[علم النص
ينتشر في كتب الدراسات اللغوية الحديثة مصطلحات متعددة كلها يعد
تسمية لعلم النص منها ، علم النص لسانيات النص ، علم اللغة النصي ، نحو
النص ، وقد كانت الإرهاصات الأولى لظهور هذا العلم في 1952 على يد
الأمريكي (هاريس) في كتابه تحليل الخطاب ، وكان قد ركز فيه على الجوانب
النحوية البنوية ، ربما لأن الرجل كان أحد تلاميذ العالم بلوم فيلد
البنوي ، ثم تطورت الدراسات النصية و تبلورت النظرية مع (فان دايك) و
تكامل العلم مع الأمريكي (روبرت دي بوجراند )، الذي في عهده دكت كثير من
الحواجز ، وأصبح علم اللغة النصي يستفيد من كثير من العلوم منها ما هو
لغوي ، و منها ما هو غير لغوي ؛ ويهتم علم النص بالقواعد التي تجعل النص
نصا في حين أن نحو النص لا يعنيه إلا أن يدرس الجمل مفردة .
النص لغة :
النص في العربية يعني الظهور والبروز و الارتفاع ، ذلك أننا إذا عدنا
إلى المعاجم العربية فإننا نجد لمادة (نصّ) عدّة معانٍ منها : نـص
الحديث رَفَعَـه، و نصت الدابة جيدها إذا رفعته ، و نصت العروس إذا رفع
مكانها وأبرزت ، و ناقته استخرج أقصى ما عندها من السَّير، و الشيءَ
حرّكه، و منه فلان ينصُّ أنفه غضباً، و هو نصَّاصٌ ، المتاعَ : جعل
بعضه فوق بعض، و فلانا استقصى مسألته عن الشيء ، و الشيءَ أظهره( ).
أما في الثقافة الغربية فإن لفظ (texte) في المعجم الفرنسي مأخوذ من
مادة (textus) اللاتينية التي تعني النسيج ،كما تطلق كلمة texte على
الكتاب المقدس أو كتاب القداس…كما تعني تـــرابط حكاية أو نص .
و الذي نلاحظه في المعنى اللغوي لمادة(texte) أنها تدل دلالة صريحة
على التماسك و الترابط و التلاحم بين أجزاء النص وذلك من خلال معنى كلمة"
النسـيج " التي تؤشر إلى الانسجام و التضام و التماسك بين مكونات الشيء
المنسوج ماديا،كما تؤشر معنويا أيضا إلى علاقات الترابط و التماسك من
خلال حبك أجزاء الحكاية.
و معنى النسيج ، وهذا المفهوم ليس بعيدا عن الثقافة العربية إذ نجد
أن هناك من يستعمل المفهوم نفسه ، فهذا ابن خلدون في المقدمة يقول ما نصه
: اعلم أنها (يقصد صناعة الشعر ) عبارة عن المنوال الذي ينسج فيه
التراكيب ، أو القالب الذي يفرغ فيه ، ... ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند
العرب باعتبار الإعراب والبيان ، فيرصها فيه رصا ، كما يفعله البناء في
القالب أو النساج في المنوال ، حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية
بمقصود الكلام ( ) ، كما نجد أن عبد القاهر الجرجاني قبله كان قد وصف
النص بالو شي والنسج.
النص اصطلاحا :
مفهوم النص عند يلمسلاف( ):
يستعمل العالم الألسني الدانمركي لويس يلمسلاف مصطلح النص بمعنى واسع ،
فيطلقه على أي ملفوظ ، منفذ قديما أو حديثا ، مكتوبا أو محكيا ، قصيرا
أو طويلا ، فكلمة (قف) مثلا عنده نص كامل .
مفهوم النص عند تدوروف ( ):
يرى تـدوروف في مؤلفه " القاموس الموسوعي لعلوم اللغة " أن اللسانيات
تبدأ دراستها من الجملة غير أن ذلك في رأيه غير كاف ، ولا الانطلاق أيضا
من الفقرة التي هي تركيب جزئي ، بل إن الصواب في رأيه أن ننطلق في
دراساتنا اللغوية من النص الذي هو مجموعة من الفقرات التي يحقق فيها
الكمال فالتماسك النصي والكمال له لا يتحققان إلا في مجموعة الفقرات .
مفهوم النص عند رولان بارث( ) :
النص عند بارث نسيج كلمات منسقة في تأليف معين ، بحيث يفرض شكلا وحيدا
وثابتا ، و النص من حيث هو نسيج فهو مرتبط بالكتابة لأنه رسم بالحروف ، و
الكتابة هي السمة الأساسية للنص عند بارث ؛ فالكتابة ضمانة للشيء
المكتوب،و صيانة له؛و ذلك باكتسابه صفة " الاستمرارية."
مفهوم النص عند جوليا كريستيفا :
تحدد جوليا كريستيفا النص،بأنّه " جهاز عبر لساني يعيد توزيع نظام
اللسان بالربط بين كلام تواصلي يهدف إلى الإخبار المباشر وبين أنماط
عديدة من الملفوظات السابقة عليه أو المتزامنة معه.
مفهوم النص في الدراسات العربية:
في الدراسات العربية القديمة نجد أن قول الأصوليين " لا اجتهاد مع
النص " يجسد هذا المفهوم ، و لما جاء الإمام الشافعي أعطى تعريفا للنص
فقال :" المستغني بالتنزيل عن التأويل " أما الشريف الجرجاني فقال " النص
ما زاد وضوحا على الظاهر " .
مفهوم النص عند إبراهيم الفقي :
في دراسته للتماسك النصي يعيد إبراهيم الفقي آراء العالم اللغوي روبرت دي
بوجراند الذي يرى أن النص حدث تواصلي يلزم لكونه نصا أن تتوافر له شروط
سبعة ، لا يكون النص نصا إلا إذا تواجدت جميعا ، وهذه الشروط هي :
-1- السبك : أو الربط النحوي -2- الحبك أو التماسك الدلالي ، وقد سماها
تمام حسان الالتحام
-3- القصد : وهو الهدف من ميلاد هذا النص -4- القبول : و يتعلق بموقف
المتلقي -5- الإعلام:
-6- المقام : و هو متعلق بمناسبة النص للموقف والمقام -7- التناص:
وهذا التعريف الذي يتبناه الفقي تعريف شامل لا يلغي أحد أطراف الحدث
الـكلامي في التحليل؛ فهو يجمع المرسل والمتلقي والسياق وأدوات الربط
اللغوية..ومن هنا فإنّ المدخل السلـيم للتحليل النصي هو التحليل ذو
الرؤية الشاملة حيث كل العناصر النصية ـ المرسل، المتلقي، السياق، عناصر
الربط اللغوي.. تحت مجهر التحليل النصي،ولا يضخم نظرته لعنصر على حساب
آخر؛كما تضخم البنوية بنية النص على التاريخ، والقارئ فيها مجرد متلق
سلبي لا أثر له أمام رياضيات النص، وكما تضخم التفكيكية القارئ على النص
و التاريخ و اللغة نفسها.
- مفهوم الاتساق النصي
إذا رجعنا إلى القواميس ، و أمات الكتب العربية باحثين عن المعنى
الذي يمكن أن يأخذه الجذر ( و س ق ) فإننا نجده يدور حول مفهوم الاكتمال
والتمام ، فقد جاء في لسان العرب لابن منظور (ت 711 هـ ) في الجذر (و س
ق ) : وسقت النخلة إذا حملت ، فإذا كثر حملها قيل أوسقت أي حملت َوسًقا
ـ وسقت الناقة وغيرها تسِقُ أي حملت وأغلقت رحمها على الماء ، فهي واسق،
ونوق ِوساقٌ ـ وسقت عيني على الماء ، أي ما حملته ـ الوسوق ، ما دخل
فيه الليل وما ضم ، وقد وسق الليل ، و اتسق ـ والطريق يتسق ينضم و
اتساق القمر امتلاؤه واجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة وأربع عشرة ـ
واستوسقت الإبل : اجتمعت ـ والاتساق : الانتظام ( )
أما الفيروز آبادي( ت 817هـ ) في القاموس المحيط فيقول : َوَسَقهُ
يَـِسُقُه َجَمَعُه و حَمَلَهُ ومنه : (والليلِ وَما َوَسَق) و طرده
ومنه الَوِسيَقُة وهي من الإبل كالرفقة من الناس فإذا سرقت طردت معا ،
والناقةُ حملت وأغلقت على الماءِ رحمها فهي َواِسقٌ ، واستوسقت الإبلُ
اجتمعت ، واتَسَقَ انتظََمَ ، و الِميسَاقُ الطائُر يصفق بجناحيه إذا
طار( ) ، والطائر إذا طار وكان مصفقا بجناحيه ، كان في ذلك اتساق كبير
وانتظام ظاهر ، كما يقول السيوطي (ت 911هـ ) : اتسق القمر إذا تم وامتلأ
ليلة أربع عشرة ، ووزنُ اتسق افتعل ، وهو مشتق من الوسق و يقال اتسق
استوى( )
والملاحظ في الذي ذكر ابن منظور ، و الفيروز آبادي ، و السيوطي أن
المعنى الذي يكاد يتكرر حول الجذر (و س ق) هو الاجتماع والانتظام
والاكتمال ، وهذا لا يبعد أبدا عن المعنى الذي يدور الآن في كتب الاختصاص
في لسانيات النص.
هذا من حيث المصطلح والمفهوم ، أما من حيث الاهتمام العلمي فقد عني
البلاغيون العرب بهذا الموضوع عناية كبيرة لما له من أهمية في الدراسات
اللغوية التي كانوا بصدد إنجازها، أو التعامل معها ، ويسجل الدكتور
إبراهيم خليل ذلك بقوله : " فالبلاغيون العرب اعتنوا بالكشف عن الترابط
القائم بين سلسلة الأقوال المؤلفة لفقرة أو مجموعة أجزاء من العمل الأدبي
، ونجد هذا واضحا فيما كتبه حازم القرطاجني (684هـ) الذي سلط الضوء على
العلاقات الترابطية لأجزاء القصيدة "( )
ولعل من أهم النقاط التي كان البلاغيون العرب معنيين بها في باب
الدراسات البلاغية ، قضية اللفظ و المعنى، وقضية النظم ؛ وتلك النظرة
صائبة جدا إذ أن الكلام لن يكون أبدا مؤديا ما يريده المبدع أو المتحدث
، ولن يصل فيه الدارس أو السامع إلى دراسة اللفظ أو دراسة المعنى أو
دراسة النظم ، ما لم يكن موافقا النسقَ المطلوبَ في اللغة ، " فالتركيب
الذي يفهم منه المقصود الأعظم هو ناتج عن التفاعل بين اللفظ الحامل ،
والمعنى القائم والعلاقات التي تربط أجزاء هذا التركيب" ( )
وكان تراثنا قد زخر بكثير من الأفكار في هذا الباب ، خاصة مع عبد
القاهر الجرجاني صاحب نظرية النظم ،" فقد نظر إلى القرآن الكريم نظرة
كلية باعتباره نصا واحدا ، وذلك بعرضه سؤالا مؤداه : ما الذي أعجز العرب
من النص القرآني ؟" ( ) ، وكذلك مع حازم القرطاجني ، وغيرهما من فطاحلة
التفكير اللغوي العربي ، الذين سجلوا في نبذ قليلة من إشاراتهم المبثوثة
في أعمالهم ، ما يمكن لنا نحن اليوم أن نعتز به اعتزازا كبيرا ، كما
كانوا مهتمين إلى درجة كبيرة في باب الدراسات القرآنية بالمناسبة بين
السور وترتيبها ، وهو باب يمس جانبا مهما من الذي نحن بصدد دراسته ، "
فقد ألف علماؤنا في أسرارها [ مناسبة السور ] تواليف كثيرة منهم العلامة
أبو جعفر بن الزبير" ( )، وهذا الاهتمام بعلم المناسبة قال عنه السيوطي
: " وعلم المناسبة علم شريف قل اعتناء المفسرين به لدقته ، وممن أكثر
منه الإمام فخر الدين ، وقال في تفسيره : أكثر لطائف القرآن مودعة في
الترتيبات والروابط" ( ) و " المراد بالمناسبة هنا وجه الارتباط بين
الجملة والجملة في الآية الواحدة أو بين الآية والآية في الآيات
المتعددة" ( ) ، وفي هذا الذي قال السيوطي دلالة على أن العرب كان لهم
جانب من الاهتمام بالذي نحن نهتم به اليوم ، وإن كنا نقول إن ذلك
الاهتمام بسيط ، لكن الفضل دوما يكون للمبتدي وإن كانت الزيادة للمقتدي
كما يقال .
وقد نقل المسلمون الأولون ذلك الفهم المجرد إلى الدراسة اللغوية
انطلاقا من نقلهم مفهوم الاتساق إلى النص القرآني المقدس الذي كان منطلق
كل الدراسات عندهم " فإذا عنايتهم تنصب على دراسته ، وإذا به كأنه سبيكة
واحدة تأخذ آياته و سوره بعضها برقاب بعض ، بحيث لا يوجد بين أجزائه تفكك
ولا ضعف" ( )
و من الأمثلة التي يمكن أن تكون دليلا على الذي نذهب إليه في هذا
الباب ، أن نجد أسامة بن منقذ الفارس العربي المسلم (ت 588هـ ) يهتم
بهذا الموضوع اللغوي ، مسجلا بابا بعنوان : (باب الفك والسبك ) في كتابه
: البديع في نقد الشعر، يتناول فيه تعريف السبك بقوله : " وأما السبك
فهو أن تتعلق كلمات البيت بعضها ببعض ، من أوله إلى آخره كقول زهير (بسيط
) :
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ضارب حتى إذا
ما ضاربوا أعتقا
ولهذا قال : خير الكلام المحبوك المسبوك الذي يأخذ بعضه برقاب بعض" ( ) ،
ولعل من أهم الكتب التي تناولت الموضوع أيضا كتاب "منهاج البلغاء وسراج
الأدباء"، فهو مثلا يتحدث عن كلام في الشعر فيقول : " فأما المتصل
العبارة والغرض ، فهو الذي يكون فيه لآخر الفصل بأول الفصل الذي يتلوه
علقة من جهة الغرض ، وارتباط من جهة العبارة " ( ) ، وليس لقوله : " لآخر
الفصل بأول الفصل الذي يتلوه علقة ، من جهة الغرض وارتباط من جهة
العبارة " إلا أن يفسر على أنه ما نسميه اليوم الاتساق والانسجام .
والظاهر في هذه النصوص العربية تكرار قولهم : أخذ بعضه برقاب البعض ،
وهذه العبارة تدل دلالة كبيرة عن معنى يمكن أن نتقاطع فيه مع لسانيات
النص ، إذا ما أخذنا نحللها وفق المنظار الذي نريد ، فإن الكلم سيبدو لنا
أجسادا لها أعناقها المتعالية ، وتلاحمها الشديد يتبين لنا من خلال لفظ
الأخذ بالرقاب .
