توظيف الأسطورة في المجموعة القصصية ( جنية البحر ) للأديبة جميلة زنير الدكتور : أحسن ثليلاني
[ شوهد : 379 مرة ]
تعد
الكاتبة ( جميلة زنير ) من أهم الأصوات الأدبية الجزائرية إنتاجا و إبداعا
، و خاصة في أقاليم القصة القصيرة و الرواية و أدب الأطفال ، و إننا إذ
نعترف بأن الحركة النقديةالجزائرية و العربية قد قصرت كثيرة في حق هذه
الأديبة المبدعة ، فإننا نحاول من خلال هذه الدراسة إماطة اللثام عن بعض
جماليات القصة القصيرة في أدبها ، آملين أن نكون بذلك قد ساهمنا في
التعريف ببعض أعلام الأدب الجزائري المعاصر .تراهن
الأديبة : جميلة زنير في مجموعتها القصصية : ( جنية البحر )1 على تجربة
قصصية متميزة سواء على مستوى التراكم الإبداعي القصصي الجزائري ، أو على
مستوى تجربتها الأدبية الخاصة ، , هذا منذ صدور أول مجموعة قصصية لها
بعنوان : (دائرة الحلم والعواطف ) ، ويمكننا ملاحظة مسار تطور تجربتها على
الصعيد اللغوي ، حيث تداخلت السردية مع الشعرية إلى درجة الامتزاج ، كما
يمكن ملاحظة مسار التجديد على صعيد توظيف الأسطورة التي تبرز جلية من خلال
صدمة العنوان ( جنية البحر ) ، إذ يمكننا منذ البداية إدراك تقاطع رمزية
الأسطورة وهي : ( الجنية ) مع انزياحية اللغة : ( جنية البحر ) حيث تحطم
تعبير ( عروس البحر ) الذي تعودنا استعماله .
يحتل حضور الجنية في المجموعة القصصية ثلاث قصص كاملة ، هي قصة : ( جنية
البحر ) و ( رجل من عالم آخر ) و أخيرا قصة ( القراصنة ) ، وعند قراءتنا
لهذه القصص نلمس بينها الكثير من القواسم المشتركة ، مثل توظيف أسطورة
الجنية التي تسكن عقل الإنسان وتتحكم في عواطفه وتتزوجه وتنقله إلى عوالم
سحرية تتجاوز الكائن لتبني الممكن والخرافي ، غير أن الكاتبة لم تنغلق في
دائرة إعادة كتابة الأسطورة كما هي معروفة في الخيال الشعبي بل عمدت إلى
استلهامها وتوظيف رموزها ودلالاتها حسب الموضوع وحسب بنية الأحداث ولذلك
تميزت كل قصة عن القصص الأخرى .
تصور قصة ( جنية البحر ) جانبا من حياة حوات تسكنه جنية ، فيبتعد عن أهله
ويظل يعيش في قبوه على شاطئ البحر إلى أن يعثر عليه الصيادون ميتا في قبوه
وبجانبه كلبة ميتة يفترض الناس أن الجنية قد تقمصت صورتها لتموت معه .
أما قصة ( رجل من عالم آخر ) فتتناول حياة يتيم الأم تطارده زوجة أبيه ،
وأمام ثقل المعاناة يقرر التمرد والمبيت في العراء عند جذع شجرة ، وعندما
نام حضرت الجنية وأيقظته بهسيس جناحيها ، فتجلت له ببهائها امرأة من
أساطير ، وتذكر ملائكة الموت ثم قرر أن يموت ليرتاح من زوجة أبيه ، وعندما
عرضت عليه مرافقتها وافق وطار معها عبر الفضاء ثم تزوجا ليظفر بالسعادة
والشباب المستديم ، ولكن المحيط الاجتماعي من حوله صار يعامله على أساس
أنه مجنون بعد أن تغيرت تصرفاته ، حيث أصبح كثير الشرود والصمت ، أما هو
فقد ارتاح من زوجة أبيه فلم يعد يشعر بالقهر حين يجتاز عتبة الباب .
وفي قصة ( القراصنة ) يردد البطل عبارة » الطريق إليها موحش وطويل ولكن
يجب أن أقطعه « فتهب زوبعة رملية تجعله يضل الطريق وعندما يحل الليل ينام
ولكن صوت همهمات نسوية مكتومة توقظه ، فيلاحظ وجود خيمة قربه ينبعث منها
نور خافت ، وعبر فتحة الخيمة رأى صبيا يتدلى بين فخذي امرأة في حالة طلق ،
فساعدها على الوضع ، وقطع الحبل السري ، ثم أرقد الصبي في حضن أمه وأعطاها
حبات تمر ، وفي هذه اللحظة دلف إلى الخيمة رجل تصحبه عجوز ، حيث عرض عليه
الرجل البقاء حتى الصباح ، لكنه رفض وتسلل من الخيمة مبتعدا عن المكان ،
غير أنه أحس أن أشخاصا يكمنون له في وحشة الليل ويغرزونه بعيون من دم ثم
داهموه فجأة ومزقوا جسده بالحراب ، وانتشر خبر موته فجاء البدو من كل
القبائل واتفقوا على دفنه في المكان نفسه من غير غسل ولا كفن ، لكن الذي
حير القوافل هو هذا القبر المجهول الذي صار الماء يتدفق منه وصار الناس
يقدمون حول ذلك عدة تفاسير .
وإننا نلاحظ من خلال ما تقدم أن الكاتبة ( جميلة زنير ) لا تهتم بأسطورة
الجنية من حيث الحكاية التي ترويها ، بل من حيث الرمز والدلالة اللذان
توحي إليهما ، فالأسطورة حين توظف في النص تصبح هي حياته .
