘‘عالم الفكر، ص: (105-106).
7- د. رشيد يحياوي ، مرجع مذكور، ص: 110.
8- د. رشيد يحياوي ‘‘ الشعري والنثري : مدخل لأنواعية الشعر‘‘، ص: 191.
9- د.جميل حمداوي ، مرجع مذكور، ص: 99 .
10- نفسه ، ص: 96 .
11- د. رشيد يحياوي: ‘‘الشعري والنثري‘‘، مرجع مذكور ص: 159 .
12- محمد مفتاح ‘‘ النص من التنظير إلى الإنجاز ‘‘، ص: 10.
13*- نفسه، ص: 20
14- محمد مفتاح ‘‘النص من الإنجاز إلى التنظير ‘‘، ص: 23.
15- عثمان بدري ‘‘وظيفة العنوان في الشعر العربي الحديث‘‘، ص:15 .
16- جميل حمداوي ‘‘السيميوطيقا والعنونة‘‘ عالم الفكر ،ص: 96 .
17- د. رشيد يحياوي ‘‘الشعر العربي الحديث‘‘ مرجع مذكور، ص:(110-111-112) .
18- نفــــسه ص:136.
19- جميل حمداوي، مرجع مذكور، ص:97 .
20- محمد بوعزة ‘‘ من النص إلى العنوان ‘‘ علامات في النقد، ص:408.
21- محيط المحيط، بطرس البستاني، مادة ‘‘أرج'‘.
[22] :الديوان: البيت يمشي حافيا/ دار كلمة القاهرة، 2010،ص:19
[23] .نفسه.ص:.23
[24] .نفسه:ص48
25- جميل حمداوي ، مرجع مذكور ، ص96 .
[26] . الديوان.ص:39.
26- جميل حمداوي ، مرجع مذكور ، ص100 .
[28] . الديوان.ص:195.
[29] . نفسه.ص:195.
[30] . نفسه.ص:184.
[31] . نفسه.ص:185.
[32] . نفسه.ص:185.
[33] .نفسه.ص:169.
[34] .نفسه.ص:169.
[35] .نفسه.ص:169.
[36] .نفسه.ص:169.
...........................
خاص بالمثقف
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم الأديبة وفاء عبد الرزاق، من: 05 / 11 / 2010)
التعليقات (4)add comment
...
دراسة في منتهى الجمال ومنتهى القيمة الأدبية .. شكرا للأديب د عبد السلام فزازي .. ومبروك للأديبة الكبيرة وفاء عبد الرزاق على تكريمها ..
حقا تستحق هذا التكريم بجدارة المنجز وقيمته .
فائز الحداد
...
الأديب والناقد الكبير المبدع د. عبد السلام فزازي
قراءاتك لبعض أعمال المبدعة والمحتفى بها العراقية وفاء عبدالرزاق كبيرة وعميقة،
أنتَ سيدي النبيل صائغ ماهر، وناقد بيده كل أدوات النقد البناء والموضوعي والعلمي،
وتقتنص جماليات الإبداع في الجملة الشعرية بخبرة العارف، تستخلص رحيق المعاني في النص وتبثه لنا على الورقة بشكل فني رائع.
تقتفي أثر الصورة الغائبة عن المتلقي وتقدمها لنا بجمالية تثير الدهشة.
شكري وإحترامي ومودتي
نوال
أدب / المثقف
...
لكم مني تحياتي وحبي، حين يتعلق الأمر بجمالية النصوص لا يمكن أن لا تستفزك جوانيته..وحين اقترح علي تقديم قراءة اعمال الشاعرة توخيت الصدق في النقد بعيدا عن الاخوانيات فكان الذي كان رغم ضيق الوقت وما يتطلبه العمل الأكاديمي من وقت كبير بغية انجاز تفاصيله..لكن حبي للمبدع العراقي في شخص صديقي سعدي يوسف الذي انجزت فيه اطروحة جامعية جعلتني لا اندم على اقتحام نصوص غالبها طالع من ماغما الابداع الحقيقي..تحية لكم جميعا
الدكتور عبد السلام فزازي
يعز في نفسي ان لا اخبر من الشاعرة نفسها على ان النص قد نشر واعتقدت ان نشره سيكون فقط في كتاب..لكن ما هم والله المستعان
[/b]
abdulsalam_fazaziمقدمـة: أهمية العنوان الشعري في دراسة النص
يشتغل مكون العنوان في الأدب العربي، باعتباره مرشدا دالا إلى النص الفكري والنقدي .. الخ) الذي يتصدره،
ولكنه مع ذلك أهمل في مجال الشعر، وترك مكانه لهيمنة مكونات أخرى لعبت دورا هاما في التواصل مع المتلقي، ونخص بالذكر المطالع التي كانت معيارا من معايير الحكم على جودة الشعر، بالإضافة إلى الجمل التي تسبق القصائد الشعرية كصيغ تقديمية[1].
كان العنوان في هذه المرحلة مجرد عتبة يتعدى بها إلى غيره[2]، فهو يلعب دور تحديد نوعية المادة وموضوعها، فيبين لنا أن هذا الكتاب – مثلا- يوازي بين المتنبي وخصومه[3]، وذاك يقدم تعريفات للشعر ويحاول وضع ميزان وعيار في طرق نظمه.[4]
ومع ظهور الشعر الحديث، عني بالعنونة سواء فيما يتعلق بالجانب الإبداعي لدى الشعراء، أو من خلال الدراسات السميولوجية التي تناولت العنوان باعتباره علامة دالة تسم النص وتبرز مجموع الدلالات المركزية فيه[5]. وهكذا أصبحنا أمام عناوين تحتاج ذاتها إلى التحليل والتناول النقدي.
