توظيف الأسطورة في رواية "نزيف الحجر" لإبراهيم الكوني ـــ مديحة عتيق ـ الجزائر
تمهيد: الأسطورة والرواية:
تسعى الرواية العربية المعاصرة لأن تجدّدّ أدواتها التعبيرية بين الحين
والآخر لتحافظ على أدائها الأدبي وشبابها الفني مستندة في ذلك إلى تقنيات
مستوردة حيناً وإلى مقوماتها الذاتية ثانية محاولة أن تواكب منجزات الآخر
الجمالية والمضمونية دون أن تفقد هويتها لذلك تقلد الرواية الغربية في
الاغتراف في الفلكلور الشعبي والخرافات، وتسعى لأن تطعم نفسها بسرود
تاريخية وعقائدية وأدبية لتأثيث عالمها التخييلي بهذه العناصر الحكائية
"المحلية" وكما "يبدو هذا النزوع شكلاً من أشكال المحاكاة لتحولات الجنس
الروائي في الغرب، يبدو في الوقت نفسه شكلاً من أ
شكال السعي إلى تأصيل عربي لهذا الجنس الأدبي الوافد" (1)
[size=12]
لذا لا يجد الروائي العربي بأساً من أن يستعين بالأسطورة في تقديم مكونات
عالمه الروائي سواء اكتفى بأحداثها العجيبة أو شخصياتها المثيرة أو أجوائها
الفانتاستيكية، ورغم ما يشوب مصطلح الأسطورة من سمعة سيئة ـ في مناخنا
العربي على الأقل ـ وغمزات مشبوهة بسبب تقاطعها مع الخرافة والأكاذيب
والباطل والخوارق، ورغم كل ذلك فإن الروائي العربي حاول مراراً أن يخطب ودّ
الأسطورة منذ الأربعينات أي منذ ظهور هذا الجنس الأدبي الوافد إلى ثقافتنا
العربية، نلمس ذلك جلياً في الأعمال الروائية الأولى مثل رواية "عودة
الروح" لتوفيق الحكيم الذي استثمر أسطورة لإيزيس الفرعونية وأبدى ولاء
كبيراً لهذه الأسطورة في بناء نصه الروائي، حيث أضفى أوصاف إيزيس وخصائصها
النمطية كالخصب، والوفاء، والتجدد والحياة على بطلته سنية، كما يمكن أن
نمثل برواية شهرزاد "لطرح رؤاهما الفكرية وأحلامهما الفنية المتمثلة في
تأصيل جنس أدبي جديد في الساحة الفكرية العربية. [/size]
[size=12][size=12] ولعل أسباب مراودة الروائيين العرب للأسطورة لا تختلف كثيراً عن
أسباب الشعراء والمسرحيين العرب، فالكل يسعى لتحقيق هدفين أساسين: أولهما
هدف سياسي وهو "اتخاذ الأسطورة قناعاً وقائياً يحميه من عين الرقابة، ويدع
مسافة مجازية بينه وبين السلطة، إذ اختبأ الأديب وراء كنانة الأسطورة، ورشق
من خلالها أعداءه أو خصومه بسهام الرفض والاحتجاج" (2) وثانيهما سبب فني
وهو تحرير النص الأدبي من أسوار البلاغة القديمة التي تقوم على السجع
والزخرف اللفظي والمبالغة واختبار الذاكرة في حفظ الغريب، أضف إلى ذلك كسر
النمط الخطي للسرد الحديث الذي ينتسب شرعياً أو بالتبني للسرد التتابعي في
السير الشعبية والحكايات التراثية. [/size][/size]
[size=12][size=12][size=12] انطلاقاً
من هذه الأهداف والدوافع أنتجت نصوص روائية كثيرة تقوم إمّا على أسطورة
واحدة أو على مجموعة من الأساطير، واختلف حضور الأسطورة كمّا ونوعا من أديب
لأخر حسب قناعات الروائي وقدراته الفنية من جهة وحسب "حظوظ" الأساطير "من
جهة أخرى، فقد حظيت الأساطير المتعلقة بالموت والانبعاث بحصة الأسد، ونذكر
على سبيل المثا
ل: أسطورة إيزيس وأوزيريس، عشتار وتموز، الفينيق والعنقاء... الخ ويرجع سبب