أما إذا رجعنا إلى هذه القضية من منظور لساني حداثي ، فإن المختصين
أنفقوا الكثير من أوقاتهم ومن جهودهم من أجل أن يحددوا مفهوم الاتساق
والانسجام أو السبك أو الترابط ، فقد كثرت المصطلحات وتعددت المفاهيم ،
ولعل مرجع ذلك إلى أن كل واحد من هؤلاء نظر إلى القضية من الزاوية التي
يريد الغوص من خلالها إلى الدرس اللغوي ، كما أن للسبق التاريخي تأثيرا
على ذلك ، فحداثة لسانيات النص وضبابية مفاهيمها -خاصة في البداية - أدى
إلى ذلك الغموض ، كما أن لتعدد المدارس المتناولة للموضوع ، ولتعدد
الوجهات التي تنظر بها أثرا في ذلك .
وإلى( هارفنج ) تعزى أول محاولة (1968) جادة لوصف التنظيم الذاتي
الداخلي للنصوص من خلال الحديث على بعض العلاقات التي تسودها مثل علاقة
الإحالة والاستبدال مشيرا إلى التكرار والحذف والترادف والعطف والتفريع و
الترتيب ، وذكر النتيجة بعد السبب والجزء بعد الكل أو العكس ، وهذا كله
مما يقع في دائرة الترابط و الاتساق الداخلي للنص ( ) .
إن الاتساق بهذا المفهوم ، " لن يكون موجودا في النص إلا إذا توافر
على الآليات التي تجمع النص عموما والتي يقسمها ( فان دايك ) إلى
مجموعتين ، إحداها مجموعة الروابط المنطقية ، وبعضها طبيعي ينبع من
طبيعة التركيب اللغوي " ( ) وهذا الطبيعي المتعلق بطبيعة التركيب اللغوي
هو الذي يعنينا نحن في دراستنا للاتساق ، ذلك لأن الاتساق إنما يكون في
خطية النص وتركيبه ، والذي ينشئه هو الكلمات المتراصفة بعضها إلى جانب
الأخرى والتي يأخذ بعضها بعنق البعض الآخر .
والجدير بالملاحظة في هذا المقام أن مصطلح الاتساق يعاني أيضا شيئا من
عدم الضبط في تحديد المفهوم ، لأن بعضا من الباحثين قد يعطيه من الدلالة
ما لا يحتمل، أو يعطيه معنى غير دقيق، فقد يطلقه بعضهم على التماسك
النحوي كما يفعل إبراهيم خليل في كتابه في اللسانيات ونحو النص ( )، كما
نجد إبراهيم الفقي يتحدث عنه فيقول : " أما مصطلحا (cohesion and
coherence) فهما يتصلان بالتماسك النصي داخل النص و يرتبطان بالروابط
الشكلية والدلالية ولهما أدوات وأنواع"( ).
ومهما يكن من أمر في عدم دقة هذا المصطلح ، فإننا نتبنى الفهم الذي
يجعل الاتساق مرتبطا بالجانب الخطي للنص ، وانطلاقا من ذلك فإننا نورد
أشكال الاتساق :
- أشكال الاتساق
للاتساق من المنظور اللساني أشكال متعددة ، حددها علماء لسانيات
النص ، وبينوا كيف تكون هذه الأشكال مؤدية للاتساق النصي ، ومن أشهر
الذين اهتموا بهذا الموضوع وإليه يرجع أغلب الباحثين في ميدان لسانيات
النص - خاصة باب الاتساق والانسجام - الثنائي هاليداي ورقية حسن في
كتابهما (الاتساق في الإنجليزية ) وهو الكتاب الذي بين فيه المؤلفان
أوجه الاتساق في اللغة الإنجليزية .
وبغض النظر عن تطابق تلك الآراء والنظرات مع العربية أو عدم تطابقها
،فإننا نورد كثيرا من آراء العالمين لأنها في رأينا تمثل أحسن ما يمكن أن
نعتمد عليه ، مقتدين بالذين سبقوا في هذا الميدان وأهم هذه الأشكال :
1- الإحالة
يمكن لنا أن نذهب بعيدا ونحن نتحدث عن مفهوم الإحالة ، ذلك أن معناها
قد تغير بدءا من حخول المصطلح إلى ميدان لسانيات النص ، فالمفهوم
التقليدي لها هو تلك العلاقة الموجودة بين الأسماء ومسمياتها ألست حين
تقول:" شجرة " قد أحلت المخاطب إلى شيء ينمو على الأرض له أوراق وجذع
وأغصان؟ ، ألست تلفت نظره مِنْ عِنْدِكَ إلى هذا الشيء غير الموجود أمامك
؟ ، إننا لولا هذه الإحالات التي تغنينا عن كثير من المتاعب لكنا ملزمين
بأن يحضر المتحدث منا ما لا يستطيعه ، حتى يمكنه التواصل ؛ إنه حين يقول
مثلا : جرت السفينة في البحر ، لولا الإحالة لكان المتحدث مجبرا على
إحضار البحر وإحضار السفينة أو على الأقل لن يكون قادرا على تلفظ هذه
العبارة ما لم يكن على شاطئ البحر، لكن والحال هذه فإن المتحدث بطريق
الإحالة يتحدث عن أشياء هي في ذهن السامع ، وما على السامع إلا أن يعمل
فكره ليفهم المعنى ، وما عليه إلا أن يستفز ذاكرته ليحدث التواصل .
والظاهر أن هذا المفهوم هو الذي ذهب إليه كثير من الباحثين، إذ
يقول (جون لاينز)في سياق حديثه عن المفهوم الدلالي التقليدي للإحالة :"إن
العلاقة القائمة بين الأسماء والمسميات هي علاقة إحالة ، فالأسماء تحيل
إلى المسميات"( ) وتذهب مريم فرانسيس إلى أن " ما ندعوه إحالة يعبر عنه
بشكل عام في اللغة الفرنسية reference ... وما يوازي مرجع في العربية
" ( )
1-1- الإحالة من حيث موضع التواجد :
يمكن أن نقسم الإحالة إلى أنواع انطلاقا من الزاوية التي ننطلق منها ،
وهذه الأقسام هي :الإحالةُ من حيثُ العلاقةُ بالنصِ ، والإحالةُ من حيثُ
سبقُ المرجعِ ،والإحالةُ من حيثُ المدى .
فأما الإحالة من حيث العلاقة بالنص فتنقسم إلى نوعين :الأولى إحالة
داخل النص ويطلق عليها أيضا إحالة داخل اللغة ، والثانية إحالة خارج النص
ويطلق عليها إحالة خارج اللغة.
1-1-1- إحالة خارج النص أو خارج اللغة :
وهي " الإحالة التي يحيل فيها المتحدث إلى شيء غير موجود في النص ،
ويمكن تسميتها بالإحالة لغير مذكور ، أو لمرجع متصيد exophora أي :
الإتيان بالضمير للدلالة على أمر ما غير مذكور " ( ) ، و علاقة هذه
الإحالة بالنص علاقة ارتباط لا علاقة تنافر لأن الذي يعين على تفسيرها
هو السياق ؛ يقول روبرت دي بوجراند : " تعتمد الإحالة لغير مذكور في
الأساس على سياق الموقف contex شأنها في ذلك شأن الإحالة لمذكور سابق
anaphora والإحالة لمتأخر catphora" ( ) ، كأن يبدأ المتحدث حديثه مثلا
عن الجامعة فيقول : الجامعة معلم حضاري كبير ، ويواصل حديثه عنها ، فإن
المخاطب في هذه الحال مرغم على أن يسرح بخياله ، ليبحث في معارفه
السابقة ليجد شيئا رآه سابقا اسمه الجامعة ، ليحدث التواصل بينه وبين
الذي يخاطبه ، وهو هنا قد خرج إلى خارج النص ، فسميت الإحالة إحالة خارج
النص أو إحالة خارج اللغة.
1-1-2- إحالة داخل النص أو داخل اللغة :
وهي " إحالة على العناصر اللغوية الواردة في الملفوظ" ( ) ، وينظر
إلى هذه الإحالة من عدة زوايا ، ووفق كل نظرة يمكن لنا أن نقسمها إلى
أنواع فإذا نظرنا إلى السابق أهو العنصر المحال أم العنصر المحال عليه
قسمناها إلى إحالة سابقة وإحالة لاحقة ، " ذلك لأن العلاقات الداخلية
بدورها تنقسم إلى قسمين : بعضها يلتفت إلى الوراء أي إلى ما سبق ...
وبعضها يلتفت إلى الأمام " ( )
وأما من حيث سبق المرجع : فهي نوعان :
1-1-3- إحالة على السابق أو إحالة على اللاحق :
أي أن يكون الكلام فيها ذا اتصال بجزء من الخطاب كان قد مر سابقا ،
تَعَرَفَ فيهَ المخاطبُ على المرجعِ لا على أنه مرجعٌ ، بل على أنه عنصرٌ
من الخطابِ لا غير ، ولذلك فالإحالةَ على السابقِ ، " تعودُ على مفسِرٍ
سبق التلفظ به " ( ) و هناك من يسميها :الإحالةُ إلى الوراءِ ( ) ، كقول
المتحدثِ: انظرْ إلى السماءِ إنها صافيةٌ ، ففي هذه العبارةِ استعملَ
المرجعَ الذي هو (السماءُ) مذكورا ذكرا كاملا على أَنَهُ عنصرٌ من
عناصرِ الخطابِ لا على أنه مرجع ، ثم جيء بعد ذلك بذكره فقط على سبيل
الإضمار في الهاء من قولنا : إنها .
1-1-4- إحالة على اللاحق :
و تسمى الإحالةُ إلى الأمامِ، كقولِ من يحدثك : إنها رائعةُ الجمالِ
اليومَ ، السماءُ ...، ما أجملَ زرقتَهَا ، وفي هذه العبارةِ أحالَ فيها
المخاطبُ مستمعَهُ إلى مقصودٍ يُذْكَرُ بعدَ ذِكْرِ الضميرِ ، فالهاءُ في
قولِهِ "إنها " عائدةٌ على السماءِ لكنَ السماءَ لم تُذْكَرْ إلا مِنْ
بعدِ ذلكَ .
و أما من حيث المدى: فذلك إذا نظرنا إلى تجاور العنصرين المعنيين (المرجع
والعائد) ، أو تباعدهما فإن الإحالة ، تكون قريبة وبعيدة .
1-1-5- إحالة قريبة :
وهي التي يكون عنصراها المحال والمحال عليه موجودين داخل الجملة
الواحدة كقولك :الطفل علمه أبوه فالضمير الهاء الموجود في
قولك (علمه) وقولك (أبوه) يعودان على الطفل الذي هو لفظ سابق و بها تكون
هذه الإحالة إحالة قبلية ، لأن المرجع كان سابقا ، ولأنهما كانا موجودين
في جملة واحدة فإن الإحالة قريبة .
1-1-6- إحالة بعيدة:
وهي الإحالة التي يكون العنصر المحال عليه في غير الجملة التي ينتمي
إليها العنصر المحال وتكون درجة التباعد بقدر بعد العنصرين بعضهما عن
بعض.
-2- أشكالها اللفظية :
للإحالة ألفاظها التي يعتد بها وهي الضمائر وأسماء الإشارة و (ألـ)
وأدوات المقارنة وتتميز الإحالة بأنها تخضع لقيد دلالي وهو وجوب تطابق
الخصائص الدلالية بين العنصر المحيل والعنصر المحال إليه( ) .
و يمكن أن تتمثل هذه الأشكال في ما يلي:
1-2-1- الإشارة أو الكنايات :
و هي" مفهوم لساني يجمع كل العناصر اللغوية التي تحيل مباشرة على المقام
من حيث وجود الذات المتكلمة أو الزمن أو المكان ، حيث ينجز الملفوظ والذي
يرتبط به معناه ، ومن ذلك : الآن ، هنا ،هناك أنا ، أنت ، هذا ، هذه" (
) ومن الكنايات ما يلي:
1-2-1-1- الضمائر :
" تتفرع الضمائر في العربية حسب الحضور في المقام أو الغياب إلى فرعين
كبيرين متقابلين هما : ضمائر الحضور و ضمائر الغياب ، ثم تتفرع ضمائر
الحضور إلى متكلم هو مركز المقام الإشاري وهو الباث ، وإلى مخاطب يقابله
في ذلك المقام و يشاركه فيه و هو المتقبل " ( ) ذلك أن بعضا من الكلمات
قد يحل محل بعض فتحل الضمائر محل الأسماء وتقوم مقامها غير أن لها محتوى
دلاليا أصغر ( ) وتعد الضمائر أفضل الأمثلة على الأدوات التي يستعملها
المتكلمون للإحالة على كيانات معطاة ، فلو أردنا تحري الحقيقة ، على ماذا
يحيل ضمير المفرد الغائب (هو)لو أخذ منعزلا لما وجدنا له معنى خاصا يتفرد
به ولا يرتبط فيه بلفظ آخر ، بل نجده يشير دوما إلى المرجع الذي يعود
عليه ، وقد أدى هذا بالعديد من اللغويين إلى القول بأن صيغة اسمية مثل
(هو)ليست في الواقع أداة محيلة ، وأنها لا تستعمل إلا في الإحالة داخل
النص أي داخل نص يحتوي كذلك على صيغة اسمية كاملة "( )
ويقسم بعضهم الضمائر إلى ضمائر وجودية مثل أنا ،أنت ،هو، هم ...إلخ
وإلى ضمائر ملكية مثل كتابي ، كتابك ، كتابهم ، كتابه ، كتابنا ...إلخ(
) ، وإذا نظرنا إلى الضمائر من زاوية الاتساق ، أمكن التمييز فيها بين
أدوار الكلام التي تندرج تحتها جميع الضمائر الدالة على المتكلم والمخاطب
و هي إحالة لخارج النص بشكل نمطي ، ولا تصبح إحالة داخل النص ، أي
اتساقية ، إلا في الكلام المستشهد به ( )
1-2-1-2- أسماء الإشارة
مفهوم اسم الإشارة ذلك اللفظ الذي يستعمله المتكلم للدلالة على الشخص
المتحدث عنه المشار إليه ، فإذا كانت الضمائر تحدد مشاركة الشخوص في
التواصل أو غيابها عنه فإن أسماء الإشارة تحدد مواقعها في الزمان
والمكان داخل المقام الإشاري .وهي تماما مثلها لا تفهم إلا إذا ربطت بما
تشير إليه ( ).
1-2-2- أدوات المقارنة :
وتكون المقارنة عن طريق أسماء التفضيل ، و " تعد بناء لغويا معبرا
عن قيمة عالية لدى المبدع ، لتقديم رؤياه وتشكيلها اعتمادا على عالمين
يصنعهما بذاته ، ويقدمهما لمتلقيه بعيدا عن لغة المعنى المكشوف"( ) إذ أن
صيغة التفضيل تستعمل للربط بين لفظين، ويقصد بها تبيين أن الأول أكثر
استيعابا للأمر المذكور من الثاني .