وقد ذهب الدكتور جميل حمداوي حين حديثه عن النص الموازي لدى جيرار جينيت، إلى اعتبار العنوان مظهرا وقسما من أقسام النصية يعتبر بمفرده جنسا أدبيا مستقلا كالنقد والتقديم. . . الخ، ويعني هذا أن له مبادئه التكوينية ومميزاته التجنيسية[6]. فالعنوان في الشعر الحديث صار مكونا قائم الذات، منسجما يحقق مجموعة من الأهداف والوظائف سواء تعلق الأمر بما بينه وبين خطاب النص، أو بالتأثير الذي يحدثه في نفس المتلقي الذي يحاول فك شفراته وإعطائه دلالات وأبعاد، سعيا وراء فهمه واستيعابه.
إن الشعر الحديث جعل من العنوان نصا ثانيا موازيا للقصيدة، فأصبح بالإمكان الحديث عن شعرية العناوين كما كنا نتحدث عن شعرية القصيدة[7]، وبالتالي« يمكن قراءة تلك العناويـن مفردة بوصفها نصوصا، أو قراءتها بوصفها جملة متمفصلة عبر عدة أعمال، أوجملة متمفصلة عبر عدة نصوص في العمل الواحد »[8]. وبذلك نستطيع دراسة الأسس الجمالية التي يحتويها العنوان، لدوره في فهم معنى النص؛ فهو المفتاح الذي نلج به إلى النص وهو العنصر الذي يجذ بنا إليه ويخلق فينا حرارة وشوقا نحو القصيدة.
فما الذي جعل من العنوان مرتكزا أساسيا نسعى إلى دراسته؟ وهل جاء هذا التقدير كله من خلال كون العناوين تتطلبه لذاتها وفي ذاتها، أم لأننا نحب أن نجعل منه مكونا نستطيع به استنباط الرسالة التي يود الشاعر إيداعها في أعماقنا ودواخلنا؟ هل الجمالية التي يكتسيها هذا العنصر نابعة من كونه يتألف من عناصر فنية وجمالية تتجلى في نصيته، أم أنهـا نابعة من الشكل الذي يأتينا به العنوان الشعري الجديد؟
إن ذلك يرجع إلى حيثيات متعددة لعل أبرزها تلك الوظيفة التي يلعبها العنوان في النص الشعري الحديث فهو« الذي يسمي القصيدة ويعينها ويخلق أجواءها النصية والتناصية، عبر سياقاتها الداخلي والخارجي، علاوة على السؤال الإشكالي الذي تطرحه القصيدة »[9]. وهذا ما يمكن أن ندلل به على ما تعرفه الساحة الأدبية - بخصوص الإبداع الشعري - من نزوع العنونة الشعرية نحو التعمق والوسم والبحث عن الوسائل التي بإمكانها أن تجعل من العنوان أكثر شاعرية، وأكثر دلائلية على النص خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار ما له من وظائف كثيرة يسهم « تحديدها في فهم النص وتفسيره وخاصة إذا كان نصا معاصرا»[10].
وإذا كان « الانتقال إلى قراءة النص يمثل اختبارا لتوقعات القراءة، واستكشافا للطرائق التي يتعالق فيها النص وعنوانه، ففي مرحلة تلقي النص تكتشف القراءة صدق أو خيبة توقعاتها »[11]. فإننا سنحاول تناول نموذج إجرائي من أعمال الشاعرة العراقية وفاء عبد الرزاق، لما لها من جمالية ومتانة في نصها الموازي - العناوين - نخص بالذكر:
ديوان : امنحني نفسي والخارطة / حكاية منغولية /امرأة بزي جسد /..
وسنعمد في دراستنا هذه تناول العناوين في كليتها أولا ثم التفصيل بعد ذلك في دراسة كل عنوان في ذاته قصد استكناه واستنباط تلك الجماليات التي يحتويها الإبداع في المرحلة المعاصرة، مجسدا في دواوين الشاعرة.
جماليات الإبداع في العناوين: تمهيد:
تضم الأعمال الإبداعية في ثناياها، تسعة وتسعين عنوانا جد متناسقة فيما بينها، حتى إنه ليسهل علينا الربط بين مكوناتها وجعلها بمثابة عمل واحد،كتبت في غرض واحد وفي زمن واحد كذلك، وهذا ما سنشير إليه فيما بعد.
ومن خلال كون هذه الأعمال التي وقع عليها اختيارنا ترتبط فيما يمكن تسميته إطارا[12] يجمع مكونات الإبداع ككل، فإننا سنحاول دراسة تشعباتها وعناصر انسجاميتها.
فالمبدعة تهيئ لنا فضاء- إطارا- ممكنا عن الآخر (الذات الكاتبة في علاقة جدلية بالذات المنكتبة) وهذا ما يجعلها تتذكر عنهما معا أشياء متناثرة في الذات وفي الرحيل، إنها لن تستطيع أن تتذكر إلا أن الذات المنكتبة غائبة جسدا وحاضرة روحا؛ « فقط أراك/دعوة البحر/ بغداد/ امرأة بزي جسد/ عقاب ام ثواب/ غزو وجراد/ لها، لي، لا اعرف...»، وكيف يمكنها تجاوز مشكلة غياب الذات المنكتبة إلا بمناجاتها وتمجيدها وذكر أهم الخصال الحميدة فيها. فهي عندها؛ «أريج باذخ» تفوح رائحته العطرة رغما عن غيابها.
بعد كل هذا يتغير إيقاع الكتابة ليصير بمثابة تصريح ذاتي وتأوه داخلي؛ « تملكني شك الأسماء/ وكامرأة جمرة/ حرقت دثار القبح/ ربما تغضب نجمه صوتي/ وهي تحتل معناه..../ هل تصبح الصحراء بحرا/ وهل من يجمع الرمل لخاتمي؟»، فأي جانب تشبه فيه الشاعرة – الذات المخاطبة – جمرة كذات مخاطبة؟ لعل وجه الشبه يكمن في القصيدة الموالية؛ «حينما تبرد نحلة خرساء / تحوم حول كاسي وردة/ يخرس النهر في يوم ماطر/ وتلتصق بانزلاق الوقت/ جامحة الزفير»، فالشاعرة بمثابة نحلة حاضنة كما الجمرة حاضنة للحنين والغياب والخوف والأمل.