و الحقيقة أن الأسطورة في تعريفها هي : » سرد قصصي ...تعتمد عليه المخيلة
الشعبية فتبتدع الحكايات الدينية و القومية و الفلسفية لتثير بها انتباه
الجمهور ، و الأسطورة تعتمد عادة تقاليد العامة و أحاديثهم ، و حكاياتهم
فتتخذ منها عنصرا أوليا ينمو مع الزمن بإضافات جديدة حسب الرواة فتصبح
غنية بالأخيلة و الأحداث و العقد.. 2«
إن الأسطورة بوصفها مصطلحا أدبيا هي » سرد قصصي لا يمكن إسناده إلى مؤلف
معين ، يتضمن بعض المواد التاريخية إلى جانب مواد خرافية شعبية ألفها
الناس عند القدم «3 ، وإننا يمكن أن نستنتج مما تقدم بأن الأسطورة حكاية
خرافية مجهولة المؤلف ، اتخذت كوسيلة لدى الإنسان البدائي لتفسير ظواهر
الكون وقضايا الإنسان ، وهي الجزء القولي المصاحب للطقوس البدائية ، كما
أنها تتضمن مواد تاريخية وشعبية وخرافية ، وبالرغم من أن تعبيرها غير
منطقي من حيث كونها مناقضة للواقع في الفعل والحادثة إلا أنها تحمل معنى
رمزيا مطلقا وأزليا ، فأسطورة الجنية كما هي معروفة في الخيال الشعبي
كغيرها من الأساطير عبارة عن تفكير خيالي أساسه الخرافة والطقوس الدينية
البدائية ، وهي حلم من الإنسان البدائي في محاولاته الكشف عن حقائق الكون
وقضاياه وهي وسيلة اتخذها للتعبير عن عجزه في تفسير تلك الحقائق والقضايا
وبهذا تكون الأسطورة عند البدائي تعويضا للعجز في تواصله مع الواقع
الطبيعي والاجتماعي وبعبارة أوضح تعتبر الأسطورة في التفكير البدائي مظهرا
من مظاهر الاغتراب الإنساني فهي تمرد غير مباشر ضد الواقع والوقائع
الحياتية والكونية التي تعارضت مع طموحات الإنسان البدائي فلما عجز هذا
الإنسان عن إنتاج وسائل مادية من شأنها أن تسخر الطبيعة له وتجعلها في
متناوله وسيطرته راح ينتقم من هذا الكون ومظاهره عن طريق خلق طقوس تكون
الأسطورة فيها معوضا للفقدان المادي ، غير أن هذا التعويض لا يوجد على أرض
الواقع فيكتفي بقوله وحكيه لكونه لا يمكن أن يفعل أو أن يكون حادثة وعملا
فهذا هو معنى كلامنا أن الأسطورة خيال وحلم ، وهذا هو المغزى العام من
لقاء الإنسان بالجنية وزواجه بها ليحقق أحلامه وسيطرته .
لقد كانت الأسطورة مجرد نقيض للصدق التاريخي أو العلمي ، وأصبحت كالشعر :
حقيقة من نوع خاص أو معادلا للحقيقة وهذا يعني أنها ليست حقيقية في
شخصياتها وأحداثها ومواقفها بل إنها حقيقية من خلال ما تهدف إليه من
معالجة قضايا حياتية وإنسانية ، ومن هنا كانت معادلا للحقيقية أي أنها
تستخدم بوصفها وسيلة لكشف الحقيقة ، وهذا هو سر استخدامها في الأدب
المعاصر ، ولهذا كله أصبحت متممة للصدقين العلمي والتاريخي وهي أكثر من
ذلك صور تغذي الفن والأدب وتنعكس في المنطقة العليا من الفكر ومنها تتجلى
آثار غريزية اجتماعية عامة تتأثر بها الإنسانية كلها وتستجيب لها ، وفي
هذا الإطار وظفت الأديبة (جميلة زنير ) رمزية الجنية لمعالجة الواقع
الاجتماعي والبسيكولوجي للحوات في قصة ( جنية البحر ) ، ويتيم الأم في قصة
( رجل من عالم آخر ) ، والمسافر في قصة ( القراصنة ) ، وهي شخصيات ذات بعد
اجتماعي مشترك من حيث الهامشية والفقر والشعور بالحرمان والإحساس بالعجز
والمعاناة والبحث عن تجاوز الكائن لبناء الممكن عن طريق الرفض والتمرد ،
من خلال اللقاء بالجنبية والعيش ثم الموت معها في حالة الحوات ، ومن خلال
الزواج بها في حالة يتيم الأم ، ومن خلال البحث عنها في حالة المسافر الذي
يظل يردد » الطريق إليها موحش وطويل ولكن يجب أن أقطعه « .
لقد استفاد علم النفس والعلوم الأنثروبولوجية كثيرا من الأسطورة في
معالجتها لقضايا الإنسان ، فالتحليل النفسي يربط الأدب بالأساطير ، و في
هذا المجال يعتقد فرويد أن الأساطير وقصص الجن يمكن أن تؤول على أنها
أحلام ، ولذلك فإن الجنية حلم مشترك بالنسبة للشخصيات الثلاث ، فالحوات
مثلا يجد الراحة في قبوه ويحس بالسعادة عندما يتمدد على الشاطئ ، هذا ما
يوحي به السرد القصصي عندما تقول الكاتبة على لسان الراوي: » وحين تداهمه
الجنية بحفيف أنفاسها تمتزج روحه بظلال غيمتها الوردية التي تلف جسده
النحيل بحرير شعرها فتخدر جسده وترفعه إلى صدرها ، ثم تحمله بين ذراعيها
وتغوص في الماء صوب مملكتها البلورية المسقوفة بفسيفساء العشب واللآلئ
والمحارات « 4.
وتصور الكاتبة لحظة لقاء يتيم الأم بالجنية في قصة ( رجل من عالم آخر )
فتقول » سيحتمي بغدائر شعرها الحرير ، ورمت بجناحيها عبر الفضاء وانطلقت
به تمتطي صهوة الريح وتشق نهر الضياء ، أحس نفسه سعيدا يطوقه دفء امرأة
معبأة بالأريج فتمنى لو أن هذه الرحلة على مشارف الفردوس لا تنتهي «5 ولعل
الصورة لا تختلف كثيرا بالنسبة للمسافر .
وفي قصة (القراصنة ) تقول الكاتبة » دفن وجهه بين يديه وتمنى لو يغمض
عينيه ويغفو أو ينام ليجد نفسه وقد استيقظ وهي تقف بين يديه تشع بكل
فيوضات بهائها وألقها .. 6« .
