منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    شعرية الصورة الفنية عند أبي حيان التوحيدي

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    شعرية الصورة الفنية عند أبي حيان التوحيدي Empty شعرية الصورة الفنية عند أبي حيان التوحيدي

    مُساهمة   الأحد ديسمبر 26, 2010 12:22 pm

    شعرية الصورة الفنية عند أبي حيان التوحيدي
    ترتبط نظرية الانزياحDéviation بفكرة الانحراف Départure إلا أن مفهوم
    الانحراف محدود الدلالة كونه ظاهرة فردية مرتبطة بكاتب ما. كما أنها لا
    تحيل على قيمة جمالية متوقعة بل تفضي يقينا إلى ضيـاع و تشويه. إلا إن
    مجمـل المفاهيم المرتبطة بالانزياح و الانحراف و العدول تنضوي كلها تحت
    أوضـاع مختلفة و تفاسير متباينة تحت تسمية واحدة (نظرية البعد) أي البعد
    عن النثر من خلال خرق نظامه اللغوي( ).
    و من هذا كان مفهوم الانزياح
    متعلقا بالمادة اللغوية للخطاب. في حيـن يرتبط مفهوم الفجوة: مسافة التوتر
    بمفهوم أشمل: ( إذ يغطي التجربة الإنسانية بكل أبعادها و لهذا فالانزياح
    هو أحد وظائف الفجوة: مسافة التوتر)( ).
    يرى كمال أبو ديب أن معنى
    الشعرية لا يتحقـق باسـتعمال الكلمــات القاموسيـة الجامدة، بل ينتجها
    الخروج و خلق مألوفيتها السوائية standard . و هذا الخروج هو خلق لما
    أسماه كمال أبو ديب الفجوة: مسافـة التوتـر ( إن الخروج بالكلمات عن
    طبيعتها و انزياحها عن هذه الطبيعة الألفية ، الأمر الــذي يؤدي إلى (كسر
    بنية التوقعات ) أو كما يسميه يكسبون "التوقـع الخـائب" و "الانتظار
    المحبط"( ).
    إن الفجوة: مسافة التوتر التي يشير إليها أبو ديب هي منبع
    الشعرية . في كل نــص ترميزي ، إشعاري أو استعاري. و هي لا تتحقـق إلا
    حيـث يكـو ن الانزياح و الخروج عن كل تمظهر نصي. و هي خلخلة للنظام اللغوي
    و بنيـة النص . محدثة طاقــات شعورية جمالية و نفسية، كاشفة عن القدرات
    الكاملـة
    في بدن اللفظ ، و من خلال ارتباطاته بغيره من الألفاظ .أي ضمن نظام كمائية اللغة. وتبرج الألفاظ على قول الجاحظ.
    فالفجـوة إذن هي تلك القدرات البلاغية الأدبـية القائمة بين اللغة
    السـوائية ( standard ) و بين الانحراف عن هذه اللغة و الاتجاه إلى خلق
    تركيب نظمي مغاير يخالف البنية التركيبية لها( ).
    يعتبر الانزياح أو
    التحول الدلالي أحد الطاقات المحركة للأدبية على أساس طاقة التحول التي
    نعدها نقطة تقاطع بين وظيفتين : الوظيفة المرجعية بالوظيفيــة الإنشائية :
    فأما الأولى فإنها وسيلة للإبداع و الإفهام . و أما الثانية فإنها تتجـاوز
    حدود الأولى . ذلك لأن مجالها هو إنتاج الدلالات الخفية أو بــالأحرى
    تعريتـها مادامت تأبى المكاشفة و تستعصي على الفهم و هي بالتالي رهينة
    قدرات القارئ و مدى استيعابه لأدبية الإبلاغ و من ثم يصبح النص مجموعة من
    نقاط التجــاذب بين قطبين رئيسيين: مرجعية الدال الوظيفية و بؤرة الانزياح
    الخفية. أي ما بيـن طاقتي التمليح و التصريح.
