[left] الموضع الثاني : ( ... قال الذين كفروا للذين آمنوا : أيُّ الفرقين خيرٌ مُقاماً وأحسنُ ندِياّ ) (الآية 73) .
فكان الجواب غير المباشر عليه : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرنٍ ، هم أحسنُ أثاثاً ورِئياً ) ( الآية 74 ) .
الموضع الثالث : ( .. الذي كفر بآياتِنا ، وقالَ : لأوتَيَنَّ مالاُ وولداً ) ( الآية 77)
فكان جوابه : ( أطلعَ الغيبَ ، أم اتخذ عندَ الرحمانِ عهداً ) ( الآية 78) وهي أسئلة استنكارية ، تنفي أن يكون اطلع على الغيب ، أو اتخذ عند الرحمان عهداً ، فهو كاذب ، وهو في الوقت نفسه يغش نفسه وغيره .
من أغراضه في هذه السورة الاستخفاف بالمتكلمين المعاندين من مشركين وكافرين ، مضافاً إلى ذلك الاحتقار لهم ، في إغفال أسمائهم بإضمار أو تعميم ، فلفظة(إنسان) لا تضيف (ال) التعريف لها تبياناً ، بل تعمم المعنى على الجنس ، وضمائر الفاعل في أفعال ( قال : لأوتَينَّ- من كان في الضلالة – قالوا – أن دعوا ) لا تعود على أسماء أو مسميات محددة أيضاً. وهذا خلاف لتكريم الأنبياء والصالحين الذين ذكروا صراحة بأسمائهم في القسم الأول القصصي : ( زكريا ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس ) ، مما يوضح المراد من قوله تعالى خطاباً للنبي محمد ست مرات ( واذكرْ في الكتابِ ..) ثم يعدد أسماء الأنبياء بعد ذلك .
والطريف المعبر اختصار قصص أنبياء ، مثل موسى وإسماعيل وإدريس ، حتى يكاد ما سيق من خبر عنهم أن يقتصر على ذكر أسمائهم تقريبا .
من الحوار غير المباشر الإجابة بالإشارة بدلاً من الكلام الصريح ، ومثله إشارة الصديقة إلى عيسى الطفل ليخاطبه قومها ، وليجيب عن تساؤلاتهم :
( فأشارت إليه ) ( الآية 29)
وقد فهموا إشارتها ، أو كلامها غير المباشر ، فقالوا مستغربين :
( كيف نكلم من كانَ في المهدِ صبيّاً ) ( الآية 29)
وبالطبع كان عجبهم أكبر لما سمعوه يجيب على تساؤلاتهم ، وهو ( صبيّ) ، بل يبلغهم أنه نبيّ أيضاً.
ومن الحوار غير المباشر نيابة متكلم جديد في الحوار عن المتكلم الثاني ، ومثله ما جاء على لسان النبي المسيح ، حين امتنعت أمه عن الكلام صوماً للرحمانِ ، وأشارت إلى قومها أن يكلموا الصبي النبي ، فردّ عليهم قائلاً :
( إني عبدُ الله آتاني الكتاب ، وجعلني نبيّاً . وأوصاني بالصلاةِ والزكاةِ ما دُمتُ حيّاً . وبرّاً بوالدتي ، ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً . والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً ) ( الآيات 30 -33 ) .
من الإعجاز ومن البيان الساحر تساؤل قوم مريم في آية واحدة عن محاورة (صبي) ، فيجيبهم هذا (الصبي) بأربع آيات على تساؤلهم ، ويزيدهم معلومات حول مهمته النبوية ، وبره بوالدته أيضاً ، إلماحاً إلى حاجتها للبر والرعاية بسبب المسؤولية الصعبة التي أسندها الله تعالى إليها ، وهي أنثى ضعيفة عذراء .
أما الحوار التصويري فهو الحوار الذي يعنى بتصوير ملامح الشخصيات المتحاورة ، ولا سيما بعدها النفسي ، وقد ورد معظمه في القسم الأول من السورة أي القسم القصصي ، حيث القصص الحوارية ، وكان التركيز على شخصيات ( زكريا ومريم وإبراهيم ) . ومن التركيز على هذه الشخصيات التعريج على النبي يحيى في الحديث عن أبيه زكريا ، ثم التعريج على النبي عيسى في الحديث عن أمه مريم . أما شخصيات الأنبياء موسى وإسماعيل وإدريس ، فكان وصفها من غير حوار ، وبحجم أقل ، يغني عنه ما جاء من أوصاف إخوانهم الآخرين من الأنبياء المذكورين ، عليهم السلام أجمعين .
شخصية النبي زكريا تعرض لنا في حواره أبعادها كلها ( الجسدية والنفسية والاجتماعية ) :
ففي البعد الجسدي نعلم أنه رجل كبير السن جداً ، عظامه واهية ، والشيب منتشر في رأسه : ( ربِّ إني وهن العظم مني ، واشتعل الرأس شيباً ...) ( الآية 4) .
وفي بعده النفسي نعلم أنه مؤمن بالله تعالى ، يتأدب في خطابه له ، ويستعين به ، فيخاطبه بصوت خافت ، ويكشف له ضعفه ، وحاجته لغلام يرثه ويحمل الرسالة التي يحملها من بعده ، ويعترف بمنن الله عليه من قبل ، من باب الشكر والعرفان بالجميل :
(.. لم أكن بدعائك ربِّ شقيّاً ) (الآية 4)
( .... كانت امرأتي عاقراً ، فهب لي من لدنكَ وليّاً . يرثني ويرث من آل يعقوب ، واجعله ربِّ رضيًاً ) ( الآية 5 و6) .
وهو خائف من أن تُضيع عشيرته وأقاربه هذا الدين من بعده بسبب حرمانه من النسل :
( وإني خفتُ المواليَ من ورائي وكانت امرأتي عاقراً ...) ( الآية 5) .
وهو يتقي الله ، فيصوم ويسبح ، ويلزم المحراب :
( آيتكَ ألا تكلم الناسَ ثلاثَ ليالٍ سويّاً . فخرج على قومِهِ من المحرابِ ، فأوحى إليهم أن سبِّحوا بُكرةً وعَشِيّاً ) ( الآيتان 10 و11)
وفي بعده الاجتماعي نعلم أن اسمه زكريا ، له زوج عاقر ، وله أقارب من حوله ، وهو في الوقت نفسه نبي ، استجاب الله دعاءه ورزقه غلاماً ، يبعث نبياً منذ نعومة أظفاره ، اسمه يحيى ، بارّ بوالديه تقيٌّ ، ميمون الطلعة ، مبارك من يوم ولادته حتى يوم وفاته :
( يا زكريا. إنّا نُبشرُكَ بغلامٍ اسمُه يحيى ، لم نجعلْ لهُ من قبلُ سميّاً ) ( الآية 7)
( يا يحيى . خذِ الكتابَ بقوةٍ . وآتيناهُ الحكمَ صبيّاً . وحناناً منّا وزكاةً وكان تقيّاً . وبَرّاً بوالديه ِ ، ولم يكن جباراً عصيّاً . وسلامٌ عليهِ يومَ ولدَ ويومَ يموتُ ويومَ يُبعثُ حيّاً )( الآيات 13 - 15)
تصوير الأبعاد الثلاثة لشخصية النبي ، من خلال الخطوط العريضة ، والتفصيلات الموحية ، رسخت في مخيلتنا وأنفسنا صورة هذا النبي الكريم شاخصة واضحة محببة ، أسهم في ذلك الألفاظ والتراكيب الموحية بظلالها ( خفتُ الموالي – حنانًا منّا وزكاةً – ربِّ – ربِّ – ربِّ – ربِّ ) والصور البيانية مثل هذه الصورة التي بهرت البلاغيين قديماً وحديثاً ( واشتعل الرأس شيباً ) .
والشأن نفسه في تصوير الحوار لشخصيتي الصدّيقة مريم والنبي إبراهيم . والملاحظ أن التصوير عني بإبراز علاقة هؤلاء الأنبياء والصالحين بربّهم من جهة ، ثم علاقتهم بأهلهم أو ذوي رحمهم ، ولاسيما الوالدين من جهة ثانية ، وهذان الجانبان من علاقة الإنسان ، هما الأساس والمنطلق لعلاقته بالمجتمع أي بالناس الآخرين .
التصوير المعجز للشخصيات لا يتأتى من شمول الحوار لأبعاد الشخصيات ، ولا بإشعاع بعض الألفاظ والتراكيب وحسب ، فهناك جزئيات متغلغلة في تضاعيف مكونات النص بأسره ، من فاصلة الياء الممدودة بالفتح ، إلى تموج الجمل والآيات طولاً وقصراً ، إلى ألوان من التكرار اللطيف الساحر في الأحرف والكلمات والعبارات والتراكيب والصيغ . خذ مثلاً جوّ الرحمة وظلالها التي تمسح هذه السورة وشخصياتها بالذات بمسحة علوية ، أحسها الأديب سيد قطب في تفسيره وأشار إليها ، فقال : ( وإنك لتحسّ الرحمة الندية ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال ، كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته ) (11) . وخيط من خيوط الرحمة التي تشمل الجو والشخصيات نلحظه في تكرار لفظ ( الرحمة) أربع مرات في الآيات (2 و21 و50 و53 ) ، ولفظ الرحمان سبع عشرة مرة في الآيات ( 18 و 26 و 44 و 45 و 58 و 61 و 69 و 71 و 75 و 78 و 85 و 87 و88 و 91 و 92 و 93 و 96 ) ، مع العلم أن أسماء الله الحسنى المشهورة تعد تسعة وتسعين اسماً ، كثير منها ورد في سورة مريم ، لكن اسم الرحمان هو المختار أكثر للمعاني والظلال التي نحن بصددها . وفوق ذلك إن اختيار لفظ بعينه وتكراره مرات لا يكفيان ، بل لا بد من توظيف بليغ لكل مرة يستخدم فيها هذا اللفظ ، وهذا ما سنتناوله في التكرار الفني .
ولما كان الجو السائد في السورة ، وفي قسمها القصصي أولاً ، هو جو الرحمة والتواصل والحنان ، لم يكن الصراع هو المحرك للحوار ، الصراع بمعناه الاختلاف أو التضاد أو العداوة ، بل كان على العكس صعوبات أو عقبات ، يعاني منها المحاور البشري ، ويتكفل الله تعالى بحلها ، مثل طلب النبي زكريا أن يكون له ولد صالح ، يتابع من بعده رسالته ، برغم بلوغه سن الكبر وعقم الزوج . ومثل الحكمة الربانية التي اقتضت أن تحمل الصدّيقة مريم بالمسيح ، وممانعتها ذلك بسبب المشقة البالغة على أنثى عذراء ، تحمل مثل هذا الحمل ، فيحاورها الملك جبريل مؤنساً ومطمئناً ، ثم منفذاً لقرار حاسم لا مردّ له ، يشفع ذلك كله بالكرامات التي وهبت لها ولابنها البارّ صبياً وشاباً وكهلاًً ، مما يحل الإشكال ويخفف الأزمة .
أما حوار النبي إبراهيم مع أبيه ، فهو حوار ينطوي على صراع حقيقي أي صراع عداوة ، لكن من طرف واحد ، هو الأب . الابن ينادي يا (أبتِ ) ، ويتلطف بالدعوة وبعرض الحجج والترغيب والتخويف من سوء العاقبة ، والأب على العكس يهدد ويتوعد ، ويهجر أخيراً ابنه مقاطعاً إياه ، تحت طائلة الرجم . ولذلك كان كلام النبي إبراهيم مطولاً مفصلاً في سبع آيات ، وكلام الأب محدوداً في آية واحدة .
وقد تكفل حوار إبراهيم بالتدرج في العرض والتصعيد ، فقدم أولاً الحجج العقلية مع نداء البنوة :
( يا أبتِ . لم تعبدُ ما لا يسمعُ ولا يُبصرُ ولا يُغني عنكَ شيئاً ) ( الآية42)
ثم ثنى بالعلم الذي جاء ت به النبوة تعزيزاً للحجاج العقلي :
( يا . أبتِ . إني قد جاءني من العلم ما لم يأتكَ ، فاتبعني أهدك صراطاً سويّاً ) (الآية 43)
ثم انتقل إلى التحذير من الانجرار إلى عبادة الشيطان العاصي ربه :
( يا أبت . لا تعبدِ الشيطان . إن الشيطان كانَ للرحمانِ عصيّاً ) ( الآية 44 )
واستكمل التحذير بالترهيب الشفوق عليه :
( يا أبتِ . إني أخافُ أن يمسَّكَ عذابٌ من الرحمان ، فتكون للشيطان وليّاً ) ( الآية 45)
ولما أجابه أبوه بجواب التهديد والمقاطعة والتهديد بالرجم ، ونفض يده من هدايته ، فارقه بسلام ووعده بالدعاء له بالغفران ، ومهد للمفارقة بإحسان :
(سلامٌ عليكَ . سأستغفرُ لك ربي . إنه كانَ بي حفيّاً . وأعتزلكم وما تدعون من دون الله . وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيّاً ) (الآيتان 47 و48 ) .