والمبدعة تعانق مفهوم احتضان الآخر المجسد في الوطن بشكل جنوني، كذلك حاضنة للقاء مع الآخر (الوطن) الطرف المخاطب والخوف عليه والأمل في معانقته «حوار بين شبرين»:
العالم مجرد شبر تدلى من حبله
وقيد يدي التي لم تنل غير تخثر الفصول.
المنسية الملتصقة على حائط
يرفض أيامه أنا
وأنا الوطن الذي
نزع وطنه وتعرى للثلج...
ثم تعود الشاعرة بعد ذلك إلى التذكر والوفاء لكل شيء؛ « يا من تموت الف مرة في البصرة
وتنفلق بغداد
لراية دثرتك
فأقرا شعلة دفتي
كم حكيت لدارها عن عروس المعجزة...« اقرأ وحدث »، إنه وفاء منها للآخر/ البصرة، الذي تغنت به في القصائد السالفة؛ نشيد وفاء لذلك الذي هيأت له كل شيء وجعلت له منها محتضنا وأريجا باذخا وشبها لجمرة الهوى.
لكن الوطن الذي تود الشاعرة السفر إليه يظل فعال حروف من جمر يحسن السفر من دونها ما دام ارتداؤها لن يشكل إلا عبئا عليها، إن عنوان«أقرا وحدث»ولكونه خاتمة واستنتاجا نهائيا خلصت إليه الشاعرة بعد سفر شاق مع الشوق والحنين في القصائد السابقة:
يا وطنا ابحث عنه اقترب
فانا امرأتك المؤجلة... نفس العنوان.
هكذا نخلص بداية إلى أن العناوين المتضمنة في الديوان قيد الدرس كلها تحقق انسجاما في ذاتيتها أولا، وفي علاقتها ببعضها ثانيا.
في دراستنا لهذه للعناوين وباعتبارها كما تمت الإشارة منسجمة ومتماسكة تحقق جمالية تركيبية في الربط بين مكوناتها، لا بد لنا إذن أن ندرسها من خلال العلاقة بين مكوناتها العنوانية؛ أي العلاقة التي تشكل بها هذه العناوين نسقا واحدا يشكل دواوين في ديوان واحد. وما دمنا في هذا الصدد فلا بد لنا أن نأخذ بعين الاعتبار كل السبل التي ستوصلنا إلى مبتغانا انطلاقا من شكل كتابة هذه العناوين، سواء تعلق الأمر بالترتيب الزمني الذي تأخذه أو بالحيز المكاني الذي تشغله، وهذا الجانب من الدراسة لن يتأتى لنا ما لم نقم بالربط بين العناوين وزمن كتابة القصائد بالإضافة إلى العلاقة التي تربط بين قصائد الديوان ظاهريا ومن خلال شكل تدوينها كذلك.
يبدأ الديوان بالقصيدة »المنبورة« ؛ « البيت يمشي حافيا»، فهذا العنوان هو بمثابة عنوان للديوان ككل لذلك يحق لنا أن نتساءل عن السبب الكامن وراء جعل هذا العنوان على غلاف الديوان دون غيره؟ هل يرجع ذلك إلى أنه يحمل في بنيته ما يؤهله فنيا وجماليا لأن يكون كذلك، أم هو مجرد اختيار اعتباطي من طرف الشاعرة؟ أكيد أنه لن يكون إلا اختيارا جماليا مبنيا على اعتبارات فنية ودلالية، سنحاول ملامستها مسترشدين دائما بكون الديوان حيزا وصيغة عرض وتقديم مناسب للقصائد التي قد تكون الشاعرة نشرتها في منابر أخرى* أو ألقتها في لقاءات متعددة. والديوان هو الحلة التي ارتضتها الشاعرة بعد التعامل مع القصائد بالتنقيح والزيادة والنقص، وذلك بانتقال النصوص من فضاء تداولي تدويني إلى آخر[13].
اختارت الشاعرة إذن أن تجعل من قصيدة «البيت يشي حافيا »عنوانا للديوان ككل، وذلك يرجع في نظرنا إلى عدة أسباب أولها قد تكون قصائد الديوان منظمة وفق تسلسل زمني متتابع، والقصيدة عنوان الديوان متفردة زمنيا عن القصائد الأخرى؛ إذ كانت كتابتها كما أوردت الشاعرة ذلك في:2002 /2003*.
وبالإضافة إلى هذا المؤشر الزمني، الذي يظل أكثر المؤشرات احتمالا، يأتي المؤشر المضموني حيث أن قصيدة :« البيت يمشي حافيا » هي بمثابة افتتاح أو مقدمة لتقبل ما سيأتي من القول الشعري؛ إنها تهيئ الآخر (المتلقي) لتقبل واستيعاب الخطاب الذي سيأتي متضمنا في القصائد الموالية، إنها بمثابة القلب لجسد القصائد ككل، وبالتالي يمكننا قراءة عناوين قصائد الديوان كما يلي :
-« البيت يمشي حافيا » ← «فصل جنون الورق»
- وفيها أبواب: 1 - باب الدخول / أنا بعض هذا الباب /نصفان لباب /باب الظما / كتابة ترقص بباب / زهرة تطرق الباب / الجمار باب لا يهجع / معطف يرفع ياقة باب / باب الصفير / باب متعرج الصبر /باب سرير / باب لحصاد الروح / باب لانتباه النهر / باب حلم الملح /باب البحر /باب كأنه يشبهك / باب بذرة / باب في المرآة /باب ورقة الاكتشاف .....
2 – فصل جنون الورق: ورقة ضدين / ورقة جاهلة / ورقة قبلة / ورقة تهتز بلا ريح / ورقة للرجال / ورقة للملك / ورقة للمغني / ورقة بلا لون / للغضب أوراق / حبر أوراق / عناق لون لورقة....