    يقدم الأثر نفسه بغية
    الاكتشاف: "...إنه يغدو أمام كاتبه أو قارئــه سؤالا موضوعا على القول:
    نشعر بأسسه و نلمس حدوده"( ) و لهذا كانت مهمـة الناقد أو القارئ محاورة
    الأثر الأدبي و مبادلة علاماته. فالناقد يضاعف المعــاني و يستو لد لغة
    ثانية . تطفو فوق اللغة الأولى .
    من ثم تغدو كل قراءة جادة منتجة لا
    استهلاكية . هي ضرب مــن النقـد ، تسعى إلى منطلقات إدغامية للأثر, أي
    أنها تحمله ما لم يصرح به. كما أنها قراءة انزياحية لسلسلة ملفوظات أو
    متتاليات, بحيث تغدو كل عناصر النص
    رمــوزا و شفرات تحيل على فراغات
    دلالية و إحالات لمعان خفية. فكل قــراءة إذن هــي بحث: "في الأثر عما
    يمكن أن يقوله دون أن يقوله.."( ).
    فالناقد أو القاريء المعياري أو
    الموديل كما يحبذا الدكتور:صلاح فضل وسمه, يحاور النص و يسائله، و يستفزه
    بغية الوصول إلى سره. في حيـن أن القارئ المستهلك (القراءة الإستهلاكية)
    يستمع إلى النص و ينقاد لإشارات ملفوظه، دون خرق حدوده أو تجاوز إشاراته
    الحرفية. و من هنا كانت قراءة الصورة الأدبية انزياحية و لا تكون إلا
    إنزياحية. و هذا راجع إلى كونها تمثل بؤرة تقاطع بين الوظيفة الافهامية و
    الوظيفة الإنشائية إذ "اللسان لا يبلغ من القلوب حيث يريد إلا بالبلاغة
    ..."( )
    يشير قول الجاحظ هاهنا إلى فاعلية الإبلاغ من خلال الشــحنة
    البلاغيـة. و هو فهم تقليدي لمحاصرة الأدبية و إجادة الكتابة عموما، إلا
    أن التبليغ بمفهومــه الحداثي يتجاوز الجملة البلاغية إلى الألفاظ من خلال
    انتظامـها ضمـن النسق النـصي:يقول أبو حيان التوحيدي واصفا مجلس غناء
    راسما حال شيخ صوفي وانفعالاته النفسية والجسديةSadفإنه إذا سمع هذا منها-
    يقصد المغنية:نهاية- ضرب بنفسه الأرض, وتمرغ في التراب وهاج وتعفر وأزبد ,
    وتعفر شعره, وهات من رجالك من يضبطه ,ومن يجسر على الدنو منه. فإنه يعض
    بنابه,ويخمش بظفره ,ويركل برجله ويخرقالمرقعة قطعة قطعة,ويلطم وجهه ألف
    لطمة في الساعة, ويخرج في العباءة وكأنه عبد الرزاق المجنون صاحب الكيل في
    جيرانك بباب الطاق)( ) ففي هذه الصورة الأدبية التي تمر بنا الآن في هذا
    المكان والتي تضمنها نص الخبر السردي لا تظهر أدبياتها فـي شـكلها
    التعبيري بقدر ما تظهر في شكلها الانزياحي. قوله: "إذا سمع منها هذا: ضرب
    بنفسه الأرض و تمرغ في التراب وهاج و أزيد و تعفر شعره"( ).