وتكون المقارنة أيضا بالتشبيه ، لأن التشبيه يؤتى به لبيان أن شيئين
اشتركا في صفة أو مجموعة من الصفات كقول أمري القيس الكندي ) طويل ):
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب
و الحشف البالي
فاستعمال امرئ القيس للتشبيه المزدوج الذي شبه فيه شيئين بشيئين ،
شبه قلوب الطير الرطبة واليابسة من جهة ، بالعناب و الحشف البالي من جهة
أخرى ، كان أمارة كبيرة على وجود اتساق في هذه العبارة ومتى كان التشبيه
في عبارة عد دليلا على ذلك ، لأنه جمع الأمر بالأمر الذي يشترك معه في
خاصية أو في مجموعة من الخصائص .
2- الربط بالأداة
بعد النظر في وجوه الربط بالأداة بين الجمل نتبين أن حضور أداة الربط
مشروط بالخلاف بين الجملتين أو المقطعين المتصلين أو المتباعدين
مشروط بالخلاف بين الجملتين أو المقطعين المتصلين أو المتباعدين ، ومصطلح
الخلاف يجمع عددا من الوجوه. ( )
ـ تعاقب في الذكر : وتدخل تحت هذا الصنف بعض أحرف العطف كالفاء وثم
اللتين تفيدان أن الثاني مرتبط بالأول ارتباطا ترتيبيا تعاقبيا، فالثاني
منهما يعقب الأول ، مع اختلاف في الزمن الفاصل بين الأسلوبين ، إذ
(الفاء) تفيد الترتيب والتعقيب دون مهلة زمنية ، أما (ثم) تفيد الترتيب
والتعقيب مع وجود مهلة زمنية .
ـ تعاقب على أساس السببية : ويدخل تحته في العربية أدوات الشرط نحو: إن
تخرج أخرج ، فالخروج الذي يفترض أن يقع مني في هذا المثال ،مرتبط بسببية
الخروج الذي يقع من المخاطب في المثال .
ـ تعاقب على أساس إضافة عنصر إخباري جديد : ويدخل تحته أحرف الجر ففي
قولك : صلى المسلمون صلاتهم في المسجد، فلما أضفت الحرف (في)كان مفترضا
أن تضيف عنصرا إخباريا جديدا .
ـ تعاقب على أساس الترديد والذكر: يدخل تحته الحرف العاطف (أو)
3- إعادة اللفظ (التكرار):recurrence
هي واحدة من الطرق التي تلجأ إليها اللغة للربط والتي استعملتها
اللغات كثيرا و " تعد إعادة اللفظ في العبارة السطحية التي تتحد
محتوياتها المفهومية و إحالاتها من الأمور العادية في المرتجل من الكلام
"( ) وإعادة اللفظ له شروطه التي تجعله مؤديا للوضوح ، لا مؤديا إلى
الغموض ، فإذا كان اللفظ مكررا بشكل كبير ، وكان المرجع غير واحد ، فإننا
في ذلك الوقت قد جعلنا المستمع أو القاري يتيه في غمرة البحث عن المرجع ،
ولذلك " تتطلب إعادة اللفظ وحدة الإحالة ...ولكنها قد تؤدي إلى تضارب في
النص حين يتكرر المشترك اللفظي مع اختلاف المدلولات (جينز فيل سن) ( )
ويمكن أن يكون اللفظ المعاد كاملا أو أن تكون الإعادة لبعض منه فقط ، كأن
يقول المتحدث : قام رئيس الجمهورية بزيارة إلى مدينة كذا ، وقد فعل رئيس
الجمهورية ...، وعاد رئيس الجمهورية إلى العاصمة ، فأنت تلاحظ إعادة لفظ
(رئيس الجمهورية) ، كما يمكن أن يكون اللفظ المعاد جزءا نحو قولك : زار
رئيس الجمهورية مدينة كذا ، وقد دشن الرئيس كذا ، وعاد الرئيس إلى
العاصمة ( )
لذلك لابد من قيود تضبط هذه العملية فإن إعادة اللفظ قد تكون ضارة
خاصة إذا كان النص طويلا ، يقول الدكتور تمام حسان مترجما : ويمكن لإعادة
اللفظ في العبارات الطويلة أو المقطوعات الكاملة أن تكون ضارة لأنها تحبط
الإعلامية ما لم يكن هناك حافز قوي( ) ، وللإعادة صور متعددة منها
الإعادة الصريحة ، والإعادة من خلال الضمير ، والإعادة الضمنية .
الإعادة الصريحة : ويسميها بعضهم التكرار المحض ( ) وهو متعلق باستعمال
المتكلم لتعابير معينة في وضعيات معينة يفرضها عليه المقام وهي التي تحدث
عنها كلاوس برينكر لما قال: إذ يكرر تعبير معين (كلمة أو ضميمة مثلا) من
خلال تعبير أو عدة تعبيرات في الجمل المتتابعة للنص"( ) ، وهذا التكرار
نوعان :
ـ تكرار مع وحدة المرجع أي أن يكون المسمى واحدا
ـ تكرار مع اختلاف المرجع
إن هذا التكرار ليحقق فائدة عظيمة حينما يكرر المتحدث اللفظ ، إذ أن
الكلام عند ذلك يبتعد عن الافتقار إلى ما يكمله ،ومن ذلك ما يذهب إليه
حازم القرطاجني في المنهاج حينما يتحدث عن أبيات الخنساء بسيط )
وإن صخرا لوالينا وسيدنا وإن
صخرا إذا نشتو لنحار
وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه
علم في رأســه نار
فيقول : " ولو قالت وإنه لتأتم الهداة به فأضمرت ، لكان البيت ناقصا
مفتقرا . وإنما أظهرت لفظ (صخر)ثانيا وثالثا تباعدا عن الافتقار" ( )
الإعادة غير الصريحة : وتسمى أيضا التكرار الجزئي ( ) وذلك حينما يكرر
المتحدث الأمر المتحدث عنه لكن بغير لفظه بل بالمرادف مثلا ، ومن صورها
:
الإعادة من خلال الضمائر :
تتمثل الإعادة بالضمير في أن يتطلب المقام لفتا لنظر القارئ أو
المستمع ، ليكون متابعا لسياق مترابط متكامل ، بأن يعيد حديثه ولو بجزء
منه متمثلا في ذكر الضمير المحيل إلى الأصل ، وقد مر بنا الحديث عن
الضمائر كواحدة من أنواع الإحالة
منه متمثلا في ذكر الضمير المحيل إلى الأصل ، وقد مر بنا الحديث عن
الضمائر كواحدة من أنواع الإحالة
أمثلة التكرار:
يقول توفيق زياد ( ):
بأسناني
سأحمي كل شبر من ثرى وطني
بأسناني
و لن أرضى بديلا عنه
لو علقت من شريان لشرياني
أنا باق
أسير محبتي لسياج داري
للندى ، للزنبق الحاني
أنا باق
و لن تقوى علي
جميع صلباني
أنا باق
سأحمي كل شبر من ثرى وطني
بأسناني .
4- الاستبدال:
وذلك أن يستبدل المتحدث لفظا بلفظ آخر له المدلول نفسه ، وهو ركيزة
مهمة في بناء أي نص على المستوى اللساني ( )، وهذا إما بأن يستبدل مفردة
بمفردة أخرى ، كأن تسمع متحدثا يقول: نجح ابني في الامتحان ، فقلت له :
يا محمد سأعطيك جائزة ، فقد استبدلت كلمة (ابني) بكلمة (محمد) ،
فالكلمتان لهما نفس المعنى ، كما يمكن أن تستبدل مفردة معجمية بمفردة
نحوية أخرى. كأن تقول : هذا كتاب قرأته ، لابد أن اشتري واحدا آخر ، فأنت
استبدلت كلمة (كتاب)بكلمة (واحد) وهذا نوع من أنواع الاستبدال التي تنص
عليها لسانيات النص .
5- التحد يد :
مما ينسب إلى أداة التعريف أنها تتقدم العبارات الدالة على ما سبق
ذكره ، كما ينسب إلى أداة التنكير أنها تسبق ما لم يذكر من قبل ( ) يدخل
تحت هذا الباب (ألـ) العهدية في العربية ومنه قوله تعالى في سورة النور:
" الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ، المصباح في
زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري ، يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا
غربية " فكلمة(المصباح)ضمت إليها (ألـ) التي تسمى عهدية ، لأن ما اتصلت
به معهود في ذهن القارئ أو السامع ، ومثل ذلك كلمة الزجاجة التي ضمت
إليها (الـ) .
6- الحذف :
هو:"علاقة داخل النص، بحيث يوجد العنصر المفترض في النص السابق، وهذا
يعني أن الحذف عادة علاقة قبلية."( ) أي أن العنصر المحذوف يشكل علامة
دلالية مع العنصر السابق تحدث اتساقا ما بين أجزاء النص. "فإنك ترى فيه
ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما
تكون إذا لم تنطق ، وأتم بيانا إذا لم تبن.( )
وقد قسم هاليداي ورقية حسن الحذف إلى ثلاثة أنواع هي:
6-1- الحذف الاسمي: ويقصد به حذف اسم داخل المركب الاسمي مثل:
أي قميص ستشتري؟ هذا هو الأفضل، أي هذا القميص.
6-2- الحذف الفعلي:أي أن المحذوف يكون عنصرا فعليا مثل:
ماذا كنت تنوي؟ السفر الذي يمتعنا برؤية مشاهد جديدة، والتقدير أنوي السفر.
6-3- الحذف داخل شبه الجملة: مثل: كم ثمن هذا القميص؟ خمسة جنيهات( ).
يتضح مما سبق أن الحذف يقوم بدور معين في اتساق النص، وإن كان هذا الدور
مختلفا من حيث الكيف عن الاتساق بالاستبدال والإحالة، وأن المظهر البارز
الذي يجعل الحذف مختلفا عنهما هو عدم وجود أثر عن المحذوف فيما يلحق من
النص.
والحذف في الحقيقة لا يختلف عن الاستبدال إلا بكون الأول استبدال بالصفر
فالاستبدال يترك أثرا في حين أن الحذف لا يترك الأثر ، وذلك يعطي للقارئ
مادة يستطيع من خلالها أن يكتشف العنصر المقصود، والذي يعين على ذلك هو
أن النص بناء يقوم على التماسك و الاتساق وهذان العاملان يساعدان منشئ
النص على الاختصار ، وعدم الإطالة بذكر معلومات فائضة
الانسجام
الانسجام نظرة تاريخية
عني علماؤنا الاولون عناية كبيرة بهذه القضية اللغوية ، و من الذين
تناولوها عبد القاهر الجرجاني (471) الذي كان متأثرا بجهود الباقلاني
(403) المهتم أكثر بالإعجاز ، و قد عمد الجرجاني إلى ربط العلاقة بين
المكون النحوي والمكون الدلالي ، ومن المهتمين أيضا بذلك ابن رشد (595)
، و حازم القرطاجني (684) ، و كذلك الإمام الشاطبي (790) ، كما كان
لعلماء التفسير أثرهم في هذا الميدان ومنهم الزركشي والسيوطي (911) و
الطبري ومن علماء العصر الحديث سيد قطب و سعيد حوى .
جهود المدرسة الأنجلو أمريكية :
ترى معظم الدراسات أن الإرهاصات الأولى لهذا العلم إنما هي دراسات
أمريكية بداية من ما كتبه هاريس (1952) ثم تطور هذا العلم مع بليت (1975)
و دريسلور (1977) ، وأخيرا ما كتبه هاليداي ورقية حسن في كتابهما
الموسوم الاتساق في الانجليزية الصادر بلندن عام (1971)، ولعل من الجهود
التي أعانت على ذلك جهود نعوم تشومسكي و ما أحدثت من ثورة في الدراسات
اللغوية .
ومن المهتمين بهذا النوع من الدراسات الأمريكي روبرت دي بوجراند
الأستاذ بجامعة فلوريدا والذي ألف كتابه المشهور النص والخطاب والإجراء
الصادر عام (1980) ، و فيه حدد المعايير التي تقاس بهانصية النص
جهود المدرسة الفرنكوفونية
جون ميشال أدام :
ألف جون ميشال أدام كتابين الأول عد إلى ص 60
وقد جاء الكتاب الثاني مرتبطا بالأول و يهدف إلى مزيد من الدقة و التحديد
بعد سنوات من البحث، و تتفق الدراسات اللغوية الحديثة على أهمية الجهود
التي قدمها فان دايك( )، وأنه أسهم إسهامات كبيرة في ميدان الدراسة
النصية خاصة ما تعلق منها بالانسجام فقد تجاوز بجهوده ما قدمته المدرسة
الانجلوسكسونية ، والمدرسة الفرنسية و من أهم أعماله في هذا الباب :
- النص والسياق 1977 - علم النص : مدخل متداخل الاختصاصات 1980
ومن أهم ما يمكن أن يلاحظ على جهود فان دايك أنه هدم الحواجز الفاصلة
بين علم الأدب وعلم اللغة ثم كسر الحاجز الذي يفصل علم اللغة عن غيره من
العلوم و قد هدف إلى النظر إلى النص من زاويتين
الأولى : النظر إلى النص من الدخل
الثانية : النظر إلى النص من خلال العلاقة مع المتلقي
لغة :
ورد في لسان العرب أن المادة (س ج م ) تدل على عدة معان أهمها : سجم
: سجمت العين الدمع والسحابة الماء تَسجِمُه و تسْجُمُهُ سجما و سجوما و
سجمانا : و هو قطران الدمع و سيلانه ، قليلا أو كثيرا ، و كذلك الساجم من
المطر .
والعرب تقول دمع ساجم ، ودمع مسجوم : سجمته العين سجما
والمتتبع للمادة اللغوية ( سجم ) يجد أنها ارتبطت بمفاهيم أهمها القطران
و الانصباب و السيلان
اصطلاحا :
يعني فان دايك بالانسجام ( الأبنية الدلالية المحورية الكبرى و هي
أبنية عميقة تجريدية ) و بخلاف ذلك بين أن الاتساق يتمثل في الأبنية
النحوية الصغرى و هي أبنية تظهر على مستوى سطح النص ( )، ولعلنا من خلال
هذا التعريف الصادر عن فان دايك يتبين لنا أنه يرى أن الاتساق أمر يتعلق
بالجانب النحوي التركيبي في حين أن الانسجام يتعلق بالجانب الدلالي .
أما ديسلر :
فإنه أطلق مصطلح التماسك النصي على الانسجام و بين أنه يتعلق بالبنية
المحورية للنص وبين التصورات و العلاقات الأساسية في عالم النص ( ).