3 – أ..و..ر..ا..ق : ورقة عشتار / ورقة في صندوق / مرفأ للموت وورقة / ورقة دمعة / كلام لا يفهم ورقة / ورقة طائر الليل / ورقة مسروقة / عذراء / صورة إليك / صورة لوفاء / صورة وشرارة...
وتبقى كل الاحتمالات واردة ما دام النص الشعري مفتوحا لأجل أن يؤول وينسج لنا دلالات عميقة، ليستطيع المتلقي باعتباره مرسلا إليه – المؤول الأول – ومعطي دلالات القصيدة الأولى، وفقا لمعرفته الخلفية[14] وما خبأه من إمكانيات التعامل مع النص الشعري بعمق دلالاته.
إذا كان هذا الديوان وغيره من دواوين للشاعرة وفاء عبد الرزاق –كما أسلفنا الذكر – يربط بين مكوناتها انسجام وتناسق تام بدا لنا من خلال مظاهر أولية؛ كالجمع بين القصائد تحت عنوان واحد دال، فإننا نتساءل عن أهم مظاهر الانسجام والتناسق من خلال علاقة المضمون بالشكل؛ نعني كيفية الربط بين طريقة كتابة القصائد (سواء تعلق الأمر بنقط الحذف مثلا أو الفواصل أو الكلمات أو مكونات القول الشعري الأخرى )، وطريقة انسجام الجمل وبالتالي تلاحم القصائد فيما بينها مضمونيا، وهذا ما سنحاول التلميح إليه بشكل من الأشكال لاحقا وباقتضاب.
نخلص مما سبق أننا أمام قصائد ترتبط فيما بينها أواصر متينة عبر عنها احتواؤها في فضاء تدويني شعري واحد، مما سيكون سندا لنا أثناء الدراسة سواء العنوا نية أو غيرها.
وباعتبار العنوان « من العناصر التي تكون أسلوبية النص الأدبي »[15]، وتساهم في جماليته وإعطائه قيمة فنية، فإننا في دراستنا للمتن الشعري لديوان وفاء اعبد الرزاق ارتأينا الغوص في ثنايا هذا ‘‘العنصر الإجرائي الذي يعتبر بمثابة مفتاح أساسي يتسلح به للولوج إلى أغوار النص العميقة ‘‘[16] معتمدين في ذلك منهجية محكمة كما اقترحها زميلنا الدكتور رشيد يحياوي، تبدأ بدراسة العناوين من خلال التجاور والعلاقات التي تربط فيما بينها وقد تطرقنا لذلك فيما سبق، ثم دراستها من خلال نصيتها وذلك بالوقوف عند كل عنوان في ذاته بالتركيز على الجوانب التركيبية والأسلوبية والدلالية فيه، وكيف تساهم في إذكاء شاعرية النص، ثم أخيرا محاولة الربط بين العناوين وخطاباتها سواء تعلق الأمر بجوانبها اللفظية أو الدلالية والإيحائية[17].
1-العنوان المنبور:« البيت يمشي حافيا »:جمالية التركيب والدلالة.
بعد أن تناولنا عناوين الديوان في كليتها، سنقف الآن عند كل عنوان على حدة محاولين إبراز تلك الجماليات التي يحتويها العنوان في القصيدة العربية المعاصرة، من خلال كيفية تركيبه وانسجا ميته ثم مساهمة ذلك كله في بناء الدلالة.
إذا كانت عناوين تشكل انسجاما تاما في كليتها كما سبق أن أشرنا، فإننا سنحاول هذا التماسك والجمالية التي يؤديها كل عنوان في الديوان[18]، بادئين بالعنوان :« البيت يمشي حافيا »، فهو أولا عنوان«نبري » باعتبار القصيدة (المنبورة) هي تلك التي تجعل عنوانا للديوان.
يتكون العنوان من ألفاظ ثلاثة؛ الأولى «البيت » وتتضمن كذلك مكونين نحويين هما الفعل والمفعول به إضافة إلى الفاعل، والمركب الثاني جاء عبارة عن فاعل مقدم.
نتساءل عما هيأه المخاطب باعتباره يوجه رسالة ربما ستكون متضمنة في ثنايا النص إلى مخاطب معلوم نفترض أن يكون هو المحبوب، فهو يحتمل القول ب:« البيت يمشي حافيا»؛ لابد أن نجده في ثنايا النص، وبالتالي لن يكون «الخطاب النصي إلا مسندا إلى هذا العنوان الذي هو بمثابة فكرة عامة أو محورية »[19]. إن العنوان هنا عبارة عن تساؤل ننتظر إجابة عنه وبشغف كبير أثناء غوصنا في ثنايا النص.
من الجانب التركيبي يضعنا العنوان في إشكال البحث عن تتمة مقنعة له، ثم التساؤل عمن يكون هذا المخاطب المفترض والمتمثل أساسا في المتلقي، مما يجعلنا نستنجد بالنص ومحاولة الرجوع إلى أبوابه المتضمنة للعناوين الفرعية المكونة للديوان. إن العنوان يشجعنا على تلقي النص ويحفزنا على استهلاكه وتناوله فهو بمثابة ترياق له[20].
فهل سنتمكن من معرفة ذاك الشيء الذي هيأته الشاعرة، ولمن؟ هذا ما سنحاول معرفته من خلال الربط بين مكوني العنوان والنص، وتلمس الأجوبة في الخطاب النصي.
إذا حاولنا تتبع مكون العنوان بمكوناته الثلاثة داخل القصيدة، فإننا لن نجد له تضمينا مباشرا اللهم في محاولتنا اقتحام بلاغته وتفكيكها داخل السياق الشعري، مستحضرين كل العناوين الفرعية..