أما الحوار الحجاجي العقلي فيدور حول قضايا عقلية بين المتحاورين ، مثل قضية (البعث ) بعد الموت ، و قضية( التوحيد ) أو ادّعاء شركاء لله تعالى من مال أو ولد أو أحجار ، وهما القضيتان اللتان تضمنهما الحوار في النصف الثاني من السورة . وفي كل قضية تتوفر أركان مثل ( دعوى ) و( مدّعٍ ) و( مناقض ) لهذا المدعي و ( بينة ) أو بينات تحسم الدعوى .
فقضية ( البعث بعد الموت) ينكرها مشركو مكة : ( ويقول الإنسان أإذا ما مِتُ لسوف أُُخرجُ حيّاً ) (الآية 66) في صيغة سؤال إنكاري . فيرد الله على هذا الادعاء ببينة عقلية منطقية بأن البعث مؤكد بقدرة الله الذي خلق هذا الإنسان أول مرة ، ولم يكن شيئاً يذكر ، ومن باب أولى أن يقدر على خلقه أو إعادة الحياة إليه مرة أخرى : ( أولا يذكر الإنسان أنّا خلقناه من قبلُ ولم يكُ شيئاً ) ( الآية 67) .
إلى هنا انتهت القضية عقلياً ، ويمكن أن نطوي الصفحة للانتقال إلى قضية أخرى ، لكن القرآن الكريم الذي لا يحرص على الغلبة للغلبة ، بل على الوصول إلى الإيمان والاطمئنان العميقين ، يعالج المتسائلين أو المعاندين بمخاطبة وجدانهم وقلوبهم ونفوسهم ترغيباً وترهيباً ، بقدر ما يخاطب عقولهم وقناعاتهم ، ومن هذا الباب لم يصرح باسم السائل المتشكك أولاً ، وعمم السؤال على (جنس) الإنسان ، لأنه سؤال يتكرر في أزمنة وأمكنة أخرى ثانياً ، وأضاف إلى البينة تهديداً لمن يصرّ على دعواه الباطلة بالعذاب الشديد : (فوربِّكَ لنحشرنَّهم والشياطين ، ثم لنُحضِرنهم حول جهنّم جِثيّاُ . ثم لننزِعَنَّ من كلّ شيعةٍ أيهم أشدُّ على الرحمنِ عتيّاً . ثم لنحنُ أعلم بالذين هم أولى بها صِِليّاً ) ( الآيات 68-70) ، لأن الإنسان الذي لا يقتنع بالحجة والمنطق يعالج بالتخويف من سوء المصير والإصرار على الزيغ والضلال .
وهنا تستيقظ ذاكرتنا بالمناسبة ، لتستعيد الحديث عن (الولادات) العجيبة التي عمرت بها قصص القسم الأول في السورة : ولادة النبي (يحيى) ، وولادة النبي (عيسى) ، وهي ولادات غير مألوفة في العرف البشري ، تذكر بقدرة الله تعالى في الخلق من عدم ، تلك القدرة التي عبر عنها كثيراً ، مثل القول : ( خلقتك من قبلُ ولم تكُ شيئاً ) ( إنّا خلقناهُ من قبلُ ولم يكُ شيئاً ) مرتين ( الآيتان 9 و 67) ، وقوله تعالى لنبيه يحيى لما استغرب أن يرزق بولد مع شيخوخته وعقم زوجه : ( قال: كذلكَ قال ربكَ : هو عليَّ هيِّنٌ.. ) (الآية9) أو قول جبريل عن الله تعالى لمريم لما تعجبت من إمكان حملها ولم يمسسها بشر : ( قال : كذلِكِ قال ربكِ : هو عليَّ هيِّنٌ ..)( الآية 21) .
أما دعاوى الشرك بالله المنافي لقضية الوحدانية التي هي موضوع السورة الرئيس ، فيعرض لها القسم الثاني في ثلاثة مواضع :
الموضع الأول هو لما استقوى الذين كفروا بغير الله من مٌقام رفيع أو جمع غفير من الأعوان أو النسل :
( قال الذين كفروا للذين آمنوا : أي الفريقينِ خيرٌ مُقاماً ، وأحسنُ نديّاً ) ( الآية 73) .
لم يذكرهم الله تعالى بأنه هو الذي وهبهم الأولاد والجاه والأنصار والأعوان ، فلا حجة لهم في هذه الدعوى ، وإن جاءت في مواضع أخرى ، بل انتقل إلى قدرته على الذهاب بهم ، وبما استقووا به ، مثلما ذهب بمن سبقهم من الأمم ، على الرغم من تمتعهم بما هو أحسن منهم منظراً وعدداً وقوة : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرنٍ ، هم أحسن ُأثاثاً ورِئياً ) ( الآية 74) فجمع بذلك الحجة العقلية والترهيب النفسي .
والموضع الثاني استقواء الكافر بالمال والولد من دون الله صراحة :
( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال : لأوتَيَنَّ مالاً وولداً ) (77)
فجاءه الجواب يدفع دعواه الباطلة بحجتين عقليتين : الأولى جهله بالغيب إن كان سيرزق بولد ومال أم لا . والثانية نفي أن يكون وعده الله الخالق بأن يرزق ولداً أو مالاً :
(أطَّلعَ الغيبَ ، أم اتخذ عند الرحمانِ عهداً ) (الآية 78) .
وهنا تستعيد ذاكرتنا وعد الله تعالى لنبيه زكريا بالولد ، وبقضائه للسيدة مريم بالحمل ، وبهبته لنبيه موسى بأخ نبي هو هارون ، للدلالة على أنه هو الذي يهب المال والبنين ، كما هو وحده الذي يهب الحياة ويسلبها من عباده ومخلوقاته .
والموضع الثالث لما ادعى المشركون صراحة بأن لله تعالى ولداً :
( وقالو : اتخذ الرحمانُ ولداً ) (الآية88)
فكان الجواب العقلي المنطقي مخالفة الدعوى للفطرة السليمة ولناموس الكون لدرجة ، أن السماوات تكاد تتفطر من فظاعتها ، وتنشق الأرض ، وتخر الجبال منهدة ، لأن اتخاذ الولد يناقض كمال الألوهية التي لا تحتاج لمن يكملها من ولد أو سواه من عبيده :
( لقد جئتم شيئاً إدّاً . تكاد السماواتُ يتفطرنَ منه وتنشقُّ الأرضُ ، وتخرُّ الجبالُ هدّاً . أن دعَوا للرحمانِ ولداً . وما ينبغي للرحمن أن يتخذَ ولداً . إن كلّ من في السماواتِ والأرض إلا أتي الرحمنِ عبداً ) ( الآيات 89- 92) .
إن تصوير ارتجاف السماوات والأرض وانهداد الجبال على صحته ، يوظف في التأثير العاطفي النفسي من باب تفظيع الدعوى ، والترهيب لقائليها ، فكيف إذا أضيفت إليها زواجر أخرى :
( لقد أحصاهم وعدّهم عدّاً . وكلّهم آتيهِ يومَ القيامةِ فرداً . )( الآيتان 94 و95) .
وإتيان البشر يوم القيامة إلى الله تعالى فرادى يذكرنا أيضا ببطلان استقواء من استقوى بالولد والأعوان من مقام رفيع أو نديٍّ حسن من دون الله .
ومع الترهيب يأتي الترغيب يحرك الوجدان ، فما يترك للنفس البشرية الصالحة من مناص للاقتناع والاستجابة ، إما بالعقل وإما بالترهيب وإما بالترغيب :
( إن الذين أمنوا وعملوا الصالحاتِ سيجعل لهمُ الرحمانُ وُدّاً . فإنما يسَّرناهُ بلسانِكَ لِتُبَشِّرَ به المُتَّقينَ ، وتُنذِرَ بهِ قوماً لُدّاً ) ( الأيتان96 و 97) .
تعدد مستويات الحوار :
وهو أن يعدل المتكلم في خطابه عن المقصود الظاهر من حواره إلى مخاطب أو مخاطبين آخرين . فالحوار السردي الأحادي الذي خوطب به النبي محمد في قسمَي السورة لم يقصد به تبادل الحوار مع النبي ، بل أريد به أن يسرد المولى تعالى عليه قصص الأنبياء والصالحين في القسم الأول ، ومحاججته للكافرين والمشركين في القسم الثاني ، فلذلك لم يجب النبي ، بل اكتفى بالسماع والتلقي قبولاً وطاعةً . فكان لهذا الحوار أو الخطاب مستويان في القصد . ومثله خطاب الملك جبريل للنبي محمد ردّاً على تخرصات المعاندين .
المستوى الثالث من الحوار حين تستعيد ذاكرة القاريء حديث الولادات العجيبة في القسم القصصي ، وهو يقرأ أو يتلو استنكار منكري البعث في القسم الثاني : ( ويقول الإنسانُ أإذا مِتُ لسوفَ أُخرَجُ حيّاً ) ( الآية 66) ، لأن من خلق الإنسان من عدم ، كخلق يحيى من أبٍ مسنٍ وأمٍّ عاقر ، وخلق المسيح من غير أبٍ ، لهو قادر على أن يبعث الميت حيّاً . كما تستعيد الذاكرة وعد الله تعالى لزكريا بأن يهبه ولداً ، ومشيئته تعالى أن تحمل الصديقة مريم بولد ، وبأن يهب إبراهيم أولاده إسحاق ويعقوب ، ويهب النبيَّ موسى أخاهُ هارون نبيّاً أيضاً ، كل ذلك تستعيده الذاكرة حين تسمع كلام الذي كفر بآيات الله وادّعاءه بأنه سوف يمتلك المال والولد من غير مشيئة الله وتوفيقه : (أفرأيتَ الذي كفرَ بآياتِنا وقالَ : لأُوتَيَنَّ مالاً وولداً ) (الآية 77) ، ومثل ذلك ادعاء من يدعي أن يتخذ الله ولداً ، في الوقت الذي اتضح في قصص زكريا والصدّيقة مريم وإبراهيم أن الإنسان العبد هو المحتاج إلى الولد ، كخوف يحيى الموالي من بعده إذا انقطع عقبه ، وحاجة موسى إلى أخ يساعده على مواجهة فرعون ، وهو أفصح منه لساناً ، كما ورد في سورة أخرى ، وفي الأحوال كلها كان الله القادر هو الذي يعطي ويمنح ،أو يستأصل الكفار والمشركين من الأمم السالفة ، فما حاجته لشريك من ولد أو سواه ؟ تستعيد الذاكرة هذه المعاني من الحوار القصصي حين تسمع المشركين يقولون في القسم الثاني : ( ..اتّخذَ الرحمانُ ولداً ) (الآية 88) . وهكذا يتضح أن القسم القصصي قام بمهمة المقدمة الضرورية ، أو التمهيد للقسم الثاني من وجوه عدة ، فاستحكم بناء لسورة الواحدة ، وتبادلت مكوناته التكامل والتناظر والإشعاع .
الالتفات في الحوار:
لما كان الحوار جزءًا من القصة الحوارية ، وكان الانتقال من السرد إلى الحوار ، ومن الحوار إلى السرد ، بات متوقعاً أيضاً أن يتم الانتقال بالضمائر والأفعال من ضمير الغائب الذي يكثر في السرد إلى ضمير المتكلم أو المخاطب وبالعكس ، أي الالتفات في السياق من خطاب إلى خطاب .
والالتفات في اصطلاح البلاغيين هو التحويل في التعبير الكلامي من اتجاه إلى آخر من جهات أو طرق الكلام الثلاث : <التكلم والخطاب والغيبة> ، مع أن الظاهر في متابعته الكلام يقتضي الاستمرار على ملازمة التعبير وفق الطريقة المختارة أولاً ، دون التحول عنها (12) ، ومن أمثلته قوله تعالى : (قال : آيتك ألا تُكلِّمَ الناسَ ثلاثَ ليالٍ سويّاً . فخرج على قومِهِ من المحرابِ ، فأوحى إليهم أن سبِّحوا بُكرةً وعَشِيّاً ) ( الآيتان 10 و 11). فالآية الأولى كانت بضمير المخاطب ( آيتك ) ، أما الآية التالية فانتقل الخطاب فيها إلى ضمير الغائب : (خرج – قومه – إليهم ..).
وهناك من البلاغيين من توسعوا بتعريف الالتفات كالسكاكي ليشمل كل انتقال في السياق بالضمائر أو الأفعال أو المعاني ، وهذا ما نذهب إليه ، كالانتقال من المفرد إلى المثنى أو الجمع وبالعكس ، أو الانتقال بين أزمنة الفعل من ماض ومضارع وأمر . فالذين حصروه بالانتقال بين الضمائر عدّوا له ستة صور لا غير (13) ، على حين نرى أن صوره أكثر من ذلك بكثير .
ولقد عني النقاد المحدثون بالالتفات ، وأدرجوه في المصطلحات الحديثة مثل ( مستويات القص – الالتفات السردي ) ( 14 ) ، وكشفوا عن أسرار الجمال البياني في الالتفات غير التي فطن إليها البلاغييون القدامى ، لأن القدامى شغلوا بالجزئيات عن الكليات .