التركيز على هذه الأساطير أكثر من غيرها إلى توافق دلالة هذه الأساطير مع
إرهاصات النهضة العربية، و"انبعاث" الأمة بعد طول سبات، ومعظم هذه الأساطير
مستمدة من التراث القومي، إذ "ترتهن مصادر النزوع الأسطوري بمظهر من مظاهر
استلهام في الرواية العربية للتراث السردي العربي أي استدعاء نصوص من هذا
التراث وبثها بين تضاعيف السرد دونما محاكاة لأنماط السرد التراثية أو
لتقاليد السرد التراثي" (3)، ومن الروائيين الذين احتفوا بتوظيف الأسطورة
في متونهم الروائية نذكر الطاهر وطار، حليم بركات، إميل حبيبي، وإبراهيم
الكوني (4) الذي سنقف عنده من خلال روايته "نزيف الحجر" نموذجاً لتوظيف
الأسطورة في الرواية العربية، سنستخلص تمظهرات الأسطورة من خلال المحاور
التالية: [/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12] ـ تجليات أسطورة قابيل. [/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12] ـ الصحراء فضاء أسطوري. [/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12] ـ تقنيات التوظيف الأسطوري. [/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12] 1 ـ قابيل وهابيل: أسطورة الإخوة الأعداء: [/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12]
قابيل أو قابين اسم قديم قدم الإنسانية نفسها، يفرض نفسه علينا طوعاً أو
قسراً، سخطاً أو إشفاقاً، يرحل بنا عبر دهاليز الذاكرة إلى ثاني مأساة
عاشها الإنسان بعد مأساة طرده من الفردوس، إنها حادثة قتل قابيل أخاه
هابيل، ومواجهته معنى الموت وجهاً لوجه، صاغت التوراة تفاصيل القصة/
الأسطورة بعبارات بسيطة ومؤثرة، وحين تصل القصة إلى الذروة تطرح السؤال
بنبرة مفجعة: "يا قابين أين أخوك هابيل؟" ثم تقرر السماء أن يعيش قابيل
شريداً طريداً في الأرض طوال حياته،"... فقال الرب: ماذا فعلت؟ إن صوت دم
أخيك يصرخ إليك من الأرض، فمنذ الآن تحل عليك لعنة الأرض التي فتحت فاها،
وابتلعت دم أخيك (...)، وتكون شريداً طريداً في الأرض" (6)، وقد استقطبت
أسطورة قابيل اهتمام الأدباء خاصة في الفترة الرومانسية، إذ كان نموذج
الفرد الثائر المتمرد على لوائح الخير والشر كما نلمسه في مسرحية بيرون
(قابين)
كما استثمره الشاعر الفرنسي البرناسي لو كنت ليل “Le conte lisle” والشاعر
الرمزي الفرنسي شارل بودلير لـ "يعبّروا به عن بعض مظاهر حيرة الإنسان
وثورته على ما يراه ظلما وتمرده الميتافيزيقي، وضلاله في سبل لا يهتدي
إليها بفكره، في حين هو مسوق إلى السير فيها، ثمّ عن بؤسه حين يتخذ عقله
وحده رائداً له"(6)، فما الذي يرمز إليه قابيل في رواية "نزيف الحجر"؟ [/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12]
تقص الرواية تفاصيل حياة الطوارق في الصحراء، إذ ترصد تعاريج مسيرتهم
المعيشية، ودقائق يومياتهم المتوزعة بين صيد الغزلان ومطاردة الودان،
وحراسة الرسوم والأحجار التي خلفها الأسلاف، ومواجهة الفيضانات التي يليها
الجفاف، كما ترصد تصوراتهم عن الطبيعة وعلامات آخر الزمان وأبجديتهم في