البيت :فاعل يمشي: فعل حافيا: مفعول به
↓ ↓ ↓
فاعل← فعل ← مفعول به
وواضح أن الجواب على أحد الأطراف الواردة في تساؤلنا حول العنوان متواجد هنا:« البيت يمشي حافيا »؟ ← ولا نحتاج إلى إجابة استقرائية ما دامت الشاعرة تجيب عنه بوضوح في إهدائها قائلة«الوقت الذي يتوهج في جرح الذات هو وقتي الذي لم تجرح نوافذه ولم تيأس في مهج ينام الليل فيها على ضوء ترتد إليه الرمال كضفة تتذوق جدران البيت نبيذا »، وضمنيا نستشف أن المخاطب هو المحبوب المتمثل في هذه الفضاءات الملتصقة بالذاكرة الموشومة.
هذا فيما يخص المكون الذي ورد في النص ملائما لتركيب العنوان بوجه من الأوجه، أما فيما يخص الصيغ الأخرى فإننا نجد لفظة العنوان داخل النص متمثلة في اتصال في استمرارية الفعل في المستقبل «يمشي » من هنا نستنتج من الصيغ السالفة الذكر أن الشاعرة لم تتبع الصيغ التقريرية للفعل المضارع «يمشي» كما هو في العنوان، وإنما تحول المضارع واقع يتحقق، فهي لم تهيئ شيئا، وإنما سوف تهيئ له، فهو أمر مرتبط بالمستقبل، وقد يتحقق أو لا يتحقق.
الآن وقد تجلت أمامنا هذه الانسجامية، سننتقل إلى عناوين أخرى في الديوان، وسنقف عند ما يميز كل عنوان عن غيره من العناوين بنفس التسلسل المتبع في الديوان.
2 -عنوان عن الجسد – الذات : « البيت يمشي حافيا»
يتكون العنوان من ألفاظ ثلاثة؛ الأولى :«البيت» من اسم دال على توهج وفوح رائحة لفضاء طالما تغنى به الشعراء وهم يقفون ويستوقفون ويبكون ويستبكون[21]، أما اللفظة الثانية «يمشي» والمشي كناية عن الحياة والاستمرارية ضد السكون والموت المفترض، وحين نتوق إلى اختراق المسافات كيفما كانت نبدأ بالخطوة ليتلوها المسير، أما الكلمة الثالثة فهي « حافيا » لتدل رمزية مكونة حقا لصورة شعرية باذخة، حيث تستثمر الشاعرة المجهودات المبذولة في البلاغة القديمة والحديثة والمتعلقة بتحديد الأوجه البيانية ودرجة اشتغالها قوة وضعفا في الخطاب الشعري، والنتائج التي تمخضت عن الدرس البلاغي الحديث، بمعنى أننا سنراوح بين الثوابت والمتغيرات النظرية، من أجل الوصول إلى صياغة نسق يستغل كل إمكانياتها المفهومية والإجرائية لرصد المستويات الأسلوبية والدلالية في الصور الشعرية التي يزخر بها المتن الشعري عند الشاعرة انطلاقا طبعا من العناوين، ونحن في هذا الصدد نقف عند العنوان الرئيسي.
جاءت لفظة «البيت » كتعبير عن الحالة التي عليها هذا الـ«الفضاء»؛ تعبير عن سمو وعلو المكانة التي يحظى بها الفضاء كما هو وارد عند غاستون باشلار، على اعتبار أنه يشبه الركح بالنسبة للمسرح، حيث تتوالى فيه الأحداث بكل مقوماتها وتفاصيلها، وهذا يجعل منه مكونا يحمل أكثر من دلالة خصوصا إذا حاولنا ربطه بالجملة ككل:
- فنقرأ:
أكفان روحي
ثلاثون يتساقطون أياما بيدي
فأختلس عشقا ضبابا،
يتذوق نفسه
اتركه، يسيل بلعابه
أتراكم كثلج سكران،
لا اسمع سوى الصفير على ظهري.[22]
وهذا المقطع لا يتحدث عن رائحة الطيب ولا عن أي شيء مشابه، وإنما يغوص في معجم الجسد – الذات من خلال مجموعة من المفردات : اكفان روحي / أياما بيدي / عشقا ضبابا / الصفير على ظهري.....
- من القصيدة باب لحصاد الروح نقرأ:
يا عنقي المذبوح
الخنازير
استعذبت نومها
فلنغرد لعشاق مجهولين
ونتصاعد فما
يلتقط المطر.[23]
هنا كذلك يبقى المعجم المهيمن في هذا المقطع الأخير- هو معجم الجسد/ الذات، من خلال الألفاظ : عنقي/ المذبوح/ استعذبت نومها/ يلتقط المطر....
- ونقرأ في آخر في قصيدة أخرى :
كلما لبست ظلي
سالت المكان من أنت.
كلما اهتز الزمان
فوق سريري
هرولت بكارة السؤال.
كلما مسحت جبهتي حصيرة
برق الرعد.
كلما مرضت برهة دونك
عاشرني المجهول.[24]
وهنا أيضا نجد بروزا لنفس المعجم، على أنه ارتبط هنا بمجال آخر وهو المكان من خلال مصطلحات مثل: سالت المكان / و: فوق سريري /حصيرة..، مع حضور دائم لمعجم الجسد – الذات : لبست / سالت المكان / مسحت / مرضت /عاشرني.
هناك مفارقة إذن بين لفظتي العنوان، وألفاظ النص الذي أسلفنا ذكرها من الناحية المعجمية على أقل تقدير، لذا يجب علينا دراسة العنوان في هذه القصائد باعتباره رمزا دالا[25] على مكونات النص. بمحاولة تتبع المكون العنواني داخل النص، سنجد أنه لم يذكر إلا مرة واحدة مرتبطا بضمير الغائب«هو»:
قال:شاخت الزهرة وهي تبني معي
حفنة من شباب غابة،
قلت: هو الكون يلبس أجفاني [26]
ولعلنا نجد في هذه الفقرة الشعرية تدعيما لما سبق وأن أشرنا إليه، حيث يضم في ثناياه معجمي الذات والجسد بالإضافة إلى معجم الطبيعة الذي أشرنا إليه في آخر القصيدة. وتبقى العلاقة بينهما أن المكون الطبيعي هو الواهب والمانح لعمر الزهرة التي تبقى أبدا ملتصقة بمكون: الجسد / الذات، وإن العنوان: حليب الوسادة: بهذا هو إشارة أو رمز إلى الهبة الطبيعية وصولا إلى الذات الشاعرة.