فطن البلاغيون لست من فوائد الالتفات ، وهي :
1 – فنية التنويع في العبارة ، المثير لانتباه المتلقي ، والباعث لنشاطه في استقبال ما يوجّه من كلام ، والإصغاء إليه ، والتفكير فيه .
2 – الاقتصاد والإيجاز في التعبير . مثل حذف أفعال القول أو ما يمهد للانتقال .
3 – الإعراض عن المخاطبين ، لأنهم عن البيانات معرضون أو مُدبرون وغير مكترثين .
4 – إفادة معنى تتضمنه العبارة التي حصل الالتفات إليها ، وهذا المعنى لا يُستفاد إذا جرى القول وفق مقتضى الظاهر .
5 – ما يُستفاد من معنى بالالتفات إنما يستفاد إلماحاً بطريق غير مباشر ، ومعلوم أن الطرق غير المباشرة تكون أكثر تأثيراً من الطرق المباشرة حينما تقتضي أحوال المتلقين ذلك .
6 – إشعار مختلف زمر المقصودين بالكلام ، أنهم محلّ اهتمام المتكلم ، ولو لم يكونوا من الزمرة المتحدث عنها أولاً ، ويظهر هذا في النصوص الموجهة لجميع الناس كنصوص القرآن . ( 15 ) .
ومما رصدنا سبعة وعشرون التفاتاً ، أربعة عشر منها انتقال من السرد إلى الحوار ، خمسة منها إلى ضمير المتكلم في الآيات ( 7 و 36 و 66 و 68 و89) ، وتسعة أخرى انتقال إلى ضمير المخاطب في الآيات ( 16 و 41 و 51 و 54 و 56 و 71 و 75 و 83 و 97) .
أما الانتقال من الحوار إلى السرد فرصدنا انتقالين من ضمير المخاطب إلى ضمير الغائب في الآيتين (11 و73 ) وتسعة انتقالات من ضمير المتكلم إلى الغائب في الآيات ( 12 و 22 و 27 و 34 و 40 و 49 و 68 و 81 و 88 ) .
كما رصدنا انتقالاً أو التفاتاً واحداً من ضمير المخاطب المفرد إلى ضمير المخاطب الجمع ( الآية 71 ) . في قوله تعالى ( فوربّكَ لنحشُرنَّهم والشياطين َ ........وإن منكم إلا واردُها كانَ على ربِّكَ حتماً مقضيّاً ) ( الآية 71) .
ولو رحنا نكشف عن جماليات هذا الحجم الوافر من الالتفات ، لاحتجنا إلى بحث مستقل . ونكتفي باختيار بعضها للتمثيل .
( في قصة زكريا ويحيى انتقالات سردية في أكثر من موطن ، فبعد دعاء زكريا الخاشع في بداية سورة مريم استجيب دعاؤه ( فخرج على قومهِ من المحرابِ فأوحى إليهم أنْ سبِّحوا بُكرةً وعشيّاً .يا يحيى . خذ الكتابَ بقوة . وآتيناهُ الحكمَ صبيّاً ) (الآيتان 11و12) فمن السرد بضمير الغائب (خرج ، أوحى ) انتقل الخطاب إلى يحيى بضمير المخاطب (خذ الكتاب ) ، فهنا قفزتان سرديتان مندمجتان : ألأولى في الضمائر من الغياب إلى الخطاب ، والثانية : في الزمان من عهد البشارة التي جاءت زكريا إلى عهد يحيى إذ يتخذ الكتاب بقوة عند بلوغه رشده واضطلاعه بالنبوة ، ثم يعود السرد من الخطاب بفعل الأمر(خذ) إلى السرد بالفعل الماضي مع الضمير الغائب ( وآتيناه ) ، فهنا عودة إلى صبا يحيى حين آتاه الحكم لتبرر أخذه الكتاب بقوة فيما بعد ... كأن الخطاب هنا إلى يحيى ( يا يحيى...) كان جسراً نصيّاً عبر من فوقه السرد من زكريا والبشارة إلى قصة يحيى ونبوته ! ثم استمر الحديث عن يحيى ( وحناناً منّا وزكاةً وكانَ تقيّاً ، وبرّاً بوالديه ، ولم يكن جبّاراً عصيّاً ، وسلامٌ عليهِ يوم ولدَ ويومَ يموتُ ويومَ يُبعثُ حيّاً ) ( الآيتان 13 و 15 ) . هذا السرد الرخيم في شأن يحيى جاء بضمير الغائب ، بينما جاء ما يشبهه في نفس السورة على لسان عيسى بضمير المتكلم واصفاً حاله ( وبرّاً بوالدتي ، ولم يجعلني جباراً شقيّاً . والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً ) ( الآيتان 32 و33) . المدهش في هذه الشهادة أنها جاءت من طفل وليد لتوّه . فأن يُخبرنا يحيى عن نفسه بضمير المتكلم فذلك الإدهاش المقصود فنيّاً ، والمؤثر أيضاً ! فلذعة معجزة ميلاد عيسى في القصة تتوج بحديث الوليد عن نفسه بنفسه ، مما يحرك النفوس إعجازيّاً في الحادثة والحديث ! ) ( 16 ) .
ومن الالتفاتات المؤثرة توقف كلام النبي المسيح بضمير المتكلم باعتراض آيتين وسطه بضمير الغائب في قوله تعالى : ( والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً ) (الآية 33) والكلام لعيسى بضمير المتكلم ، فينتقل الكلام إلى ضمير الغائب ( ذلك عيسى ابنُ مريمَ قولَ الحقِّ الذي فيهِ يَمترون َ . ما كانَ للهِ أن يتخذ من ولدٍ سبحانه . إذا قضى أمراً فإنما يقول له كنْ فيكون ) (الآيتان 34 و 35) ، ثم يكون الانتقال إلى ضمير المتكلم ، وهو في الحقيقة استمرار لضمير المتكلم قبل اعتراض الآيتين السابقتين بضمير الغائب ( وإن الله ربي وربُكم فاعبدوه . هذا صراطٌ مستقيم ) ( الآية 36 ) . ومن الملاحظ أنه حصل انتقال أيضاً من فاصلة الياء المفتوحة (حيّاً ) إلى فاصلة النون(ن) والميم الساكنتين . والفائدة البليغة من قطع كلام المسيح والعودة إليه ، هو أهمية المناسبة للبرهان على بشريته التي اختلف فيها أتباعه ، وخصوصاً أنه يصرح بنفسه أنه بشر (يولد ويموت ويُبعث) ، ذلك لأن كلام المسيح بضمير المتكلم استحضار لشخصه أمام أعيننا وأعين المتلقين عياناً ، وقطع حديثه ، كما رأينا، هو تقرير للحقيقة بحضوره ، وتصديق منه أيضاً .
على أن الإعجاب لا ينقضي من روعة الالتفات من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم في قوله تعالى ( وقالوا : اتخذ الرحمانُ ولداً . لقدْ جئتم شيئاً إدّاً . تكادُ السماواتُ يتفطّرنَ منه وتنشقُّ الأرض وتَخِرُّ الجبالُ هدّاً ) (الآيات 88-90) ففظاعة ادعاء المشركين أن الرحمن اتَّخذَ ولداً ، اقتضت سرعة الانتقال ليتكلم الله تعالى مخاطباً إياهم ( لقد جئتم شيئاً إدّاً ) بشكل مباشر، ومن غير مقدمات ، ولا فعل (قال) الذي يرد أحياناً في بدايات الحوار ، ويعقب على ذلك بتصوير أثر هذه القالة الفظيعة بمزيد من الهول ، من خلال ارتجاف الكائنات والسماوات والأرضين والجبال ( تكاد السماوات يتفطّرنَ منه وتنشق الأرض وتخرُّ الجبال هدّاً ) .
كل ما ذكر من التفات أو معظمه كان في حال انتقال السياق من السرد إلى الحوار وبالعكس ، وهناك أيضاً الالتفات داخل الحوار نفسه ، نمثل له بقوله تعالى ( قل من كان في الضلالة ، فليمدُدْ لهُ الرحمانُ مدّاً . حتى إذا رأوا ما يوعدونَ : إمّا الساعةَ وإمّا العذابَ ، فسيعلمون من هو شرٌّ مكاناً ، وأضعفُ جنداً ) (الآية 75) ، فقد بدأ السياق بضمير المتكلم ( قلْ ) والحديث عن المعاند بصيغة المفرد الغائب ( من كانَ – لهُ ) ، ثم انتقل أو التفت إلى ضمير الجمع الغائب ( رأوا – يوعدونَ – فسيعلمونَ ) . وفي هذا الالتفات توكيد على أن المقصود في لفظ (منْ) ليس فرداً بعينه ، حتى ولو كان كذلك ، فإن المصير نفسه ولو أصبح المعاندون جموعاً ( رأوا ما يوعدون ) ، لأن تجمعهم لا يغني عنهم من الله شيئاً . والطريف المخيف أنهم لا ينتظرهم إلا الاختيار من خيارين ، وكل منهما أشد من الآخر ( إمّا الساعةَ ، وإمّا العذابَ ) فبئس الضلال وبئس الخيار في المآل .
التكرار في الحوار :
لأهمية قانون التكرار في علم الجمال يجعله بعض الدارسين قسيماً لقوانين الإيقاع الأخرى ( من نظام وتساوٍ وتوازٍ وتوازن وتلازم ) ، فيدرجونها تحته ، ما عدا قانون (التغير) ، ويرون أن عنصر الجمال يدور على الانسجام ( 17 ) وأن الانسجام كله ، مداره على التنويع والتكرار.
وقد عني بظاهرة التكرار القدماء والمحدثون في القرآن الكريم وغيره ، وكشفوا عن عدد من دلالاته وجمالياته ، أهمها : التأكيد ، والترنم الموسيقي ، والقفل أو التقسيم وإثارة الانفعال ( 18 ) .
ولوفرة التكرار في الحوار سوف نتناوله على مستويات ثلاثة : الآية فالمقطع فالسورة .
أما التكرار على مستوى الآية ، فنتناوله من حيت البنية العامة للآية ، ثم من حيث المكونات الداخلية لها .
في بنية الآية العامة نلحظ تكرار البدايات : ( يا أبت إني قد جاءني من العلم – يا أبتٍ لا تعبدِ الشيطانَ – يا أبت إني أخاف أن يمسَّكَ عذابٌ ) (الآيات 43-45) ، وقد سبقها النسق نفسه في تضاعيف الآية السابقة : ( إذ قال لأبيه : يا أبتِ لم تعبدُ ما لا يسمعُ ) (الآية 42) ، وفي هذا التكرار ما فيه من تلطف في النداء ، وإلحاح في المعاني أو توكيد ، فضلاً عن الأثر الموسيقي .
وفي بنية الآية نلحظ ختم الآية بفاصلة ، وهي كلمة الآية كقافية الشعر وسجعة النثر، متماثلة الروي ، تسهم في التوقيع الموسيقي على مستوى الآية والمقطع والسورة ، ولو تغيرت إلى روي الياء والنون أو الدال المحركة بالفتح ، فضلاً عن علاقة معناها بأربعة أنواع من العلاقة : كالتمكين والتصدير والتوشيح والإيغال (19) . إن تكرار فاصلة وورودها من جهة ، وعلى رويّ معين من حهة ثانية ، كل ذلك يثير التوقع أو يشبعه ، بما يبعث على الطرب أو الانشداد إلى النص وموحياته . فإذا تكررت ألفاظ أو تراكيب بعينها ، وهو ما سوف ندرسه في موضع آخر ، زاد التأثير والإيحاء ، وترابط الأجزاء بالكل .
من حيث مكونات الآية الداخلية نلحظ تكرار صيغ في بعضها مثل ( وسلام عليه يومَ ولدَ ويومَ يموتُ ويومَ يبُعثُ حيّاً ) الآية(15) تكرار حروف العطف وتكرار جمل الأفعال المضارعة المضافة إلى ( يوم ) ثلاث مرات ، مما يؤكد المعاني ، ويبعث على الترنم الموسيقي في الوقت نفسه . والأمر نفسه في قول المسيح ( والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً ) ( الآية 33) مثله تقسيم الآية قسمين ( واذكرْ في الكتاب .. . إنه كانَ ...) خمس مرات في ( الآيات 16 و41 و 51 و 54 و 56 ).
وعلى مستوى المقطع ( مجوعة آيات ) نلحظ تكرار البدايات : ( واذكرْ في الكتابِ مريم – واذكر في الكتابِ إبراهيمَ – واذكرْ في الكتابِ موسى - واذكرْ في الكتابِ إسماعيلَ – واذكر في الكتابِ إدريسَ ) ( الآيات 16 و 41 و51 و 54 و 56) ، ومن قبلها افتتاح السورة ببداية مقاربة ( ذكرُ رحمةِ ربِّكَ عبدَهُ زكريا) (الآية2) ، وهي بدايات تسهم في الإشعار بالقفل أي بداية مقطع أو قصة ونهاية مقطع آخر أو قصة أخرى ، أو التقسيم المتماسك للسورة . هذا التكرار نفسه يحمل دلالاتٍ أخرى ، مثل الإيحاء بالشبه والتماثل بين القصص المذكورة ، وبين الأنبياء والصالحين الذين تحدثت عنهم ، ووحدة الرسالة غرض مهم من أغراض العقيدة .