والملاحظ أن الشخصيات الثلاث تعيش واقعا مأساويا ، وهي تشترك جميعا في أن
سعادتها لا تتحقق إلا في لحظات اللقاء بالجنية ، حيث تقول الكاتبة في قصة
( رجل من عالم آخر ) : » ثم توغلت به داخل أعماقه وواجهته بانهزامه حين
عكست له مرايا أحزانه وحاصرته بذكرياته الأليمة فأوقدت النار في داخله
لحظات ، بعد أن اقتلعت من صدره كل الآلام وأحرقت أشواك أساه ثم أمطرته
بالأسرار فباحت له بمكنون الماء والهواء والضياء والألوان « 7 .
وعلى افتراض أن الجنية امرأة ، يرى الفيلسوف الاشتراكي الطوباوي : (
فورييه ) أن الموقف من المرأة يحدد الموقف من الإنسان ومن المجتمع ومن
الوجود ، على هذا الأساس كانت الجنية رؤية ورؤيا ، أو كما يقول ( جورج
طرابشي ) : » المرأة كما هي منظورة والمرأة كما تحدد بمنظوريتها هذه
الكينونة الحقيقية للناظر إليها أي الرجل ، إنها لعبة مرايا كبيرة ، ففي
جدلية المرايا فحسب يكون الناظر منظورا ، والمنظور ناظرا وفي جدلية
المرايا فحسب تكتسب المنظورية بعد الفاعلية وعمقها « 8.
إننا نجد الكاتبة جميلة زنير تصرح بجدلية المرايا في قولها : » حين عكست
له مرايا أحزانه وحاصرته بذكرياتها الأليمة ... إلخ « غير أن أديبتنا لا
تقدم لنا جدلية المرايا من خلال لقاء الرجل بالمرأة كما نجد ذلك عند توفيق
الحكيم في رواية ( عصفور من الشرق ) وسهيل إدريس في ( الحـي اللاتيني )
والطيب صالح في ( موسم الهجرة إلى الشمال ) حيث يجسد الرجل عالم الشرق
وتجسد المرأة عالم الغرب ، فتنكشف الذات من خلال وقوفها أمام مرآة الآخر ،
ولكن الأديبة جميلة زنير ترسم لنا لقاء من نوع آخر يتمثل في زواج الرجل من
الجنية ، حيث ترى (خالدة سعيد ) أن » زواج الإنس والجن هو زواج الموضوعي
بالذاتي أو الواقع بالحلم والخارق زواجا لا واعيا بنتيجة هذا الزواج يستقر
الموضوعي في أحشاء الذاتي « فالعالم الذي يلجه الرجل من خلال لقائه
بالجنية هو داخل وخارج في آن فيه عالمه أي عالم الآخر الخارجي وعالم
الجنية أي الأنا والحلم ويكون الجسد والجنس أرضا يتلاقى عليها هذا كله .9
«
إن الجنية ليست حقيقة وإنما هي أداة لكشف الحقيقة وتعرية الجوانب
الاجتماعية والنفسية للشخصيات ، فهي مرآة تعكس بوضوح حقيقية الشخصيات
وتبين عوالمهم الداخلية ، ومقدار ما هم فيه من تناقض وقطيعة مع الواقع
الخارجي ، فعالم الجنية الذي تلجه الشخصيات هو عالمهم الداخلي المبتور
الصلة بالعالم الخارجي ، والملاحظ في القصص الثلاث أن اللقاء بالجنية لا
يتم إلا في الليل حيث تنام الشخصيات ثم تستيقظ ليكون لقاؤها بالجنية ، ومن
خلال ذلك اللقاء تعمل المرآة وتؤدي وظيفتها المنظورية ، » يقولون أنه منذ
سكنته جنية البحر نذر سنوات عمره لها : امرأة من أساطير أرضعته النسيان
ورسمت على زنده وشم الولاء وقالت :
إذهب أيها البحار حيثما شئت فعلى صدري مرساك
لك أول الروح ولي الفتوحات تبدأ من أول البرق
لك أصوات اللغات ولي همسات المرايا تبدأ رحلتها من جسدي . 10 «
فالجنية إذن تمتلك سلطتها على البحار من خلال إرضاعه النسيان وجعله مواليا
لها ومن خلال كونها مرآته العاكسة ، وأكثر من ذلك فإن الجنية في قصة : (
رجل من عالم آخر ) تلغي تماما شخصية يتيم الأم فتصبح هي ذاكرته وعينيه
التي ينظر بهما إلى العالم من حوله ، » من يوم زف لطيف الليالي خبأت
بداخله أسسه ودخان سجائره وكل ذكرياته ولم تمنحه تأشيرة العبور خارج
دائرتها حتى وهو يتسلل إلى بيت والده ، تختطف صوته عند الباب فهو لا ينطق
وإذا تحدث فبهمس جفونها «11.
والملاحظ أن انتصار الشخصيات لعالم الجنية هو انتصار إرادي يأتي انطلاقا
من رفض المحيط الاجتماعي والتمرد عليه ، وانطلاقا من أن الآخرين هم الجحيم
كما كان ( جون بول سارتر ) يردد دائما ، و هذا بالرغم من أن المحيط
الاجتماعي صار يعامل الشخصيات على أساس أنهم مجانين ، فالحوات يتهرب من
الأطفال لأنهم ينادون عليه قائلين : » المجنون .. المسكون .. السكران « .
ويتيم الأم تتناهى إلى سمعه وشوشات : » لقد جـن ، لقد اختطفته جنية « غير
أن الشخصيات لا تبالي بكل ذلك ، بل إنها تصر على الانتصار لعالم الجنية ،
ففيه سعادتها وهذا ما تعبر عنه الكاتبة في ختام قصة ( رجل من عالم آخر ) ،
حيث تقول : » والمهم أنه ارتاح من زوجة أبيه فلم يعد يشعر بالقهر حين
يجتاز عتبة الباب «12.