    فالأفعال الماضية (ضرب، تمرغ، هاج، أزيد، تعفر..) فإذا مـا قرأت انزياحا
    فإنها توحي بجنون المتعة و عفوية الحركة, مما يعطي لهذه الأفعال طاقـة
    تحويلــية: تصرف بال المتلقي عن انتظامها النسقي و طبيعتها المعجمية. أي
    أن كـل فعل يغدو طاقة إبلاغية بمفرده, بالإضافة إلى طاقته النسقية, فثمـة
    طاقـة إبلا غية مشتركة تتعالق مع باقي الألفاظ (الأفعال) الأخرى. كاشفة عن
    بلاغتـها الخاصة كألفاظ حسنة. و من هنا فإن نجاعة النص"أدبيته " لا تتحقق
    إلا على أسس بلاغية فالمعنى: "إذا اكتسى لفظا حسنا و أعاره البليغ مخرجا
    سهلا و منحـه المتكلم دلا متعشقا صار في قلبك أحلى و لصدرك أملا.."( )
    فالمخرج الحسن لهذه الألفاظ عائد إلى طبيعة انتظامها في خيطية زمنية واحدة
    و هو الماضي. ثم تميزها المعجمي حيث قال: (ضرب بنفسه الأرض) و لم يقـل على
    (الأرض) لأن ضرب النفس فيه غرابة و اندهاش. لكن حينمـا ندرك دلالته
    انزياحا و هو أنه مجنون نرتاح لأحقية هذا اللفظ على لفظ سقط و كذا قوله :
    (تمرغ في التراب) فالتمرغ ليس الجلوس و ليس النوم إنما فعل و حالة تبعث
    الطرافة و الغرابة في نفس القارئ,خاصة إذا ما كان التمرغ في التراب مجلبة
    لسوء الحال نتيجة ما يلحق صاحبه من أذى و تعفر لباسه و بدنه ثم أن الذي
    يـأتي هذه الأفعال الغريبة نخاله رجلا غير طبيعي يقينا.
    و الجميل في هذه الصورة أن أبا حيان التوحيدي لم يصرح بــالجنون أو المرض
    لفظا, و إنما أشار إلى ذلك إشارة خفية من خلال طبيعة الألفاظ الموظفـة
    كقوله "وهات من رجالك من يضبطه و يمسكه، و من يجسر على الدنو منــه..." و
    هذه مواهمة عميقة.وإيهام فني راق الطبقة. و لكنها موهمة تفيض بالشعرية و
    فيضها هذا يـأتي من الفجوة: مسافة التوتر.
    تسعى الأفعال المضارعة
    (يضبطه ، يمسكه، يجسر.. ) إلى إحداث الدهشة و تأكيد أو تعميق شعرية
    الوهمي, وواقعية الجنون و الانفعال, كاشفة فعل اللذة و وقعه علــى جسد
    المتلقي وفي نفسه.محققة جمالية التماهي بالإنسجام في الذات المتلقية.كاشفة
    من طرف خفي عن عامل التطهير النفسي لدى الذات المتلقية لنص أبي حيان
    التوحيدي. و أن الطرب إذا تمكن من نفس صاحبه أو متلقيه فإنه يعبث بروحه و
    يلهو بعواطفه و يذهب بعقله و قد يخرجه عن طوره فمن (شأن العقل السكون و
    مـن شأن الحس التهيج)( ) و على هذا يوصف صاحب العقل بالوفاء و من ذهب
    عقلـه وصف بالطيش.
    فكلما توغلنا انزياحا في فك شفرات الصورة و
    علاماتها انكشف لنا عمـق هذه الصورة و معانيها اللانهائية. كاعتقادنا أن
    وراء هذه الأفعال العجيبة و الطريفة بل المرعبة: (يعض، بنابه، يخمش،
    بظفره، يركل برجله، يخرق المرقعة قطعـة : يلطم وجهه ) صوت عذب جميل يصدر
    عن مغنيه ذات محي فاتن و أن القصيـدة التي كانت تغنيها الجارية (نهاية)
    كانت من الشعر الحسن وأن المجلس وقتها كان قد اكتمل له مقام الحال. وغشته
    شطحات صوفية ,وعبث بالنفوس سكر الوجد,والقبض ..الخ.
    و إذا التفتنا
    إلى خارج الصورة فإن أدبيتها تكمن في إدراك أبي حيان التوحيدي لفـن الغناء
    و قدرته على تمييز أصوات المغنيين و وصفها بطريقـة
    عجيبة توحـي
    بإلمامه التام بأصول الغناء العربي، و مدى تأثيره في المستمعين له. فقد
    قال يوما حينما سمع صبيا يغني( ): "لو كان لهذا الصبي من يخرجه و يعني بـه
    و يــأخذه بالطريقة المؤلفة و الألحان المختلفة لكان يظهر أنه آية و يصير
    فتنة فإنه عجيــب الطبع بديع الفن غالب الدين و الشرف".
    يكشف أبو حيان
    عن عناصر التأثير في فن الغنـاء في قولـه: يخرجه ، و يعني به، و تدريبه
    على الطريقة السلمية, و الألحان المختلفة. يضاف إلى هذه العناصر المكتسبة
    عناصر أخرى موهبة أو طبيعية : فإنه عجيب الطبع ، بديع الفن، غالب الدين و
    الشرف.
