يخصص عز الدين المناصرة كتابه «المثاقفة والنقد المقارن: منظور إشكالي»، (1) لقضايا وموضوعات «الأدب المقارن» بعامة، ولها في سياق البحوث العربية بخاصة. وهو أكثر من كتاب في مجاله، إذ أن الكاتب الفلسطيني أفرد صفحات مطولة منه لكي يضع في متناول القارىء وثائق عديدة متصلة بقضايا النقد المقارن، سواء النظرية أو العملية (مثل تأسيس رابطة عربية للنقد المقارن، في مؤتمراتها وبحوثها وأعلامها). ويتوقف خصوصاً في الكتاب أمام نشأة هذا السبيل النقدي في الدراسات الجامعية العربية، في العام 1938، بداية، في «كلية دار العلوم» (جامعة القاهرة) قبل أن يصبح مادة جامعية مستقلة في العام 1945. ثم يعرض الباحث، بالاستناد إلى معلومات وتحقيقات ميدانية، وإلى نتائج استمارات أعدها بنفسه في السنوات الأخيرة، أحوال تعليم هذه المادة في الجامعات العربية، في: جامعة أم درمان الاسلامية (منذ العام 1966)، وكلية التربية في الجامعة اللبنانية (منذ العام 1971)، وجامعة البصرة (منذ العام 1972)، وجامعة الكويت (منذ العام 1976)، وجامعة اليرموك (منذ العام 1977)، وجامعة الملك سعود (منذ العام 1978) وغيرها من الجامعات العربية.
إلا ان ما يعنينا من الكتاب يقع في مكان آخر، ماثل في صورة بينة منذ عنوانه، إذ يقترح المناصرة مقاربة جديدة لـ«الأدب المقارن». فهو لا يكتفي بدراسة تقليدية له، إذا جاز القول، وإنما يسعى إلى تناول نقدي للإشكالية التي ينهض عليها، عدا أنه يطلق تسمية «النقد المقارن» (السارية في الكتابات الأميركية) بدل التسمية التقليدية «الأدب المقارن». هل تقوى هذه التناولات الجديدة -فيما لو صحت - على إخراج «الأدب المقارن» من حدوده الأكاديمية والبحثية الضيقة، ومن المسائل التي اختص بها من دون غيرها؟ ونحن لا نثير هذه الأسئلة في صورة اعتباطية، وانما لاعتقادنا بأن هذا الأدب يعاني من مصاعب بينة تميزه أينما كان، في حاضر الدراسات العربية، والأوروبية والأميركية، بدليل قلة التجديد فيه، وتعثرِ سبل البحث فيه أيضاً.
ما يعنينا في المقام الأول، انطلاقاً من هذا الكتاب، هو مسألة العلاقة بين «الأدب المقارن» و«المثاقفة»، أي العلاقة التناظرية الماثلة منذ العنوان. يجد الباحث الفلسطيني ان «اتساع حقل الأدب المقارن ليشمل المثاقفة يخلق نوعاً من الفوضى» (2)، ولهذا يقترح لإيضاح هذه العلاقة الأفكار التالية:
«أولاً: ترتبط المثاقفة بالأدب المقارن مباشرة وهي حقل يقع في دائرة اختصاص «الناقد المقارن» على وجه التحديد.
ثانياً: تختص المثاقفة بمجال التفاعل الثقافي (...).
ثالثاً: تعتبر المثاقفة هي «المجال التمهيدي» للأدب المقارن.
رابعاً: يتخصص النقد المقارن بمجال التطبيقات النصية الأدبية» (3).
يستبقي المناصرة في هذه المعالجة وضع «الأدب المقارن» بوصفه «أصل» الدراسات الواقعة في مجال التفاعل الثقافي، ومنها النصوص الأدبية تحديداً، ملحقاً به، مثابة «تمهيد» له، إطار «المثاقفة». لا نريد أن نفهم الكيفية التي جعل فيها المناصرة من وضعية عامة، تاريخية وثقافية بحجم «المثاقفة»، فرعاً أو تمهيداً وحسب لشيء هو، في الواقع، ناتجٌ عنه، وهو التأثر والتوازي بين نصوص قابلة للنقد المقارن. ما يعنينا هو أنه تنبه إلى هذه المشكلة، وما عاد جائزا،ً في حسابه، طرحُ إشكالية التفاعل (أو الأخذ، أو الاقتباس وخلافها) بين النصوص الأدبية ضمن تحديداتها القديمة، وهي التثبت من حصول (أو عدم حصول) مثل هذا التفاعل.
فمن المعروف ان «الأدب المقارن» حافظَ منذ القرن التاسع عشر على قواعد وضَعَها الدارسون الفرنسيون (فيلمان وسانت بوف وغيرهما)، وخصوها بهذا النقد الناشىء، ويمكن تلخيصها بالقول التالي: جعل الدارسون الفرنسيون من مقولة «التأثر والتأثير»، بل من وجودها، بين نصين أو عملين أدبيين من لغتين (وثقافتين) مختلفتين، شرطاً لازماً لحصول المقارنة، ولكن بشرط حصول تفاعلات تاريخية محققة تؤكد حصول التأثر والتأثير بينهما؛ فإذا توافرت أسباب المقارنة (أو التشابه) بينهما من دون أن تكون لهذين العملين تبادلات تاريخية مؤكدة سقطت المقارنة حكماً. هذا ما قالته المدرسة الكلاسيكية - المستمرة، فقيدتْ حركتها سلفاً، في الوقت الذي نتبين فيه أن أشكال التأثر لم تعد بادية للعيان، أو يحتاج التأكدُ منها إلى مساع حاذقة ودقيقة.
هذه المدرسة التقليدية لا تزال ناشطة في البحوث أو في التدريس الجامعي، إلا أنها ليست الوحيدة، ولم تعد بمنأى عن التأثرات التي أحدثتها «المدرسة الأميركية» (حسبما جرت تسميتها)، وعن نفوذها المتمادي خارج دائرتها. ويمكن تلخيص نظرة هذه المدرسة إلى «الأدب المقارن» بأنها أكثر اتساعاً أو أقل ضيقاً وتحدداً مما هي عليه «المدرسة الفرنسية»، إذ أنها تميل إلى «المقارنة» حتى في حال عدم توافر «أدلة» على حصول عمليات التأثير. ومثلُ هذا الاختلاف لا يتصل باجتهادات علمية وحسب، وإنما يعبر عن حاجات مختلفة ومتباينة في الآداب الأوروبية (ومنها الفرنسي تحديداً)، من جهة، وفي الأدب الأميركي، من جهة ثانية: فمن المعروف أن المدارس الأوروبية في النقد المقارن تميل أو تعتمد طريقة النظر الفرنسية، ويعود ذلك إلى أن آداب هذه الشعوب قديمة، ويمكن النظر إليها على أنها، في وقائعها وتطلعاتها، فاعلة ومؤثرة خارج دائرتها الثقافية والحضارية، مستندة في ذلك إلى تراكم أدبي داخلي، بل «وطني» تلازمَ مع بناء الدول - القوميات فيها، وما تلاه من توسعٍ استعماري، ومن نفوذ لهذه الآداب خارج دوائرها. أما في الولايات المتحدة الأميركية فالحاجات مختلفة، واستجابت البحوث فيها لأحوال أدب ناشىء، من جهة، ومتفاعل أو متأثر بمصادر أدبية مختلفة ومتعددة، من جهة ثانية.