وإذا كان العنوان لم يرد في القصيدة إلا بتلك الصيغة الأحادية فقط، فإننا سنحاول استجلاء أهم الدلالات التي اكتساها من داخل الخطاب النصي وذلك باستخراج الألفاظ الدالة على « الجسد /الذات، باعتبارها متأثرة ومستقبلة، ثم الألفاظ الدالة على مكون« الطبيعة /الزهرة/الغابة».
إن أهم المفردات الدالة على المكون الأول هي: الروح/يدي/ معي/شباب/ أجفاني. .
أما معجم الطبيعة : غابة/ الماء/ الكون/ الزهرة. . .
فمعجم الذات إذن هو المعجم المهيمن على مكون القصيدة، ولعل توقفنا عند بعض المفردات بعينها يجعلنا أمام محاولات تأويلية لدلالة حليب الوسادة أهمها : الروح/يدي/ معي/شباب/ أجفاني. . ، وكل هذه المصطلحات وربطها بالذات الكاتبة يضع أمامنا كون حليب الوسادة متعلقا ببعضها، وهذا بالضبط ينسحب على القصائد الواردة في الديوان بأكمله: البيت يمشي حافيا.
3- العنوان الغنائي: «سفرة في صحن اليأس».
تتعدد وظائف العناوين الشعرية بتعدد سياقاتها ومجالاتها، حيث نستطيع دراسة العناوين كما يذهب إلى ذلك الدكتور جميل حمداوي بالإفادة من وظائف اللغة لياكبسون، فللعنوان وظيفة انفعالية ومرجعية، وانتباهية، وجمالية وميتالغوية.[27]
من هنا سنحاول دراسة عنوان «سفرة في صحن اليأس » على سبيل المثال لا الحصر من خلال الوظائف التي يؤديها، فهو أولا عنوان غنائي يساهم في جمالية النص وإذكاء فنيته، فهو عبارة عن خطاب موجه إلى« اليأس» من طرف الشاعرة تحاول من خلاله الإخبار بما بينهما من شبه، فالعنوان عبارة عن تصريح ذاتي يثير انتباه المتلقي لخرقه لما عهده هذا الأخير من أساليب التشبيه في التراث العربي القديم؛ كأن يوجد تقارب بين المشبه والمشبه به، وشبهت الشاعرة الذات الشاعرة كجسد وكإنسان باليأس كشيء غير ملموس لا نعرفه إلا من خلال وقعه وصوره المتعددة والمشكل للذات المنكتبة انطلاقا من الذات الكاتبة وصولا إلى نوع من الحلول بين الذاتين.
و تبقى العلاقة بين العنوان وخطابه إلى حد الآن غامضة دلاليا ولم تتبين بما فيه كفاية مما يحدو بنا إلى محاولة الربط بين العنوان وبداية ووسط ونهاية القصيدة، قصد استجلاء تلك العلاقة وذلك الدور الغنائي للعنوان في النص.
في بداية القصيدة:
‘‘خذ بخوري واحترق
أنت الكشف
واحتراب الطعنة بالقلب
مرارتك الحلوة ميلادي
تتنزه بتعذيبك الراشف قتلي...[28]
نجد في هذا المقطع ألفاظا دالة على حركة الموت: بخوري/ واحترق/الطعنة بالقلب/ قتلي.. فهناك إذن لدى الشاعرة فعل شبيه بما تقوم به النار من حركة.
أما في وسط القصيدة فنقرأ:
عرف الوحدة في صندوق ضيق
وأوسع أضلاع البراءة
دفعة جديدة من العمق
ويموت القاع في يدي
كي ازهره بالعطر
وأعيده إليك.[29]
وهنا أيضا – في المقطع- نجد ألفاظا نسبت إلى الشاعرة وهي لها دلالات لمعجم الموت كـ: ويموت / القاع في يدي / الوحدة /صندوق ضيق .. إذن هناك استمرارية لما رأيناه في المقطع الأول.
وهكذا يستمر نفس الإيقاع ونفس السيمفونية الغنائية التي ابتدأت بها القصيدة. ومن خلال محاولاتنا للربط بين العنوان والقصيدة نستنتج أن علاقة الشبه المذكورة بين الذات الشاعرة، والموت واردة داخل النص، إن هذه القصيدة بمثابة قطعة غنائية عنوانها«سفرة في صحن اليأس » وتنوعت مقاطعها داخل القصيدة.
4- عنوان الأنشودة: « سفرة بتول».
إن أول ما يستوقفنا من خلال هذا العنوان هو إثارته للمتلقي، وذلك بالجمع بين مفردتين من حقلين متباعدين دلاليا؛ الأول «سفرة» وتدل على الرحيل بالإضافة إلى الجانب الموسيقي الذي تحمله خصوصا في مجال الشعر وإنشاده. أما المفردة الثانية «بتول» فهي من حقل القيم والأخلاق والقدسية وكذا الشيم الإنسانية المحمودة، وهي عموما لا تتعلق بالإنشاد، وإنما هي عبارة عن تصرفات يقوم بها المغيرين من الناس كدليل على الصفاء، والتفرد، بعيدا عن الافعال المتداولة بين بني البشر، وهي صفات متعالية يهبها الله من يشاء من عباده.
إن الجمع بين المفردتين يضع أمامنا أفقا للتأويلات والدلالات، خصوصا إذا أخذنا بعين الاعتبار كون كلمة «سفرة» جاءت هنا عبارة عن خبر لمبتدأ محذوف نقدره ب«هذه».