كما يسترعي انتباهنا انفراد مقطع من ست آيات بفاصلة ، تكرر رويها على حرف النون أو الميم الساكنتين المردوفتين بالواو أو الياء ، التي هي فاصلة القرآن الأثيرة ، وهي مخالفة لفواصل السورة التي جاءت محركة الروي بحركة الفتح ، وحتى للفواصل التي اعترضت سياقها ، فقسمتها قسمين متقاربين ، وهي فواصل الياء الممدودة بالفتح أو ألف الإطلاق .
المقطع المشار إليه هو مجموعة الآيات ( 34 – 40 ) ( ذلك عيسى ابنُ مريم قولَ الحقِّ.......إنّا نحن نرث الأرض ومن عليها ، وإلينا يُرجعون) ، وقد فطن سيد قطب في ( ظلاله ) إلى دلالة تبدل الفاصلة في هذا المقطع عما قبله وبعده فقال : (إلى أن ينتهي القصص ، ويجيء التعقيب ، لتقرير حقيقة عيسى ابن مريم ، وللفصل في قضية بنوته. فيختلف نظام الفواصل والقوافي .. تطول الفاصلة <أي الآية> وتنتهي القافية بحرف الميم والنون المستقر الساكن عند الوقف بالياء المدودة الرخية ...حتى إذا انتهى التقرير والفصل عاد السياق إلى القصص عادت القافية الرخية المديدة ) ( 20 ) .
مثل ذلك يقال عن قسمَي السورة الآخرين أو مقطعيها الطويلين ، القسم الأول الذي جاء على فاصلة الياء الممدودة بالفتح ( الآيات2 - 33 و 41 – 74 ) ، والقسم الثاني الذي جاء على فاصلة الدال المحركة بالفتح (الآيات 75 – 98 ).
وعلى مستوى السورة نلحظ التكرار في ألفاظ وتراكيب بعينها ، ثم تكرار آية بما يشبه اللازمة ، وأخيراً اضطراد الفاصلة .
سبق أن أشرنا إلى تكرر لفظ (الرحمة) أربع مرات ، ولفظ ( الرحمان) سبع عشرة مرة ، وأشرنا إلى أثر ذلك في إشاعة جوّ الرحمة والتواصل في السورة ، ومثل ذلك تكرار ألفاظ (عبد : 12 مرة ) و(ربّ : 16 مرة ) وعلاقتهما بالموضوع الرئيس للسورة ، وهو (التوحيد) في العقيدة . ونشير إلى مجموعة من الألفاظ تكررت بأكثر مما هي مألوفة نسبياً في العادة ، مثل : ( جعل : ست مرات ) و (حيّ : 4 مرات) و( سلام - شقيّ – ولد - شيء - نرث يرث: 3 مرات ) و مرتين لكل من ( فرد –عهد – مدّ – بغيّ – صبيّ – والدان – نرث – تقيّ – آتى ) ، وهي كلها تسهم في وحدة الجو أو وحدة السورة ، وبعضها له دلالته الموضعية بالإضافة إلى ذلك ، مثل لفظ ( ولد ) التي كان تكرارها يثير الانفعال ، ويرسم جو الهول والتفظيع من ادعاء الولد لله سبحانه .
ولنتأمل لفظ (الرحمان) في سياقين مختلفين : سياق الاستنكار( وقالوا اتخذ الرحمانُ ولداً ) (الآية 88) ، وسياق الإكرام ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، سيجعلُ لهم الرحمانُ وُدّاً ) ( الآية 96) ، ففي السياق الأول إظهار لنكران جميل الرحمان ثم الافتراء عليه فوق ذلك بالشرك ، وأما في الثانية فإشاعة للرحمة مع الوداد الرباني الذي ينتظر المؤمنين .
ومثل ذلك لفظ (شيء) في آيات ثلاث متباعدات :
قوله تعالى للنبي يحيى : ( قال كذلكَ قالَ ربُّكَ : هو عليَّ هيِّنٌ ، وقد خلقتُكَ من قبلُ ولم تكُ شيئاً ) ( الآية9) .
وقول النبي إبراهيم لأبيه : ( يا أبتِ لِمَ تعبدُ ما لا يسمع ولا يُبصرُ ولا يغني عنكَ شيئاً ) ( الآية 42) .
وقوله تعالى : ( أو لا يذكرُ الإنسانُ أنّا خلقناهُ من قبلُ ولم يكُ شيئاً ) ( الآية 67) ، فهي على الرغم من دلالتها التوكيد على قدرة الخالق ووحدانيته .. تسهم في وحدة السورة .
أما تكرار التراكيب أو الصيغ فلا يقل عن تكرار الألفاظ ، من ذلك :
( لم أكن بدعائك ربِّ شقيّاً ) (الآية4 ) و( عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيّاً ) (الآية 48)
و(كانَ رسولاً نبياً ) ( في الآيتين51 و54 ) ، وقريب من ذلك (كانَ صدّيقاً نبيّاً ) (الآية 56) .
و( كذلكَ قالَ ربُّكَ : هو علي هيِّنٌ ) في الآيتين (9 و21) بتعديل حركة كاف المخاطب من الفتح إلى الكسر.
و( لم أكُ بغيّاً ) (الآية 20) و( وما كانت أُمُّكِ بغيّاً ) ( الآية 28) .
و( بُكرةً وعشيّاً ) (في الآيتين 11 و62 )
وقريب من ذلك ( فليَمدُدْ له الرحمنُ مدّاً ) (الآية 75) و ( ونمدُّ لهُ من العذابِ مدّاً ) (الآية79)
و( ... تؤزُّهم أزّاً ) (الآية83)
أو ( لقد أحصاهم وعدّهم عدّاً ) (الآية94) أو ( ... خيرٌ عندَ ربِّكَ ثوابا ً وخيرٌ مردّاً ) (الآية 76)
واجتماع أنواع من التكرار في بعض الآيات لدرجة تقترب من تشكيل (اللازمة ) :
( سلامٌ عليهِ يومَ ولد ويومَ يموتُ ويومَ يُبعثُ حيّاً ) (الآية 15) والآية ( والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً ) (33) .
أو الآيات التي افتتح بها عدد من المقاطع والقصص( واذكر في الكتاب .. إنه كان ... ) خمس مرات ، فهي بالإضافة إلى دورها في التقسيم افتتاحاً أو قفلاً ، تسهم في الجو الموسيقي العام المتناغم من الألفاظ إلى العبارات والتراكيب ، فالفواصل ، فاللوازم انسجاماً وائتلافاً .
أما اضطراد الفاصلة فهي مزية القرآن كله أولاً ، وملاءمتها لمواضعها ثانياً ، وإسهامها في رسم الجوّ العام للسورة ثالثاً . وقد عرضنا لكثير من جوانب الفاصلة في تضاعيف البحث ، لكن يستوقفنا هنا حركة الفتح التي اضطردت في معظم الفواصل ، أو التي حروف رويها على الياء وعلى الدال ، لأن المألوف في حروف القافية أن يكون التماثل أو الاضطراد في حروف الروي ، وليس في حركات حروف الروي ، وهذه في الحقيقة مزية من مزايا التعبير القرآني .
إن إحلال حركة الروي محل الروي نفسه أصعب ، لكنه إذا تحقق فهو أجمل ، فكيف استطاعت الفواصل تحقيق هذه الخطوة الجمالية ؟
إن التزام حركة الفتح ، وهي صوت جهوري ، كفيل بالنهوض بهذه المهمة ، وسوف ندرسها ببحث مفصل في فواصل سور أخرى التزمت حركة الفتح أيضاً .
وهناك وسائل أخرى أسهمت في هذه الخطوة ، نضرب مثلاً عليها من أول آية تمَّ الانتقال فيها من فاصلة الياء إلى فاصلة الدال :
( وكم أهلكنا قبلَهم من قرنٍ ، هم أحسنُ أثاثاً ورِئياً ) (الآية74)
(قل من كانَ في الضلالةِ فليمدُدْ له الرحمنُ مدّاً .
حتى إذا رأوا ما يوعدون : إما الساعةَ وإمّا العذابَ فسيعلمونَ من هو شرٌّ مكاناً ، وأضعفُ جنداً ) (الآية 75) .
ففي الآية 75 التي تم فيها الانتقال من رويّ الياء إلى روي الدال .. نلحظ العوامل المساعدة :
أولاً : مهد السياق للفاصلة(جُنداً ) بفاصلة داخلية مماثلة( مدّاً ) ، وهي مهمة جداً في هذه الخطوة.
ثانياً : لاحظ وفرة حركات الفتح في الألفاظ ( كانَ – مداً – حتى – يوعدونَ – الساعةَ – العذابَ – فسيعلمونَ – هو – مكاناً – جُنداً ) .
ثالثاً : الطول النسبي للآية يساوي ضعف الآية السابقة ، مما يبقي في الذاكرة الصوتية على أثر حركة الفتح أكثر من الإبقاء على حرف الياء .
رابعاً: تمكن كلمة الفاصلة الجديدة(جُنداً ) في موقعها من الآية : موقعها من عبارتَي التفضيل ( من هو شرٌّ مكاناً وأضعفُ جُنداً ) حتى ليكاد القاريء أن يحزرها قبل التلفظ بها ، ثم موقعها من مجموع الآية أيضاً ، ولاسيما ترجيعها الموسيقي للفظ (مدّاً ) .
ومثل ذلك في الفاصلتين المتباعدتين (أزّاً ) (رِكزاً ) ، فهما فاصلتان تختلفان عن روي الياء أو الدال ، وقد وردتا في سياق روي الدال ، وكان لهما الأثر الطيب أيضاً . كيف سّوغا لنفسيهما الاستبدال ، ثم التأثير الجميل الآسر ؟
أولاً : نهضت حركة الفتح بالدور الأول .
ثانياً : تكرر حرف الروي لكل منهما على الزاي .
ثالثاً : البنية الداخلية لكل آية وردا فيها .
لاحظ معي عبارة ( تؤزّهم أزّاً ) ففعل (تؤز) يستدعي المفعول المطلق(أزّاً ) معنوياً ، وينسجم معه لفظياً ، ثم علاقة الجملة (تؤزه أزّاً ) بالفعل (أرسلنا ) ، أي كيف أُرسل الشياطين ؟ وقريب من ذلك فاصلة (رِكزاً ) ( ..هل تُحسُ منهم من أحدٍ أو تسمعُ لهم رِكزاً ) ، فهنا توازن بين جملتين (تحسُ من أحد) و( تسمع لهم رِكزاً ) ، فضلاً عن حركة الفتح وبلوغ الترهيب للكافرين والمشركين أقصاه .
الهوامش:
(1) – في ظلال القرآن – سيد قطب – دار الشروق – بيروت والقاهرة – ط17 – 1412هـ =1992م –
ج16 – ص 2326 و 2299 .
(2) – المرجع السابق : ص 2300 .
(3) – المرجع نفسه : ص 2300 .
(4) _ نفسه : ص 2300- 2301 .
(5) _ نفسه – ص 2357 .
(6) _ نفسه : ص 2315 .
(7) _ رياض الصالحين – يحيى بن شرف النووي – تحقيق عبد الله أحمد أبو زينة – باب فضل قيام الليل –
دار العلوم الحديثة – بيروت – ط13 رمضان 1390هـ - ص 351 - ذكر المؤلف : حديث
شريف ( متفق عليه ) .
( _ الظاهرة القرآنية – مالك بن نبي – دار القرآن الكريم – ط 1398هـ = 1975م – ص 194 .
(9) – دراسة نصية أدبية في القصة القرآنية – د . سليمان الطراونة – ص : 172 – ط1 – 1413 هـ = 1992م – عمان – الأردن .
(10) - المرجع السابق – ص : 162 .
(11) – في ظلال القرآن – سيد قطب – ج16/2300- دار الشروق – القاهرة بيروت- ط17 – 1412هـ = 1992م .
(12) – البلاغة العربية – عبد الرحمن حبنكة – ص : 479 – دار القلم – الدار الشامية – ط : 1416هـ = 1996 م .
(13) – المرجع السابق – ص : 482 .
(14) – دراية نصية أدبية في القصة القرآنية – ص : 118 .
(15) – البلاغة العربية – ص : 482 – 484 م .
(16) – دراسة نصية أدبية في القصة القرآنية – ص : 134- 135 .
(17) – المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها – د . عبد الله الطيب المجذوب – ج2 / 37 – نشر مصطفى البابي الحلبي وأولاده في مصر – ط1 – 1955م .
(18)– الفاصلة في القرآن – محمد الحسناوي – ص : 278 – 284 – ط3 – 1421 هـ = 2000م – دار عمار للنشر والتوزيع – عمان – الأردن .
(19) – المرجع السابق – ص : 286 – 291 .
(20) –في ظلال القرآن – ج16/2300- 2301 .
[/b]
فكان الجواب غير المباشر عليه : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرنٍ ، هم أحسنُ أثاثاً ورِئياً ) ( الآية 74 ) .