مجال الاجتهاد والدرس مفتوح، وما عاد يكفيه الفهم المقارن التقليدي، ولا الأميركي المجدد، على ما أعتقد، إذ أن الأمر لا يستقيم بمجرد المقارنة، بأدلة أو من دونها، وإنما يتطلب النظر إلى النصوص، وربما إلى غيرها من النتاجات الثقافية، وفق منظور التفاعل الثقافي، بل ضمن «المثاقفة» أيضاً. لهذا بدا لي أن العملية التي قام بها المناصرة، وهي فتح حدود «النقد المقارن» على «المثاقفة» جديرة بالبحث، عدا أنها تكسر الحدود الأكاديمية المنغلقة على نفسها.
أعود، إذن، إلى طرح السؤال الذي انطلقتُ منه: هل تقنع محاولة فتح الحدود هذه؟ ألا يرتب المناصرة في ذلك علاقة مفتعلة بين ميدان علمي ناشىء، هو المثاقفة، وبين علم قديم، هو الأدب المقارن؟
فنحن نعرف ان المثاقفة (acculturation ) لفظ اصطلاحي جديد نشأ في الولايات المتحدة الأميركية قبل أن يتأكد مضمونه في غيره من البلدان، ويشير إلى مسارات التفاعل التي تنشأ بين جماعات وأفراد، في صورة متكافئة أو مختلة (كما في حالات فرض الثقافة الاستعمارية)، وفي أجواء ودية أو قهرية، طلباً للتأثر أو المحاكاة أو التشوف، وإلى غير ذلك من الأحوال والأطوار التي تعين هذه العلاقات المركبة التي عرفتها الشعوب والثقافات، والنصوص فيما بينها بالتالي.
ما كان للمناصرة أن يغفل، إذن، عن الإرباك المعرفي والمنهجي الذي يحققه مفهوم «المثاقفة» في الميدان المنغلق والهانىء الذي يسم حال «الأدب المقارن». ولكن كيف رتب الكاتب، والحالة هذه، أمر العلاقة بينهما؟ إذا كان المناصرة يجعل من «المثاقفة» تمهيداً لازماً لأية دراسة «مقارنة»، فإنه لا ينهي المشكلة بذلك، طالما انه «يلصق» هذا بذاك، كما لو أن مفهوم «المثاقفة» تاريخي الطابع وحسب، صالحٌ للمقدمات والتمهيدات ليس إلا، من دون أن تكون له أية قابلية إجرائية! ذلك أن التحقق من العلاقة بين العلمين، الناشىء والقديم، لا يؤدي إلى تلازم بينهما، ولا إلى جعل الأول «تمهيداً» للآخر، وإلى حصر الثاني في المجال التطبيقي.
أُشدد على هذه المفارقات، بما أن مفهوم «المثاقفة» يصلح أكثر من غيره للإجابة عن وضعيات في التفاعل الثقافي وخلافه، بين الجماعات والنصوص؛ وتحتاج هذه الوضعيات وتتطلب سبيلاً في درسها يتعدى الإطار المقارن نفسه: فهناك وضعيات يعايشها العالم، كما عاشها ويعيشها عالم العربية، تتسم بالتفاعل البين مع ثقافات وسلوكات أجنبية. وهذا يصح في العلاقات مع الغير، كما بعلاقات غيرنا بثقافتنا، أي ما يحتاج إلى سبيل منهجي في المقاربة يضع حداً لـ«المقارنة»، التي تفترض وجود نص «أول» على أنه المؤثر على غيره، وهو النص الغربي غالباً، ووجود نص «ثان» على أنه الخاضع للتأثير، وهو النص غير الغربي غالباً. إلى هذا، فإن شروط التفاعل باتت صعبة الوصف، نظراً لوفرتها، ولحذاقة الأدباء والفنانين في إخفاء معالم التأثر، ما يدعو إلى اعتماد مفهوم آخر قابل لتفكيك وضعيات التفاعل الناشئة، وهو ما يوفره مفهوم «التناص».
ويتنبه المناصرة إلى الأهلية النظرية لمفهوم «التناص» الناشىء في الدراسات اللسانية، فيقول في كتابه المذكور: «إن مقولة «التناص» أكثر موضوعية في تناول المقارنة بين آداب الشعوب» (4)، غير أنني لا أجد في كتابه مسعى موافقاً لذلك، ما يشير إلى أنه يتطرق، في خاتمة المطاف، إلى العديد من المسائل المستجدة التي تطرح نفسها على حاضر الدراسات «المقارنة»، فيتلمسها في صورة نظرية وسريعة، من دون أن تطرح تلمساته هذه على البحث وضعية هذا العلم (أي «النقد المقارن»، كما يسميه)، ومن دون أن يجعل لهذه المفاهيم الداخلة على الأدب المقارن (أي «المثاقفة» و«التناص») أية قابلية إجرائية.
سبيل «التناص» يتعدى، على أي حال، هذا الإطار القديم للمشكلة، لأنه يتحقق أساساً من أحوال التفاعل فوق مساحة النصوص. إلى هذا، فان إدراج مسألة «المثاقفة» تحت باب «النقد المقارن» لا يفي بالمراد أبداً، وهو الانتباه إلى واقع التفاعل النصي الذي يقوم بين نصوص واقعة ضمن اللغة الواحدة، لا بين لغتين مختلفتين، كما هو عليه الحال في الأدب المقارن في صيغته التقليدية. كما نستطيع ان نزيد على هذين الاعتراضين اعتراضاً ثالثاً، وهو أن المنزع «المقارن» يقوم على موازاة أو تقابل أو مقارنة بين نصين، فيما يسعى الفهم «التناصي» إلى تبين حقيقة التفاعل النصي، أو «التنصيص»، في النص نفسه، على أنه يشير إلى نصوص أخرى واقعة ضمن نصوص ثقافته أو خارجها، وفق علاقات من التفاعل، قد تكون استعادة، أو محاكاة، أو تحويراً، أو محاكاة ساخرة لهذه النصوص الأخرى التي يتم «تملكها». فما التناص؟
1 . التناص : مساعٍ تعريفية
لا يحتل مفهوم «التناص» بنداً أو فصلاً مستقلاً في «القاموس المعرفي الجديد لعلوم اللغة» الذي أعاد صياغة مواده، وتبويب فصوله من جديد، أوزوالد ديكرو وجان-ماري شافر بالتعاون مع عدد كبير من اللسانيين (5). ولو استعدتُ فهرس المصطلحات، لوجدتُ «التناص» وارداً في مادة واحدة؛ ولو عدتُ إلى الصفحة المناسبة للاحظتُ أن وروده مصحوبٌ بكلام مقتضب لا يزيل شيئاً من اللبس المحيط به، ولا يوفر له بالتالي قدراً من التعيين الدقيق.