تعريف روبرت دي بوجراند :
ألف الأمريكي روبرت دي بوجراند الأستاذ بجامعة فلوريدا كتابه المشهور
النص والخطاب والإجراء عام (1980) ، والمعايير التي تجب للنص ليكون نصا
عند روبرت دي بوجراند :
1-السبك : النظام ، الربط
2-الالتحام ، التماسك ، الانسجام : ويشمل العناصر المنطقية كالسببية والعموم
3-القصد : و يشمل موقف المنتج من القضية المطروحة وهدفه من بناء نص متماسك
4-القبول : و يتعلق بالمتلقي و قبوله للنص أو عدم قبوله انطلاقا من صحة
القواعد النحوية
5-رعاية الموقف : أي الموقف الذي ولد فيه النص
6-التناص : وذلك من خلال علاقة النص بالنصوص السابقة تأثرا وتأثيرا
7-الإعلامية :وهي المحتوى الدلالي الذي يريد النص تقديمه
-أدوات الانسجام
1-التأويل :
يحتاج القارئ لكي يفهم النص المقروء إلى جهد تأويلي يمكنه من رصد
العلاقات الخفية الرابطة بين أجزاء النص ، خاصة إذا كان للفظ الواحد
مفاهيمُ قد تتغير و لا يضبط مفهومها حتى يعرف السياق الذي وردت فيه و
التأويل كما قال صاحب اللسان ( نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما
يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ ) ولعل هذا هو المفهوم الذي ذهب
إليه عبد القاهر الجرجاني في المعنى ومعنى المعنى
ونمثل لهذا المظهر بقول الشاعر عثمان لوصيف :في قصيدة له بعنوان " الطيب
صالح "( )
يا عنترة العبسي
هذا موسم الهجرة ...قم
قم نهاجر عبر هذا الأزرق الممتد
حتى نهتدي نحو الشمال
نحن أبناء الجنوب الحي
أبناء اللهب
أرضنا تزخر تبرا
و رحيقا ينسكب
و المجاعات...
المجاعات ...
هنا تنخر مثل السوس في أعظمنا
يا...للعجب
فنداء الشاعر في بداية هذه القطعة يجعلناة نفكر في الذي يعنيه عثمان
لوصيف بقوله عنترة العبسي ، غيرأن العنوان الذي هو الطيب صالح و بعض
كلمات القصيدة كقوله موسم الهجرة إلى الشمال ، وقوله نحن أبناء الجنوب
الحي يجعلنا نقول : إن الذي يقصده الشاعر هو الطيب صالح الشاعر السوداني
صاحب موسم الهجرةإلى الشمال.
السياق
( إنه يعني الانزلاق من المستوى التحليلي إلى مستوى آخر يتعلق بظروف
إنتاج الخطاب) ، فالمرسل والمتلقي وزمان النص و مكان إنتاجه و الحالة
النفسية للمرسل أو المتلقي كلها عوامل محددة للسياق و في المثال الموالي
نتبين دور السياق في تحديد المعاني الحقيقية للنص ،و إليك النص التالي من
الرسالة السابقة الذكر رسالة الاتساق والانسجام في شعر عثمان لوصيف .
يتهاوى من رصيف لرصيف
ثم يعدو من نزيف لنزيف
ساحبا خفي حنين
طاوي البطن
يصوم الدهر من غير ثواب
حاملا أدوية أو وصفات
لكناريته ...تلك العليلة
فإذا ما خيم الليل
كرها إلى كوخ
من القصدير و الألواح
حيث البرد ... والبق
وحيث القطط الكسلى الذليلة
إننا إذا عرفنا السياق الذي ولد فيه النص فهمنا أن الكناري المقصود
ليس حيوانا بل هو شيء آخر ، و إذا عرفنا أن النص ولد بالجزائر العاصمة
يوم 19-12-1996 ،و عرفنا أن هذا التاريخ يمثل مرحلة المعاناة للشاعر مع
زوجته المريضة وأن هذا التاريخ بالضبط كان متواجدا فيه بالعاصمة لمعاجة
الزوجة، وهذا يجعلنا نقر أن السياق له دورفي فهم النص وفي تبيين انسجامه
.
3-الفهم المحلي :
يرتبط هذا المفهوم بما ورد قبله إذ أن المتلقي أو السامع يكون في
هذا مجبرا على أن لا يوسع فهمه للسياق بل يجب أن يكون فقط وفق الذي يناسب
المقام فهو كما يقول محمد خطابي : يعتبر تقييدا للطاقة التأويلية لدى
المتلقي ، ويكون ذلك حينما يقدم الكاتب حيزا زمانيا أو مكانيا وهنا سوف
يتفاعل معه القارئ بمعرفة الحيز غير أن الكاتب يغير هذا الحيز وفق ما
يرسمه في نصه أو عن شخصيته أو عن حوادث الموضوع حينذاك يجد القاري نفسه
ملزما بالالتزام بالحيز المذكور ، ومن ذلك قول الشاعر الفلسطيني سميح
القاسم
ياعدو الشمس ..
في الميناء زينات و تلويح بشائر ..
و زغاريد و بهجة
و هتافات وضجة
و الأناشيد الحماسية وهج في الحناجر
و على الافق شراع
يتحدى الريح .. و اللج .. ويجتاز المخاطر
إنها عودة يوليسيز
من بحر الضياع ..
عودة الشمس وإنساني المهاجر
و لعينيها وعينيه .. يمينا ..لن أساوم ..
و إلى آخر نبض في عروقي
سأقاوم ..
سأقاوم
فالفهم المحلي يحد من طاقتنا التأويلية التي ربما تجعلنا نذهب بعيدا
حينما نسمع كلمة يوليسيز ، فإذا ضبطنا القوة التأويلية كنا محل بحث عن
المقصود ووجدنا أن المقصود هو الشعب الفلسطيني المشرد المبعد عن وطنه .
-القياس
يقول براون ويول ( يمثل مبدأ القياس إحدى الأدوات الأساسية التي تمكن
السامعين والمحللين من تحديد فهمهم داخل السياق ، فهم يفترضون أن كل شيء
سيبقى على ما كان عليه ماداموا لم يعطوا إشعارا خاصا بتغير إحدى الخصائص
،...فهو يحدد للقارئ أو السامع إطارا مضمونا إلى حد ما لعملية الفهم .
5- العلاقات:
ينظر عادة إلى العلاقات التي تجمع أطراف النص أو تربط بين متوالياته (أو
بعضها) دون وسائل شكلية تعتمد في ذلك عادة على أنه علاقات دلالية( )مثل
علاقات العموم والخصوص، السبب/ المسبب، المجمل/ المفصل، وهي علاقات
متواجدة عبر مساحة النص محققة تماسكا دلاليا بين بنياته، كما أنها لها
دور الإخبارية من أجل تحقيق درجة معينة من التواصل. "بيد أن النص الشعري
قد يوحي بعدم الخضوع لهذه العلاقات، ولكنه ما دام نصا تحكمه شروط الانتاج
والتلقي فإنه لا يتخلى عن هذه العلاقات."( ) لأنها قائمة في بنيته
الدلالية التي تربط النص أو أجزائه عبر هذه العلاقات المعنوية.
6- موضوع الخطاب:
ويعرّف الموضوع على أنه:"نواة مضمون النص حيث يسمي مسار الأفكار القائم
على موضوع أو عدة موضوعات في نص ما، ويتحقق موضوع النص إما في جزء معين
من النص أو نجرده من مضمون النص وذلك بطريق العبارة المفسرة الموجزة
المختصرة." ( )
إن موضوع الخطاب يعد مركزا أساسيا تدور حوله الأقوال التخاطبية التي
تستمد منه عملية الامتداد عبر كامل النص. "ونستطيع أن نحدد مفهوم
"الموضوع" عبر حدسنا اللغوي الذي يمكننا من وصف ذلك المبدأ الجامع الذي
يجعل من مقطع خطابي ما حديثا عن شيء ما."( )
ولقد أضاف الدارسون إلى موضوع الخطاب مفهوم التخاطب الذي يقتضي اثنين في
العملية التخاطبية وبخاصة في النص الشعري باعتباره خطابا متعدد الأصوات،
ويظهر ذلك من خلال حوارية مقطعية داخلية، بحيث يساهم كل مقطع في علاقته
بسائر المقاطع في بناء موضوع الخطاب، ولذلك قال مورجان:"أن المواضيع لا
توجد في الجمل، بل لدى المتكلمين."( )
ويطلق لفظ "الحوارية" على البعد التفاعلي للغة، أكان شفويا أو مكتوبا، و
"الحوارية التفاعلية تحيل كذلك على التجليات المتنوعة للتبادل الكلامي."
فالمشاركون يعبر عنهم بالأسماء أو الضمائر والأحوال والصفات والأماكن و
الأزمنة.
وقد اقترح الباحثان يول وبروان مفهومين فعالين في تقييد موضوع الخطاب،
وفي جعله أكثر ارتباطا بإطاره العام وهما: " قاعدة الوجاهة وإطار
الموضوع". هذا الأخير الذي يتمثل في الملامح السياقية التي تنعكس على
النص بوصفه البناء الشكلي الذي يتمثل فيه القول، وتستمد الخصائص السياقية
كتبديل الشفرة والعلاقات القائمة على مبدأ توزيع الأدوار في العملية
التواصلية والأدوات الاشارية مثل:"أنا" و "أنت" و "هنا" و الآن"- بطبيعة
الحال من السياق المادي فهي تقع خارج النص، ومنها ما يستمد من داخل
الخطاب نفسه. أما قاعدة الوجاهة فهي مبدأ تداولي ينضبط به التخاطب، وهو
في معناه اللغوي هو "مقابلة الوجه للوجه" ." وفيه يعتمد المتخاطبان على
مبادئ كالتعاون والتعفف لتخفيف حدة الخطاب التهديدي حتى تسهل عملية
التبادل التخاطبي وهو يقابل "مبدأ التأدب عند لاكوف من جهة أخذه بالجانب
العملي من التهذيب."(2) وعليه فإن العملية التخاطبية تنبني أساسا على
السياق الذي يحصر الموضوع في إطار محدد وواضح والجانب التأدبي الذي يجعل
من الخطاب يأخذ طابعا تفاعليا بين المشاركين.
7-الحالة المفترضة للعالم :
تكون هذه الظاهرة حينما يستعمل الشاعر أو الكاتب لفظا أو معنى في غير
موقعه الأصلي ، فتتدخل هنا معرفتنا القبلية للعوالم بأن تقول إن في هذا
شيئا ، وهذا ما يجعلنا ملزمين بالتأويل الذي يحيلنا إلى المقصد الحقيقي
بالمذكور ، أو ملزمين بالبحث عن تفسير لهذه الظاهرة الادبية .
مثلا : أن يكتب قاص أو شاعر نصا أدبيا عن فتاة سينغالية ، ويقول
واصفا و جهها بأن بشرتها بيضاء وان شعر أصفر ينساب على كتفيها العريضين ،
وأن عينيها زرقاوين و أن .. وأن .. بكل مواصفات المرأة الاوربية ، إن
هذا القاريء للنص عنده عالم مفترض بصورة أخرى ، فالمرأة السينغالية
والمرأة الإفريقية عموما بشرتها سمراء أو زنجية و لون العينين مخالف
للوصف الوارد ، فإذا جاء الكاتب أو الشاعر فبين أن الفتاة نتيجة زواج
رجل سينغالي بامرأة ألمانية بطل عجبه ، وكان عالمه المفترض صحيحا .
8-التغريض
يعتبر العنوان وسيلة قوية للتغريض، ويعرفه بروان و بول: "بأنها نقطة
بداية قول ما". فالتغريض في الخطاب يقوم بالبحث في العلاقة التي تربط
موضوعه بالعنوان، ذلك أن العنوان وسيلة تعبيرية ممكنة عن الموضوع، كما
أنها أداة ابراز لها قوة خاصة. "فلو وجدنا اسم رجل مبرزا في عنوان النص
توقعنا أن يكون ذلك الشخص محور الحديث (...) و أن العناصر المبرزة لا
تمدنا فقط بنقطة الانطلاق نبني حولها كل ما يمكن في صلب الخطاب، بل إنها
تمدنا كذلك بنقطة الانطلاق نحد من إمكانات فهمنا لما يلحق."
ويتعلق التغريض بالعنوان وبالجملة الاولى ، وكيف أن هذين يبقيان ماشيين
في خيط رفيع يؤديان دورا خفيا هو دور الربط بين أجزاء القصيدة أو النص ،
ففي القصيدة الموالية نشتم رائحة الخضوع والذل ، إذ يقول أمل دنقل في
ديوانه العهد الآتي في قصيدة بعنوان "صلاة" ( )
أبانا الذي في المباحث نحن رعاياك باق
لك الجبروت . وباق لنا الملكوت . وباق لمن
تحرس الرهبوت
تفردت وحدك باليسر . إن اليمين لفي الخسر
أما اليسار ففي العسر . إلا الذين يماشونَ
إلا الذين يعيشون يحشون بالصحف المشتراة
العيون .. فيعشون .. إلا الذين يشون وإلا
الذين يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت
تعاليت . ماذا يهمك ممن يذمك؟ أليوم يومك
يرقى السجين إلى سدة العرش ..
و العرش يصبح سجنا جديدا . وأنت مكانك . قد
يتبدل رسمك و اسمك
لكن جوهرك الفرد
لا يتحول . ألصمت وشمك . و الصمت وسمك .
و الصمت – حيث التفت – يزين و يسمك . الصمت
بين خيوط يديك
المشبكتين المصمغتين يلف
الفراشة والعنكبوت
أبانا الذي في المباحث . كيف تموت
وأغنية الثورة الأبدية
ليست تموت؟
فإذا أخذنا سطرها الأول تبيتن لنا فعلا ذلك الذل من خلال قوله : أبانا
الذي في المباحث نحن رعاياك ، وإذا نظرنا إلى العنوان أيضا وجدنا لمعناه
9- البنية الكلية:
يهتم التحليل النصي بالبنية الكبرى المتحققة بالفعل وهي "بنية مجردة
تقارب بموضوع الخطاب الذي يعتبره فان دايك مفهوما عمليا."(1) أي أنها
كامنة وحاضرة في البنية الموضوعية للنص «وهي تتسم بدرجة من الانسجام
والتماسك وهذا التماسك ذو طبيعة دلالية»."(2)
أما كيفية تحديد البنية الكبرى للنص، فإن الملاحظ أن القراء يختارون من
النص عناصر مهمة تتباين باختلاف معارفهم و اهتماماتهم وأرائهم، وعليه
يمكن أن تتغير ال
ينتشر في كتب الدراسات اللغوية الحديثة مصطلحات متعددة كلها يعد
تسمية لعلم النص منها ، علم النص لسانيات النص ، علم اللغة النصي ، نحو
النص ، وقد كانت الإرهاصات الأولى لظهور هذا العلم في 1952 على يد
الأمريكي (هاريس) في كتابه تحليل الخطاب ، وكان قد ركز فيه على الجوانب
النحوية البنوية ، ربما لأن الرجل كان أحد تلاميذ العالم بلوم فيلد
البنوي ، ثم تطورت الدراسات النصية و تبلورت النظرية مع (فان دايك) و
تكامل العلم مع الأمريكي (روبرت دي بوجراند )، الذي في عهده دكت كثير من
الحواجز ، وأصبح علم اللغة النصي يستفيد من كثير من العلوم منها ما هو
لغوي ، و منها ما هو غير لغوي ؛ ويهتم علم النص بالقواعد التي تجعل النص
نصا في حين أن نحو النص لا يعنيه إلا أن يدرس الجمل مفردة .