الموضع الثالث : ( .. الذي كفر بآياتِنا ، وقالَ : لأوتَيَنَّ مالاُ وولداً ) ( الآية 77)
فكان جوابه : ( أطلعَ الغيبَ ، أم اتخذ عندَ الرحمانِ عهداً ) ( الآية 78) وهي أسئلة استنكارية ، تنفي أن يكون اطلع على الغيب ، أو اتخذ عند الرحمان عهداً ، فهو كاذب ، وهو في الوقت نفسه يغش نفسه وغيره .
من أغراضه في هذه السورة الاستخفاف بالمتكلمين المعاندين من مشركين وكافرين ، مضافاً إلى ذلك الاحتقار لهم ، في إغفال أسمائهم بإضمار أو تعميم ، فلفظة(إنسان) لا تضيف (ال) التعريف لها تبياناً ، بل تعمم المعنى على الجنس ، وضمائر الفاعل في أفعال ( قال : لأوتَينَّ- من كان في الضلالة – قالوا – أن دعوا ) لا تعود على أسماء أو مسميات محددة أيضاً. وهذا خلاف لتكريم الأنبياء والصالحين الذين ذكروا صراحة بأسمائهم في القسم الأول القصصي : ( زكريا ويحيى ومريم وعيسى وإبراهيم وموسى وإسماعيل وإدريس ) ، مما يوضح المراد من قوله تعالى خطاباً للنبي محمد ست مرات ( واذكرْ في الكتابِ ..) ثم يعدد أسماء الأنبياء بعد ذلك .
والطريف المعبر اختصار قصص أنبياء ، مثل موسى وإسماعيل وإدريس ، حتى يكاد ما سيق من خبر عنهم أن يقتصر على ذكر أسمائهم تقريبا .
من الحوار غير المباشر الإجابة بالإشارة بدلاً من الكلام الصريح ، ومثله إشارة الصديقة إلى عيسى الطفل ليخاطبه قومها ، وليجيب عن تساؤلاتهم :
( فأشارت إليه ) ( الآية 29)
وقد فهموا إشارتها ، أو كلامها غير المباشر ، فقالوا مستغربين :
( كيف نكلم من كانَ في المهدِ صبيّاً ) ( الآية 29)
وبالطبع كان عجبهم أكبر لما سمعوه يجيب على تساؤلاتهم ، وهو ( صبيّ) ، بل يبلغهم أنه نبيّ أيضاً.
ومن الحوار غير المباشر نيابة متكلم جديد في الحوار عن المتكلم الثاني ، ومثله ما جاء على لسان النبي المسيح ، حين امتنعت أمه عن الكلام صوماً للرحمانِ ، وأشارت إلى قومها أن يكلموا الصبي النبي ، فردّ عليهم قائلاً :
( إني عبدُ الله آتاني الكتاب ، وجعلني نبيّاً . وأوصاني بالصلاةِ والزكاةِ ما دُمتُ حيّاً . وبرّاً بوالدتي ، ولم يجعلني جبّاراً شقيّاً . والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً ) ( الآيات 30 -33 ) .
من الإعجاز ومن البيان الساحر تساؤل قوم مريم في آية واحدة عن محاورة (صبي) ، فيجيبهم هذا (الصبي) بأربع آيات على تساؤلهم ، ويزيدهم معلومات حول مهمته النبوية ، وبره بوالدته أيضاً ، إلماحاً إلى حاجتها للبر والرعاية بسبب المسؤولية الصعبة التي أسندها الله تعالى إليها ، وهي أنثى ضعيفة عذراء .
أما الحوار التصويري فهو الحوار الذي يعنى بتصوير ملامح الشخصيات المتحاورة ، ولا سيما بعدها النفسي ، وقد ورد معظمه في القسم الأول من السورة أي القسم القصصي ، حيث القصص الحوارية ، وكان التركيز على شخصيات ( زكريا ومريم وإبراهيم ) . ومن التركيز على هذه الشخصيات التعريج على النبي يحيى في الحديث عن أبيه زكريا ، ثم التعريج على النبي عيسى في الحديث عن أمه مريم . أما شخصيات الأنبياء موسى وإسماعيل وإدريس ، فكان وصفها من غير حوار ، وبحجم أقل ، يغني عنه ما جاء من أوصاف إخوانهم الآخرين من الأنبياء المذكورين ، عليهم السلام أجمعين .
شخصية النبي زكريا تعرض لنا في حواره أبعادها كلها ( الجسدية والنفسية والاجتماعية ) :
ففي البعد الجسدي نعلم أنه رجل كبير السن جداً ، عظامه واهية ، والشيب منتشر في رأسه : ( ربِّ إني وهن العظم مني ، واشتعل الرأس شيباً ...) ( الآية 4) .
وفي بعده النفسي نعلم أنه مؤمن بالله تعالى ، يتأدب في خطابه له ، ويستعين به ، فيخاطبه بصوت خافت ، ويكشف له ضعفه ، وحاجته لغلام يرثه ويحمل الرسالة التي يحملها من بعده ، ويعترف بمنن الله عليه من قبل ، من باب الشكر والعرفان بالجميل :
(.. لم أكن بدعائك ربِّ شقيّاً ) (الآية 4)
( .... كانت امرأتي عاقراً ، فهب لي من لدنكَ وليّاً . يرثني ويرث من آل يعقوب ، واجعله ربِّ رضيًاً ) ( الآية 5 و6) .
وهو خائف من أن تُضيع عشيرته وأقاربه هذا الدين من بعده بسبب حرمانه من النسل :
( وإني خفتُ المواليَ من ورائي وكانت امرأتي عاقراً ...) ( الآية 5) .
وهو يتقي الله ، فيصوم ويسبح ، ويلزم المحراب :
( آيتكَ ألا تكلم الناسَ ثلاثَ ليالٍ سويّاً . فخرج على قومِهِ من المحرابِ ، فأوحى إليهم أن سبِّحوا بُكرةً وعَشِيّاً ) ( الآيتان 10 و11)
وفي بعده الاجتماعي نعلم أن اسمه زكريا ، له زوج عاقر ، وله أقارب من حوله ، وهو في الوقت نفسه نبي ، استجاب الله دعاءه ورزقه غلاماً ، يبعث نبياً منذ نعومة أظفاره ، اسمه يحيى ، بارّ بوالديه تقيٌّ ، ميمون الطلعة ، مبارك من يوم ولادته حتى يوم وفاته :
( يا زكريا. إنّا نُبشرُكَ بغلامٍ اسمُه يحيى ، لم نجعلْ لهُ من قبلُ سميّاً ) ( الآية 7)
( يا يحيى . خذِ الكتابَ بقوةٍ . وآتيناهُ الحكمَ صبيّاً . وحناناً منّا وزكاةً وكان تقيّاً . وبَرّاً بوالديه ِ ، ولم يكن جباراً عصيّاً . وسلامٌ عليهِ يومَ ولدَ ويومَ يموتُ ويومَ يُبعثُ حيّاً )( الآيات 13 - 15)
تصوير الأبعاد الثلاثة لشخصية النبي ، من خلال الخطوط العريضة ، والتفصيلات الموحية ، رسخت في مخيلتنا وأنفسنا صورة هذا النبي الكريم شاخصة واضحة محببة ، أسهم في ذلك الألفاظ والتراكيب الموحية بظلالها ( خفتُ الموالي – حنانًا منّا وزكاةً – ربِّ – ربِّ – ربِّ – ربِّ ) والصور البيانية مثل هذه الصورة التي بهرت البلاغيين قديماً وحديثاً ( واشتعل الرأس شيباً ) .
والشأن نفسه في تصوير الحوار لشخصيتي الصدّيقة مريم والنبي إبراهيم . والملاحظ أن التصوير عني بإبراز علاقة هؤلاء الأنبياء والصالحين بربّهم من جهة ، ثم علاقتهم بأهلهم أو ذوي رحمهم ، ولاسيما الوالدين من جهة ثانية ، وهذان الجانبان من علاقة الإنسان ، هما الأساس والمنطلق لعلاقته بالمجتمع أي بالناس الآخرين .
التصوير المعجز للشخصيات لا يتأتى من شمول الحوار لأبعاد الشخصيات ، ولا بإشعاع بعض الألفاظ والتراكيب وحسب ، فهناك جزئيات متغلغلة في تضاعيف مكونات النص بأسره ، من فاصلة الياء الممدودة بالفتح ، إلى تموج الجمل والآيات طولاً وقصراً ، إلى ألوان من التكرار اللطيف الساحر في الأحرف والكلمات والعبارات والتراكيب والصيغ . خذ مثلاً جوّ الرحمة وظلالها التي تمسح هذه السورة وشخصياتها بالذات بمسحة علوية ، أحسها الأديب سيد قطب في تفسيره وأشار إليها ، فقال : ( وإنك لتحسّ الرحمة الندية ودبيبها اللطيف في الكلمات والعبارات والظلال ، كما تحس انتفاضات الكون وارتجافاته لوقع كلمة الشرك التي لا تطيقها فطرته ) (11) . وخيط من خيوط الرحمة التي تشمل الجو والشخصيات نلحظه في تكرار لفظ ( الرحمة) أربع مرات في الآيات (2 و21 و50 و53 ) ، ولفظ الرحمان سبع عشرة مرة في الآيات ( 18 و 26 و 44 و 45 و 58 و 61 و 69 و 71 و 75 و 78 و 85 و 87 و88 و 91 و 92 و 93 و 96 ) ، مع العلم أن أسماء الله الحسنى المشهورة تعد تسعة وتسعين اسماً ، كثير منها ورد في سورة مريم ، لكن اسم الرحمان هو المختار أكثر للمعاني والظلال التي نحن بصددها . وفوق ذلك إن اختيار لفظ بعينه وتكراره مرات لا يكفيان ، بل لا بد من توظيف بليغ لكل مرة يستخدم فيها هذا اللفظ ، وهذا ما سنتناوله في التكرار الفني .
ولما كان الجو السائد في السورة ، وفي قسمها القصصي أولاً ، هو جو الرحمة والتواصل والحنان ، لم يكن الصراع هو المحرك للحوار ، الصراع بمعناه الاختلاف أو التضاد أو العداوة ، بل كان على العكس صعوبات أو عقبات ، يعاني منها المحاور البشري ، ويتكفل الله تعالى بحلها ، مثل طلب النبي زكريا أن يكون له ولد صالح ، يتابع من بعده رسالته ، برغم بلوغه سن الكبر وعقم الزوج . ومثل الحكمة الربانية التي اقتضت أن تحمل الصدّيقة مريم بالمسيح ، وممانعتها ذلك بسبب المشقة البالغة على أنثى عذراء ، تحمل مثل هذا الحمل ، فيحاورها الملك جبريل مؤنساً ومطمئناً ، ثم منفذاً لقرار حاسم لا مردّ له ، يشفع ذلك كله بالكرامات التي وهبت لها ولابنها البارّ صبياً وشاباً وكهلاًً ، مما يحل الإشكال ويخفف الأزمة .
أما حوار النبي إبراهيم مع أبيه ، فهو حوار ينطوي على صراع حقيقي أي صراع عداوة ، لكن من طرف واحد ، هو الأب . الابن ينادي يا (أبتِ ) ، ويتلطف بالدعوة وبعرض الحجج والترغيب والتخويف من سوء العاقبة ، والأب على العكس يهدد ويتوعد ، ويهجر أخيراً ابنه مقاطعاً إياه ، تحت طائلة الرجم . ولذلك كان كلام النبي إبراهيم مطولاً مفصلاً في سبع آيات ، وكلام الأب محدوداً في آية واحدة .
وقد تكفل حوار إبراهيم بالتدرج في العرض والتصعيد ، فقدم أولاً الحجج العقلية مع نداء البنوة :
( يا أبتِ . لم تعبدُ ما لا يسمعُ ولا يُبصرُ ولا يُغني عنكَ شيئاً ) ( الآية42)
ثم ثنى بالعلم الذي جاء ت به النبوة تعزيزاً للحجاج العقلي :
( يا . أبتِ . إني قد جاءني من العلم ما لم يأتكَ ، فاتبعني أهدك صراطاً سويّاً ) (الآية 43)
ثم انتقل إلى التحذير من الانجرار إلى عبادة الشيطان العاصي ربه :
( يا أبت . لا تعبدِ الشيطان . إن الشيطان كانَ للرحمانِ عصيّاً ) ( الآية 44 )
واستكمل التحذير بالترهيب الشفوق عليه :
( يا أبتِ . إني أخافُ أن يمسَّكَ عذابٌ من الرحمان ، فتكون للشيطان وليّاً ) ( الآية 45)
ولما أجابه أبوه بجواب التهديد والمقاطعة والتهديد بالرجم ، ونفض يده من هدايته ، فارقه بسلام ووعده بالدعاء له بالغفران ، ومهد للمفارقة بإحسان :
(سلامٌ عليكَ . سأستغفرُ لك ربي . إنه كانَ بي حفيّاً . وأعتزلكم وما تدعون من دون الله . وأدعو ربي عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيّاً ) (الآيتان 47 و48 ) .