يرد الحديث عن «التناص» (intertextualité ) في المعجم الجديد في معرض الحديث الشامل عن «ميادين» الدراسات اللسانية، وعن إسهام «الشكلانيين الروس» فيها تحديداً. ويعني هذا أن واضعي القاموس لم يجدوا ضرورة، رغم تبويبهم المنهجي الجديد للمواد، واضطرارهم الى إجراء تعديلات وإضافات جوهرية على مواده، إلى إفراد فصل، أو فقرة في فصل، لهذا المفهوم، ما يفيد أنه لم يبلغ، بعد، في حسابهم مرتبة العلم، أو المسعى المنهجي، أو القضية اللسانية الجدالية أو اللافتة. والغريب في هذه العملية هو أن واضعي القاموس الجديد استعادوا المفهوم ولكن من دون تعييناته السابقة، أي الواردة في القاموس القديم (6)، التي أبانت شيئاً من حقيقة النص، وهي أنه لا يخضع «لنظام» مبرم ذي فقرات متعالقة ومتماسكة، وانه لا يؤلف «بنية مغلقة»، وإنما تشغله وتنشط فيه نصوص أخرى، على أساس أن كل نص هو «استيعاب وتحويل لعدد كبير من النصوص» (7).
وإذا كان التباين بين القاموسين، بل بين إصدارَيْه، يفيد شيئاً فهو أن تعيين محتويات المفاهيم، الناشئة خصوصاً، يخضع للتقلبات والاجتهادات: ما كان مستحسناً ومطلوباً في أيام «عز» البنيوية (أي في الإصدار السابق)، أي التأكيد على أن النص «ممارسة» (أي اشتغال النصوص المختلفة والمتباعدة في الكتابة النصية، كما كانت تقول جماعة «تَلْ كَلْ»)، ما عاد مستساغاً في عهد تراجع البنيوية الحالي. هذا ما أَنتبه إليه في واقعة أخرى، وهي أن «قاموس اللسانية» ( لا يتضمن - وهو معروف بجانبه «المحافظ» - أية إشارة عن «التناص». ومع ذلك أقول بأن مفهوم «التناص» شغل العديد من الدارسين؛ ولو تتبعتُ عدداً من الكتب والدراسات الأوروبية، الفرنسية والإيطالية تحديداً، وعدداً من الكتب، وإن القليلة، العربية، لوجدت حضوراً لافتاً لهذا المفهوم. فما حال «التناص»؟ وما معنى التردد الذي يصيبه في مجال الدراسات؟
لعلنا نجد، على ما يفيد «القاموس المعرفي الجديد» المذكور، في شخص العالِم الروسي ميخائيل باختين واضعَ هذا المفهوم الجديد، وفقاً لاستعمالات الباحثة جوليا كريستيفا له. وعنى هذا المفهوم الوقوف على حقيقة التفاعل الواقع في النصوص، في استعاداتها أو محاكاتها لنصوص (أو لأجزاء من نصوص) سابقة عليها، بدل الفهم التقليدي الذي يتعامل مع كل نص في صورة متسقة على أنه صنيع مبتكر، مصدرُه فيه وغايتُه واقعةٌ فيه كذلك. ماذا لو أتبين حال هذا المفهوم في عدد من الدراسات الإيطالية والفرنسية، التي سعتْ، على ما سأتبين، إلى توسعة تعيينات هذا المفهوم ومجال عمله، مثلما سعت أيضاً إلى تعيين ميدان لاشتغاله أو لوجوده في النصوص؟
لعل جوليا كريستيفا هي الأولى التي تطرقت إلى هذا المفهوم، وأجرت عليه استعمالات إجرائية لافتة، في دراستها الشهيرة «ثورة اللغة الشعرية» (9)، والتي عينت فيها «التناص» على أنه «التفاعل النصي في نص بعينه»، وتوسعت في تبين قابلياته الإجرائية حين تناولت أحوال التناص في شعر لوتريامون تحديداً، متوقفة أمام عمليات «التحوير» التي أقامها الشاعر على نصوص عديدة معروفة، بما يشبه «اختطافَها»، أو تحويلها عن مجراها. وتبقى دراستها في هذا المجال المثال الأنجح عن القابليات الإجرائية لاستعمال هذا المفهوم في مقاربة النصوص الأدبية.
كريستيفا شقت الطريق هذا، وسعى الباحث الإيطالي سيغريه (10) إلى الوقوف على حقيقة هذا المفهوم، في وقفة نقدية-تاريخية، لعلها الأولى في هذا المجال. فوجد في دراسة نشرَها في العام 1985 أن هذا اللفظ «جرى اعتماده مؤخراً» في الدراسات الأدبية، وأنه يشتمل على مجالات عمل عديدة في النص الأدبي، هي التالية: التذكر أو الاستعادة، أو الاستعمال الصريح أو المقنع، الساخر أو الإيحائي للأصول واستعمال الشواهد (11).
ومن المعروف أن جيرار جينيت تناول بدروه، في كتابه «التطريسات» (12)، «التناص»، لكنه أَدرجه في تصنيف منهجي جديد للعلاقات النصية المفارقة، وقد أَجملها في خمسة أحوال: الاستشهاد والسرقة، علاقة النص بـ«عتبة النص» (العنوان، العناوين الفرعية، المقدمة، التمهيد، التنبيه وغيرها، مما يقع في تقديم الكتاب)، والعلاقة القائمة بين النص والنص الذي يتحدث عنه، وعلاقات الاشتقاق بين النص والنص السابق عليه، والعلاقة بالأجناس الأدبية التي يفصح عنها النص. وهو فهم يؤدي إلى ربط النص بما يحيط به، وبما يسبقه ويحدده في آن؛ وهو في ذلك عملٌ «ترتيبي» له قيمته النظرية والإجرائية من دون شك، إلا أنه يبقى، في مجال «التناص» المخصوص، رهين مفاهيم البلاغة وتعييناتها، مثل المحاكاة الساخرة والسرقة وغيرها.
أما فرنسوا راستييه فيفيد أن التوسعة طاولت حمولات هذا المفهوم، باتجاه تعيينٍ «إدراكي» له، ويجد ذلك ماثلاً في مباحث الدارسَين الإيطاليين بوغراند ودريسلر، اللذَين وضعا التعريف التالي لـ«التناص» (في العام 1984): هو «الترابط بين إنتاج نص بعينه أو قبوله، وبين المعارف التي يملكها مشاركو التواصل عن نصوص أخرى» (13). ويمكن الانتباه إلى كون هذا التعيين الجديد يولي «التواصل» (مثل الكثير من الآراء اللسانية التي تخص الجانب التخاطبي بالاهتمام، على حساب المدونة، في الدراسة اللسانية للنصوص) الأولوية في تعيين هذا المفهوم، ما يعني أن التناص لا يقع في «النص نفسه»، وإنما في عمليات التواصل الاجتماعي التي ينطلق منها ويعود إليها (أي التي تقع في شروط إنتاجه، كما في شروط تلقيه)، فيما نجد التعيينات السابقة تحصره في العمليات النصية «الداخلية» إذا جاز القول. ويخلص راستييه من مناقشة المفهوم إلى القول بأن النص لا يعدو كونه ظاهرة «تضمينية» في نهاية المطاف، لا يقوم على «ظاهر» نصي، وإنما على عمليات معقدة، فيها الصريح والضمني في آن، ونتحقق منها في النص نفسه، في تراكيبه وصيغه.