    و هذا تأكيد من أبي حيان التوحيدي على ضرورة استعمال العقل و
    الدربة (يخرجه و يعني به، تدريبه..) لأن الخصائص الطبيعية و الموهبة لا
    تكفـي: (عجيب الطبع ، بديع الفن..) ففي الصورة التي مرت معنا تأكيد على
    عنصر اللذة الذي توفره الشفرات و باقي علامات النص (الصورة) يضاف إلى ذلك
    تفنن أبي حيان التوحيدي في رسم و تحديد سلسلة العلامــات النصية بوصفـها
    أداة توصيل و تبليغ بين الباث و المتلقي.
    تكشف القراءة الانزياحية
    أيضا عن تأثر النــاص أثنــاء سرده للخـبر و تسجيله لدقائق الانفعال. و من
    ثم يمكننا تحديد جسدية الكــاتب و هي تنصهر بجسدية النص لحظة تخلق النص le
    Géno-Texte فغالبا ما ينقل البـلاغ : (زيـادة على محتواه اللغوي الصرف
    علامات أو إمارات تخبر السامع نفسه عن المتكلــم نفسه دون أن يكون في نيته
    إبلاغها ..)( )



    يصاحب لحظة تخلــق النـص حـال إسقاط أو
    تضمين تكشف . تحرر الكاتب أثناء إنشائه للأثر تاركا نفحات من ذاته المبدعة
    و ذلك باعتبار الكتابة حرية للحظة الذات المبدعة. لكن هذه اللحظة مــن
    أبين و أوضح لحظات التاريخ كما يقول: رولان بــارت( ) إن لحظـة الإنشاء
    الإبداعي كشفت لنا قدرات الناص العلامية التي تشير بدورها إلى قدراته
    المعرفية الخفية الاجتماعية و الثقافية و الفنية، دون أن يكون قصد في
    الإفصاح عنها. إنما يتحقق لنا ذلك حين نقبل على قراءة الصور انزياحا فقـد
    كشـفت لنـا سلسلـة العلامات أو الشفرات المنتظمة ضمن نسيج الأنساق النصية.
    أنه متـذوق للغناء ويفقه ضروبه و يحسن تمييز الأصوات و مدى تأثيرها في
    النفس : فالغناء عنـده (معروف الشرف، عجيب الأثر، عزيز القدر، ظاهر النفع
    في معاينة الروح، و مناغاة العقل، و تنبيه النفس و اجتلاب الطرب، و تفريغ
    الكرب، و إثارة الهزة، و إعادة العزة، و أذكار العهد، و إظهار النجدة ، و
    اكتساب السلوى، و ما يحصـى عدده"( .)
    فهذه النعوت المتعددة الدالة
    على رتبة الغناء هي التي دلت عليها شـفرات نص الخبر المسرود(الصورة). ثم
    يردف أبو حيان بصورة نظيرا للصورة الأولى .راسما حال أهل المجلس الصوفية
    قولهSadفهناك ترى شيبة قد ابتلت بالدموع,وفؤادا قد نزا إلى اللهات.مع أسف
    قد ثقب القلب.وأوهن الروح وجاب الصخر,وأذاب الحديد , وهناك ترى والله
    أحداق الحاضرين باهتة ,ودموعهم متحدرة ,وشهيقهم قد علا رحمة له, ورقة عليه
    ومساعدة لحاله..)' فالقراءة السيميولوجية للعلامات (الدموع، نزا إلى
    اللهاة، أسف ثقب القلب أوهن الروح، أذاب الحديد، جاب الصخر...) تكشف هذه
    الصورة مدى شجو ذلك الغناء الذي تضمن ذكرى خاصة وجدت لها صدى في نفس
    الشيخ, فأثارت مكمن الهوى في قلبه. و ذكرته بأيام الصبا و نزوات الشباب, و
    أنه متحصـر أو نادم على سر مازال كامنا في نفسه و قد يكون هذا الفائت:
    ذنبا أو معصية أو تقصيرا في واجب أو حق. إلى ما لا ينتهي من الدلالات
    السيميائية التي تفرزها خاصية التحول.