النص لغة :
النص في العربية يعني الظهور والبروز و الارتفاع ، ذلك أننا إذا عدنا
إلى المعاجم العربية فإننا نجد لمادة (نصّ) عدّة معانٍ منها : نـص
الحديث رَفَعَـه، و نصت الدابة جيدها إذا رفعته ، و نصت العروس إذا رفع
مكانها وأبرزت ، و ناقته استخرج أقصى ما عندها من السَّير، و الشيءَ
حرّكه، و منه فلان ينصُّ أنفه غضباً، و هو نصَّاصٌ ، المتاعَ : جعل
بعضه فوق بعض، و فلانا استقصى مسألته عن الشيء ، و الشيءَ أظهره( ).
أما في الثقافة الغربية فإن لفظ (texte) في المعجم الفرنسي مأخوذ من
مادة (textus) اللاتينية التي تعني النسيج ،كما تطلق كلمة texte على
الكتاب المقدس أو كتاب القداس…كما تعني تـــرابط حكاية أو نص .
و الذي نلاحظه في المعنى اللغوي لمادة(texte) أنها تدل دلالة صريحة
على التماسك و الترابط و التلاحم بين أجزاء النص وذلك من خلال معنى كلمة"
النسـيج " التي تؤشر إلى الانسجام و التضام و التماسك بين مكونات الشيء
المنسوج ماديا،كما تؤشر معنويا أيضا إلى علاقات الترابط و التماسك من
خلال حبك أجزاء الحكاية.
و معنى النسيج ، وهذا المفهوم ليس بعيدا عن الثقافة العربية إذ نجد
أن هناك من يستعمل المفهوم نفسه ، فهذا ابن خلدون في المقدمة يقول ما نصه
: اعلم أنها (يقصد صناعة الشعر ) عبارة عن المنوال الذي ينسج فيه
التراكيب ، أو القالب الذي يفرغ فيه ، ... ثم ينتقي التراكيب الصحيحة عند
العرب باعتبار الإعراب والبيان ، فيرصها فيه رصا ، كما يفعله البناء في
القالب أو النساج في المنوال ، حتى يتسع القالب بحصول التراكيب الوافية
بمقصود الكلام ( ) ، كما نجد أن عبد القاهر الجرجاني قبله كان قد وصف
النص بالو شي والنسج.
النص اصطلاحا :
مفهوم النص عند يلمسلاف( ):
يستعمل العالم الألسني الدانمركي لويس يلمسلاف مصطلح النص بمعنى واسع ،
فيطلقه على أي ملفوظ ، منفذ قديما أو حديثا ، مكتوبا أو محكيا ، قصيرا
أو طويلا ، فكلمة (قف) مثلا عنده نص كامل .
مفهوم النص عند تدوروف ( ):
يرى تـدوروف في مؤلفه " القاموس الموسوعي لعلوم اللغة " أن اللسانيات
تبدأ دراستها من الجملة غير أن ذلك في رأيه غير كاف ، ولا الانطلاق أيضا
من الفقرة التي هي تركيب جزئي ، بل إن الصواب في رأيه أن ننطلق في
دراساتنا اللغوية من النص الذي هو مجموعة من الفقرات التي يحقق فيها
الكمال فالتماسك النصي والكمال له لا يتحققان إلا في مجموعة الفقرات .
مفهوم النص عند رولان بارث( ) :
النص عند بارث نسيج كلمات منسقة في تأليف معين ، بحيث يفرض شكلا وحيدا
وثابتا ، و النص من حيث هو نسيج فهو مرتبط بالكتابة لأنه رسم بالحروف ، و
الكتابة هي السمة الأساسية للنص عند بارث ؛ فالكتابة ضمانة للشيء
المكتوب،و صيانة له؛و ذلك باكتسابه صفة " الاستمرارية."
مفهوم النص عند جوليا كريستيفا :
تحدد جوليا كريستيفا النص،بأنّه " جهاز عبر لساني يعيد توزيع نظام
اللسان بالربط بين كلام تواصلي يهدف إلى الإخبار المباشر وبين أنماط
عديدة من الملفوظات السابقة عليه أو المتزامنة معه.
مفهوم النص في الدراسات العربية:
في الدراسات العربية القديمة نجد أن قول الأصوليين " لا اجتهاد مع
النص " يجسد هذا المفهوم ، و لما جاء الإمام الشافعي أعطى تعريفا للنص
فقال :" المستغني بالتنزيل عن التأويل " أما الشريف الجرجاني فقال " النص
ما زاد وضوحا على الظاهر " .
مفهوم النص عند إبراهيم الفقي :
في دراسته للتماسك النصي يعيد إبراهيم الفقي آراء العالم اللغوي روبرت دي
بوجراند الذي يرى أن النص حدث تواصلي يلزم لكونه نصا أن تتوافر له شروط
سبعة ، لا يكون النص نصا إلا إذا تواجدت جميعا ، وهذه الشروط هي :
-1- السبك : أو الربط النحوي -2- الحبك أو التماسك الدلالي ، وقد سماها
تمام حسان الالتحام
-3- القصد : وهو الهدف من ميلاد هذا النص -4- القبول : و يتعلق بموقف
المتلقي -5- الإعلام:
-6- المقام : و هو متعلق بمناسبة النص للموقف والمقام -7- التناص:
وهذا التعريف الذي يتبناه الفقي تعريف شامل لا يلغي أحد أطراف الحدث
الـكلامي في التحليل؛ فهو يجمع المرسل والمتلقي والسياق وأدوات الربط
اللغوية..ومن هنا فإنّ المدخل السلـيم للتحليل النصي هو التحليل ذو
الرؤية الشاملة حيث كل العناصر النصية ـ المرسل، المتلقي، السياق، عناصر
الربط اللغوي.. تحت مجهر التحليل النصي،ولا يضخم نظرته لعنصر على حساب
آخر؛كما تضخم البنوية بنية النص على التاريخ، والقارئ فيها مجرد متلق
سلبي لا أثر له أمام رياضيات النص، وكما تضخم التفكيكية القارئ على النص
و التاريخ و اللغة نفسها.
- مفهوم الاتساق النصي
إذا رجعنا إلى القواميس ، و أمات الكتب العربية باحثين عن المعنى
الذي يمكن أن يأخذه الجذر ( و س ق ) فإننا نجده يدور حول مفهوم الاكتمال
والتمام ، فقد جاء في لسان العرب لابن منظور (ت 711 هـ ) في الجذر (و س
ق ) : وسقت النخلة إذا حملت ، فإذا كثر حملها قيل أوسقت أي حملت َوسًقا
ـ وسقت الناقة وغيرها تسِقُ أي حملت وأغلقت رحمها على الماء ، فهي واسق،
ونوق ِوساقٌ ـ وسقت عيني على الماء ، أي ما حملته ـ الوسوق ، ما دخل
فيه الليل وما ضم ، وقد وسق الليل ، و اتسق ـ والطريق يتسق ينضم و
اتساق القمر امتلاؤه واجتماعه واستواؤه ليلة ثلاث عشرة وأربع عشرة ـ
واستوسقت الإبل : اجتمعت ـ والاتساق : الانتظام ( )
أما الفيروز آبادي( ت 817هـ ) في القاموس المحيط فيقول : َوَسَقهُ
يَـِسُقُه َجَمَعُه و حَمَلَهُ ومنه : (والليلِ وَما َوَسَق) و طرده
ومنه الَوِسيَقُة وهي من الإبل كالرفقة من الناس فإذا سرقت طردت معا ،
والناقةُ حملت وأغلقت على الماءِ رحمها فهي َواِسقٌ ، واستوسقت الإبلُ
اجتمعت ، واتَسَقَ انتظََمَ ، و الِميسَاقُ الطائُر يصفق بجناحيه إذا
طار( ) ، والطائر إذا طار وكان مصفقا بجناحيه ، كان في ذلك اتساق كبير
وانتظام ظاهر ، كما يقول السيوطي (ت 911هـ ) : اتسق القمر إذا تم وامتلأ
ليلة أربع عشرة ، ووزنُ اتسق افتعل ، وهو مشتق من الوسق و يقال اتسق
استوى( )
والملاحظ في الذي ذكر ابن منظور ، و الفيروز آبادي ، و السيوطي أن
المعنى الذي يكاد يتكرر حول الجذر (و س ق) هو الاجتماع والانتظام
والاكتمال ، وهذا لا يبعد أبدا عن المعنى الذي يدور الآن في كتب الاختصاص
في لسانيات النص.
هذا من حيث المصطلح والمفهوم ، أما من حيث الاهتمام العلمي فقد عني
البلاغيون العرب بهذا الموضوع عناية كبيرة لما له من أهمية في الدراسات
اللغوية التي كانوا بصدد إنجازها، أو التعامل معها ، ويسجل الدكتور
إبراهيم خليل ذلك بقوله : " فالبلاغيون العرب اعتنوا بالكشف عن الترابط
القائم بين سلسلة الأقوال المؤلفة لفقرة أو مجموعة أجزاء من العمل الأدبي
، ونجد هذا واضحا فيما كتبه حازم القرطاجني (684هـ) الذي سلط الضوء على
العلاقات الترابطية لأجزاء القصيدة "( )
ولعل من أهم النقاط التي كان البلاغيون العرب معنيين بها في باب
الدراسات البلاغية ، قضية اللفظ و المعنى، وقضية النظم ؛ وتلك النظرة
صائبة جدا إذ أن الكلام لن يكون أبدا مؤديا ما يريده المبدع أو المتحدث
، ولن يصل فيه الدارس أو السامع إلى دراسة اللفظ أو دراسة المعنى أو
دراسة النظم ، ما لم يكن موافقا النسقَ المطلوبَ في اللغة ، " فالتركيب
الذي يفهم منه المقصود الأعظم هو ناتج عن التفاعل بين اللفظ الحامل ،
والمعنى القائم والعلاقات التي تربط أجزاء هذا التركيب" ( )
وكان تراثنا قد زخر بكثير من الأفكار في هذا الباب ، خاصة مع عبد
القاهر الجرجاني صاحب نظرية النظم ،" فقد نظر إلى القرآن الكريم نظرة
كلية باعتباره نصا واحدا ، وذلك بعرضه سؤالا مؤداه : ما الذي أعجز العرب
من النص القرآني ؟" ( ) ، وكذلك مع حازم القرطاجني ، وغيرهما من فطاحلة
التفكير اللغوي العربي ، الذين سجلوا في نبذ قليلة من إشاراتهم المبثوثة
في أعمالهم ، ما يمكن لنا نحن اليوم أن نعتز به اعتزازا كبيرا ، كما
كانوا مهتمين إلى درجة كبيرة في باب الدراسات القرآنية بالمناسبة بين
السور وترتيبها ، وهو باب يمس جانبا مهما من الذي نحن بصدد دراسته ، "
فقد ألف علماؤنا في أسرارها [ مناسبة السور ] تواليف كثيرة منهم العلامة
أبو جعفر بن الزبير" ( )، وهذا الاهتمام بعلم المناسبة قال عنه السيوطي
: " وعلم المناسبة علم شريف قل اعتناء المفسرين به لدقته ، وممن أكثر
منه الإمام فخر الدين ، وقال في تفسيره : أكثر لطائف القرآن مودعة في
الترتيبات والروابط" ( ) و " المراد بالمناسبة هنا وجه الارتباط بين
الجملة والجملة في الآية الواحدة أو بين الآية والآية في الآيات
المتعددة" ( ) ، وفي هذا الذي قال السيوطي دلالة على أن العرب كان لهم
جانب من الاهتمام بالذي نحن نهتم به اليوم ، وإن كنا نقول إن ذلك
الاهتمام بسيط ، لكن الفضل دوما يكون للمبتدي وإن كانت الزيادة للمقتدي
كما يقال .
وقد نقل المسلمون الأولون ذلك الفهم المجرد إلى الدراسة اللغوية
انطلاقا من نقلهم مفهوم الاتساق إلى النص القرآني المقدس الذي كان منطلق
كل الدراسات عندهم " فإذا عنايتهم تنصب على دراسته ، وإذا به كأنه سبيكة
واحدة تأخذ آياته و سوره بعضها برقاب بعض ، بحيث لا يوجد بين أجزائه تفكك
ولا ضعف" ( )
و من الأمثلة التي يمكن أن تكون دليلا على الذي نذهب إليه في هذا
الباب ، أن نجد أسامة بن منقذ الفارس العربي المسلم (ت 588هـ ) يهتم
بهذا الموضوع اللغوي ، مسجلا بابا بعنوان : (باب الفك والسبك ) في كتابه
: البديع في نقد الشعر، يتناول فيه تعريف السبك بقوله : " وأما السبك
فهو أن تتعلق كلمات البيت بعضها ببعض ، من أوله إلى آخره كقول زهير (بسيط
) :
يطعنهم ما ارتموا حتى إذا طعنوا ضارب حتى إذا
ما ضاربوا أعتقا
ولهذا قال : خير الكلام المحبوك المسبوك الذي يأخذ بعضه برقاب بعض" ( ) ،
ولعل من أهم الكتب التي تناولت الموضوع أيضا كتاب "منهاج البلغاء وسراج
الأدباء"، فهو مثلا يتحدث عن كلام في الشعر فيقول : " فأما المتصل
العبارة والغرض ، فهو الذي يكون فيه لآخر الفصل بأول الفصل الذي يتلوه
علقة من جهة الغرض ، وارتباط من جهة العبارة " ( ) ، وليس لقوله : " لآخر
الفصل بأول الفصل الذي يتلوه علقة ، من جهة الغرض وارتباط من جهة
العبارة " إلا أن يفسر على أنه ما نسميه اليوم الاتساق والانسجام .
والظاهر في هذه النصوص العربية تكرار قولهم : أخذ بعضه برقاب البعض ،
وهذه العبارة تدل دلالة كبيرة عن معنى يمكن أن نتقاطع فيه مع لسانيات
النص ، إذا ما أخذنا نحللها وفق المنظار الذي نريد ، فإن الكلم سيبدو لنا
أجسادا لها أعناقها المتعالية ، وتلاحمها الشديد يتبين لنا من خلال لفظ
الأخذ بالرقاب .