إن لجوء الأديبة جميلة زنير إلى توظيف أسطورة الجنية يرجع إلى عجز التعبير
في أداء المعاني والأحاسيس الداخلية على أن الرمز الأسطوري يوحي بأشياء
كثيرة فيكون صورة معبرة تعكس صورا عديدة وعددا لا محدودا من الإيحاءات ،
فالأدب يجعل من الرموز الأسطورية مادة ضخمة ليرسم ما عجزت اللغة العادية
عن رسمه ، ولذلك ترتبط الأسطورة بالأدب ارتباطا وثيقا لأهمية أفكارها
وصورها ورموزها وخيالها فأغنت اللغة برموز موحية ودالة و هو ما يجعل
الأساليب الأدبية أكثر غنى وأغرز معنى وأرحب تعبيرا ، فمن خلال رمزية
الجنية استطاعت الأديبة رسم حالة القطيعة التامة بين الشخصيات والمحيط
الاجتماعي إلى درجة أن مجرد التواصل اللغوي غائب تماما ، فالشخصيات على
مدار أحداث القصة صامتة ، فالحوات مثلا تسأله أخته ولكنه لا يجيبها وتسأله
أمه فلا يجيبها أيضا ، إنه » لا يجيب فهو مأخوذ بتلك التي تقاطعت في دمه
وتحولت إلى جمرة تتسلق جسده « مثلما جاء في القصة ، وإن الأمر لا يختلف
بالنسبة ليتيم الأم الذي » يتدحرج نحو المقهى مطرقا يوغل في صمته وفي
دوامة من الأفكار البليدة وهو يحدق في دخان سجائره كالمتصوف «13 . أما
المسافر فإنه يلج عالم الأعماق والروح فهو كمن يعيش في عالم آخر بعيد
تماما عن عالم البشر : » سكنته الفجيعة حين أحس نفسه خارج الزمن 14« .
فالحوادث كلها تجري في مرآة ذاته ، إذ تسافر روحه تستجلي الأغوار وتختبر
الأعماق باحثة عن رموز الخير فتجد الشرور تتربص بها من كل الجوانب ، وإن
حالة الموت التي ترتسم كنهاية لكل من الحوات والمسافر إلا دليل على طغيان
الشر في الحياة ، ولذلك يمكن أن نستنتج عدم قدرة الشخصيات على تغيير
مصائرها ، فهي تحاول تجاوز شرور الواقع من خلال رفضه وعدم التواصل معه ومن
خلال الحلم والانتصار لعالم الجنية إلا أن شرور الواقع تطغى من جديد فيكون
الموت قدرا و مصيرا.
إن الأسطورة بشكل عام ومنها أسطورة الجنية هي الحب والحياة والحرية والفن
والجمال أما الواقع فهو الكره والموت والاضطهاد وإن لجوء الأديبة ( جميلة
زنير ) إلى استخدام الرمز الأسطوري قد جاء نتيجة طغيان التفكير المادي
وتفشي الأسلوب التقريري الذي يتنافى وطبيعة الأدب الذي يمزج عادة بين
المستوى الإخباري والمستوى الإشاري ، ومن هنا أضفت أسطورة الجنية غنى
معنويا وروحيا دعم المستوى الإخباري وأضفى جمالا على المستوى الإشاري
فحققت أسطورة الجنية بالتالي وظيفتين هما :
1. وظيفة تفسيرية إشعارية من خلال رد عناصرها الوهمية إلى عناصر عصرية يعالجها الكاتب .
2. وظيفة رمزية بنائية من خلال الاكتفاء بموقفها الأساسي واستعماله رمزا وإيحاء .
ولقد نجحت الكاتبة في توظيف أسطورة الجنية وأحسنت استلهامها من التراث
الشعبي مبتعدة في ذلك عن استلهام الأساطير الأجنبية لأن الرموز المستعارة
أو المنقولة لا تعد رموزا فالرمز ليس محاكاة بل رؤيا والكاتب الحقيقي لا
يختار الرموز اختيارا واعيا لكن الرمز يفرض نفسه عليه كيانا حيا يستمد
روحه من لا وعي الكاتب وتمنحه تجربته جسدا ولذلك فإن رمزية الجنية في
القصص الثلاث تحيلنا على حقل دلالي واسع جدا سعة أعماق النفس الإنسانية
التي يقهرها الواقع فتستكين إلى ملحمة الأغوار وتتجه في مسار الجنون وعلى
قمة الوحدة والاغتراب تقف وجها لوجه أمام مرآة الذات لتدرك انهزامها
فتنتصر للحلم والذوبان في العوالم السحرية للجنية فكأنما الكاتبة ( جميلة
زنير ) لا تتناول في الحقيقة جملة من الوقائع التي حدثت للشخصيات ولكنها
تعبر في الأساس عن الجنية التي تحتفظ بكامل سلطتها وسيطرتها سواء على
مستوى بنية الحوادث أو على مستوى سلطة اللغة ، ولذلك جاء عنوان المجموعة
بصيغة ( جنية البحر ) ولم تقل الكاتبة مثلا الحوات وجنية البحر ) أو
مثلا ( يتيم الأم والجنية ) فالقصص الثلاث تحاكي الجنية وتحكي قصة المرأة
وتجليات المنظورية حيث يغدو الناظر منظورا والمنظور ناظرا .
وصفوة القول فإن المجموعة القصصية : ( جنية البحر ) غنية بالدلالات فهي
كالبحر الذي لا تدرك أغواره ومهما اكتشفنا بعض أسراره يظل يحتفظ لنفسه
بالأسرار وهي أيضا غنية بجماليات التعبير ، وإننا نوافق الأديب الروائي
الطاهر وطار عندما يزكي الكاتبة ( جميلة زنير ) لتحمل المشعل على زهور
ونيسي وعلى كل من كتبن قبلها كما ورد في الغلاف الخارجي لهذه المجموعة
القصصية.
الهوامش :
1- ينظر : زنير ، جميلة : جنية البحر ، منشورات الجاحظية ، الجزائر 1998 .
2- جبور ، عبد النور : المعجم الأدبي ، ( مادة أسطورة ) ط2 ، دار العلم للملايين ، لبنان 1984 ، ص 19.
3- وهبة ، مجدي : معجم مصطلحات الأدب ، دار لبنان 1975 ، ص 280
4 - زنير ، جميلة : جنية البحر ، ص 3 .
5 - المصدر نفسه ، ص 18.
6- المصدر نفسه ، ص 24.
7- المصدر نفسه ، ص 18.
8- طرابشي ، جورج : رمزية المرأة في الرواية العربية ، ط2 ، دار الطليعة بيروت ، لبنان1985 ، ص 50 .
9- سعيد ، خالدة : حركية الإبداع ، ط2 ، دار العودة ، بيروت- لبنان 1982 ، ص 100 .
10 - زنير ، جميلة : جنية البحر ، ص 3 .
11 - المصدر نفسه ، ص 20 .
12 - المصدر نفسه ، ص 22 .