    ومن هذا يتبين لنا مدى فاعلية
    القراءة الإنزياحية للسرود. وكذا الصورالفنية . كما يمر بنا هذا هنا.
    فقراءتنا للصورة الفنية التوحيدية في مسروده .تتوسع , وتتسع . لتفتح
    القراءة أطرافها وحدودها على لا نهائية المعنى فيها. متجاوزين بذلك مقصدية
    أبي حيان التوحيدي. بل ومتجاوزين مقصدية النص نفسه. منتجين في الآن نفسه
    صورة فنية أكبر وأشمل وأجمل مما أنتجه أبو حيان التوحيدي نفسه .ذلك لأننا
    قرأناها بثقافة عصرنا ومفهوماتنا الخاصة.لكن هذه الصورة الأجمل تظل حبيسة
    عقولنا تأبى الظهور.عويصة التجسيد والتشيء على الورق. شأنها شأن النص
    الجميل ألذي لم ولن يكتب أبدا.لأنه كائن يعيش في خفايا العقل.في عالم
    الخيال. بعيدا عن مجالات المتخيل المنجز .(النص المكتوب). تمثلا لمقولة :
    النص الجميل هو الذي لم ولن يكتب. وتمثلا لفكرة الدكتور صلاح فضل:
    قراءة الصورة وصورة القراءة. وهو عنوان مؤلف له. هكذا تصنع القراءة
    المنتجة نصوصها الخاصة بمحاذاة النصوص المقروءة. وهي تشتغل في ظل الأسطر.
    مستنطقة بياضات النص وفراغاته الدلالية.متعالقة بفكرة :كل نص يخفي في ظله
    نصا أجمل منه وأكبر. إنه البحث عن الخفي في ظلال النص. وأطرافه
    الساكنة.الموقوتة. القابلة لتفجير الطاقات الكامنة للآلفاظ. والجمل..تلك
    القراءة الإنزياحية التي تتخذ من الكلمات ممرات لها خارج النص.وتلك أدبية
    وشعرية النص .مما يعني أننا بفعلنا ذاك فإننا ساعدنا الخطاب المسرود –نصا
    كان أو صورة –على استعادة ذاته. ما تنتجه القراءة هو الخطاب نفسه لكن معدل
    ومشوش. وتلك طبيعة الخطابات. لأن قدرها هو ان تستعيد ذاته باستمرار. مع كل
    قراءة معيارية.لكن بشكل مغاير.

    يقول بول ريكور في شأن :النص
    والتأويل (إن النص-باعتباره كتابة- ينتظر قراءة ما ويستوجبها.وإذا كانت
    القراءة ممكنة فلأن النص ليس مغلقا على ذاته, بل مفتوح على شيء آخر. أن
    نقرأ يعنى- بافتراض أكثر عمومية- أن ننتج خطابا جديدا وأن نربطه بالنص
    المقروء . هذا الإرتباط بين الخطاب القاريء وبين الخطاب المقروء يكشف –
    داخل التكوين الداخلي للنص ذاته- قدرة أصيلة على استعادة الخطاب لذاته
    بشكل متجدد.وهي التي تعطي خاصيته المفتوحة على الدوام , والتأويل هو
    النهاية الفعلية لهذا الإرتباط.)( )
    فارتباط النص المنتج بالنص
    المقروء تكشفه التعالقات الأساسية المتمثلة لعلامات خاصة تمثل أدق تمفصلات
    الخطاب المسرود. وهي الشفرات الذكية للنص المسرود.
    بعد أن يسرد أبو
    حيان التوحيدي سلسلة من العلامات وهو يؤسس للصورة قوله: فالدموع المتحدرة
    ، والأحداق الباهتة ، و الشهيق المتعــالي إشـفاقا مـن الحضور لحال الشيخ
    و رحمة له أو مساعدة لحاله فإنها من دواعي (أذكار) العهد، و إظهار النجدة
    و اكتساب السلوى ...).