أما إذا رجعنا إلى هذه القضية من منظور لساني حداثي ، فإن المختصين
أنفقوا الكثير من أوقاتهم ومن جهودهم من أجل أن يحددوا مفهوم الاتساق
والانسجام أو السبك أو الترابط ، فقد كثرت المصطلحات وتعددت المفاهيم ،
ولعل مرجع ذلك إلى أن كل واحد من هؤلاء نظر إلى القضية من الزاوية التي
يريد الغوص من خلالها إلى الدرس اللغوي ، كما أن للسبق التاريخي تأثيرا
على ذلك ، فحداثة لسانيات النص وضبابية مفاهيمها -خاصة في البداية - أدى
إلى ذلك الغموض ، كما أن لتعدد المدارس المتناولة للموضوع ، ولتعدد
الوجهات التي تنظر بها أثرا في ذلك .
وإلى( هارفنج ) تعزى أول محاولة (1968) جادة لوصف التنظيم الذاتي
الداخلي للنصوص من خلال الحديث على بعض العلاقات التي تسودها مثل علاقة
الإحالة والاستبدال مشيرا إلى التكرار والحذف والترادف والعطف والتفريع و
الترتيب ، وذكر النتيجة بعد السبب والجزء بعد الكل أو العكس ، وهذا كله
مما يقع في دائرة الترابط و الاتساق الداخلي للنص ( ) .
إن الاتساق بهذا المفهوم ، " لن يكون موجودا في النص إلا إذا توافر
على الآليات التي تجمع النص عموما والتي يقسمها ( فان دايك ) إلى
مجموعتين ، إحداها مجموعة الروابط المنطقية ، وبعضها طبيعي ينبع من
طبيعة التركيب اللغوي " ( ) وهذا الطبيعي المتعلق بطبيعة التركيب اللغوي
هو الذي يعنينا نحن في دراستنا للاتساق ، ذلك لأن الاتساق إنما يكون في
خطية النص وتركيبه ، والذي ينشئه هو الكلمات المتراصفة بعضها إلى جانب
الأخرى والتي يأخذ بعضها بعنق البعض الآخر .
والجدير بالملاحظة في هذا المقام أن مصطلح الاتساق يعاني أيضا شيئا من
عدم الضبط في تحديد المفهوم ، لأن بعضا من الباحثين قد يعطيه من الدلالة
ما لا يحتمل، أو يعطيه معنى غير دقيق، فقد يطلقه بعضهم على التماسك
النحوي كما يفعل إبراهيم خليل في كتابه في اللسانيات ونحو النص ( )، كما
نجد إبراهيم الفقي يتحدث عنه فيقول : " أما مصطلحا (cohesion and
coherence) فهما يتصلان بالتماسك النصي داخل النص و يرتبطان بالروابط
الشكلية والدلالية ولهما أدوات وأنواع"( ).
ومهما يكن من أمر في عدم دقة هذا المصطلح ، فإننا نتبنى الفهم الذي
يجعل الاتساق مرتبطا بالجانب الخطي للنص ، وانطلاقا من ذلك فإننا نورد
أشكال الاتساق :
- أشكال الاتساق
للاتساق من المنظور اللساني أشكال متعددة ، حددها علماء لسانيات
النص ، وبينوا كيف تكون هذه الأشكال مؤدية للاتساق النصي ، ومن أشهر
الذين اهتموا بهذا الموضوع وإليه يرجع أغلب الباحثين في ميدان لسانيات
النص - خاصة باب الاتساق والانسجام - الثنائي هاليداي ورقية حسن في
كتابهما (الاتساق في الإنجليزية ) وهو الكتاب الذي بين فيه المؤلفان
أوجه الاتساق في اللغة الإنجليزية .
وبغض النظر عن تطابق تلك الآراء والنظرات مع العربية أو عدم تطابقها
،فإننا نورد كثيرا من آراء العالمين لأنها في رأينا تمثل أحسن ما يمكن أن
نعتمد عليه ، مقتدين بالذين سبقوا في هذا الميدان وأهم هذه الأشكال :
1- الإحالة
يمكن لنا أن نذهب بعيدا ونحن نتحدث عن مفهوم الإحالة ، ذلك أن معناها
قد تغير بدءا من حخول المصطلح إلى ميدان لسانيات النص ، فالمفهوم
التقليدي لها هو تلك العلاقة الموجودة بين الأسماء ومسمياتها ألست حين
تقول:" شجرة " قد أحلت المخاطب إلى شيء ينمو على الأرض له أوراق وجذع
وأغصان؟ ، ألست تلفت نظره مِنْ عِنْدِكَ إلى هذا الشيء غير الموجود أمامك
؟ ، إننا لولا هذه الإحالات التي تغنينا عن كثير من المتاعب لكنا ملزمين
بأن يحضر المتحدث منا ما لا يستطيعه ، حتى يمكنه التواصل ؛ إنه حين يقول
مثلا : جرت السفينة في البحر ، لولا الإحالة لكان المتحدث مجبرا على
إحضار البحر وإحضار السفينة أو على الأقل لن يكون قادرا على تلفظ هذه
العبارة ما لم يكن على شاطئ البحر، لكن والحال هذه فإن المتحدث بطريق
الإحالة يتحدث عن أشياء هي في ذهن السامع ، وما على السامع إلا أن يعمل
فكره ليفهم المعنى ، وما عليه إلا أن يستفز ذاكرته ليحدث التواصل .
والظاهر أن هذا المفهوم هو الذي ذهب إليه كثير من الباحثين، إذ
يقول (جون لاينز)في سياق حديثه عن المفهوم الدلالي التقليدي للإحالة :"إن
العلاقة القائمة بين الأسماء والمسميات هي علاقة إحالة ، فالأسماء تحيل
إلى المسميات"( ) وتذهب مريم فرانسيس إلى أن " ما ندعوه إحالة يعبر عنه
بشكل عام في اللغة الفرنسية reference ... وما يوازي مرجع في العربية
" ( )
1-1- الإحالة من حيث موضع التواجد :
يمكن أن نقسم الإحالة إلى أنواع انطلاقا من الزاوية التي ننطلق منها ،
وهذه الأقسام هي :الإحالةُ من حيثُ العلاقةُ بالنصِ ، والإحالةُ من حيثُ
سبقُ المرجعِ ،والإحالةُ من حيثُ المدى .
فأما الإحالة من حيث العلاقة بالنص فتنقسم إلى نوعين :الأولى إحالة
داخل النص ويطلق عليها أيضا إحالة داخل اللغة ، والثانية إحالة خارج النص
ويطلق عليها إحالة خارج اللغة.
1-1-1- إحالة خارج النص أو خارج اللغة :
وهي " الإحالة التي يحيل فيها المتحدث إلى شيء غير موجود في النص ،
ويمكن تسميتها بالإحالة لغير مذكور ، أو لمرجع متصيد exophora أي :
الإتيان بالضمير للدلالة على أمر ما غير مذكور " ( ) ، و علاقة هذه
الإحالة بالنص علاقة ارتباط لا علاقة تنافر لأن الذي يعين على تفسيرها
هو السياق ؛ يقول روبرت دي بوجراند : " تعتمد الإحالة لغير مذكور في
الأساس على سياق الموقف contex شأنها في ذلك شأن الإحالة لمذكور سابق
anaphora والإحالة لمتأخر catphora" ( ) ، كأن يبدأ المتحدث حديثه مثلا
عن الجامعة فيقول : الجامعة معلم حضاري كبير ، ويواصل حديثه عنها ، فإن
المخاطب في هذه الحال مرغم على أن يسرح بخياله ، ليبحث في معارفه
السابقة ليجد شيئا رآه سابقا اسمه الجامعة ، ليحدث التواصل بينه وبين
الذي يخاطبه ، وهو هنا قد خرج إلى خارج النص ، فسميت الإحالة إحالة خارج
النص أو إحالة خارج اللغة.
1-1-2- إحالة داخل النص أو داخل اللغة :
وهي " إحالة على العناصر اللغوية الواردة في الملفوظ" ( ) ، وينظر
إلى هذه الإحالة من عدة زوايا ، ووفق كل نظرة يمكن لنا أن نقسمها إلى
أنواع فإذا نظرنا إلى السابق أهو العنصر المحال أم العنصر المحال عليه
قسمناها إلى إحالة سابقة وإحالة لاحقة ، " ذلك لأن العلاقات الداخلية
بدورها تنقسم إلى قسمين : بعضها يلتفت إلى الوراء أي إلى ما سبق ...
وبعضها يلتفت إلى الأمام " ( )
وأما من حيث سبق المرجع : فهي نوعان :
1-1-3- إحالة على السابق أو إحالة على اللاحق :
أي أن يكون الكلام فيها ذا اتصال بجزء من الخطاب كان قد مر سابقا ،
تَعَرَفَ فيهَ المخاطبُ على المرجعِ لا على أنه مرجعٌ ، بل على أنه عنصرٌ
من الخطابِ لا غير ، ولذلك فالإحالةَ على السابقِ ، " تعودُ على مفسِرٍ
سبق التلفظ به " ( ) و هناك من يسميها :الإحالةُ إلى الوراءِ ( ) ، كقول
المتحدثِ: انظرْ إلى السماءِ إنها صافيةٌ ، ففي هذه العبارةِ استعملَ
المرجعَ الذي هو (السماءُ) مذكورا ذكرا كاملا على أَنَهُ عنصرٌ من
عناصرِ الخطابِ لا على أنه مرجع ، ثم جيء بعد ذلك بذكره فقط على سبيل
الإضمار في الهاء من قولنا : إنها .
1-1-4- إحالة على اللاحق :
و تسمى الإحالةُ إلى الأمامِ، كقولِ من يحدثك : إنها رائعةُ الجمالِ
اليومَ ، السماءُ ...، ما أجملَ زرقتَهَا ، وفي هذه العبارةِ أحالَ فيها
المخاطبُ مستمعَهُ إلى مقصودٍ يُذْكَرُ بعدَ ذِكْرِ الضميرِ ، فالهاءُ في
قولِهِ "إنها " عائدةٌ على السماءِ لكنَ السماءَ لم تُذْكَرْ إلا مِنْ
بعدِ ذلكَ .
و أما من حيث المدى: فذلك إذا نظرنا إلى تجاور العنصرين المعنيين (المرجع
والعائد) ، أو تباعدهما فإن الإحالة ، تكون قريبة وبعيدة .
1-1-5- إحالة قريبة :
وهي التي يكون عنصراها المحال والمحال عليه موجودين داخل الجملة
الواحدة كقولك :الطفل علمه أبوه فالضمير الهاء الموجود في
قولك (علمه) وقولك (أبوه) يعودان على الطفل الذي هو لفظ سابق و بها تكون
هذه الإحالة إحالة قبلية ، لأن المرجع كان سابقا ، ولأنهما كانا موجودين
في جملة واحدة فإن الإحالة قريبة .
1-1-6- إحالة بعيدة:
وهي الإحالة التي يكون العنصر المحال عليه في غير الجملة التي ينتمي
إليها العنصر المحال وتكون درجة التباعد بقدر بعد العنصرين بعضهما عن
بعض.
-2- أشكالها اللفظية :
للإحالة ألفاظها التي يعتد بها وهي الضمائر وأسماء الإشارة و (ألـ)
وأدوات المقارنة وتتميز الإحالة بأنها تخضع لقيد دلالي وهو وجوب تطابق
الخصائص الدلالية بين العنصر المحيل والعنصر المحال إليه( ) .
و يمكن أن تتمثل هذه الأشكال في ما يلي:
1-2-1- الإشارة أو الكنايات :
و هي" مفهوم لساني يجمع كل العناصر اللغوية التي تحيل مباشرة على المقام
من حيث وجود الذات المتكلمة أو الزمن أو المكان ، حيث ينجز الملفوظ والذي
يرتبط به معناه ، ومن ذلك : الآن ، هنا ،هناك أنا ، أنت ، هذا ، هذه" (
) ومن الكنايات ما يلي:
1-2-1-1- الضمائر :
" تتفرع الضمائر في العربية حسب الحضور في المقام أو الغياب إلى فرعين
كبيرين متقابلين هما : ضمائر الحضور و ضمائر الغياب ، ثم تتفرع ضمائر
الحضور إلى متكلم هو مركز المقام الإشاري وهو الباث ، وإلى مخاطب يقابله
في ذلك المقام و يشاركه فيه و هو المتقبل " ( ) ذلك أن بعضا من الكلمات
قد يحل محل بعض فتحل الضمائر محل الأسماء وتقوم مقامها غير أن لها محتوى
دلاليا أصغر ( ) وتعد الضمائر أفضل الأمثلة على الأدوات التي يستعملها
المتكلمون للإحالة على كيانات معطاة ، فلو أردنا تحري الحقيقة ، على ماذا
يحيل ضمير المفرد الغائب (هو)لو أخذ منعزلا لما وجدنا له معنى خاصا يتفرد
به ولا يرتبط فيه بلفظ آخر ، بل نجده يشير دوما إلى المرجع الذي يعود
عليه ، وقد أدى هذا بالعديد من اللغويين إلى القول بأن صيغة اسمية مثل
(هو)ليست في الواقع أداة محيلة ، وأنها لا تستعمل إلا في الإحالة داخل
النص أي داخل نص يحتوي كذلك على صيغة اسمية كاملة "( )
ويقسم بعضهم الضمائر إلى ضمائر وجودية مثل أنا ،أنت ،هو، هم ...إلخ
وإلى ضمائر ملكية مثل كتابي ، كتابك ، كتابهم ، كتابه ، كتابنا ...إلخ(
) ، وإذا نظرنا إلى الضمائر من زاوية الاتساق ، أمكن التمييز فيها بين
أدوار الكلام التي تندرج تحتها جميع الضمائر الدالة على المتكلم والمخاطب
و هي إحالة لخارج النص بشكل نمطي ، ولا تصبح إحالة داخل النص ، أي
اتساقية ، إلا في الكلام المستشهد به ( )
1-2-1-2- أسماء الإشارة
مفهوم اسم الإشارة ذلك اللفظ الذي يستعمله المتكلم للدلالة على الشخص
المتحدث عنه المشار إليه ، فإذا كانت الضمائر تحدد مشاركة الشخوص في
التواصل أو غيابها عنه فإن أسماء الإشارة تحدد مواقعها في الزمان
والمكان داخل المقام الإشاري .وهي تماما مثلها لا تفهم إلا إذا ربطت بما
تشير إليه ( ).
1-2-2- أدوات المقارنة :
وتكون المقارنة عن طريق أسماء التفضيل ، و " تعد بناء لغويا معبرا
عن قيمة عالية لدى المبدع ، لتقديم رؤياه وتشكيلها اعتمادا على عالمين
يصنعهما بذاته ، ويقدمهما لمتلقيه بعيدا عن لغة المعنى المكشوف"( ) إذ أن
صيغة التفضيل تستعمل للربط بين لفظين، ويقصد بها تبيين أن الأول أكثر
استيعابا للأمر المذكور من الثاني .