أما الحوار الحجاجي العقلي فيدور حول قضايا عقلية بين المتحاورين ، مثل قضية (البعث ) بعد الموت ، و قضية( التوحيد ) أو ادّعاء شركاء لله تعالى من مال أو ولد أو أحجار ، وهما القضيتان اللتان تضمنهما الحوار في النصف الثاني من السورة . وفي كل قضية تتوفر أركان مثل ( دعوى ) و( مدّعٍ ) و( مناقض ) لهذا المدعي و ( بينة ) أو بينات تحسم الدعوى .
فقضية ( البعث بعد الموت) ينكرها مشركو مكة : ( ويقول الإنسان أإذا ما مِتُ لسوف أُُخرجُ حيّاً ) (الآية 66) في صيغة سؤال إنكاري . فيرد الله على هذا الادعاء ببينة عقلية منطقية بأن البعث مؤكد بقدرة الله الذي خلق هذا الإنسان أول مرة ، ولم يكن شيئاً يذكر ، ومن باب أولى أن يقدر على خلقه أو إعادة الحياة إليه مرة أخرى : ( أولا يذكر الإنسان أنّا خلقناه من قبلُ ولم يكُ شيئاً ) ( الآية 67) .
إلى هنا انتهت القضية عقلياً ، ويمكن أن نطوي الصفحة للانتقال إلى قضية أخرى ، لكن القرآن الكريم الذي لا يحرص على الغلبة للغلبة ، بل على الوصول إلى الإيمان والاطمئنان العميقين ، يعالج المتسائلين أو المعاندين بمخاطبة وجدانهم وقلوبهم ونفوسهم ترغيباً وترهيباً ، بقدر ما يخاطب عقولهم وقناعاتهم ، ومن هذا الباب لم يصرح باسم السائل المتشكك أولاً ، وعمم السؤال على (جنس) الإنسان ، لأنه سؤال يتكرر في أزمنة وأمكنة أخرى ثانياً ، وأضاف إلى البينة تهديداً لمن يصرّ على دعواه الباطلة بالعذاب الشديد : (فوربِّكَ لنحشرنَّهم والشياطين ، ثم لنُحضِرنهم حول جهنّم جِثيّاُ . ثم لننزِعَنَّ من كلّ شيعةٍ أيهم أشدُّ على الرحمنِ عتيّاً . ثم لنحنُ أعلم بالذين هم أولى بها صِِليّاً ) ( الآيات 68-70) ، لأن الإنسان الذي لا يقتنع بالحجة والمنطق يعالج بالتخويف من سوء المصير والإصرار على الزيغ والضلال .
وهنا تستيقظ ذاكرتنا بالمناسبة ، لتستعيد الحديث عن (الولادات) العجيبة التي عمرت بها قصص القسم الأول في السورة : ولادة النبي (يحيى) ، وولادة النبي (عيسى) ، وهي ولادات غير مألوفة في العرف البشري ، تذكر بقدرة الله تعالى في الخلق من عدم ، تلك القدرة التي عبر عنها كثيراً ، مثل القول : ( خلقتك من قبلُ ولم تكُ شيئاً ) ( إنّا خلقناهُ من قبلُ ولم يكُ شيئاً ) مرتين ( الآيتان 9 و 67) ، وقوله تعالى لنبيه يحيى لما استغرب أن يرزق بولد مع شيخوخته وعقم زوجه : ( قال: كذلكَ قال ربكَ : هو عليَّ هيِّنٌ.. ) (الآية9) أو قول جبريل عن الله تعالى لمريم لما تعجبت من إمكان حملها ولم يمسسها بشر : ( قال : كذلِكِ قال ربكِ : هو عليَّ هيِّنٌ ..)( الآية 21) .
أما دعاوى الشرك بالله المنافي لقضية الوحدانية التي هي موضوع السورة الرئيس ، فيعرض لها القسم الثاني في ثلاثة مواضع :
الموضع الأول هو لما استقوى الذين كفروا بغير الله من مٌقام رفيع أو جمع غفير من الأعوان أو النسل :
( قال الذين كفروا للذين آمنوا : أي الفريقينِ خيرٌ مُقاماً ، وأحسنُ نديّاً ) ( الآية 73) .
لم يذكرهم الله تعالى بأنه هو الذي وهبهم الأولاد والجاه والأنصار والأعوان ، فلا حجة لهم في هذه الدعوى ، وإن جاءت في مواضع أخرى ، بل انتقل إلى قدرته على الذهاب بهم ، وبما استقووا به ، مثلما ذهب بمن سبقهم من الأمم ، على الرغم من تمتعهم بما هو أحسن منهم منظراً وعدداً وقوة : ( وكم أهلكنا قبلهم من قرنٍ ، هم أحسن ُأثاثاً ورِئياً ) ( الآية 74) فجمع بذلك الحجة العقلية والترهيب النفسي .
والموضع الثاني استقواء الكافر بالمال والولد من دون الله صراحة :
( أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال : لأوتَيَنَّ مالاً وولداً ) (77)
فجاءه الجواب يدفع دعواه الباطلة بحجتين عقليتين : الأولى جهله بالغيب إن كان سيرزق بولد ومال أم لا . والثانية نفي أن يكون وعده الله الخالق بأن يرزق ولداً أو مالاً :
(أطَّلعَ الغيبَ ، أم اتخذ عند الرحمانِ عهداً ) (الآية 78) .
وهنا تستعيد ذاكرتنا وعد الله تعالى لنبيه زكريا بالولد ، وبقضائه للسيدة مريم بالحمل ، وبهبته لنبيه موسى بأخ نبي هو هارون ، للدلالة على أنه هو الذي يهب المال والبنين ، كما هو وحده الذي يهب الحياة ويسلبها من عباده ومخلوقاته .
والموضع الثالث لما ادعى المشركون صراحة بأن لله تعالى ولداً :
( وقالو : اتخذ الرحمانُ ولداً ) (الآية88)
فكان الجواب العقلي المنطقي مخالفة الدعوى للفطرة السليمة ولناموس الكون لدرجة ، أن السماوات تكاد تتفطر من فظاعتها ، وتنشق الأرض ، وتخر الجبال منهدة ، لأن اتخاذ الولد يناقض كمال الألوهية التي لا تحتاج لمن يكملها من ولد أو سواه من عبيده :
( لقد جئتم شيئاً إدّاً . تكاد السماواتُ يتفطرنَ منه وتنشقُّ الأرضُ ، وتخرُّ الجبالُ هدّاً . أن دعَوا للرحمانِ ولداً . وما ينبغي للرحمن أن يتخذَ ولداً . إن كلّ من في السماواتِ والأرض إلا أتي الرحمنِ عبداً ) ( الآيات 89- 92) .
إن تصوير ارتجاف السماوات والأرض وانهداد الجبال على صحته ، يوظف في التأثير العاطفي النفسي من باب تفظيع الدعوى ، والترهيب لقائليها ، فكيف إذا أضيفت إليها زواجر أخرى :
( لقد أحصاهم وعدّهم عدّاً . وكلّهم آتيهِ يومَ القيامةِ فرداً . )( الآيتان 94 و95) .
وإتيان البشر يوم القيامة إلى الله تعالى فرادى يذكرنا أيضا ببطلان استقواء من استقوى بالولد والأعوان من مقام رفيع أو نديٍّ حسن من دون الله .
ومع الترهيب يأتي الترغيب يحرك الوجدان ، فما يترك للنفس البشرية الصالحة من مناص للاقتناع والاستجابة ، إما بالعقل وإما بالترهيب وإما بالترغيب :
( إن الذين أمنوا وعملوا الصالحاتِ سيجعل لهمُ الرحمانُ وُدّاً . فإنما يسَّرناهُ بلسانِكَ لِتُبَشِّرَ به المُتَّقينَ ، وتُنذِرَ بهِ قوماً لُدّاً ) ( الأيتان96 و 97) .
تعدد مستويات الحوار :
وهو أن يعدل المتكلم في خطابه عن المقصود الظاهر من حواره إلى مخاطب أو مخاطبين آخرين . فالحوار السردي الأحادي الذي خوطب به النبي محمد في قسمَي السورة لم يقصد به تبادل الحوار مع النبي ، بل أريد به أن يسرد المولى تعالى عليه قصص الأنبياء والصالحين في القسم الأول ، ومحاججته للكافرين والمشركين في القسم الثاني ، فلذلك لم يجب النبي ، بل اكتفى بالسماع والتلقي قبولاً وطاعةً . فكان لهذا الحوار أو الخطاب مستويان في القصد . ومثله خطاب الملك جبريل للنبي محمد ردّاً على تخرصات المعاندين .
المستوى الثالث من الحوار حين تستعيد ذاكرة القاريء حديث الولادات العجيبة في القسم القصصي ، وهو يقرأ أو يتلو استنكار منكري البعث في القسم الثاني : ( ويقول الإنسانُ أإذا مِتُ لسوفَ أُخرَجُ حيّاً ) ( الآية 66) ، لأن من خلق الإنسان من عدم ، كخلق يحيى من أبٍ مسنٍ وأمٍّ عاقر ، وخلق المسيح من غير أبٍ ، لهو قادر على أن يبعث الميت حيّاً . كما تستعيد الذاكرة وعد الله تعالى لزكريا بأن يهبه ولداً ، ومشيئته تعالى أن تحمل الصديقة مريم بولد ، وبأن يهب إبراهيم أولاده إسحاق ويعقوب ، ويهب النبيَّ موسى أخاهُ هارون نبيّاً أيضاً ، كل ذلك تستعيده الذاكرة حين تسمع كلام الذي كفر بآيات الله وادّعاءه بأنه سوف يمتلك المال والولد من غير مشيئة الله وتوفيقه : (أفرأيتَ الذي كفرَ بآياتِنا وقالَ : لأُوتَيَنَّ مالاً وولداً ) (الآية 77) ، ومثل ذلك ادعاء من يدعي أن يتخذ الله ولداً ، في الوقت الذي اتضح في قصص زكريا والصدّيقة مريم وإبراهيم أن الإنسان العبد هو المحتاج إلى الولد ، كخوف يحيى الموالي من بعده إذا انقطع عقبه ، وحاجة موسى إلى أخ يساعده على مواجهة فرعون ، وهو أفصح منه لساناً ، كما ورد في سورة أخرى ، وفي الأحوال كلها كان الله القادر هو الذي يعطي ويمنح ،أو يستأصل الكفار والمشركين من الأمم السالفة ، فما حاجته لشريك من ولد أو سواه ؟ تستعيد الذاكرة هذه المعاني من الحوار القصصي حين تسمع المشركين يقولون في القسم الثاني : ( ..اتّخذَ الرحمانُ ولداً ) (الآية 88) . وهكذا يتضح أن القسم القصصي قام بمهمة المقدمة الضرورية ، أو التمهيد للقسم الثاني من وجوه عدة ، فاستحكم بناء لسورة الواحدة ، وتبادلت مكوناته التكامل والتناظر والإشعاع .
الالتفات في الحوار:
لما كان الحوار جزءًا من القصة الحوارية ، وكان الانتقال من السرد إلى الحوار ، ومن الحوار إلى السرد ، بات متوقعاً أيضاً أن يتم الانتقال بالضمائر والأفعال من ضمير الغائب الذي يكثر في السرد إلى ضمير المتكلم أو المخاطب وبالعكس ، أي الالتفات في السياق من خطاب إلى خطاب .
والالتفات في اصطلاح البلاغيين هو التحويل في التعبير الكلامي من اتجاه إلى آخر من جهات أو طرق الكلام الثلاث : <التكلم والخطاب والغيبة> ، مع أن الظاهر في متابعته الكلام يقتضي الاستمرار على ملازمة التعبير وفق الطريقة المختارة أولاً ، دون التحول عنها (12) ، ومن أمثلته قوله تعالى : (قال : آيتك ألا تُكلِّمَ الناسَ ثلاثَ ليالٍ سويّاً . فخرج على قومِهِ من المحرابِ ، فأوحى إليهم أن سبِّحوا بُكرةً وعَشِيّاً ) ( الآيتان 10 و 11). فالآية الأولى كانت بضمير المخاطب ( آيتك ) ، أما الآية التالية فانتقل الخطاب فيها إلى ضمير الغائب : (خرج – قومه – إليهم ..).
وهناك من البلاغيين من توسعوا بتعريف الالتفات كالسكاكي ليشمل كل انتقال في السياق بالضمائر أو الأفعال أو المعاني ، وهذا ما نذهب إليه ، كالانتقال من المفرد إلى المثنى أو الجمع وبالعكس ، أو الانتقال بين أزمنة الفعل من ماض ومضارع وأمر . فالذين حصروه بالانتقال بين الضمائر عدّوا له ستة صور لا غير (13) ، على حين نرى أن صوره أكثر من ذلك بكثير .
ولقد عني النقاد المحدثون بالالتفات ، وأدرجوه في المصطلحات الحديثة مثل ( مستويات القص – الالتفات السردي ) ( 14 ) ، وكشفوا عن أسرار الجمال البياني في الالتفات غير التي فطن إليها البلاغييون القدامى ، لأن القدامى شغلوا بالجزئيات عن الكليات .