يتم، إذن، توسعة هذا المفهوم، ويصل الأمر عند الفرنسي أرِّيفي، هو مثل ريفاتر، إلى تعيين مجال عمل هذا المفهوم، وهو «مكان التناص» ويعينه الأول منهما على الشكل التالي: «إن مكان ظهور (هذه الوقائع النصية) ليس النص، بل مكان التناص، على أن هذا الأخير يفيد أو يعين مجموع النصوص التي تنشأ بينها علاقات تناص» (14). يتألف «مكان التناص»، إذن، من مواد عديدة تنشأ بينها علاقات تفاعل، على أننا لا نكتفي بدراسة، أو بتعيين هذا «المكان»، بل بتحديد سبيل تحليلي مناسب له يتحقق من عمليات «التنصيص» التي خضعت لها المواد المذكورة، أي ما أسميه بـ«الوقائع التناصية». هذا ما ينتهي إليه غير باحث أوروبي، ولكن أليس هذا هو عينه الذي تحدث عنه النقاد العرب القدامى في باب «السرقات» (أو «التلاص»، حسب نحت المناصرة)؟ فما «السرقات»؟
يقول الآمدي في كتابه «الموازنة»: «ووجدتهم فاضلوا بينهما (أي الطائي والبحتري) لغزارة شعريهما وكثرة جيدهما وبدائعهما، ولم يتفقوا على أيهما أشعر (...). ولست أحب ان أطلق القول بأيهما أشعر عندي؛ لتباين الناس في العلم، واختلاف مذاهبهم في الشعر، ولا أرى لأحد أن يفعل ذلك فيستهدف لذم أحد الفريقين (...)؛ لاختلاف آراء الناس في الشعر، وتباين مذاهبهم فيه. (...) أما أنا فلست أفصح بتفضيل أحدهما على الآخر، ولكني أوازن بين قصيدتين من شعرهما إذا اتفقتا في الوزن والقافية وإعراب القافية، وبين معنى ومعنى، فأقول: أيهما أشعر في تلك القصيدة، وفي ذلك المعنى، ثم احكم انت حينئذ على جملة ما لكل واحد منهما إذا أحطت علماً بالجيد والرديء» (15).
يتجنب الآمدي، على ما أرى، عادات العرب القديمة (16)، في تعيين «الأشعر» بين عدة شعراء، أو البيت «الأجمل» في غرض بعينه، بأن يضع أصولاً لـ«الموازنة»، من دون أن يجنح إلى تمييز الشاعر، بل القصيدة. إلا أن هذا التوازي بين قصيدتين، وإن عنى انتقالة عما كان عليه مبدأ التفاضل السابق، يبقى ذوقياً واستنسابياً، ولا يغيب، في هذه الحالة بالذات، كون الآمدي يستحسن شعر البحتري، على ما قال إحسان عباس، و«يؤثر طريقته ويميل إليها»، «ومن أجل ذلك جعلها «عمود الشعر» ونسبها إلى الأوائل وصرح بأنه من هذا الفريق دون مواربة» (17).
ما يعنيني في أمر هذه «الموازنات» عموماً، وفي سياق قولي هذا، هو أنها لا تفي بمرادي، وتبقى بعيدة عما نعرفه في مجال العمليات «التناصية»، ذلك أنها تجعل سلفاً من «التفاضل» غايتها، ومن «التقابل» سبيلها إلى تبين حقيقة التباري والتنافس، وإلى فرز «السبق» عن «السرقة». وماذا عن «الأدب المقارن»؟ أليس سبيله المعروف هو سبيل «التناص»، ولكن بعبارات أخرى؟ ألا نستبدل اسماً بآخر؟ ألا نستعيض تسمية سبيل منهجي («الأدب المقارن») بسبيل منهجي آخر («التناص») من دون أن نجدد طرائقه وإجرائياته بالضرورة؟
لا، خلافاً للظن، ذلك أن «التناص» لا «يقارن» بين نصوص عالجت موضوعات متشابهة، أو قامت فيما بينها علاقات تأثر وتأثير مثبتة. فنحن نعرف أن عمل «الأدب المقارن» ينتظم على أساس مقارنة بين نصين: بين نص سابقِ التحقق تاريخياً، بوصفه النص الأول والأصلَ وفاعلَ التأثير في غيره، من جهة، وبين نصٍ لاحقٍ تاريخياً على الأول، بوصفه النص الثاني والنسخةَ والخاضعَ للتأثير بالتالي، من جهة ثانية. وهو انتظام يشبه في بنائه أساس العلاقات في الترجمة، بين النص الذي تتم ترجمته (وهو الأول، والأصل، والمبتكر بالتالي)، وبين النص المترجَم (وهو الملحق، والقابل لصياغات مختلفة، ما يعرضه بالتالي لحسابات وقواعد في الأمانة). أما «التناص» فإنه يتجنب، بل يقلب تماماً هذا الأساس التفاضلي، اللازم في أية عملية مقارنة، مطلوبة أو مستترة، إذ أنه يسقط مبدأ المقارنة نفسه، ويجعل من النص المطلوب دراسته بنيةً بذاتها، وإن تتضمن في عناصرها وعلاقاتها ما يشدها إلى نصوص واقعة قبلها وخارجها، والمواد هذه تتحقق في النص (أو يشير اليها تلميحاً أو تصريحاً) في تراكيب نحوية ودلالية، هي «الوقائع التناصية». وهي وقائع تقوم في تفاعلها وإنتاجها تبعاً لعلاقات مختلفة، قد تكون الاستعادة، أو التذكر، أو التلميح، أو إيراد الشواهد، أو التقليد، أو المحاكاة الساخرة وغيرها مما نقع عليه من فنون أدبية، متعمدة أو عفوية، بفعل «الاختطاف» أو «التملك» أو بمفاعيل «الذاكرة» الناشطة في الكتابة. ولكن ماذا عن حال «التناص» في الدراسات العربية؟ أما قام به بعض النقاد ولكن وفق تسميات منهجية أخرى، أو بأدوات أخرى؟
قلما انصرف الدارسون العرب إلى تبين ما يمكن مقارنته من نصوص أدبية عربية بنماذج مماثلة من نصوص الأدب العالمي، على الرغم من الدور الذي قام به محمد غنيمي هلال في هذا الميدان الدراسي، إذ انطلق من الأدب العربي وبحث عن تأثيره في الآداب الأوروبية، وتتبع أيضاً تأثر الأدب العربي الحديث ببعض المذاهب الأوروبية الحديثة. وهو ما شرع به إحسان عباس في الشعر العربي الحديث، في كتابه عن بدر شاكر السياب، وأبان فيه، وإن بشيء من التسرع، تأثر الشاعر العراقي بقصائد من الشعر الإنكليزي الحديث، ولا سيما مع إليوت (18).