وتكون المقارنة أيضا بالتشبيه ، لأن التشبيه يؤتى به لبيان أن شيئين
اشتركا في صفة أو مجموعة من الصفات كقول أمري القيس الكندي ) طويل ):
كأن قلوب الطير رطبا ويابسا لدى وكرها العناب
و الحشف البالي
فاستعمال امرئ القيس للتشبيه المزدوج الذي شبه فيه شيئين بشيئين ،
شبه قلوب الطير الرطبة واليابسة من جهة ، بالعناب و الحشف البالي من جهة
أخرى ، كان أمارة كبيرة على وجود اتساق في هذه العبارة ومتى كان التشبيه
في عبارة عد دليلا على ذلك ، لأنه جمع الأمر بالأمر الذي يشترك معه في
خاصية أو في مجموعة من الخصائص .
2- الربط بالأداة
بعد النظر في وجوه الربط بالأداة بين الجمل نتبين أن حضور أداة الربط
مشروط بالخلاف بين الجملتين أو المقطعين المتصلين أو المتباعدين
مشروط بالخلاف بين الجملتين أو المقطعين المتصلين أو المتباعدين ، ومصطلح
الخلاف يجمع عددا من الوجوه. ( )
ـ تعاقب في الذكر : وتدخل تحت هذا الصنف بعض أحرف العطف كالفاء وثم
اللتين تفيدان أن الثاني مرتبط بالأول ارتباطا ترتيبيا تعاقبيا، فالثاني
منهما يعقب الأول ، مع اختلاف في الزمن الفاصل بين الأسلوبين ، إذ
(الفاء) تفيد الترتيب والتعقيب دون مهلة زمنية ، أما (ثم) تفيد الترتيب
والتعقيب مع وجود مهلة زمنية .
ـ تعاقب على أساس السببية : ويدخل تحته في العربية أدوات الشرط نحو: إن
تخرج أخرج ، فالخروج الذي يفترض أن يقع مني في هذا المثال ،مرتبط بسببية
الخروج الذي يقع من المخاطب في المثال .
ـ تعاقب على أساس إضافة عنصر إخباري جديد : ويدخل تحته أحرف الجر ففي
قولك : صلى المسلمون صلاتهم في المسجد، فلما أضفت الحرف (في)كان مفترضا
أن تضيف عنصرا إخباريا جديدا .
ـ تعاقب على أساس الترديد والذكر: يدخل تحته الحرف العاطف (أو)
3- إعادة اللفظ (التكرار):recurrence
هي واحدة من الطرق التي تلجأ إليها اللغة للربط والتي استعملتها
اللغات كثيرا و " تعد إعادة اللفظ في العبارة السطحية التي تتحد
محتوياتها المفهومية و إحالاتها من الأمور العادية في المرتجل من الكلام
"( ) وإعادة اللفظ له شروطه التي تجعله مؤديا للوضوح ، لا مؤديا إلى
الغموض ، فإذا كان اللفظ مكررا بشكل كبير ، وكان المرجع غير واحد ، فإننا
في ذلك الوقت قد جعلنا المستمع أو القاري يتيه في غمرة البحث عن المرجع ،
ولذلك " تتطلب إعادة اللفظ وحدة الإحالة ...ولكنها قد تؤدي إلى تضارب في
النص حين يتكرر المشترك اللفظي مع اختلاف المدلولات (جينز فيل سن) ( )
ويمكن أن يكون اللفظ المعاد كاملا أو أن تكون الإعادة لبعض منه فقط ، كأن
يقول المتحدث : قام رئيس الجمهورية بزيارة إلى مدينة كذا ، وقد فعل رئيس
الجمهورية ...، وعاد رئيس الجمهورية إلى العاصمة ، فأنت تلاحظ إعادة لفظ
(رئيس الجمهورية) ، كما يمكن أن يكون اللفظ المعاد جزءا نحو قولك : زار
رئيس الجمهورية مدينة كذا ، وقد دشن الرئيس كذا ، وعاد الرئيس إلى
العاصمة ( )
لذلك لابد من قيود تضبط هذه العملية فإن إعادة اللفظ قد تكون ضارة
خاصة إذا كان النص طويلا ، يقول الدكتور تمام حسان مترجما : ويمكن لإعادة
اللفظ في العبارات الطويلة أو المقطوعات الكاملة أن تكون ضارة لأنها تحبط
الإعلامية ما لم يكن هناك حافز قوي( ) ، وللإعادة صور متعددة منها
الإعادة الصريحة ، والإعادة من خلال الضمير ، والإعادة الضمنية .
الإعادة الصريحة : ويسميها بعضهم التكرار المحض ( ) وهو متعلق باستعمال
المتكلم لتعابير معينة في وضعيات معينة يفرضها عليه المقام وهي التي تحدث
عنها كلاوس برينكر لما قال: إذ يكرر تعبير معين (كلمة أو ضميمة مثلا) من
خلال تعبير أو عدة تعبيرات في الجمل المتتابعة للنص"( ) ، وهذا التكرار
نوعان :
ـ تكرار مع وحدة المرجع أي أن يكون المسمى واحدا
ـ تكرار مع اختلاف المرجع
إن هذا التكرار ليحقق فائدة عظيمة حينما يكرر المتحدث اللفظ ، إذ أن
الكلام عند ذلك يبتعد عن الافتقار إلى ما يكمله ،ومن ذلك ما يذهب إليه
حازم القرطاجني في المنهاج حينما يتحدث عن أبيات الخنساء بسيط )
وإن صخرا لوالينا وسيدنا وإن
صخرا إذا نشتو لنحار
وإن صخرا لتأتم الهداة به كأنه
علم في رأســه نار
فيقول : " ولو قالت وإنه لتأتم الهداة به فأضمرت ، لكان البيت ناقصا
مفتقرا . وإنما أظهرت لفظ (صخر)ثانيا وثالثا تباعدا عن الافتقار" ( )
الإعادة غير الصريحة : وتسمى أيضا التكرار الجزئي ( ) وذلك حينما يكرر
المتحدث الأمر المتحدث عنه لكن بغير لفظه بل بالمرادف مثلا ، ومن صورها
:
الإعادة من خلال الضمائر :
تتمثل الإعادة بالضمير في أن يتطلب المقام لفتا لنظر القارئ أو
المستمع ، ليكون متابعا لسياق مترابط متكامل ، بأن يعيد حديثه ولو بجزء
منه متمثلا في ذكر الضمير المحيل إلى الأصل ، وقد مر بنا الحديث عن
الضمائر كواحدة من أنواع الإحالة
منه متمثلا في ذكر الضمير المحيل إلى الأصل ، وقد مر بنا الحديث عن
الضمائر كواحدة من أنواع الإحالة
أمثلة التكرار:
يقول توفيق زياد ( ):
بأسناني
سأحمي كل شبر من ثرى وطني
بأسناني
و لن أرضى بديلا عنه
لو علقت من شريان لشرياني
أنا باق
أسير محبتي لسياج داري
للندى ، للزنبق الحاني
أنا باق
و لن تقوى علي
جميع صلباني
أنا باق
سأحمي كل شبر من ثرى وطني
بأسناني .
4- الاستبدال:
وذلك أن يستبدل المتحدث لفظا بلفظ آخر له المدلول نفسه ، وهو ركيزة
مهمة في بناء أي نص على المستوى اللساني ( )، وهذا إما بأن يستبدل مفردة
بمفردة أخرى ، كأن تسمع متحدثا يقول: نجح ابني في الامتحان ، فقلت له :
يا محمد سأعطيك جائزة ، فقد استبدلت كلمة (ابني) بكلمة (محمد) ،
فالكلمتان لهما نفس المعنى ، كما يمكن أن تستبدل مفردة معجمية بمفردة
نحوية أخرى. كأن تقول : هذا كتاب قرأته ، لابد أن اشتري واحدا آخر ، فأنت
استبدلت كلمة (كتاب)بكلمة (واحد) وهذا نوع من أنواع الاستبدال التي تنص
عليها لسانيات النص .
5- التحد يد :
مما ينسب إلى أداة التعريف أنها تتقدم العبارات الدالة على ما سبق
ذكره ، كما ينسب إلى أداة التنكير أنها تسبق ما لم يذكر من قبل ( ) يدخل
تحت هذا الباب (ألـ) العهدية في العربية ومنه قوله تعالى في سورة النور:
" الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح ، المصباح في
زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري ، يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا
غربية " فكلمة(المصباح)ضمت إليها (ألـ) التي تسمى عهدية ، لأن ما اتصلت
به معهود في ذهن القارئ أو السامع ، ومثل ذلك كلمة الزجاجة التي ضمت
إليها (الـ) .
6- الحذف :
هو:"علاقة داخل النص، بحيث يوجد العنصر المفترض في النص السابق، وهذا
يعني أن الحذف عادة علاقة قبلية."( ) أي أن العنصر المحذوف يشكل علامة
دلالية مع العنصر السابق تحدث اتساقا ما بين أجزاء النص. "فإنك ترى فيه
ترك الذكر أفصح من الذكر، والصمت عن الإفادة أزيد للإفادة، وتجدك أنطق ما
تكون إذا لم تنطق ، وأتم بيانا إذا لم تبن.( )
وقد قسم هاليداي ورقية حسن الحذف إلى ثلاثة أنواع هي:
6-1- الحذف الاسمي: ويقصد به حذف اسم داخل المركب الاسمي مثل:
أي قميص ستشتري؟ هذا هو الأفضل، أي هذا القميص.
6-2- الحذف الفعلي:أي أن المحذوف يكون عنصرا فعليا مثل:
ماذا كنت تنوي؟ السفر الذي يمتعنا برؤية مشاهد جديدة، والتقدير أنوي السفر.
6-3- الحذف داخل شبه الجملة: مثل: كم ثمن هذا القميص؟ خمسة جنيهات( ).
يتضح مما سبق أن الحذف يقوم بدور معين في اتساق النص، وإن كان هذا الدور
مختلفا من حيث الكيف عن الاتساق بالاستبدال والإحالة، وأن المظهر البارز
الذي يجعل الحذف مختلفا عنهما هو عدم وجود أثر عن المحذوف فيما يلحق من
النص.
والحذف في الحقيقة لا يختلف عن الاستبدال إلا بكون الأول استبدال بالصفر
فالاستبدال يترك أثرا في حين أن الحذف لا يترك الأثر ، وذلك يعطي للقارئ
مادة يستطيع من خلالها أن يكتشف العنصر المقصود، والذي يعين على ذلك هو
أن النص بناء يقوم على التماسك و الاتساق وهذان العاملان يساعدان منشئ
النص على الاختصار ، وعدم الإطالة بذكر معلومات فائضة
الانسجام
الانسجام نظرة تاريخية
عني علماؤنا الاولون عناية كبيرة بهذه القضية اللغوية ، و من الذين
تناولوها عبد القاهر الجرجاني (471) الذي كان متأثرا بجهود الباقلاني
(403) المهتم أكثر بالإعجاز ، و قد عمد الجرجاني إلى ربط العلاقة بين
المكون النحوي والمكون الدلالي ، ومن المهتمين أيضا بذلك ابن رشد (595)
، و حازم القرطاجني (684) ، و كذلك الإمام الشاطبي (790) ، كما كان
لعلماء التفسير أثرهم في هذا الميدان ومنهم الزركشي والسيوطي (911) و
الطبري ومن علماء العصر الحديث سيد قطب و سعيد حوى .
جهود المدرسة الأنجلو أمريكية :
ترى معظم الدراسات أن الإرهاصات الأولى لهذا العلم إنما هي دراسات
أمريكية بداية من ما كتبه هاريس (1952) ثم تطور هذا العلم مع بليت (1975)
و دريسلور (1977) ، وأخيرا ما كتبه هاليداي ورقية حسن في كتابهما
الموسوم الاتساق في الانجليزية الصادر بلندن عام (1971)، ولعل من الجهود
التي أعانت على ذلك جهود نعوم تشومسكي و ما أحدثت من ثورة في الدراسات
اللغوية .
ومن المهتمين بهذا النوع من الدراسات الأمريكي روبرت دي بوجراند
الأستاذ بجامعة فلوريدا والذي ألف كتابه المشهور النص والخطاب والإجراء
الصادر عام (1980) ، و فيه حدد المعايير التي تقاس بهانصية النص
جهود المدرسة الفرنكوفونية
جون ميشال أدام :
ألف جون ميشال أدام كتابين الأول عد إلى ص 60
وقد جاء الكتاب الثاني مرتبطا بالأول و يهدف إلى مزيد من الدقة و التحديد
بعد سنوات من البحث، و تتفق الدراسات اللغوية الحديثة على أهمية الجهود
التي قدمها فان دايك( )، وأنه أسهم إسهامات كبيرة في ميدان الدراسة
النصية خاصة ما تعلق منها بالانسجام فقد تجاوز بجهوده ما قدمته المدرسة
الانجلوسكسونية ، والمدرسة الفرنسية و من أهم أعماله في هذا الباب :
- النص والسياق 1977 - علم النص : مدخل متداخل الاختصاصات 1980
ومن أهم ما يمكن أن يلاحظ على جهود فان دايك أنه هدم الحواجز الفاصلة
بين علم الأدب وعلم اللغة ثم كسر الحاجز الذي يفصل علم اللغة عن غيره من
العلوم و قد هدف إلى النظر إلى النص من زاويتين
الأولى : النظر إلى النص من الدخل
الثانية : النظر إلى النص من خلال العلاقة مع المتلقي
لغة :
ورد في لسان العرب أن المادة (س ج م ) تدل على عدة معان أهمها : سجم
: سجمت العين الدمع والسحابة الماء تَسجِمُه و تسْجُمُهُ سجما و سجوما و
سجمانا : و هو قطران الدمع و سيلانه ، قليلا أو كثيرا ، و كذلك الساجم من
المطر .
والعرب تقول دمع ساجم ، ودمع مسجوم : سجمته العين سجما
والمتتبع للمادة اللغوية ( سجم ) يجد أنها ارتبطت بمفاهيم أهمها القطران
و الانصباب و السيلان
اصطلاحا :
يعني فان دايك بالانسجام ( الأبنية الدلالية المحورية الكبرى و هي
أبنية عميقة تجريدية ) و بخلاف ذلك بين أن الاتساق يتمثل في الأبنية
النحوية الصغرى و هي أبنية تظهر على مستوى سطح النص ( )، ولعلنا من خلال
هذا التعريف الصادر عن فان دايك يتبين لنا أنه يرى أن الاتساق أمر يتعلق
بالجانب النحوي التركيبي في حين أن الانسجام يتعلق بالجانب الدلالي .