قراءة أسطر الغيب، في خضم هذه التناقضات والتعقيدات يحضر "قابيل" في المتن
الروائي حضوراً لفظياً ووظيفياً باعتباره شخصية رئيسية تفرض نفسها في
المسار السردي للأحداث، تتحدث عن نفسها حيناً ويتحدّث عنها أحياناً، وقد
تشكّلت هذه الشخصية من خلال جملة من الموتيفات كان أهمها: [/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12]
*طفل مشؤوم/ منحوس: إذ مات والده، وهو في بطن أمّه التي توفيت بدورها بعد
وضعه بأسبوع إثر لدغة أفعى، فتبنته خالته وزوجها فماتا عطشا في الصحراء ثمّ
تبناه ربّ قافلة لكن سرعان ما تبور تجارته، وينهب اللصوص قطعانه. [/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
*طفل قاس/ مرعب : يزرع الخوف في نفوس أطفاله، ويقطع أيّ جسر للتواصل
الحميمي مع أقرانه، فارضا نفسه كقوة عليا، وشخصية سلطوية مستبدة. [/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
*رضيع الدم : إذ تروي غزالة لصويحباتها كيف أن أمها ضحت بنفسها من أجل
الرضيع قابيل حتى لا يموت عطشا في الصحراء "دمها آخى بين ملتنا (الغزلان)
وملة آدم، نحن الآن أخوة بالدم هذا الحصن اشتريناه بثمن قاس" (7). [/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] *آكل لحم البشر : يتحدّث عنه الدرويش بلهجة غامضة: "في فم هذا المخلوق دودة تجعله يأكل نفسه إذا لم يجد لحماً يأكله" (. [/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] تتضافر هذه المقتطفات الحكائية لترسم صورة حيّة عن "قابيل"
إبراهيم الكوني التي لا تكاد تتفق مع قابيل الأسطوري في موضع حتى تختلف معه
في مواضع كثيرة تؤكد خصوصية "قابيل" الجديد، فأهم الموتيفات المشتركة بين
قابيل الأسطورة وقابيل الرواية هي (موتيف الاسم وموتيف الإخوة الأعداء)،
ولنبدأ بالاسم: [/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
حافظ إبراهيم الكوني على اسم الشخصية الأسطورية، وأورده بصيغته الإسلامية
بدل الصيغة التوراتية (قابين) والتسمية مظهر من مظاهر الاستلهام الأسطوري
سواء اكتفى الأديب بذلك أم تجاوزه على أحداث الأسطورة، ولاحظنا اختفاء اسم
"هابيل" الذي عادة ما يرد معطوفاً على اسم قابيل كما عطفت جولييت بروميو
وحواء بآدم ودليلة بشمشون، ولا أظن أنّ تغييب الروائي اسم هابيل من المتن
النصي تقليلاً لشأنه أو تقليصاً لفعاليته بل العكس، لقد جعله ضمن دائرة
المسكوت عنه ليكون نصاً صامتاً أو بياضاً دلالياً يمكن أن يتلوّن بأكثر من
قراءة وتأويل، لذا بدا لنا هابيل مجسّداً في شخصية الراعي أسوف تارة وفي
شخصية الغزالة تارة أخرى، وخاصة أنّ الاثني
ن أسوف والغزالة/ هابيل قد مارس عليهما قابيل فعل القتل ليتوشج النص
الروائي بصلة نسب أخرى مع قابيل الأسطوري وذلك بتحقق الموتيف الثاني وهو
الإخوة الأعداء. [/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
قد قتل قابيل أخاه هابيل/ الإنسان/ أسوف الراعي لأنه رفض أن يدلّه على
مكان الودّان، ويمثل هذا الفعل والمواجهة بين الأخوين الوجه الآخر للمواجهة
بين نمطين معيشين الرعي/ أسوف، والصيد/ قابيل، يصرّ كلّ منهما على فرض