13- المصدر نفسه ، ص 21 .
14- المصدر نفسه ، ص 23 .
[ شوهد : 379 مرة ]
تعد
الكاتبة ( جميلة زنير ) من أهم الأصوات الأدبية الجزائرية إنتاجا و إبداعا
، و خاصة في أقاليم القصة القصيرة و الرواية و أدب الأطفال ، و إننا إذ
نعترف بأن الحركة النقديةالجزائرية و العربية قد قصرت كثيرة في حق هذه
الأديبة المبدعة ، فإننا نحاول من خلال هذه الدراسة إماطة اللثام عن بعض
جماليات القصة القصيرة في أدبها ، آملين أن نكون بذلك قد ساهمنا في
التعريف ببعض أعلام الأدب الجزائري المعاصر .تراهن
الأديبة : جميلة زنير في مجموعتها القصصية : ( جنية البحر )1 على تجربة
قصصية متميزة سواء على مستوى التراكم الإبداعي القصصي الجزائري ، أو على
مستوى تجربتها الأدبية الخاصة ، , هذا منذ صدور أول مجموعة قصصية لها
بعنوان : (دائرة الحلم والعواطف ) ، ويمكننا ملاحظة مسار تطور تجربتها على
الصعيد اللغوي ، حيث تداخلت السردية مع الشعرية إلى درجة الامتزاج ، كما
يمكن ملاحظة مسار التجديد على صعيد توظيف الأسطورة التي تبرز جلية من خلال
صدمة العنوان ( جنية البحر ) ، إذ يمكننا منذ البداية إدراك تقاطع رمزية
الأسطورة وهي : ( الجنية ) مع انزياحية اللغة : ( جنية البحر ) حيث تحطم
تعبير ( عروس البحر ) الذي تعودنا استعماله .
يحتل حضور الجنية في المجموعة القصصية ثلاث قصص كاملة ، هي قصة : ( جنية
البحر ) و ( رجل من عالم آخر ) و أخيرا قصة ( القراصنة ) ، وعند قراءتنا
لهذه القصص نلمس بينها الكثير من القواسم المشتركة ، مثل توظيف أسطورة
الجنية التي تسكن عقل الإنسان وتتحكم في عواطفه وتتزوجه وتنقله إلى عوالم
سحرية تتجاوز الكائن لتبني الممكن والخرافي ، غير أن الكاتبة لم تنغلق في
دائرة إعادة كتابة الأسطورة كما هي معروفة في الخيال الشعبي بل عمدت إلى
استلهامها وتوظيف رموزها ودلالاتها حسب الموضوع وحسب بنية الأحداث ولذلك
تميزت كل قصة عن القصص الأخرى .
تصور قصة ( جنية البحر ) جانبا من حياة حوات تسكنه جنية ، فيبتعد عن أهله
ويظل يعيش في قبوه على شاطئ البحر إلى أن يعثر عليه الصيادون ميتا في قبوه
وبجانبه كلبة ميتة يفترض الناس أن الجنية قد تقمصت صورتها لتموت معه .
أما قصة ( رجل من عالم آخر ) فتتناول حياة يتيم الأم تطارده زوجة أبيه ،
وأمام ثقل المعاناة يقرر التمرد والمبيت في العراء عند جذع شجرة ، وعندما
نام حضرت الجنية وأيقظته بهسيس جناحيها ، فتجلت له ببهائها امرأة من
أساطير ، وتذكر ملائكة الموت ثم قرر أن يموت ليرتاح من زوجة أبيه ، وعندما
عرضت عليه مرافقتها وافق وطار معها عبر الفضاء ثم تزوجا ليظفر بالسعادة
والشباب المستديم ، ولكن المحيط الاجتماعي من حوله صار يعامله على أساس
أنه مجنون بعد أن تغيرت تصرفاته ، حيث أصبح كثير الشرود والصمت ، أما هو
فقد ارتاح من زوجة أبيه فلم يعد يشعر بالقهر حين يجتاز عتبة الباب .
وفي قصة ( القراصنة ) يردد البطل عبارة » الطريق إليها موحش وطويل ولكن
يجب أن أقطعه « فتهب زوبعة رملية تجعله يضل الطريق وعندما يحل الليل ينام
ولكن صوت همهمات نسوية مكتومة توقظه ، فيلاحظ وجود خيمة قربه ينبعث منها
نور خافت ، وعبر فتحة الخيمة رأى صبيا يتدلى بين فخذي امرأة في حالة طلق ،
فساعدها على الوضع ، وقطع الحبل السري ، ثم أرقد الصبي في حضن أمه وأعطاها
حبات تمر ، وفي هذه اللحظة دلف إلى الخيمة رجل تصحبه عجوز ، حيث عرض عليه
الرجل البقاء حتى الصباح ، لكنه رفض وتسلل من الخيمة مبتعدا عن المكان ،
غير أنه أحس أن أشخاصا يكمنون له في وحشة الليل ويغرزونه بعيون من دم ثم
داهموه فجأة ومزقوا جسده بالحراب ، وانتشر خبر موته فجاء البدو من كل
القبائل واتفقوا على دفنه في المكان نفسه من غير غسل ولا كفن ، لكن الذي
حير القوافل هو هذا القبر المجهول الذي صار الماء يتدفق منه وصار الناس
يقدمون حول ذلك عدة تفاسير .
وإننا نلاحظ من خلال ما تقدم أن الكاتبة ( جميلة زنير ) لا تهتم بأسطورة
الجنية من حيث الحكاية التي ترويها ، بل من حيث الرمز والدلالة اللذان
توحي إليهما ، فالأسطورة حين توظف في النص تصبح هي حياته .