إن مراجعتي لعدد من الكتابات الأدبية العربية، منذ «عصر النهضة» تحديداً، تدعوني إلى الوقوف أمام ظواهر التفاعل الثقافي المختلفة، وإلى التساؤل عن أسبابه وحقيقته، وهو تفاعل ما شهدته الكتابة العربية وفق هذه المقادير والأحوال في تاريخها السابق: ما يمكن القول عن أثر الرومانسية الإنكليزية على شعراء «جماعة الديوان»، أو أثر بودلير على شعر الياس أبي شبكة، وأثر الرومانسية الفرنسية والإنكليزية على شعر أبي القاسم الشابي وغيرها من التأثرات؟ وما القول أيضاً عن تشابهات وتقاطعات في مجالات أدبية أخرى، بين «بيجماليون» برنار شو وتوفيق الحكيم، أو في الرواية الواقعية بين إميل زولا ونجيب محفوظ، وفي مسرع العبث بين أوجين يونسكو وعصام محفوظ؟
يمكنني أن أعدد الأمثلة، وقد تناول النقد العربي الحديث بعضها بالدراسة والتحليل. فـ«التناص» مدروس في بعض النقد العربي الحديث، في عدد كبير من مواده، ولكن في عدد محدود للغاية من «وقائعه»، ذلك أن الناقد يكتفي في غالب الأحيان بتعيين أو عرض المواد («المقارنة» أو التي تنشأ بينها علاقات تقابل)، من دون أن يبالي بالأشكال اللفظية والنحوية والدلالية التي تحققت بها هذه المواد في النص المدروس، أي دراسة «الوقائع». وعلينا في هذا المجال أن نميز، بداية، بين السبيل التناصي وسبيلين في «المقارنة»: بالإضافة إلى السبيل المقارن التقليدي (وهو دراسة التفاعل بين نصين قامت بينهما علاقات مؤكدة ومثبتة)، يمكننا الحديث، حالياً في الدراسات، عن سبيل «مقارن» آخر لا يقوم بالمقارنة بل بالمقابلة: يقابل هذا السبيل بين نصين تقابلاً يبين لنا، على سبيل المثال، موقفَ أو نظرة هذا الشاعر، من هذه اللغة (والثقافة)، إلى الموت، وموقفَ أو نظرةَ شاعر آخر، من لغة (وثقافة) أخرى، إلى الموضوع عينه، من دون أن تكون بين الشاعرين أي علاقات تعارف أو تفاعل مؤكدة أو ممكنة. إلى هذين السبيلين، عرف النقد العربي الحديث سبيل التناص، ونشير خصوصاً إلى محاولتين قام بهما محمد بنيس ومحمد مفتاح (19) في السنوات الأخيرة.
يُؤْثر بنيس، منذ كتابه الأول، استعمال مصطلح «التداخل النصي» بدل «التناص»، ويعاود التأكيد على تفضيله هذا في كتابه الثاني، ويدافع عن كونه «أول» من تكلم في النقد العربي عن هذا المنحى: «كان تناولنا لمفهوم «التداخل النصي» في «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب» جديداً على المتداول في الخطاب النقدي العربي، وهو ترجمة لمصطلح (l'intertextualité ). وبعد هذا العمل ظهرتْ دراسات عربية في المغرب أكدتْ أهمية هذه الخصيصة النصية، ولكنها فضلت ترجمة المصطلح بـ«التناص» الذي أصبح شائع الاستعمال في الخطاب النقدي العربي. (...) ومن ثم فان الطابع العفوي لترجمة «التناص» لا يسهم في إنتاج شبكة العلائق التي نستطيع بها الانتقال من وحدة إلى أخرى أو من جهاز مفاهيمي إلى غيره» (20). يشير بنيس في ملاحظته هذا إلى كتاب مفتاح المذكور أعلاه، وهو كتاب جعل من «التناص» علامة لعنوانه، فما يعني «التناص» (أو «التداخل النصي») بينهما بعيداً عن الاجتهاد في ترجمة المصطلح؟
يعتمد بنيس على خطة جينيت في تناول النص الشعري، ولا سيما على مصطلحه في «النص الغائب» (أي الذي يتم استحضاره وتحويله في الممارسة النصية)، ويتبين، أو يجمل القول في عرضه هذا، على أن الشعر العربي الحديث بات متسماً بحضور لافت لـ«ثقافة موسوعية» هائلة من النصوص الغائبة. يقول بنيس: «بالنسبة للشعر المعاصر، في الثقافة العربية، نلمس اتساع حقل التداخل النصي (...). ولكن اعتماد الشعر المعاصر نصوصاً من خارج الذخيرة الشعرية العربية، أو مما هو متداول فيها، يدلنا على أن عينة نصوص الشعر المعاصر مكثفة بنصوص غائبة قَدِمَتْ من أمكنة ثقافية وحضارية متنوعة، يمكن من خلالها رصد ثقافة موسوعية أصبحت تميز الشعراء المعاصرين» (21). ويعمد إلى تبين حال «التداخل النصي» في ثلاث قصائد معروفة: للسياب («المسيح بعد الصلب») وأدونيس («هذا هو اسمي») ومحمود درويش («أحمد الزعتر»).
أما مسعى مفتاح فقد أتى بعرض مقنع ومتوسع ومتصل بغالب الاجتهادات والمقترحات، عارضاً لمختلف التعيينات الداخلة في تعريف «التناص»، إلا أن مسعاه بدا أقل توفقاً في درسه أحوال «التناص» في الشعر، كما نتحقق منها في مسعى بنيس. فقد توسع في عرض المسائل الداخلة في أمر «التناص»، واتخذ من التعيينات البلاغية القسط الأوفر من حمولاته. إلى هذا فإن تعريفه «التناص» يبقى متوزعاً بين «داخل» (هو النص المدروس) و«خارج» («النص الغائب»، في تعيينات جينيت) في قسمة بينة. لكنه يتوفق، إلى ذلك، في الحديث عن تناص «ضروري»، وهو القائم في كل ثقافة (وهو ما تحدثتُ عنه أعلاه بوصفه «التناص اللازم» عند الباحث الإيطالي)، وآخر «اختياري»، وهو ما يطلبه الشاعر نفسه. كما إنه يقترح التمييز بين تناص «داخلي»، وهو ما يصيب علاقة الشاعر بنتاجه السابق، وآخر «خارجي»، وهو ما يصيب النص في علاقته بخريطة الثقافة التي ينتمي إليها. أو يميز بين تناص «اعتباطي»، وهو الذي يعتمد على ذاكرة المتلقي، وبين تناص «واجب»، أي الذي «يوجه المتلقي نحو مظانه» (22). ويتطرق مفتاح إلى مجالات عمل «التناص»، باحثاً في «آلياته» في صورة لافتة، وإن بقت دراسته أسيرة التعيينات البلاغية المعروفة.
محاولات بنيس ومفتاح لافتة، إذن، إلا أنها تبقى، رغم قرائتها الجديدة لنظريات «الموازنة» و«السرقات» عند النقاد العرب القدامى، محددةً بما بلغته الدراسات الفرنسية خصوصاً في هذا المجال. كما تكتفي غالباً بلحظِ وعرض مواد التناص من دون وقائعه، كما أتحقق من ذلك، على سبيل المثال، في دراسة بنيس المذكورة لقصيدة «هذا هو اسمي»، إذ يكتفي بايراد ملخصات تعريفية لما تشتمل عليه المواد المضمونية في قصيدة أدونيس و«فصل في الجحيم» لرامبو، من دون أن يحلل أو يدرس التحققات اللفظية والدلالية. كما أتحقق أيضاً من أن عودة مفتاح إلى التناص، لدرس قصيدة ابن عبدون، تبقى استنسابية، لا ضابط لها أبداً، ولا يقتضيها المنهج في صورة لازمة ومتسقة، إذا جاز القول. أي أن هاتين المحاولتين تفتقران إلى خطة إجرائية بينة، يتم الاعتماد عليها في العملية التحليلية.