    يسارع الباث إلى قطع سلسلة العلامات لتبرير
    الموقف المشحون بالكآبـة, كما عهدناه في الكثير من الصور.يتدخل صوت السارد
    لكن هذه المرة لتوسيع حدود خطاب الخبر المسرود.وربما كان صوته هنا صوت
    الراوي العليم بكل شيء.وربما كان هذا الموقع الذي يتخذه أبوحيان بصفته
    راويا فقط. ربما كان صوت الناقد ألذي يلم بطبائع السرود المكتوبة منها
    والمروية .ألمثبتة كتابة
    والمسرودة شفويا: (و هذه أحوال معروفة و الناس منـها علـى جديلة معهودة"( ).
    يقودنا استقراء الصورة إلى كشف نظامها العلامي الخاص المبني علــى ثنائية
    التشكيل اللغوي. فهناك تشكيل لفظي إبلاغي ممثلا في الألفاظ الشفرية (...
    بنفسـه، تمرغ، هاج، أزبد، تعفر، يعض، يحمش، يركل ...الخ)( ) في الصورة
    الأولى.
    و في الصورة الثانية: (دموع، نزا، ثقب، أرهن، جــاب، أذاب، ...الخ)
    و التشكيل البلاغي يتمثل في الجمل البلاغية التالية:
    النموذج الأول:
    (كأنه عبد الرزاق المجنون ...)
    النموذج الثاني:
    الكناية في قوله: (مع أسف قد ثقب القلب...)
    و من هذا المنظور الشكلاني لشفرات الصورة نخلص إلى أن إدراك العمل الفنـي
    عموما لا يتم إلا من خلال عملية استمرار دلالي. يأخذ هذا الاستمرار
    الدلالي في جانب منه شكلا خطيا ينبسط أفقيا. على نحو تتــابع أثناءه
    مكونات الأنساق النصية فتتبع الكلمة الكلمة, كما تتلاحق الجمــل و يــأخذ
    هــذا الاستغراق في جانبه الآخر شكلا رأسيا حيث تترتب عناصر العمل الفنـي
    ترتيبـا عموديا يبدأ من المستوى الصوتي إلى المستوى المعجمي.
    و بفضل
    هذا التشكل النصي أو المكان النصي تغدو العلاقة بيـن الشـكل و المضمون
    واحدة. أي تتحد متعة الغناء و هي الموضوع بمتعة الشكل النصي. أي هناك
    أطراب و لذة تتضمنها علامات و شفرات النص (الصورة). بحيث تصبـح العناصر
    الشكلية للنص حوامل للمعنى و تصبح عناصر المضمون أو الموضوع شكلا آخر
    للإشارة. الفجوة: مسافة التوتر و انطلاقا من هذا المفهوم الانزياحي
    السيميولوجي لطبيعة النص فإن المكنونات الشكلية للنص تجسد الروابط
    الدلالية مجتمعة في نسيج النص و علاماته.
    و من الوظائف التي توفرها
    أنسجة العلامات مع اختيار قيمها الدلالية فـي نسق حركي دائم: مادته
    اللغوية باعتبار النص جسم يقيني و هو منبـع الاكتشـافات. فالنص الأدبي
    مجموعة من العلاقات العلامية تتجاذبها طاقتان أساسيتان: طاقـة لفظية
    معجمية هي حوامل دالة لمضامين خبيئة ضمن كمون النص. على أساس أن النص
    ثنائي البناء بين مضمر و جلي. و طاقة ثانية هي طاقة الحقـول النفسـية و
    الثقافية المتمثلة في فكرة النص العامة أو مضمونه العام، فكل مضمون نفسـي
    يجاوز حدود الوعي الفردي يعد علامة بحكم طبيعته التواصلية. فـالعمل الفنـي
    بنواحيه قاطبة يظل علامة مادام يصل بين الفنان و من يستقبل فنه. و بيــن
    هــذا المضمر و الجلي تنشأ الفجوة التي تعمل على إبراز السمة التكاملية
    بين القـراءة و الشعرية أي أنها تحد هنا من فرديته.
    و إنطلاقا من هذا الفهم فإن: "الرمز لا يكون سـوى ألماع و الأدب لا يكون سوى تنكر، و لا يكون النقد سوى فقه لغة .."( ).