و الحقيقة أن الأسطورة في تعريفها هي : » سرد قصصي ...تعتمد عليه المخيلة
الشعبية فتبتدع الحكايات الدينية و القومية و الفلسفية لتثير بها انتباه
الجمهور ، و الأسطورة تعتمد عادة تقاليد العامة و أحاديثهم ، و حكاياتهم
فتتخذ منها عنصرا أوليا ينمو مع الزمن بإضافات جديدة حسب الرواة فتصبح
غنية بالأخيلة و الأحداث و العقد.. 2«
إن الأسطورة بوصفها مصطلحا أدبيا هي » سرد قصصي لا يمكن إسناده إلى مؤلف
معين ، يتضمن بعض المواد التاريخية إلى جانب مواد خرافية شعبية ألفها
الناس عند القدم «3 ، وإننا يمكن أن نستنتج مما تقدم بأن الأسطورة حكاية
خرافية مجهولة المؤلف ، اتخذت كوسيلة لدى الإنسان البدائي لتفسير ظواهر
الكون وقضايا الإنسان ، وهي الجزء القولي المصاحب للطقوس البدائية ، كما
أنها تتضمن مواد تاريخية وشعبية وخرافية ، وبالرغم من أن تعبيرها غير
منطقي من حيث كونها مناقضة للواقع في الفعل والحادثة إلا أنها تحمل معنى
رمزيا مطلقا وأزليا ، فأسطورة الجنية كما هي معروفة في الخيال الشعبي
كغيرها من الأساطير عبارة عن تفكير خيالي أساسه الخرافة والطقوس الدينية
البدائية ، وهي حلم من الإنسان البدائي في محاولاته الكشف عن حقائق الكون
وقضاياه وهي وسيلة اتخذها للتعبير عن عجزه في تفسير تلك الحقائق والقضايا
وبهذا تكون الأسطورة عند البدائي تعويضا للعجز في تواصله مع الواقع
الطبيعي والاجتماعي وبعبارة أوضح تعتبر الأسطورة في التفكير البدائي مظهرا
من مظاهر الاغتراب الإنساني فهي تمرد غير مباشر ضد الواقع والوقائع
الحياتية والكونية التي تعارضت مع طموحات الإنسان البدائي فلما عجز هذا
الإنسان عن إنتاج وسائل مادية من شأنها أن تسخر الطبيعة له وتجعلها في
متناوله وسيطرته راح ينتقم من هذا الكون ومظاهره عن طريق خلق طقوس تكون
الأسطورة فيها معوضا للفقدان المادي ، غير أن هذا التعويض لا يوجد على أرض
الواقع فيكتفي بقوله وحكيه لكونه لا يمكن أن يفعل أو أن يكون حادثة وعملا
فهذا هو معنى كلامنا أن الأسطورة خيال وحلم ، وهذا هو المغزى العام من
لقاء الإنسان بالجنية وزواجه بها ليحقق أحلامه وسيطرته .
لقد كانت الأسطورة مجرد نقيض للصدق التاريخي أو العلمي ، وأصبحت كالشعر :
حقيقة من نوع خاص أو معادلا للحقيقة وهذا يعني أنها ليست حقيقية في
شخصياتها وأحداثها ومواقفها بل إنها حقيقية من خلال ما تهدف إليه من
معالجة قضايا حياتية وإنسانية ، ومن هنا كانت معادلا للحقيقية أي أنها
تستخدم بوصفها وسيلة لكشف الحقيقة ، وهذا هو سر استخدامها في الأدب
المعاصر ، ولهذا كله أصبحت متممة للصدقين العلمي والتاريخي وهي أكثر من
ذلك صور تغذي الفن والأدب وتنعكس في المنطقة العليا من الفكر ومنها تتجلى
آثار غريزية اجتماعية عامة تتأثر بها الإنسانية كلها وتستجيب لها ، وفي
هذا الإطار وظفت الأديبة (جميلة زنير ) رمزية الجنية لمعالجة الواقع
الاجتماعي والبسيكولوجي للحوات في قصة ( جنية البحر ) ، ويتيم الأم في قصة
( رجل من عالم آخر ) ، والمسافر في قصة ( القراصنة ) ، وهي شخصيات ذات بعد
اجتماعي مشترك من حيث الهامشية والفقر والشعور بالحرمان والإحساس بالعجز
والمعاناة والبحث عن تجاوز الكائن لبناء الممكن عن طريق الرفض والتمرد ،
من خلال اللقاء بالجنبية والعيش ثم الموت معها في حالة الحوات ، ومن خلال
الزواج بها في حالة يتيم الأم ، ومن خلال البحث عنها في حالة المسافر الذي
يظل يردد » الطريق إليها موحش وطويل ولكن يجب أن أقطعه « .
لقد استفاد علم النفس والعلوم الأنثروبولوجية كثيرا من الأسطورة في
معالجتها لقضايا الإنسان ، فالتحليل النفسي يربط الأدب بالأساطير ، و في
هذا المجال يعتقد فرويد أن الأساطير وقصص الجن يمكن أن تؤول على أنها
أحلام ، ولذلك فإن الجنية حلم مشترك بالنسبة للشخصيات الثلاث ، فالحوات
مثلا يجد الراحة في قبوه ويحس بالسعادة عندما يتمدد على الشاطئ ، هذا ما
يوحي به السرد القصصي عندما تقول الكاتبة على لسان الراوي: » وحين تداهمه
الجنية بحفيف أنفاسها تمتزج روحه بظلال غيمتها الوردية التي تلف جسده
النحيل بحرير شعرها فتخدر جسده وترفعه إلى صدرها ، ثم تحمله بين ذراعيها
وتغوص في الماء صوب مملكتها البلورية المسقوفة بفسيفساء العشب واللآلئ
والمحارات « 4.
وتصور الكاتبة لحظة لقاء يتيم الأم بالجنية في قصة ( رجل من عالم آخر )
فتقول » سيحتمي بغدائر شعرها الحرير ، ورمت بجناحيها عبر الفضاء وانطلقت
به تمتطي صهوة الريح وتشق نهر الضياء ، أحس نفسه سعيدا يطوقه دفء امرأة
معبأة بالأريج فتمنى لو أن هذه الرحلة على مشارف الفردوس لا تنتهي «5 ولعل
الصورة لا تختلف كثيرا بالنسبة للمسافر .
وفي قصة (القراصنة ) تقول الكاتبة » دفن وجهه بين يديه وتمنى لو يغمض
عينيه ويغفو أو ينام ليجد نفسه وقد استيقظ وهي تقف بين يديه تشع بكل
فيوضات بهائها وألقها .. 6« .
والملاحظ أن الشخصيات الثلاث تعيش واقعا مأساويا ، وهي تشترك جميعا في أن
سعادتها لا تتحقق إلا في لحظات اللقاء بالجنية ، حيث تقول الكاتبة في قصة
( رجل من عالم آخر ) : » ثم توغلت به داخل أعماقه وواجهته بانهزامه حين
عكست له مرايا أحزانه وحاصرته بذكرياته الأليمة فأوقدت النار في داخله
لحظات ، بعد أن اقتلعت من صدره كل الآلام وأحرقت أشواك أساه ثم أمطرته
بالأسرار فباحت له بمكنون الماء والهواء والضياء والألوان « 7 .