أما ديسلر :
فإنه أطلق مصطلح التماسك النصي على الانسجام و بين أنه يتعلق بالبنية
المحورية للنص وبين التصورات و العلاقات الأساسية في عالم النص ( ).
تعريف روبرت دي بوجراند :
ألف الأمريكي روبرت دي بوجراند الأستاذ بجامعة فلوريدا كتابه المشهور
النص والخطاب والإجراء عام (1980) ، والمعايير التي تجب للنص ليكون نصا
عند روبرت دي بوجراند :
1-السبك : النظام ، الربط
2-الالتحام ، التماسك ، الانسجام : ويشمل العناصر المنطقية كالسببية والعموم
3-القصد : و يشمل موقف المنتج من القضية المطروحة وهدفه من بناء نص متماسك
4-القبول : و يتعلق بالمتلقي و قبوله للنص أو عدم قبوله انطلاقا من صحة
القواعد النحوية
5-رعاية الموقف : أي الموقف الذي ولد فيه النص
6-التناص : وذلك من خلال علاقة النص بالنصوص السابقة تأثرا وتأثيرا
7-الإعلامية :وهي المحتوى الدلالي الذي يريد النص تقديمه
-أدوات الانسجام
1-التأويل :
يحتاج القارئ لكي يفهم النص المقروء إلى جهد تأويلي يمكنه من رصد
العلاقات الخفية الرابطة بين أجزاء النص ، خاصة إذا كان للفظ الواحد
مفاهيمُ قد تتغير و لا يضبط مفهومها حتى يعرف السياق الذي وردت فيه و
التأويل كما قال صاحب اللسان ( نقل ظاهر اللفظ عن وضعه الأصلي إلى ما
يحتاج إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ ) ولعل هذا هو المفهوم الذي ذهب
إليه عبد القاهر الجرجاني في المعنى ومعنى المعنى
ونمثل لهذا المظهر بقول الشاعر عثمان لوصيف :في قصيدة له بعنوان " الطيب
صالح "( )
يا عنترة العبسي
هذا موسم الهجرة ...قم
قم نهاجر عبر هذا الأزرق الممتد
حتى نهتدي نحو الشمال
نحن أبناء الجنوب الحي
أبناء اللهب
أرضنا تزخر تبرا
و رحيقا ينسكب
و المجاعات...
المجاعات ...
هنا تنخر مثل السوس في أعظمنا
يا...للعجب
فنداء الشاعر في بداية هذه القطعة يجعلناة نفكر في الذي يعنيه عثمان
لوصيف بقوله عنترة العبسي ، غيرأن العنوان الذي هو الطيب صالح و بعض
كلمات القصيدة كقوله موسم الهجرة إلى الشمال ، وقوله نحن أبناء الجنوب
الحي يجعلنا نقول : إن الذي يقصده الشاعر هو الطيب صالح الشاعر السوداني
صاحب موسم الهجرةإلى الشمال.
السياق
( إنه يعني الانزلاق من المستوى التحليلي إلى مستوى آخر يتعلق بظروف
إنتاج الخطاب) ، فالمرسل والمتلقي وزمان النص و مكان إنتاجه و الحالة
النفسية للمرسل أو المتلقي كلها عوامل محددة للسياق و في المثال الموالي
نتبين دور السياق في تحديد المعاني الحقيقية للنص ،و إليك النص التالي من
الرسالة السابقة الذكر رسالة الاتساق والانسجام في شعر عثمان لوصيف .
يتهاوى من رصيف لرصيف
ثم يعدو من نزيف لنزيف
ساحبا خفي حنين
طاوي البطن
يصوم الدهر من غير ثواب
حاملا أدوية أو وصفات
لكناريته ...تلك العليلة
فإذا ما خيم الليل
كرها إلى كوخ
من القصدير و الألواح
حيث البرد ... والبق
وحيث القطط الكسلى الذليلة
إننا إذا عرفنا السياق الذي ولد فيه النص فهمنا أن الكناري المقصود
ليس حيوانا بل هو شيء آخر ، و إذا عرفنا أن النص ولد بالجزائر العاصمة
يوم 19-12-1996 ،و عرفنا أن هذا التاريخ يمثل مرحلة المعاناة للشاعر مع
زوجته المريضة وأن هذا التاريخ بالضبط كان متواجدا فيه بالعاصمة لمعاجة
الزوجة، وهذا يجعلنا نقر أن السياق له دورفي فهم النص وفي تبيين انسجامه
.
3-الفهم المحلي :
يرتبط هذا المفهوم بما ورد قبله إذ أن المتلقي أو السامع يكون في
هذا مجبرا على أن لا يوسع فهمه للسياق بل يجب أن يكون فقط وفق الذي يناسب
المقام فهو كما يقول محمد خطابي : يعتبر تقييدا للطاقة التأويلية لدى
المتلقي ، ويكون ذلك حينما يقدم الكاتب حيزا زمانيا أو مكانيا وهنا سوف
يتفاعل معه القارئ بمعرفة الحيز غير أن الكاتب يغير هذا الحيز وفق ما
يرسمه في نصه أو عن شخصيته أو عن حوادث الموضوع حينذاك يجد القاري نفسه
ملزما بالالتزام بالحيز المذكور ، ومن ذلك قول الشاعر الفلسطيني سميح
القاسم
ياعدو الشمس ..
في الميناء زينات و تلويح بشائر ..
و زغاريد و بهجة
و هتافات وضجة
و الأناشيد الحماسية وهج في الحناجر
و على الافق شراع
يتحدى الريح .. و اللج .. ويجتاز المخاطر
إنها عودة يوليسيز
من بحر الضياع ..
عودة الشمس وإنساني المهاجر
و لعينيها وعينيه .. يمينا ..لن أساوم ..
و إلى آخر نبض في عروقي
سأقاوم ..
سأقاوم
فالفهم المحلي يحد من طاقتنا التأويلية التي ربما تجعلنا نذهب بعيدا
حينما نسمع كلمة يوليسيز ، فإذا ضبطنا القوة التأويلية كنا محل بحث عن
المقصود ووجدنا أن المقصود هو الشعب الفلسطيني المشرد المبعد عن وطنه .
-القياس
يقول براون ويول ( يمثل مبدأ القياس إحدى الأدوات الأساسية التي تمكن
السامعين والمحللين من تحديد فهمهم داخل السياق ، فهم يفترضون أن كل شيء
سيبقى على ما كان عليه ماداموا لم يعطوا إشعارا خاصا بتغير إحدى الخصائص
،...فهو يحدد للقارئ أو السامع إطارا مضمونا إلى حد ما لعملية الفهم .
5- العلاقات:
ينظر عادة إلى العلاقات التي تجمع أطراف النص أو تربط بين متوالياته (أو
بعضها) دون وسائل شكلية تعتمد في ذلك عادة على أنه علاقات دلالية( )مثل
علاقات العموم والخصوص، السبب/ المسبب، المجمل/ المفصل، وهي علاقات
متواجدة عبر مساحة النص محققة تماسكا دلاليا بين بنياته، كما أنها لها
دور الإخبارية من أجل تحقيق درجة معينة من التواصل. "بيد أن النص الشعري
قد يوحي بعدم الخضوع لهذه العلاقات، ولكنه ما دام نصا تحكمه شروط الانتاج
والتلقي فإنه لا يتخلى عن هذه العلاقات."( ) لأنها قائمة في بنيته
الدلالية التي تربط النص أو أجزائه عبر هذه العلاقات المعنوية.
6- موضوع الخطاب:
ويعرّف الموضوع على أنه:"نواة مضمون النص حيث يسمي مسار الأفكار القائم
على موضوع أو عدة موضوعات في نص ما، ويتحقق موضوع النص إما في جزء معين
من النص أو نجرده من مضمون النص وذلك بطريق العبارة المفسرة الموجزة
المختصرة." ( )
إن موضوع الخطاب يعد مركزا أساسيا تدور حوله الأقوال التخاطبية التي
تستمد منه عملية الامتداد عبر كامل النص. "ونستطيع أن نحدد مفهوم
"الموضوع" عبر حدسنا اللغوي الذي يمكننا من وصف ذلك المبدأ الجامع الذي
يجعل من مقطع خطابي ما حديثا عن شيء ما."( )
ولقد أضاف الدارسون إلى موضوع الخطاب مفهوم التخاطب الذي يقتضي اثنين في
العملية التخاطبية وبخاصة في النص الشعري باعتباره خطابا متعدد الأصوات،
ويظهر ذلك من خلال حوارية مقطعية داخلية، بحيث يساهم كل مقطع في علاقته
بسائر المقاطع في بناء موضوع الخطاب، ولذلك قال مورجان:"أن المواضيع لا
توجد في الجمل، بل لدى المتكلمين."( )
ويطلق لفظ "الحوارية" على البعد التفاعلي للغة، أكان شفويا أو مكتوبا، و
"الحوارية التفاعلية تحيل كذلك على التجليات المتنوعة للتبادل الكلامي."
فالمشاركون يعبر عنهم بالأسماء أو الضمائر والأحوال والصفات والأماكن و
الأزمنة.
وقد اقترح الباحثان يول وبروان مفهومين فعالين في تقييد موضوع الخطاب،
وفي جعله أكثر ارتباطا بإطاره العام وهما: " قاعدة الوجاهة وإطار
الموضوع". هذا الأخير الذي يتمثل في الملامح السياقية التي تنعكس على
النص بوصفه البناء الشكلي الذي يتمثل فيه القول، وتستمد الخصائص السياقية
كتبديل الشفرة والعلاقات القائمة على مبدأ توزيع الأدوار في العملية
التواصلية والأدوات الاشارية مثل:"أنا" و "أنت" و "هنا" و الآن"- بطبيعة
الحال من السياق المادي فهي تقع خارج النص، ومنها ما يستمد من داخل
الخطاب نفسه. أما قاعدة الوجاهة فهي مبدأ تداولي ينضبط به التخاطب، وهو
في معناه اللغوي هو "مقابلة الوجه للوجه" ." وفيه يعتمد المتخاطبان على
مبادئ كالتعاون والتعفف لتخفيف حدة الخطاب التهديدي حتى تسهل عملية
التبادل التخاطبي وهو يقابل "مبدأ التأدب عند لاكوف من جهة أخذه بالجانب
العملي من التهذيب."(2) وعليه فإن العملية التخاطبية تنبني أساسا على
السياق الذي يحصر الموضوع في إطار محدد وواضح والجانب التأدبي الذي يجعل
من الخطاب يأخذ طابعا تفاعليا بين المشاركين.
7-الحالة المفترضة للعالم :
تكون هذه الظاهرة حينما يستعمل الشاعر أو الكاتب لفظا أو معنى في غير
موقعه الأصلي ، فتتدخل هنا معرفتنا القبلية للعوالم بأن تقول إن في هذا
شيئا ، وهذا ما يجعلنا ملزمين بالتأويل الذي يحيلنا إلى المقصد الحقيقي
بالمذكور ، أو ملزمين بالبحث عن تفسير لهذه الظاهرة الادبية .
مثلا : أن يكتب قاص أو شاعر نصا أدبيا عن فتاة سينغالية ، ويقول
واصفا و جهها بأن بشرتها بيضاء وان شعر أصفر ينساب على كتفيها العريضين ،
وأن عينيها زرقاوين و أن .. وأن .. بكل مواصفات المرأة الاوربية ، إن
هذا القاريء للنص عنده عالم مفترض بصورة أخرى ، فالمرأة السينغالية
والمرأة الإفريقية عموما بشرتها سمراء أو زنجية و لون العينين مخالف
للوصف الوارد ، فإذا جاء الكاتب أو الشاعر فبين أن الفتاة نتيجة زواج
رجل سينغالي بامرأة ألمانية بطل عجبه ، وكان عالمه المفترض صحيحا .
8-التغريض
يعتبر العنوان وسيلة قوية للتغريض، ويعرفه بروان و بول: "بأنها نقطة
بداية قول ما". فالتغريض في الخطاب يقوم بالبحث في العلاقة التي تربط
موضوعه بالعنوان، ذلك أن العنوان وسيلة تعبيرية ممكنة عن الموضوع، كما
أنها أداة ابراز لها قوة خاصة. "فلو وجدنا اسم رجل مبرزا في عنوان النص
توقعنا أن يكون ذلك الشخص محور الحديث (...) و أن العناصر المبرزة لا
تمدنا فقط بنقطة الانطلاق نبني حولها كل ما يمكن في صلب الخطاب، بل إنها
تمدنا كذلك بنقطة الانطلاق نحد من إمكانات فهمنا لما يلحق."
ويتعلق التغريض بالعنوان وبالجملة الاولى ، وكيف أن هذين يبقيان ماشيين
في خيط رفيع يؤديان دورا خفيا هو دور الربط بين أجزاء القصيدة أو النص ،
ففي القصيدة الموالية نشتم رائحة الخضوع والذل ، إذ يقول أمل دنقل في
ديوانه العهد الآتي في قصيدة بعنوان "صلاة" ( )
أبانا الذي في المباحث نحن رعاياك باق
لك الجبروت . وباق لنا الملكوت . وباق لمن
تحرس الرهبوت
تفردت وحدك باليسر . إن اليمين لفي الخسر
أما اليسار ففي العسر . إلا الذين يماشونَ
إلا الذين يعيشون يحشون بالصحف المشتراة
العيون .. فيعشون .. إلا الذين يشون وإلا
الذين يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت
تعاليت . ماذا يهمك ممن يذمك؟ أليوم يومك
يرقى السجين إلى سدة العرش ..
و العرش يصبح سجنا جديدا . وأنت مكانك . قد
يتبدل رسمك و اسمك
لكن جوهرك الفرد
لا يتحول . ألصمت وشمك . و الصمت وسمك .
و الصمت – حيث التفت – يزين و يسمك . الصمت
بين خيوط يديك
المشبكتين المصمغتين يلف
الفراشة والعنكبوت
أبانا الذي في المباحث . كيف تموت
وأغنية الثورة الأبدية
ليست تموت؟
فإذا أخذنا سطرها الأول تبيتن لنا فعلا ذلك الذل من خلال قوله : أبانا
الذي في المباحث نحن رعاياك ، وإذا نظرنا إلى العنوان أيضا وجدنا لمعناه
9- البنية الكلية:
يهتم التحليل النصي بالبنية الكبرى المتحققة بالفعل وهي "بنية مجردة
تقارب بموضوع الخطاب الذي يعتبره فان دايك مفهوما عمليا."(1) أي أنها
كامنة وحاضرة في البنية الموضوعية للنص «وهي تتسم بدرجة من الانسجام
والتماسك وهذا التماسك ذو طبيعة دلالية»."(2)
أما كيفية تحديد البنية الكبرى للنص، فإن الملاحظ أن القراء يختارون من
النص عناصر مهمة تتباين باختلاف معارفهم و اهتماماتهم وأرائهم، وعليه
يمكن أن تتغير ال