    يؤكد بارت هنا علـى أن النص لا يقدم معلوماته و معارفه جاهزة بل متنكرة في
    شفرات، و علامات لغويـة و لكشفها. يجب فك تلك الشفرات و الوقوف على
    مدلولاتها الخفية.
    فالأدبية موجودة في النص ضمنا و في خارجه من
    خــلال مــا يضيفـه القارئ من اعتبارات فنية و جمالية على الأثر الأدبي.
    فالإقبـال علـى النـص و الافتتان به دليل على أدبية.
    إلا أن الوقوف
    على أدبية نص من النصوص لا يتحقق بــالطفرة و إنمــا يحصل ذلك من خلال
    القراءات الواعية والجمالية للأثر. و لاستجلاء الأدبية ينبغـي فقـه
    العلاقات الرابطة لمكونات النص و تفكيك شفراته( ) التي تمثل بـؤرة
    الانزيـاح الدلالي باعتبار الكتابة مجالا للتخفي، و القراءة مجالا للتجلي،
    فكل كتابـة هـي احتجاب لما يرومه الناص.
    و من تلك الشفرات: الشفرة
    التأويلية التي تتخلق من خلال طرح الأسـئلة أثناء القراءة المنتجة
    (الجادة) ،أسئلة القراءة و الشفرة الثقافية التي يشير فيها النص إلى أشياء
    معروفة بالعقل, خارجة عنه من ناحية. و التي يخلق خلالها النص معارفـه مـن
    ناحية أخرى, و الشفرة التضمينية أو الدلالية و هي في الواقــع: "مجموعـة
    مـن الشفرات التي تتحول فيها جزئيات النص إلى يتيمات تتجمع حول مجموعة مـن
    البؤر و تساهم بتفاعلها مع الشفرات الأخرى في خلق المجـال الرمـزي الـذي
    تتحرك فيه عملية الحدث الكلامي عبر مجموعة مـن المتعارضــات و الانسـاق
    البنائية المشكلة أو الحاملة للمعنى النهائي للنص"( ).
    فالنص عبارة عن
    سياقية تركيبية تبرز شبكاتها المتســعة لا نــهائيا فــي صورة مختلفة
    الدلالات. باعتبار السلسلة الدلالية انتظاما معجمــيا داخـل نظـام علامي,
    و من ذلك كان النص العالمي كلاما مضبوطا منطقيا في مساحات خطية أو مكان
    نصي، و بعد زماني و أشكال تركيبية.
    تتحول هذه الشكلانية في النص إلى
    إنتاجية تتجلى في العلاقة التلازميـة بين الإبداع و التحول (الانزياح) و
    في ضوء ربط سببي بين النص الدال و اللغة . و النص بهذا المنظور يكون
    انفتاحيا لا نهائيا ضمن حيز الإضمار.
    ترى نظرية التلقي أن الجمالية لا
    تخص النص وحده مهما تحققت درجة جودته البلاغية والتعبيرية. لأن ذاك شق
    لصيق بنصية النص .وإنما في الشق الثاني المكمل للنص خارج نصيته. وهي
    القراءة بمعناها الإيجابي المنتج. .فالعمل الأدبي
    مهما كان جنسه
    الأدبي والفني فإنه يتضمن بالضرورة قطبين هامين يمثلان شخصية النص وهويته
    الفنية, إنهما : (القطب الفني والقطب الجمالي .ويتمثل الأول في النص الذي
    وضعه المؤلف . بينما يتمثل الثاني في عملية التعيين , التي يقوم بها
    القاريء وعبر هذا الإستقطاب نتبين أن العمل الأدبي لا يتحقق جماليا في
    النص ولا في فعل القراءة . وإنما على وجه التحديد في هذه المنطقة التي
    ينصب فيها النص و القراءة معا).( )
    وهذا أثبتته (الظاهراتية) في
    كونها تؤكد على ضرورة التعويل على العمل الأدبي. لامن حيث نصه فحسب, بل من
    حيث عمليات الفهم التي تمتد إليه.لتمارس عليه عملية الفهم والتأويلي.








    شعرية الصورة الفنية عند أبي حيان التوحيدي Bot

      الوقت/التاريخ الآن هو الجمعة نوفمبر 08, 2024 2:32 am