فطن البلاغيون لست من فوائد الالتفات ، وهي :
1 – فنية التنويع في العبارة ، المثير لانتباه المتلقي ، والباعث لنشاطه في استقبال ما يوجّه من كلام ، والإصغاء إليه ، والتفكير فيه .
2 – الاقتصاد والإيجاز في التعبير . مثل حذف أفعال القول أو ما يمهد للانتقال .
3 – الإعراض عن المخاطبين ، لأنهم عن البيانات معرضون أو مُدبرون وغير مكترثين .
4 – إفادة معنى تتضمنه العبارة التي حصل الالتفات إليها ، وهذا المعنى لا يُستفاد إذا جرى القول وفق مقتضى الظاهر .
5 – ما يُستفاد من معنى بالالتفات إنما يستفاد إلماحاً بطريق غير مباشر ، ومعلوم أن الطرق غير المباشرة تكون أكثر تأثيراً من الطرق المباشرة حينما تقتضي أحوال المتلقين ذلك .
6 – إشعار مختلف زمر المقصودين بالكلام ، أنهم محلّ اهتمام المتكلم ، ولو لم يكونوا من الزمرة المتحدث عنها أولاً ، ويظهر هذا في النصوص الموجهة لجميع الناس كنصوص القرآن . ( 15 ) .
ومما رصدنا سبعة وعشرون التفاتاً ، أربعة عشر منها انتقال من السرد إلى الحوار ، خمسة منها إلى ضمير المتكلم في الآيات ( 7 و 36 و 66 و 68 و89) ، وتسعة أخرى انتقال إلى ضمير المخاطب في الآيات ( 16 و 41 و 51 و 54 و 56 و 71 و 75 و 83 و 97) .
أما الانتقال من الحوار إلى السرد فرصدنا انتقالين من ضمير المخاطب إلى ضمير الغائب في الآيتين (11 و73 ) وتسعة انتقالات من ضمير المتكلم إلى الغائب في الآيات ( 12 و 22 و 27 و 34 و 40 و 49 و 68 و 81 و 88 ) .
كما رصدنا انتقالاً أو التفاتاً واحداً من ضمير المخاطب المفرد إلى ضمير المخاطب الجمع ( الآية 71 ) . في قوله تعالى ( فوربّكَ لنحشُرنَّهم والشياطين َ ........وإن منكم إلا واردُها كانَ على ربِّكَ حتماً مقضيّاً ) ( الآية 71) .
ولو رحنا نكشف عن جماليات هذا الحجم الوافر من الالتفات ، لاحتجنا إلى بحث مستقل . ونكتفي باختيار بعضها للتمثيل .
( في قصة زكريا ويحيى انتقالات سردية في أكثر من موطن ، فبعد دعاء زكريا الخاشع في بداية سورة مريم استجيب دعاؤه ( فخرج على قومهِ من المحرابِ فأوحى إليهم أنْ سبِّحوا بُكرةً وعشيّاً .يا يحيى . خذ الكتابَ بقوة . وآتيناهُ الحكمَ صبيّاً ) (الآيتان 11و12) فمن السرد بضمير الغائب (خرج ، أوحى ) انتقل الخطاب إلى يحيى بضمير المخاطب (خذ الكتاب ) ، فهنا قفزتان سرديتان مندمجتان : ألأولى في الضمائر من الغياب إلى الخطاب ، والثانية : في الزمان من عهد البشارة التي جاءت زكريا إلى عهد يحيى إذ يتخذ الكتاب بقوة عند بلوغه رشده واضطلاعه بالنبوة ، ثم يعود السرد من الخطاب بفعل الأمر(خذ) إلى السرد بالفعل الماضي مع الضمير الغائب ( وآتيناه ) ، فهنا عودة إلى صبا يحيى حين آتاه الحكم لتبرر أخذه الكتاب بقوة فيما بعد ... كأن الخطاب هنا إلى يحيى ( يا يحيى...) كان جسراً نصيّاً عبر من فوقه السرد من زكريا والبشارة إلى قصة يحيى ونبوته ! ثم استمر الحديث عن يحيى ( وحناناً منّا وزكاةً وكانَ تقيّاً ، وبرّاً بوالديه ، ولم يكن جبّاراً عصيّاً ، وسلامٌ عليهِ يوم ولدَ ويومَ يموتُ ويومَ يُبعثُ حيّاً ) ( الآيتان 13 و 15 ) . هذا السرد الرخيم في شأن يحيى جاء بضمير الغائب ، بينما جاء ما يشبهه في نفس السورة على لسان عيسى بضمير المتكلم واصفاً حاله ( وبرّاً بوالدتي ، ولم يجعلني جباراً شقيّاً . والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً ) ( الآيتان 32 و33) . المدهش في هذه الشهادة أنها جاءت من طفل وليد لتوّه . فأن يُخبرنا يحيى عن نفسه بضمير المتكلم فذلك الإدهاش المقصود فنيّاً ، والمؤثر أيضاً ! فلذعة معجزة ميلاد عيسى في القصة تتوج بحديث الوليد عن نفسه بنفسه ، مما يحرك النفوس إعجازيّاً في الحادثة والحديث ! ) ( 16 ) .
ومن الالتفاتات المؤثرة توقف كلام النبي المسيح بضمير المتكلم باعتراض آيتين وسطه بضمير الغائب في قوله تعالى : ( والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً ) (الآية 33) والكلام لعيسى بضمير المتكلم ، فينتقل الكلام إلى ضمير الغائب ( ذلك عيسى ابنُ مريمَ قولَ الحقِّ الذي فيهِ يَمترون َ . ما كانَ للهِ أن يتخذ من ولدٍ سبحانه . إذا قضى أمراً فإنما يقول له كنْ فيكون ) (الآيتان 34 و 35) ، ثم يكون الانتقال إلى ضمير المتكلم ، وهو في الحقيقة استمرار لضمير المتكلم قبل اعتراض الآيتين السابقتين بضمير الغائب ( وإن الله ربي وربُكم فاعبدوه . هذا صراطٌ مستقيم ) ( الآية 36 ) . ومن الملاحظ أنه حصل انتقال أيضاً من فاصلة الياء المفتوحة (حيّاً ) إلى فاصلة النون(ن) والميم الساكنتين . والفائدة البليغة من قطع كلام المسيح والعودة إليه ، هو أهمية المناسبة للبرهان على بشريته التي اختلف فيها أتباعه ، وخصوصاً أنه يصرح بنفسه أنه بشر (يولد ويموت ويُبعث) ، ذلك لأن كلام المسيح بضمير المتكلم استحضار لشخصه أمام أعيننا وأعين المتلقين عياناً ، وقطع حديثه ، كما رأينا، هو تقرير للحقيقة بحضوره ، وتصديق منه أيضاً .
على أن الإعجاب لا ينقضي من روعة الالتفات من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم في قوله تعالى ( وقالوا : اتخذ الرحمانُ ولداً . لقدْ جئتم شيئاً إدّاً . تكادُ السماواتُ يتفطّرنَ منه وتنشقُّ الأرض وتَخِرُّ الجبالُ هدّاً ) (الآيات 88-90) ففظاعة ادعاء المشركين أن الرحمن اتَّخذَ ولداً ، اقتضت سرعة الانتقال ليتكلم الله تعالى مخاطباً إياهم ( لقد جئتم شيئاً إدّاً ) بشكل مباشر، ومن غير مقدمات ، ولا فعل (قال) الذي يرد أحياناً في بدايات الحوار ، ويعقب على ذلك بتصوير أثر هذه القالة الفظيعة بمزيد من الهول ، من خلال ارتجاف الكائنات والسماوات والأرضين والجبال ( تكاد السماوات يتفطّرنَ منه وتنشق الأرض وتخرُّ الجبال هدّاً ) .
كل ما ذكر من التفات أو معظمه كان في حال انتقال السياق من السرد إلى الحوار وبالعكس ، وهناك أيضاً الالتفات داخل الحوار نفسه ، نمثل له بقوله تعالى ( قل من كان في الضلالة ، فليمدُدْ لهُ الرحمانُ مدّاً . حتى إذا رأوا ما يوعدونَ : إمّا الساعةَ وإمّا العذابَ ، فسيعلمون من هو شرٌّ مكاناً ، وأضعفُ جنداً ) (الآية 75) ، فقد بدأ السياق بضمير المتكلم ( قلْ ) والحديث عن المعاند بصيغة المفرد الغائب ( من كانَ – لهُ ) ، ثم انتقل أو التفت إلى ضمير الجمع الغائب ( رأوا – يوعدونَ – فسيعلمونَ ) . وفي هذا الالتفات توكيد على أن المقصود في لفظ (منْ) ليس فرداً بعينه ، حتى ولو كان كذلك ، فإن المصير نفسه ولو أصبح المعاندون جموعاً ( رأوا ما يوعدون ) ، لأن تجمعهم لا يغني عنهم من الله شيئاً . والطريف المخيف أنهم لا ينتظرهم إلا الاختيار من خيارين ، وكل منهما أشد من الآخر ( إمّا الساعةَ ، وإمّا العذابَ ) فبئس الضلال وبئس الخيار في المآل .
التكرار في الحوار :
لأهمية قانون التكرار في علم الجمال يجعله بعض الدارسين قسيماً لقوانين الإيقاع الأخرى ( من نظام وتساوٍ وتوازٍ وتوازن وتلازم ) ، فيدرجونها تحته ، ما عدا قانون (التغير) ، ويرون أن عنصر الجمال يدور على الانسجام ( 17 ) وأن الانسجام كله ، مداره على التنويع والتكرار.
وقد عني بظاهرة التكرار القدماء والمحدثون في القرآن الكريم وغيره ، وكشفوا عن عدد من دلالاته وجمالياته ، أهمها : التأكيد ، والترنم الموسيقي ، والقفل أو التقسيم وإثارة الانفعال ( 18 ) .
ولوفرة التكرار في الحوار سوف نتناوله على مستويات ثلاثة : الآية فالمقطع فالسورة .
أما التكرار على مستوى الآية ، فنتناوله من حيت البنية العامة للآية ، ثم من حيث المكونات الداخلية لها .
في بنية الآية العامة نلحظ تكرار البدايات : ( يا أبت إني قد جاءني من العلم – يا أبتٍ لا تعبدِ الشيطانَ – يا أبت إني أخاف أن يمسَّكَ عذابٌ ) (الآيات 43-45) ، وقد سبقها النسق نفسه في تضاعيف الآية السابقة : ( إذ قال لأبيه : يا أبتِ لم تعبدُ ما لا يسمعُ ) (الآية 42) ، وفي هذا التكرار ما فيه من تلطف في النداء ، وإلحاح في المعاني أو توكيد ، فضلاً عن الأثر الموسيقي .
وفي بنية الآية نلحظ ختم الآية بفاصلة ، وهي كلمة الآية كقافية الشعر وسجعة النثر، متماثلة الروي ، تسهم في التوقيع الموسيقي على مستوى الآية والمقطع والسورة ، ولو تغيرت إلى روي الياء والنون أو الدال المحركة بالفتح ، فضلاً عن علاقة معناها بأربعة أنواع من العلاقة : كالتمكين والتصدير والتوشيح والإيغال (19) . إن تكرار فاصلة وورودها من جهة ، وعلى رويّ معين من حهة ثانية ، كل ذلك يثير التوقع أو يشبعه ، بما يبعث على الطرب أو الانشداد إلى النص وموحياته . فإذا تكررت ألفاظ أو تراكيب بعينها ، وهو ما سوف ندرسه في موضع آخر ، زاد التأثير والإيحاء ، وترابط الأجزاء بالكل .
من حيث مكونات الآية الداخلية نلحظ تكرار صيغ في بعضها مثل ( وسلام عليه يومَ ولدَ ويومَ يموتُ ويومَ يبُعثُ حيّاً ) الآية(15) تكرار حروف العطف وتكرار جمل الأفعال المضارعة المضافة إلى ( يوم ) ثلاث مرات ، مما يؤكد المعاني ، ويبعث على الترنم الموسيقي في الوقت نفسه . والأمر نفسه في قول المسيح ( والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً ) ( الآية 33) مثله تقسيم الآية قسمين ( واذكرْ في الكتاب .. . إنه كانَ ...) خمس مرات في ( الآيات 16 و41 و 51 و 54 و 56 ).
وعلى مستوى المقطع ( مجوعة آيات ) نلحظ تكرار البدايات : ( واذكرْ في الكتابِ مريم – واذكر في الكتابِ إبراهيمَ – واذكرْ في الكتابِ موسى - واذكرْ في الكتابِ إسماعيلَ – واذكر في الكتابِ إدريسَ ) ( الآيات 16 و 41 و51 و 54 و 56) ، ومن قبلها افتتاح السورة ببداية مقاربة ( ذكرُ رحمةِ ربِّكَ عبدَهُ زكريا) (الآية2) ، وهي بدايات تسهم في الإشعار بالقفل أي بداية مقطع أو قصة ونهاية مقطع آخر أو قصة أخرى ، أو التقسيم المتماسك للسورة . هذا التكرار نفسه يحمل دلالاتٍ أخرى ، مثل الإيحاء بالشبه والتماثل بين القصص المذكورة ، وبين الأنبياء والصالحين الذين تحدثت عنهم ، ووحدة الرسالة غرض مهم من أغراض العقيدة .