سبيل «التناص» لم يُستثمر كفاية، ويتمتع بقابليات أداء واسعة. والعديد من الظاهرات الأدبية وغيرها في الثقافة العربية المعاصرة قابلٌ لدراسات تناصية: كيف يمكن فهم، على سبيل المثال، المنزع الاسطوري في الشعر الحديث («المنزع التموزي»، كما جرت تسميته) خارج السياق الذي تعرف فيه الشعراء العرب المعنيون على صنيع إليوت في هذا المجال تحديداً وحصراً؟ هذا ما يمكن أن نتبينه حتى في موضوعة متفرعة عن السياق هذا، مثل «الفراغ» الذي راح الشعراء يتبينونه في الحياة العربية على أساس «الخراب» الذي تحقق منه إليوت في الحضارة الغربية. هذا ما نتحقق منه في بعض «مفردات» و«حمولات» الشعر العربي الحديث، كما يمكننا أن نتبينها في مسرد الألفاظ، ذات الحمولات الفلسفية الأوروبية الناشئة، التي أخذ بها الشعراء العرب الحديثون، والتي أَدرجها كمال خير بك في كتابه عن «حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر»، أي ألفاظ «الشك» و«التساؤل» و«التمرد» و«الرفض» وغيرها (23)؟ وماذا نقول عن أثر ناظم حكمت ولوي أراغون في شعر السياب وغيره، أو عن أثر نيرودا اللاحق علي عدد من الشعراء الشيوعيين؟ وماذا عن أثر السورياليين، وقد بلغ الأمر ببعض شعراء العربية الى التنافس على التركة وعلى الأمانة في حمل الرسالة؟
حتى لا أنساق في تعداد أمثلة متفرقة من «التناص» في الكتابة العربية، ولا سيما الشعرية منها، أجد ضرورة، في البداية، للوقوف أمام سؤال أساسي، هو التالي: ألا يكون لزاماً عليَّ، قبل أن أتطرق إلى أحوال التناص، أو وقائعه في الشعر العربي الحديث (وغيره)، أن أتناول بالتحليل مسألة ما إذا كان «التناص» سبيلاً مستقلاً، قائماً بذاته، لدراسة النص الشعري، أم أنه مكمل لغيره (أي للدراسة اللسانية للنص الأدبي)؟
2 . مصادر التناص وميادينه
إلا أن علي، قبل الإجابة عن هذا السؤال، أن أعاين حال الدراسة اللسانية راهناً، في نجاحاتها وانسداداتها، وإن في شكل تعرفي سريع ومختصر. يمكن القول، بداية، إن الدراسة اللسانية باتت تدرس، اليوم، وقائع نصية تتعدى الجملة الواحدة في النص الواحد، بخلاف ما كان عليه الأمر في الأمس القريب، باحثةً عن علاقات قائمة وممكنة في النص الواحد تجمع بين جمله كلها (كما في القصة القصيرة، على سبيل المثال) أو بين جمل مختلفة فيه. هذا المسعى دقيق، محفوف بالمخاطر والتسرعات، إلا أنه يسعى إلى تدبر أدوات تحليلية مناسبة لما يتحقق منه في النصوص؛ وهو أنها تقيم علاقات في البناء أو في الدلالة، قد تشمل القصيدة في مجموع أبياتها، أو في عدد منها وحسب، ما يمكن أن أسميه بـ«كليانية النص»، التي باتت داخلة في حساب الدراسة اللسانية.
كما أتحقق، في الوقت عينه، من تبلور طرق في الدراسة اللسانية لا تكتفي بدراسة النص «في ذاته»، وإنما بما يحيط به من خارجه. والخارج، هنا، يشير إلى ظروف النص في صدوره عن «أنا (أو ذات) متكلمة»، أشبه بـرسالة، بإبلاغ، بخطاب موجَّه، أي أن معانيه تتصل في حمولاتها بـ«ظروف حوارية»، مشتركة بين المتكلم ومتلقيه المحتملين أو المرجوين. و«الظروف الحوارية» هذه تتضمن جداول من القضايا والأحوال المعيشة أو المأمولة، ومن الأفكار المتداولة (عند جهة أو جماعة)، أو المبثوثة في كلام الجماعة وقناعاتها السارية: هذا ما سعتْ إليه المحاولة «التداولية» - أي الناظرة الى اللغة في جانبها الاستعمالي - (24)، التي وجدت في الطابع «التحادثي» المُنشِىء لأي نص، وفي الطابع «التعليلي» الضابط له، فيما يتعدى الجملة الواحدة، ما يفيدها في مسعاها التحليلي. إلا أن اشتمال النص على خطاب، أو على رسالة ما، لا يعني أبداً في حساب اللسانيين قيامه أو استناده إلى رسالة مسبقة أو مدبرة، وهو ما يوضحه راستييه في قوله: «لا يمكننا اعتبار المعنى متضمناً في النص مثل رسالة، وإنما مثل وضعية حوارية تشمل فيما تشمل مرسلاً ومتلقياً، ومجموعة من الشروط (قواعد، بما فيها نمط النص، وممارسة اجتماعية محددة)» (25).
ذلك أن المساعي اللسانية في دراسة النص الأدبي وضعت حدوداً، أو توقفت عن مساعيها السابقة التي اكتفت بقراءة نحوية أو تركيبية للنصوص الأدبية (مثلما نتحقق من ذلك في مساعي هاريس أو شومسكي وغيرهما)، طالبةً وجهات أخرى في التحليل تقوى على دراسة المعنى قراءة متسقة، تربط الدلالات في النص الواحد، من جهة، وتربطها بخارجها وبأوضاعها «الحوارية»، من جهة أخرى.
إن هذه التوجهات الجديدة تقود إلى تناول مسألة التناص تناولاً «مريحاً»، إذ أننا نتوصل، مع هذه التوجهات، إلى طرح المسألة طرحاً مفيداً، يمكننا من الإجابة عن المشكلتين اللتين تواجهان أي تحليل تناصي، وهما: التناص بوصفه اتصالاً بخارجه، والتناص بوصفه اتصالاً ضمن النص الواحد. ولقد وجدتُ راستييه يفرق بين «التناص الداخلي» ضمن النص الواحد، وبين التناص الاعتيادي، ويمكن تسميته بالخارجي، أي الذي يصل النص بنصوص أو مقتبسات من خارجه. ولقد توصل هذا الباحث إلى تبين المشكلة التي أثرتها أعلاه، وهي الإجابة عن كون التناص سبيلاً مستقلاً أم مكملاً، أي منضوياً في غيره، إذ جعل الوظيفة التناصية الداخلية لازمة، بل منطلق التناص الخارجي. يقول راستييه: «الوظيفة التناصية الداخلية هي التي تعين الوظيفة التناصية الخارجية. إن لهذا التعيين محملاً عاماً: تنتسب الوظيفة التناصية الداخلية إلى نصاب المعنى (أي إلى مجموع العلاقات الناظمة لمضامين نص)، وتنتسب الوظيفة الناشئة بين أنظمة علامات مختلفة إلى نصاب التعيين»، خالصاً إلى القول: «إلا أن المعنى هو الذي يحدد التعيين» (26). وهو ما يمكن تلخيصه وتبسيطه بالقول التالي: إن توصُّلَ الدارس إلى معالجة التناص الداخلي، أي دراسة العلاقات بين المضامين المختلفة في النص الواحد، يمكنه من دراسة اتصال هذا النص بالذات، أو تحدُّدِه، بأنظمة علامات أخرى، قد تكون نصوصاً بدورها أو غير ذلك من أنظمة العلامات. وهو ما يقوله راستييه في تعريف جلي: «قد نتوصل إلى برهنة كون النص مجموعة متتابعة من الاحالات، أو تلصيقاً من الشواهد، إلا أن ذلك لن يمكننا من فهم نصوصيته الخاصة، والتي تجعله متمايزاً عن جدول من الكلمات والجمل. باختصار، إن دراسة النصوصية (أي ما ينشىء نصاً ما) هي القادرة وحدها على تأسيس دراسة التناص» (27).