وعلى افتراض أن الجنية امرأة ، يرى الفيلسوف الاشتراكي الطوباوي : (
فورييه ) أن الموقف من المرأة يحدد الموقف من الإنسان ومن المجتمع ومن
الوجود ، على هذا الأساس كانت الجنية رؤية ورؤيا ، أو كما يقول ( جورج
طرابشي ) : » المرأة كما هي منظورة والمرأة كما تحدد بمنظوريتها هذه
الكينونة الحقيقية للناظر إليها أي الرجل ، إنها لعبة مرايا كبيرة ، ففي
جدلية المرايا فحسب يكون الناظر منظورا ، والمنظور ناظرا وفي جدلية
المرايا فحسب تكتسب المنظورية بعد الفاعلية وعمقها « 8.
إننا نجد الكاتبة جميلة زنير تصرح بجدلية المرايا في قولها : » حين عكست
له مرايا أحزانه وحاصرته بذكرياتها الأليمة ... إلخ « غير أن أديبتنا لا
تقدم لنا جدلية المرايا من خلال لقاء الرجل بالمرأة كما نجد ذلك عند توفيق
الحكيم في رواية ( عصفور من الشرق ) وسهيل إدريس في ( الحـي اللاتيني )
والطيب صالح في ( موسم الهجرة إلى الشمال ) حيث يجسد الرجل عالم الشرق
وتجسد المرأة عالم الغرب ، فتنكشف الذات من خلال وقوفها أمام مرآة الآخر ،
ولكن الأديبة جميلة زنير ترسم لنا لقاء من نوع آخر يتمثل في زواج الرجل من
الجنية ، حيث ترى (خالدة سعيد ) أن » زواج الإنس والجن هو زواج الموضوعي
بالذاتي أو الواقع بالحلم والخارق زواجا لا واعيا بنتيجة هذا الزواج يستقر
الموضوعي في أحشاء الذاتي « فالعالم الذي يلجه الرجل من خلال لقائه
بالجنية هو داخل وخارج في آن فيه عالمه أي عالم الآخر الخارجي وعالم
الجنية أي الأنا والحلم ويكون الجسد والجنس أرضا يتلاقى عليها هذا كله .9
«
إن الجنية ليست حقيقة وإنما هي أداة لكشف الحقيقة وتعرية الجوانب
الاجتماعية والنفسية للشخصيات ، فهي مرآة تعكس بوضوح حقيقية الشخصيات
وتبين عوالمهم الداخلية ، ومقدار ما هم فيه من تناقض وقطيعة مع الواقع
الخارجي ، فعالم الجنية الذي تلجه الشخصيات هو عالمهم الداخلي المبتور
الصلة بالعالم الخارجي ، والملاحظ في القصص الثلاث أن اللقاء بالجنية لا
يتم إلا في الليل حيث تنام الشخصيات ثم تستيقظ ليكون لقاؤها بالجنية ، ومن
خلال ذلك اللقاء تعمل المرآة وتؤدي وظيفتها المنظورية ، » يقولون أنه منذ
سكنته جنية البحر نذر سنوات عمره لها : امرأة من أساطير أرضعته النسيان
ورسمت على زنده وشم الولاء وقالت :
إذهب أيها البحار حيثما شئت فعلى صدري مرساك
لك أول الروح ولي الفتوحات تبدأ من أول البرق
لك أصوات اللغات ولي همسات المرايا تبدأ رحلتها من جسدي . 10 «
فالجنية إذن تمتلك سلطتها على البحار من خلال إرضاعه النسيان وجعله مواليا
لها ومن خلال كونها مرآته العاكسة ، وأكثر من ذلك فإن الجنية في قصة : (
رجل من عالم آخر ) تلغي تماما شخصية يتيم الأم فتصبح هي ذاكرته وعينيه
التي ينظر بهما إلى العالم من حوله ، » من يوم زف لطيف الليالي خبأت
بداخله أسسه ودخان سجائره وكل ذكرياته ولم تمنحه تأشيرة العبور خارج
دائرتها حتى وهو يتسلل إلى بيت والده ، تختطف صوته عند الباب فهو لا ينطق
وإذا تحدث فبهمس جفونها «11.
والملاحظ أن انتصار الشخصيات لعالم الجنية هو انتصار إرادي يأتي انطلاقا
من رفض المحيط الاجتماعي والتمرد عليه ، وانطلاقا من أن الآخرين هم الجحيم
كما كان ( جون بول سارتر ) يردد دائما ، و هذا بالرغم من أن المحيط
الاجتماعي صار يعامل الشخصيات على أساس أنهم مجانين ، فالحوات يتهرب من
الأطفال لأنهم ينادون عليه قائلين : » المجنون .. المسكون .. السكران « .
ويتيم الأم تتناهى إلى سمعه وشوشات : » لقد جـن ، لقد اختطفته جنية « غير
أن الشخصيات لا تبالي بكل ذلك ، بل إنها تصر على الانتصار لعالم الجنية ،
ففيه سعادتها وهذا ما تعبر عنه الكاتبة في ختام قصة ( رجل من عالم آخر ) ،
حيث تقول : » والمهم أنه ارتاح من زوجة أبيه فلم يعد يشعر بالقهر حين
يجتاز عتبة الباب «12.