كما يسترعي انتباهنا انفراد مقطع من ست آيات بفاصلة ، تكرر رويها على حرف النون أو الميم الساكنتين المردوفتين بالواو أو الياء ، التي هي فاصلة القرآن الأثيرة ، وهي مخالفة لفواصل السورة التي جاءت محركة الروي بحركة الفتح ، وحتى للفواصل التي اعترضت سياقها ، فقسمتها قسمين متقاربين ، وهي فواصل الياء الممدودة بالفتح أو ألف الإطلاق .
المقطع المشار إليه هو مجموعة الآيات ( 34 – 40 ) ( ذلك عيسى ابنُ مريم قولَ الحقِّ.......إنّا نحن نرث الأرض ومن عليها ، وإلينا يُرجعون) ، وقد فطن سيد قطب في ( ظلاله ) إلى دلالة تبدل الفاصلة في هذا المقطع عما قبله وبعده فقال : (إلى أن ينتهي القصص ، ويجيء التعقيب ، لتقرير حقيقة عيسى ابن مريم ، وللفصل في قضية بنوته. فيختلف نظام الفواصل والقوافي .. تطول الفاصلة <أي الآية> وتنتهي القافية بحرف الميم والنون المستقر الساكن عند الوقف بالياء المدودة الرخية ...حتى إذا انتهى التقرير والفصل عاد السياق إلى القصص عادت القافية الرخية المديدة ) ( 20 ) .
مثل ذلك يقال عن قسمَي السورة الآخرين أو مقطعيها الطويلين ، القسم الأول الذي جاء على فاصلة الياء الممدودة بالفتح ( الآيات2 - 33 و 41 – 74 ) ، والقسم الثاني الذي جاء على فاصلة الدال المحركة بالفتح (الآيات 75 – 98 ).
وعلى مستوى السورة نلحظ التكرار في ألفاظ وتراكيب بعينها ، ثم تكرار آية بما يشبه اللازمة ، وأخيراً اضطراد الفاصلة .
سبق أن أشرنا إلى تكرر لفظ (الرحمة) أربع مرات ، ولفظ ( الرحمان) سبع عشرة مرة ، وأشرنا إلى أثر ذلك في إشاعة جوّ الرحمة والتواصل في السورة ، ومثل ذلك تكرار ألفاظ (عبد : 12 مرة ) و(ربّ : 16 مرة ) وعلاقتهما بالموضوع الرئيس للسورة ، وهو (التوحيد) في العقيدة . ونشير إلى مجموعة من الألفاظ تكررت بأكثر مما هي مألوفة نسبياً في العادة ، مثل : ( جعل : ست مرات ) و (حيّ : 4 مرات) و( سلام - شقيّ – ولد - شيء - نرث يرث: 3 مرات ) و مرتين لكل من ( فرد –عهد – مدّ – بغيّ – صبيّ – والدان – نرث – تقيّ – آتى ) ، وهي كلها تسهم في وحدة الجو أو وحدة السورة ، وبعضها له دلالته الموضعية بالإضافة إلى ذلك ، مثل لفظ ( ولد ) التي كان تكرارها يثير الانفعال ، ويرسم جو الهول والتفظيع من ادعاء الولد لله سبحانه .
ولنتأمل لفظ (الرحمان) في سياقين مختلفين : سياق الاستنكار( وقالوا اتخذ الرحمانُ ولداً ) (الآية 88) ، وسياق الإكرام ( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، سيجعلُ لهم الرحمانُ وُدّاً ) ( الآية 96) ، ففي السياق الأول إظهار لنكران جميل الرحمان ثم الافتراء عليه فوق ذلك بالشرك ، وأما في الثانية فإشاعة للرحمة مع الوداد الرباني الذي ينتظر المؤمنين .
ومثل ذلك لفظ (شيء) في آيات ثلاث متباعدات :
قوله تعالى للنبي يحيى : ( قال كذلكَ قالَ ربُّكَ : هو عليَّ هيِّنٌ ، وقد خلقتُكَ من قبلُ ولم تكُ شيئاً ) ( الآية9) .
وقول النبي إبراهيم لأبيه : ( يا أبتِ لِمَ تعبدُ ما لا يسمع ولا يُبصرُ ولا يغني عنكَ شيئاً ) ( الآية 42) .
وقوله تعالى : ( أو لا يذكرُ الإنسانُ أنّا خلقناهُ من قبلُ ولم يكُ شيئاً ) ( الآية 67) ، فهي على الرغم من دلالتها التوكيد على قدرة الخالق ووحدانيته .. تسهم في وحدة السورة .
أما تكرار التراكيب أو الصيغ فلا يقل عن تكرار الألفاظ ، من ذلك :
( لم أكن بدعائك ربِّ شقيّاً ) (الآية4 ) و( عسى ألا أكون بدعاء ربي شقيّاً ) (الآية 48)
و(كانَ رسولاً نبياً ) ( في الآيتين51 و54 ) ، وقريب من ذلك (كانَ صدّيقاً نبيّاً ) (الآية 56) .
و( كذلكَ قالَ ربُّكَ : هو علي هيِّنٌ ) في الآيتين (9 و21) بتعديل حركة كاف المخاطب من الفتح إلى الكسر.
و( لم أكُ بغيّاً ) (الآية 20) و( وما كانت أُمُّكِ بغيّاً ) ( الآية 28) .
و( بُكرةً وعشيّاً ) (في الآيتين 11 و62 )
وقريب من ذلك ( فليَمدُدْ له الرحمنُ مدّاً ) (الآية 75) و ( ونمدُّ لهُ من العذابِ مدّاً ) (الآية79)
و( ... تؤزُّهم أزّاً ) (الآية83)
أو ( لقد أحصاهم وعدّهم عدّاً ) (الآية94) أو ( ... خيرٌ عندَ ربِّكَ ثوابا ً وخيرٌ مردّاً ) (الآية 76)
واجتماع أنواع من التكرار في بعض الآيات لدرجة تقترب من تشكيل (اللازمة ) :
( سلامٌ عليهِ يومَ ولد ويومَ يموتُ ويومَ يُبعثُ حيّاً ) (الآية 15) والآية ( والسلامُ عليَّ يومَ ولدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حيّاً ) (33) .
أو الآيات التي افتتح بها عدد من المقاطع والقصص( واذكر في الكتاب .. إنه كان ... ) خمس مرات ، فهي بالإضافة إلى دورها في التقسيم افتتاحاً أو قفلاً ، تسهم في الجو الموسيقي العام المتناغم من الألفاظ إلى العبارات والتراكيب ، فالفواصل ، فاللوازم انسجاماً وائتلافاً .
أما اضطراد الفاصلة فهي مزية القرآن كله أولاً ، وملاءمتها لمواضعها ثانياً ، وإسهامها في رسم الجوّ العام للسورة ثالثاً . وقد عرضنا لكثير من جوانب الفاصلة في تضاعيف البحث ، لكن يستوقفنا هنا حركة الفتح التي اضطردت في معظم الفواصل ، أو التي حروف رويها على الياء وعلى الدال ، لأن المألوف في حروف القافية أن يكون التماثل أو الاضطراد في حروف الروي ، وليس في حركات حروف الروي ، وهذه في الحقيقة مزية من مزايا التعبير القرآني .
إن إحلال حركة الروي محل الروي نفسه أصعب ، لكنه إذا تحقق فهو أجمل ، فكيف استطاعت الفواصل تحقيق هذه الخطوة الجمالية ؟
إن التزام حركة الفتح ، وهي صوت جهوري ، كفيل بالنهوض بهذه المهمة ، وسوف ندرسها ببحث مفصل في فواصل سور أخرى التزمت حركة الفتح أيضاً .
وهناك وسائل أخرى أسهمت في هذه الخطوة ، نضرب مثلاً عليها من أول آية تمَّ الانتقال فيها من فاصلة الياء إلى فاصلة الدال :
( وكم أهلكنا قبلَهم من قرنٍ ، هم أحسنُ أثاثاً ورِئياً ) (الآية74)
(قل من كانَ في الضلالةِ فليمدُدْ له الرحمنُ مدّاً .
حتى إذا رأوا ما يوعدون : إما الساعةَ وإمّا العذابَ فسيعلمونَ من هو شرٌّ مكاناً ، وأضعفُ جنداً ) (الآية 75) .
ففي الآية 75 التي تم فيها الانتقال من رويّ الياء إلى روي الدال .. نلحظ العوامل المساعدة :
أولاً : مهد السياق للفاصلة(جُنداً ) بفاصلة داخلية مماثلة( مدّاً ) ، وهي مهمة جداً في هذه الخطوة.
ثانياً : لاحظ وفرة حركات الفتح في الألفاظ ( كانَ – مداً – حتى – يوعدونَ – الساعةَ – العذابَ – فسيعلمونَ – هو – مكاناً – جُنداً ) .
ثالثاً : الطول النسبي للآية يساوي ضعف الآية السابقة ، مما يبقي في الذاكرة الصوتية على أثر حركة الفتح أكثر من الإبقاء على حرف الياء .
رابعاً: تمكن كلمة الفاصلة الجديدة(جُنداً ) في موقعها من الآية : موقعها من عبارتَي التفضيل ( من هو شرٌّ مكاناً وأضعفُ جُنداً ) حتى ليكاد القاريء أن يحزرها قبل التلفظ بها ، ثم موقعها من مجموع الآية أيضاً ، ولاسيما ترجيعها الموسيقي للفظ (مدّاً ) .
ومثل ذلك في الفاصلتين المتباعدتين (أزّاً ) (رِكزاً ) ، فهما فاصلتان تختلفان عن روي الياء أو الدال ، وقد وردتا في سياق روي الدال ، وكان لهما الأثر الطيب أيضاً . كيف سّوغا لنفسيهما الاستبدال ، ثم التأثير الجميل الآسر ؟
أولاً : نهضت حركة الفتح بالدور الأول .
ثانياً : تكرر حرف الروي لكل منهما على الزاي .
ثالثاً : البنية الداخلية لكل آية وردا فيها .
لاحظ معي عبارة ( تؤزّهم أزّاً ) ففعل (تؤز) يستدعي المفعول المطلق(أزّاً ) معنوياً ، وينسجم معه لفظياً ، ثم علاقة الجملة (تؤزه أزّاً ) بالفعل (أرسلنا ) ، أي كيف أُرسل الشياطين ؟ وقريب من ذلك فاصلة (رِكزاً ) ( ..هل تُحسُ منهم من أحدٍ أو تسمعُ لهم رِكزاً ) ، فهنا توازن بين جملتين (تحسُ من أحد) و( تسمع لهم رِكزاً ) ، فضلاً عن حركة الفتح وبلوغ الترهيب للكافرين والمشركين أقصاه .
الهوامش:
(1) – في ظلال القرآن – سيد قطب – دار الشروق – بيروت والقاهرة – ط17 – 1412هـ =1992م –
ج16 – ص 2326 و 2299 .
(2) – المرجع السابق : ص 2300 .
(3) – المرجع نفسه : ص 2300 .
(4) _ نفسه : ص 2300- 2301 .
(5) _ نفسه – ص 2357 .
(6) _ نفسه : ص 2315 .
(7) _ رياض الصالحين – يحيى بن شرف النووي – تحقيق عبد الله أحمد أبو زينة – باب فضل قيام الليل –
دار العلوم الحديثة – بيروت – ط13 رمضان 1390هـ - ص 351 - ذكر المؤلف : حديث
شريف ( متفق عليه ) .
( _ الظاهرة القرآنية – مالك بن نبي – دار القرآن الكريم – ط 1398هـ = 1975م – ص 194 .
(9) – دراسة نصية أدبية في القصة القرآنية – د . سليمان الطراونة – ص : 172 – ط1 – 1413 هـ = 1992م – عمان – الأردن .
(10) - المرجع السابق – ص : 162 .
(11) – في ظلال القرآن – سيد قطب – ج16/2300- دار الشروق – القاهرة بيروت- ط17 – 1412هـ = 1992م .
(12) – البلاغة العربية – عبد الرحمن حبنكة – ص : 479 – دار القلم – الدار الشامية – ط : 1416هـ = 1996 م .
(13) – المرجع السابق – ص : 482 .
(14) – دراية نصية أدبية في القصة القرآنية – ص : 118 .
(15) – البلاغة العربية – ص : 482 – 484 م .
(16) – دراسة نصية أدبية في القصة القرآنية – ص : 134- 135 .
(17) – المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها – د . عبد الله الطيب المجذوب – ج2 / 37 – نشر مصطفى البابي الحلبي وأولاده في مصر – ط1 – 1955م .
(18)– الفاصلة في القرآن – محمد الحسناوي – ص : 278 – 284 – ط3 – 1421 هـ = 2000م – دار عمار للنشر والتوزيع – عمان – الأردن .
(19) – المرجع السابق – ص : 286 – 291 .
(20) –في ظلال القرآن – ج16/2300- 2301 .
[/b]