التناص، إذن، مكمل للدراسة اللسانية، أو جزءٌ داخل فيها، إذا جاز القول، وهو غير ممكن من دون المرور بالدراسة اللسانية، على أن تؤدي معالجة التناص الواقع بين معطيات النص الواحد إلى ربطه بما يتحدد به من نصوص، «لازمة» أو «ضرورية» له، أو بما يطلبه منها في صورة اختيارية أو طوعية، أو بغيرها من العلامات الأدبية والثقافية والإيديولوجية وغيرها، مما يشكل الظروف الحوارية المعينة له. ولكن كيف يمكن تعيين التناص كسبيل إجرائي بعد توضح صلته وتفرعه عن السبيل اللساني نفسه؟
2 . أ : المصادر التناصية
لا يمكن مباشرة السبيل اللساني قبل الوقوف على المصادر التي ينهل منها التناص، وعلى الميادين التي تجتمع فيها مواد المصادر هذه. ذلك أن التناص يستمد مواده من مصادر متباينة، منها ما يتشكل عفواً أو عمداً في الذاكرة بفعل الدراسة والقراءة، أي في المخزون الشخصي، الواعي واللاواعي؛ ومنها ما يتشكل بفعل معايشة «ظروف حوارية» معينة؛ ومنها ما يتشكل عند التنصيص نفسه (ويمكن تسميته: «التقميش» أيضاً)، أي مما يطلبه الشاعر في صورة قصدية واعية. ودراسة المصادر التناصية دراسة ذات طابع نظري وترتيبي في آن، ولا تخص الشعر وحده بالتالي، إلا أن لها فائدة بينة، وهي المساعدة على تعيين مقاصد التناص، على ما سنوضح في فقرة لاحقة. وخلصتُ إلى تعيين ثلاثة أنواع من المصادر التناصية:
- المصادر «الضرورية»، كما أسماها مفتاح، وهي «اللازمة» عند سيغريه، وعند راستييه أيضاً الذي يقول: «يوجد في كل فضاء (أو متحد) ثقافي انتظام متسق من العلاقات بين النصوص» (28). وجرت تسميتها بـ«الضرورية» لأن التأثر فيها يكاد أن يكون طبيعياً وتلقائياً، مفروضاً ومختاراً في آن، وهو ما نجده في كتابات بعض الكتاب العرب في صيغة «الذاكرة»، أي الموروث العام والشخصي، ويتخذ في العديد من الأحوال سبلاً اختيارية (كجنوح الشاعر إلى التأثر الواعي بشيء من نتاج شاعر آخر)، أو وراثية (كتقيد الشاعر غير الواعي بالضرورة بحدود ثقافةٍ وشعرٍ توافرتْ له في إعداده وتعليمه). هذا ما يمكن أن أتبينه، على سبيل المثال، في «الوقفة الطللية»، وهي أقوى المصادر القديمة، من دون شك، التي تقيدت بها صناعة الشعر العربي قديماً؛ أو في العديد من الدعاوى الحزبية التي نشطت في كثير من الشعر العربي الحديث.
- المصادر «اللازمة»، وهي «الداخلية» في كلام مفتاح، وتشير إلى التناص الواقع في نتاج الشاعر نفسه في تكراراته واستعاداته.
ومن المساعي النقدية التي عالجت هذه المسألة، وإن في منظور غير تناصي، دراسة مالك المطلبي: «إنتاج ما أنتج: مقدمة نظرية ودراسة تطبيقية»، التي يتحقق فيها من أن قصيدتي السياب «غريب على الخليج» و«أنشودة المطر» تؤلفان «مقطعين في قصيدة واحدة» في الكل السيابي (29). وفي العديد من الكتب والدراسات العربية، الخاصة بالتجربة الشعرية أو بموضوعات الشعر عند هذا الشاعر أو ذاك، تناولاتٌ مناسبة تفيد مثل هذا المسعى، وتمكننا من الوقوف على الأشكال الشعرية أو القضايا التي شغلت الشاعر في غير قصيدة ومجموعة، حتى أنها تخترق نتاجه كله اختراقاً بيناً. كيف لا، وبعض الشعراء لا يتورعون عن كتابة «المناخ» الشعري نفسه، أو تنويعات عليه من تجربة إلى أخرى.
- المصادر «الطوعية» في حسابي، وهي «الاختيارية» عند مفتاح، التي تشير إلى ما يطلبه الشاعر عمداً في نصوص مزامنة أو سابقة عليه، في ثقافته أو خارجها، وهي «المطلوبة لذاتها». وهي مصادر أساسية في الشعر العربي الحديث، بل أذهب الى القول إننا لا نستطيع دراسة هذا الشعر من دون الوقوف عندها. وهي مصادر متعددة، تندرج فيها متون شعرية أجنبية وعربية في آن. هذا يصح في إقبال أعداد من الشعراء على محاكاة صنيع شعر سابقيهم أو التأثر بصنيع مزامن لتجربتهم (مثل تأثرات محمود درويش، في بداياته، بشعر عبد الوهاب البياتي ونزار قباني). وقد تكون المصادر الأجنبية فرنسية (لوتريامون، رامبو، سان-جون بيرس، إيف بونفوا...)، وإنكليزية (إليوت، ستويل ...)، وأميركية (وولت وايتمان...) وغيرها، عدا أن النص الواحد قد يشتمل على مواد من أكثر من مصدر، في صور ضمنية وحاذقة أكثر فأكثر، ما يجعلها صعبة الالتقاط، أو خافية في تضاعيف الكتابة الشعرية. وعليَّ أن أشير في هذا السياق إلى أن انصراف هذا الشاعر أو ذاك إلى هذا المصدر أو ذاك قد لا تتوافر له شروط الاستقبال الصحيحة، بدليل أن عدداً من الشعراء العرب الحديثين اتصلوا بعدد من المصادر في صور ملتوية أو غير مباشرة: فإذا كان أنسي الحاج، أو شوقي أبو شقرا، يعرفان الفرنسية جيداً، أو جبرا ابراهيم جبرا وتوفيق صايغ الإنكليزية، حين اتصلوا بما طلبوه من مصادر، فإن الأمر كان خلاف ذلك مع أدونيس (الذي اتصل بالفرنسية اتصالاً ضعيفاً في بداياته، ما كان له أثره البين على ترجمته شعر سان-جون بيرس، ووقوعُه في أخطاء ناتجة عن عدم معرفته بالحمولات التاريخية والسياسية وغيرها للألفاظ الفرنسية)، أو مع السياب الذي اتصل بشعر أراغون في كتب إنكليزية، أو مع محمد الماغوط الذي عرف القصيدة بالنثر، منذ قصيدته «النبيذ المر»، في العام 1953 في مجلة «الآداب»، من ترجمات عربية لها.