إن لجوء الأديبة جميلة زنير إلى توظيف أسطورة الجنية يرجع إلى عجز التعبير
في أداء المعاني والأحاسيس الداخلية على أن الرمز الأسطوري يوحي بأشياء
كثيرة فيكون صورة معبرة تعكس صورا عديدة وعددا لا محدودا من الإيحاءات ،
فالأدب يجعل من الرموز الأسطورية مادة ضخمة ليرسم ما عجزت اللغة العادية
عن رسمه ، ولذلك ترتبط الأسطورة بالأدب ارتباطا وثيقا لأهمية أفكارها
وصورها ورموزها وخيالها فأغنت اللغة برموز موحية ودالة و هو ما يجعل
الأساليب الأدبية أكثر غنى وأغرز معنى وأرحب تعبيرا ، فمن خلال رمزية
الجنية استطاعت الأديبة رسم حالة القطيعة التامة بين الشخصيات والمحيط
الاجتماعي إلى درجة أن مجرد التواصل اللغوي غائب تماما ، فالشخصيات على
مدار أحداث القصة صامتة ، فالحوات مثلا تسأله أخته ولكنه لا يجيبها وتسأله
أمه فلا يجيبها أيضا ، إنه » لا يجيب فهو مأخوذ بتلك التي تقاطعت في دمه
وتحولت إلى جمرة تتسلق جسده « مثلما جاء في القصة ، وإن الأمر لا يختلف
بالنسبة ليتيم الأم الذي » يتدحرج نحو المقهى مطرقا يوغل في صمته وفي
دوامة من الأفكار البليدة وهو يحدق في دخان سجائره كالمتصوف «13 . أما
المسافر فإنه يلج عالم الأعماق والروح فهو كمن يعيش في عالم آخر بعيد
تماما عن عالم البشر : » سكنته الفجيعة حين أحس نفسه خارج الزمن 14« .
فالحوادث كلها تجري في مرآة ذاته ، إذ تسافر روحه تستجلي الأغوار وتختبر
الأعماق باحثة عن رموز الخير فتجد الشرور تتربص بها من كل الجوانب ، وإن
حالة الموت التي ترتسم كنهاية لكل من الحوات والمسافر إلا دليل على طغيان
الشر في الحياة ، ولذلك يمكن أن نستنتج عدم قدرة الشخصيات على تغيير
مصائرها ، فهي تحاول تجاوز شرور الواقع من خلال رفضه وعدم التواصل معه ومن
خلال الحلم والانتصار لعالم الجنية إلا أن شرور الواقع تطغى من جديد فيكون
الموت قدرا و مصيرا.
إن الأسطورة بشكل عام ومنها أسطورة الجنية هي الحب والحياة والحرية والفن
والجمال أما الواقع فهو الكره والموت والاضطهاد وإن لجوء الأديبة ( جميلة
زنير ) إلى استخدام الرمز الأسطوري قد جاء نتيجة طغيان التفكير المادي
وتفشي الأسلوب التقريري الذي يتنافى وطبيعة الأدب الذي يمزج عادة بين
المستوى الإخباري والمستوى الإشاري ، ومن هنا أضفت أسطورة الجنية غنى
معنويا وروحيا دعم المستوى الإخباري وأضفى جمالا على المستوى الإشاري
فحققت أسطورة الجنية بالتالي وظيفتين هما :
1. وظيفة تفسيرية إشعارية من خلال رد عناصرها الوهمية إلى عناصر عصرية يعالجها الكاتب .
2. وظيفة رمزية بنائية من خلال الاكتفاء بموقفها الأساسي واستعماله رمزا وإيحاء .
ولقد نجحت الكاتبة في توظيف أسطورة الجنية وأحسنت استلهامها من التراث
الشعبي مبتعدة في ذلك عن استلهام الأساطير الأجنبية لأن الرموز المستعارة
أو المنقولة لا تعد رموزا فالرمز ليس محاكاة بل رؤيا والكاتب الحقيقي لا
يختار الرموز اختيارا واعيا لكن الرمز يفرض نفسه عليه كيانا حيا يستمد
روحه من لا وعي الكاتب وتمنحه تجربته جسدا ولذلك فإن رمزية الجنية في
القصص الثلاث تحيلنا على حقل دلالي واسع جدا سعة أعماق النفس الإنسانية
التي يقهرها الواقع فتستكين إلى ملحمة الأغوار وتتجه في مسار الجنون وعلى
قمة الوحدة والاغتراب تقف وجها لوجه أمام مرآة الذات لتدرك انهزامها
فتنتصر للحلم والذوبان في العوالم السحرية للجنية فكأنما الكاتبة ( جميلة
زنير ) لا تتناول في الحقيقة جملة من الوقائع التي حدثت للشخصيات ولكنها
تعبر في الأساس عن الجنية التي تحتفظ بكامل سلطتها وسيطرتها سواء على
مستوى بنية الحوادث أو على مستوى سلطة اللغة ، ولذلك جاء عنوان المجموعة
بصيغة ( جنية البحر ) ولم تقل الكاتبة مثلا الحوات وجنية البحر ) أو
مثلا ( يتيم الأم والجنية ) فالقصص الثلاث تحاكي الجنية وتحكي قصة المرأة
وتجليات المنظورية حيث يغدو الناظر منظورا والمنظور ناظرا .
وصفوة القول فإن المجموعة القصصية : ( جنية البحر ) غنية بالدلالات فهي
كالبحر الذي لا تدرك أغواره ومهما اكتشفنا بعض أسراره يظل يحتفظ لنفسه
بالأسرار وهي أيضا غنية بجماليات التعبير ، وإننا نوافق الأديب الروائي
الطاهر وطار عندما يزكي الكاتبة ( جميلة زنير ) لتحمل المشعل على زهور
ونيسي وعلى كل من كتبن قبلها كما ورد في الغلاف الخارجي لهذه المجموعة
القصصية.
الهوامش :
1- ينظر : زنير ، جميلة : جنية البحر ، منشورات الجاحظية ، الجزائر 1998 .
2- جبور ، عبد النور : المعجم الأدبي ، ( مادة أسطورة ) ط2 ، دار العلم للملايين ، لبنان 1984 ، ص 19.
3- وهبة ، مجدي : معجم مصطلحات الأدب ، دار لبنان 1975 ، ص 280
4 - زنير ، جميلة : جنية البحر ، ص 3 .
5 - المصدر نفسه ، ص 18.
6- المصدر نفسه ، ص 24.
7- المصدر نفسه ، ص 18.
8- طرابشي ، جورج : رمزية المرأة في الرواية العربية ، ط2 ، دار الطليعة بيروت ، لبنان1985 ، ص 50 .
9- سعيد ، خالدة : حركية الإبداع ، ط2 ، دار العودة ، بيروت- لبنان 1982 ، ص 100 .
10 - زنير ، جميلة : جنية البحر ، ص 3 .
11 - المصدر نفسه ، ص 20 .
12 - المصدر نفسه ، ص 22 .
13- المصدر نفسه ، ص 21 .
14- المصدر نفسه ، ص 23 .