وإذا حاولنا تتبع المفردتين داخل المتن الشعري، فإننا نفاجأ حين لا نجد لها ذكرا إلا من خلال لفظة «سفرة» بمعزل عن المفردة الأخرى. كل هذا يشجعنا على اعتبار أن القصيدة التي نحن بصددها هي السفرة ذاتها، فالشاعرة وكأنها تقول لنا : « هذه سفرة بتول» وبعد ذلك تقدم لنا القصيدة.
إذا تم اعتبار القصيدة «سفرة» فإن ذلك يجعلنا نحاول أن نستشف دلالات تلك القدسية المنشد بها في القصيدة، أما كيفية السفر فهي مرتبطة بآليات اشتغال النص، وتقنياته الفنية وذلك لن يتأتى لنا ما لم نقم بتناول العلاقة التي تربط بين العنوان وبداية ووسط وآخر القصيدة – سفرة بتول.
- تبدأ القصيدة بـ:
‘‘كحل الرجاء
أجمل ما فيه
عشب..[30]
في هذا المقطع هناك دعوة إلى الآخر الذي يبدو من خلال المفردات المستعملة أنه المحبوب: كحل /الرجاء/ أجمل ما فيك. من هذا المقطع إذن نفترض أن الطرف المخاطب المنشد له هو المحبوب والعاشق في علاقات حب فيها تدرج روحاني منقطع النظير.
- ونقرأ في وسط القصيدة :
يخاف من زهرة بتول
قصدت زوبعة القلب
وجملت
الضلع الذي انزلق.[31]
من الجلي في هذا المقطع وضوح العبارات الدالة على الطرف الآخر (الأنثى) التي تنشدها الشاعرة في هذه القصيدة بعمقها الرمزي، فمن خلال الألفاظ : زهرة /بتول /زوبعة القلب/ الضلع الذي، نستشف أن الشاعرة توجه خطابها إلى المحبوبة وتنشدها أنشودتها هاته.
- وفي نهاية القصيدة نقرأ:
الأرض
السماء
أواه من الثنائي المحاصر
أين ابني خيمتي؟
آه
يا امرأة كلها واحد
من عاجلك
لتكوني فحولة اللهب؟[32]
نسجل في هذا المقطع انتقال الشاعرة إلى استعمال ضمير الـ:انت/ أنا/ في خطابها، فهي تتحدث في نهاية القصيدة عن مخاطبة مفترضة :عاجلك/ لتكوني/ التي هي الأخرى تعبر عن مدى الصلة بين الطرفين ويمكن اعتبار الذاتين عبارة عن جسد واحد.
إن القصيدة التي بين أيدينا عبارة عن أنشودة من الشاعرة وفاء منها لذلك الذي تغنت به في قصائد سابقة؛ لذلك الذي هيأت له منها كل شيء وجعلت له منها سفرة باذخة.
5- عنوان التألم: «بحر من رسل».
جاء العنوان الأخير عبارة عن مكونين نحويين، الأول المفردة « بحر » والثاني شبه الجملة «من جمر». إن هذا العنوان يحمل ثنائية التناقض، حيث لفظة البحر التي من المفروض أن تكون ملائمة تتوفر فيها كل شروط الأمان، لما لها من أهمية في التنقل والحركة أسندت إليها لفظتا «من رسل» والبحر كمدلول على القوة والحياة لانه في آخر المطاف مكون من مكونات الطبيعة أو العناصر الأربعة للحياة ، إذن يضعنا العنوان أمام إيحاءات ودلالات عميقة ومتشابكة.
يرد مكون العنوان داخل النص في صيغة لغوية واحدة:«ببحر من رسل»وما دون ذلك لا نجد له أثرا إلا من الناحية الدلالية لبعض الألفاظ التي تدل سواء على البحر كبحر، على اعتبار انه مكون وعنصر من العناصر الأربعة والحركة أو الحياة، فنجد:
- الألفاظ الدالة على البحر: البحر/الشواطئ/فضاء/لنشرب.
- الألفاظ الدالة على القوة والحياة : احتاج/ رسل/ آمنت/ كفرت/ النخيل/ ما زلت/ تتطلع/ سنمضي/ لنشرب.
ولكن ارتباط العنوان داخل القصيدة بجملة تدل على الأبجدية، يبقى مؤشرا على أن الحياة وافق الانتظار إنما هما صورتان ظاهرتان لما تدعو وتهفو إليه الشاعرة معنويا:
آمنت الشواطئ بحروفه
وكفرت النخيل..
ما زلت لا اعرفني..[33]
فهي – الشاعرة- نجحت في ترويض الشواطئ بحروفه الدالة على عظمته وهذا ما يجعلنا نتساءل عن موضوع النص وعن أهم الأغراض التي تقصدها الشاعرة بهذا البحر وكذا النتائج المستنبطة منه؟
- تبدأ القصيدة ب:
احتاج بحرا من رسل
تستوعبني
الدمعة قرآن
آمنت الشواطئ بحروفه..[34]
وفي هذه الصيغة لا نجد أي صدى للحياة بمفهومها المباشر، وإنما هناك تحد وتصوير لأفق انتظارها في الحياة تحد من الشاعرة لقوانين الحياة نفسها.
- وفي وسط القصيدة :
ما زلت لا اعرفني
في صمت البحث
الشمعة بالتوائها....[35]
وهنا نجد صدى لنهاية السفرة التي أبقت في نفس الشاعرة توهجا وعصفا، إنها سفرة اندهاش وتأمل وتوقع الذي قد يأتي أو لا يأتي.
- وتختم القصيدة ب:
سنمضي بعيدا
أيها الفراغ
لنشرب نخب وحدتك..[36]
حيث هناك عشق للمسافة ورغبة في السفر؛ هكذا مضت الشاعرة ومن خلال تكرار الفعل «مضيت» وفي آخر القصيدة نستنتج أن رحلة الشاعرة إنما كانت على أحر من الجمر؛كانت غاية في الروعة ولم تكن تتوق إلا لعشق وحب ظلا أبدا أفق انتظارها بامتياز.