2 . ب : ميادين التناص
بدا لي مفيداً، بعد الوقوف على مصادر التناص، دراسة الميادين التي تشتملها، ذلك أن التناص يقع في مواد بعينها، على أنها تشتمل مستويات القصيدة كلها. فقد يعمل الشاعر على تقليد قصيدة ما، بحراً وقافية وموضوعاً على ما هو معروف في الشعر العربي القديم، وقد يلجأ إلى «أخذ» صورة شعرية ما، أو معنى ما، إلى غير ذلك من المواد التي تقع في هذا المستوى أو ذاك في القصيدة. لهذا لا يمكن الحديث عن «ميادين التناص» من دون الوقوف عند مستويات القصيدة، وهو ما أبسطُه في عنوانين: في الأنماط والتراكيب والصياغات، وفي القضايا والموضوعات و«المناخات».
ولقد فضلتُ استعمال هذه الألفاظ تحديداً، بدل ألفاظ أو مصطلحات أخرى معروفة في السبيل اللساني لدراسة النص الشعري (30)، جاعلاً من ميادين التناص مواد متفرقة، ذلك أن استحضارها في النصوص ليس نسقياً، ولا متسقاً في غالب الأحيان، ما يدعوني إلى تبين أشد لطبيعة المواد. وهي تشتمل على مواد متعددة، ميزتُ فيها «النمط»، ويشير في حسابي إلى شكل ما (وربما مضمونٍ ما ملاصق للشكل هذا) في ترتيب القصيدة، مثل نمط «الهايكو»، أو «القصيدة-اللقطة» وغيرها. وميزتُ «التراكيب»، وتشير إلى أنواع معينة من الجمل، مثل الجمل «الحالية» التي تبدأ بالحال، أو الجمل الاسمية وغيرها. وميزتُ «الصياغات»، وتشير إلى طريقة في شد الألفاظ بعضها الى بعض، مثل تقديم الصفة على الموصوف وغيرها (31). كما ميزتُ «القضايا»، وتحدد قضية معينة، مثل الكثير من القصائد العربية الحديثة الموسومة بقضايا «الحرب الباردة»، أو بقضية القنبلة الذرية في هيروشيما، كما في قصيدة «هياي كونغاي كونغاي» لبدر شاكر السياب (32). وميزت «الموضوعات»، مثل الغربة في المقهى، والوحدة في الشارع وبين الجموع وغيرها. وميزت «المناخات»، وتعين في حسابي أجواء شعرية، مثل الأجواء التشردية و«الصعلكة» والتمزق وغيرها.
ولقد وجدت، إلى ذلك، ضرورة للوقوف عند مستوى ثالث، هو مسألة «الجنس الأدبي»، بل أن أفتتح بها دراسة الميادين، بعد أن تحققتُ من كون هذه المسألة تاريخية أساساً، تتصل بدخول «أجناس» (أو أشكال) أدبية من أدب (أوروبي، في دراستي) إلى الأدب العربي الحديث، إذ أنني لا أستوفي التناص حقه من دون تناول هذا المستوى التكويني في الشعر العربي الحديث.
2 . ب . 1 : في الجنس الأدبي :
إن دراسة الأجناس والأشكال الأدبية لا تحظى بالعناية اللازمة، التي تقتضيها مسألة إنشائها أو تأسسها أو انتقالها من فضاء (أو متحد) ثقافي الى آخر، على الرغم من أن دراستها قد تكشف عن نواقص، بل عن أغلاط فاحشة يقوم عليها تاريخ هذه الأجناس والأشكال والأنماط: فجيرار جينيت توصل، في دراسة لافتة له (33) عن الأجناس الأدبية الرائجة في أوروبا، والعائدة إلى الإغريق، بل إلى أرسطو، في حساب التاريخ الأدبي المتداول (وهي «الغنائية» و«الملحمية» و«الدرامية»)، إلى برهنة أنها ترقى إلى القرن الثامن عشر ليس إلا. فما يمكن القول عن الأجناس الشعرية العربية؟
لا يسعني، في نطاق هذه الدراسة، تناول مسألة تأسس الأجناس أو الأشكال أو الأنماط في الشعر العربي، على الرغم من قيمتها التاريخية والنقدية (34)، مكتفياً بدراستها فقط في إطار التفاعل الثقافي منذ «عصر النهضة»، وفق أشكال مختلفة من التناص، وخصوصاً في صيغه التشوفية. هذا يصح في إقبال كتّاب على اعتماد فنون غير معروفة في العربية، مثل الرواية والقصة والمسرحية وغيرها، وغيرها من أنماط شعرية بعينها، بعد خروج الشعر العربي من أنواعه وأغراضه التقليدية المعروفة. ويمكن الإشارة إلى الأنواع المعتمدة التالية: القصيدة الحكمية (على ألسنة الحيوانات)، القصيدة التمثيلية، الملحمة، القصيدة-الحكاية، القصيدة الأسطورية، القصيدة بالنثر.
يمكن التوقف أمام هذه الأجناس الشعرية جنساً جنساً، ملاحظين إقبال أعداد من الشعراء عليها، فنرى انصراف أحمد شوقي إلى القصائد الحكمية، و«جماعة أبوللو» إلى الشعر الرمزي والقصصي وكتابة «الأوبرتات»، وشفيق المعلوف إلى الملحمة، والياس أبو شبكة وسعيد عقل وخليل مطران وعلي محمود طه وغيرهم الكثير الى المطولات الشعرية ذات الأساس الحكائي-الأسطوري (35). إلا أن هذه الأجناس تحديداً ما لبثت أن سقطت من الاستعمال تماماً، ما يشير إلى أن إقبال الشعراء عليها ما وازاه، على ما يبدو، إقبالٌ واستحسان مماثلان. وهو ما يدعو إلى التساؤل: ألا يعكس التسرعُ في التخلي اللاحق، وإن في صورة معكوسة، التسرعَ في طلب اللحاق السابق؟
لكننا نستطيع، إذا شئنا، الوقوف طويلاً أمام نجاح أكيد حققه جنس شعري آخر، «القصيدة بالنثر»، الذي بات لها مريدوها أينما كان في عالم العربية. ويمكن القول إن النزاع المستمر حول وجود هذه القصيدة في الشعر العربي الحديث يُبلِّغ، وإن في صورة غير وافية، عن عملية دخولها الناشئة. والعودة إلى بعض كتابات أدونيس الأولى، وإلى مقدمة ديوان «لن» للشاعر اللبناني أنسي الحاج (1960)، تبين كيف أن الشاعرين عادا إلى الكتاب عينه (36)، للتعريف بهذا الجنس الشعري الجديد في حياة الشعر العربي، وشرح وسائله وتقنياته المخصوصة.
لا يسعني التوسع في مسألة الأجناس الشعرية الجديدة، لأنها تتطلب عرضاً وتعمقا