إن دلالة البحر/ السفر في هذه القصيدة ما دام يحققا راحة نفسية وعشقا لدى الشاعرة لا يستبعد أن الشاعرة أرادت الاعتمار داخل ما هو صوفي، حيث يجد الصوفي لذته في اختراق المقدس انطلاقا من المدنس وهذا ما يتجلى لنا بوضوح في معجمها الصوفي والذي يحمل دلالات تدل على الحقيقة واليقين في هذا المقدس وبالتالي الوصول إلى درجات الكمال كي تتحقق الذات وتنصهر فيه بكل تجلياته.
الدكتور عبد السلام فزازي
جامعة ابن زهر أغادير المغرب
1- د. رشيد يحياوي ‘‘الشعر العربي الحديث :دراسة في المنجز النصي‘‘، ص: 108.
2- نفسه.ص: 110.
3- نقصد هنا كتاب ‘‘الوساطة بين المتنبي وخصومه‘‘ للقاضي الجرجاني.
4- .. .. ‘‘عيار الشعر‘‘ لابن طباطبا العلوي.
5- عثمان بدري ‘‘وظيفة العنوان الشعري الحديث: قراءة تأويلية لنماذج منتخبة‘‘، ص: 16.
6- د. جميل حمداوي ‘‘السيميوطيقا والعنونة‘‘عالم الفكر، ص: (105-106).
7- د. رشيد يحياوي ، مرجع مذكور، ص: 110.
8- د. رشيد يحياوي ‘‘ الشعري والنثري : مدخل لأنواعية الشعر‘‘، ص: 191.
9- د.جميل حمداوي ، مرجع مذكور، ص: 99 .
10- نفسه ، ص: 96 .
11- د. رشيد يحياوي: ‘‘الشعري والنثري‘‘، مرجع مذكور ص: 159 .
12- محمد مفتاح ‘‘ النص من التنظير إلى الإنجاز ‘‘، ص: 10.
13*- نفسه، ص: 20
14- محمد مفتاح ‘‘النص من الإنجاز إلى التنظير ‘‘، ص: 23.
15- عثمان بدري ‘‘وظيفة العنوان في الشعر العربي الحديث‘‘، ص:15 .
16- جميل حمداوي ‘‘السيميوطيقا والعنونة‘‘ عالم الفكر ،ص: 96 .
17- د. رشيد يحياوي ‘‘الشعر العربي الحديث‘‘ مرجع مذكور، ص:(110-111-112) .
18- نفــــسه ص:136.
19- جميل حمداوي، مرجع مذكور، ص:97 .
20- محمد بوعزة ‘‘ من النص إلى العنوان ‘‘ علامات في النقد، ص:408.
21- محيط المحيط، بطرس البستاني، مادة ‘‘أرج'‘.
[22] :الديوان: البيت يمشي حافيا/ دار كلمة القاهرة، 2010،ص:19
[23] .نفسه.ص:.23
[24] .نفسه:ص48
25- جميل حمداوي ، مرجع مذكور ، ص96 .
[26] . الديوان.ص:39.
26- جميل حمداوي ، مرجع مذكور ، ص100 .
[28] . الديوان.ص:195.
[29] . نفسه.ص:195.
[30] . نفسه.ص:184.
[31] . نفسه.ص:185.
[32] . نفسه.ص:185.
[33] .نفسه.ص:169.
[34] .نفسه.ص:169.
[35] .نفسه.ص:169.
[36] .نفسه.ص:169.
...........................
خاص بالمثقف
الآراء الواردة في المقال لا تمثل رأي صحيفة المثقف بالضرورة، ويتحمل الكاتب جميع التبعات القانونية المترتبة عليها. (عدد خاص: ملف: تكريم الأديبة وفاء عبد الرزاق، من: 05 / 11 / 2010)
التعليقات (4)add comment
...
دراسة في منتهى الجمال ومنتهى القيمة الأدبية .. شكرا للأديب د عبد السلام فزازي .. ومبروك للأديبة الكبيرة وفاء عبد الرزاق على تكريمها ..
حقا تستحق هذا التكريم بجدارة المنجز وقيمته .
فائز الحداد
...
الأديب والناقد الكبير المبدع د. عبد السلام فزازي
قراءاتك لبعض أعمال المبدعة والمحتفى بها العراقية وفاء عبدالرزاق كبيرة وعميقة،
أنتَ سيدي النبيل صائغ ماهر، وناقد بيده كل أدوات النقد البناء والموضوعي والعلمي،
وتقتنص جماليات الإبداع في الجملة الشعرية بخبرة العارف، تستخلص رحيق المعاني في النص وتبثه لنا على الورقة بشكل فني رائع.
تقتفي أثر الصورة الغائبة عن المتلقي وتقدمها لنا بجمالية تثير الدهشة.
شكري وإحترامي ومودتي
نوال
أدب / المثقف
...
لكم مني تحياتي وحبي، حين يتعلق الأمر بجمالية النصوص لا يمكن أن لا تستفزك جوانيته..وحين اقترح علي تقديم قراءة اعمال الشاعرة توخيت الصدق في النقد بعيدا عن الاخوانيات فكان الذي كان رغم ضيق الوقت وما يتطلبه العمل الأكاديمي من وقت كبير بغية انجاز تفاصيله..لكن حبي للمبدع العراقي في شخص صديقي سعدي يوسف الذي انجزت فيه اطروحة جامعية جعلتني لا اندم على اقتحام نصوص غالبها طالع من ماغما الابداع الحقيقي..تحية لكم جميعا
الدكتور عبد السلام فزازي
يعز في نفسي ان لا اخبر من الشاعرة نفسها على ان النص قد نشر واعتقدت ان نشره سيكون فقط في كتاب..لكن ما هم والله المستعان
[/b]