وجوده والمحافظة على تخوم مملكته وإن اضطره الأمر إلى قهر الآخر، فكان أن
قتل قابيل الراعي العجوز هابيل، لكن ليس لأنه خسر قربانه مع السماء/ الله
بل لأنه سيخسر القربان مع نفسه ومع الكاتب الأمريكي جون باركر دارس
الاستشراق والفلسفات الشرقية والتصوف الإسلامي، إنّه الوجه الآخر للمستعمر
الأجنبي الذي جاء من الضفة الأخرى غازياً ومستكشفاً لعالم جديد عنه لا
تتجاوز معرفته عنه كونها معرفة سماعية/ تلقينية استمدها من كتب الاستشراق
والفلسفة. [/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
إنّ هذه العلاقة الدموية بين الإخوة الأعداء هي إحدى جزيئات
الأسطورة الأصلية التي استعارها الكوني ليؤثث بها نصّه الروائي مضيفاً
عليها من "عندياته" ما يجعلها أسطورة أدبية حسب مواصفات ريمون تريسون" لا
يمكن أن تتحقق الأسطورة الأدبية إلاّ إذا غيّر المبدع في الأسطورة
(الأصلية) وعل فيها تجربة كبيرة، وذلك حين يشحنها بدلالات جديدة، وإذا لم
تتوفر هذه الدلالات المضافة للمعطيات القديمة فلن نتحصّل على أسطورة أدبيّة
(9). [/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
حقق إبراهيم الكوني هذه الدلالات الجديدة حين طبع الشخصيتين البطلتين
بملامح خاصة مستمدّة من خصوصية البيئة المحلية فيصبح قابيل وهابيل شخصيتين
محليتين جدّا وعالميتين جدّا، لذا نجح الكوني حسب رأي مقبول موسى العلوي في
أن يكون كاتباً عالمياً، يقول عنه "كان غارقاً في المحلية ممّا أوصله إلى
العالمية دون تكلّف ممجوج" (10) على نحو يذكّرنا بوليم فولكنر وناثانيل
هورثورن اللذين انطلقا من بيئتهما المحلية في أمريكا الجنوبية ليصلا
بأعمالهما إلى مستوى عالمي/ شمولي يجعلها صالحة لكل زمان ومكان وإنسان. [/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
كان
ت الحلقة الدموية الثانية في سلسلة الإخوة الأعداء هي مواجهة قابيل أخته
بالرضاعة الغزالة ابتدأت بالتردّد وانتهت بالغدر والإجرام "اندهش كيف لم
يطلق النار عليها، نسي البندقية نهائياً، نسي أنه جاء في رحلة صيد، نسي أنه
قابيل بن آدم المجبول على الدّم واللحم (...) ولكن هل كانت تلك غزالة حقا؟
وهل كان هو قابيل حقا؟" (11)، ولكن سرعان ما تتبدّد تلك الدّهشة ولحظات
التأمّل لتليها الجريمة واللاعقاب "وفي تلك الليلة لم يقتل قابيل ابن آدم
أخته الغزالة فقط ولكنه أكل لحمها أيضاً" (12) [/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
تطرح هذه المواجهة الدرامية علاقة غير متكافئة بين طرفين متناقضين، يمتلك
الأول القوة والغدر وشهوة الإجرام، ويتسلح الثاني بالطيبة والعجز والسذاجة،
بندقيته هي التعويذة السحرية "لن يشبع آدم إلا التراب"، وهذه نفس موازين
القوى في الحكاية الأسطورية، لكن الكوني أراد هنا "أن يمثل صراعا دمويا بين
الإنسان وصيده الجائر للحيوان، [/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] الصيد لمجرّد التسلية والعبث، لذا نلاحظ هذه القدرة الف
ذة للكوني في إخضاع الأسطورة وربطها بمصير الإنسان الصحراوي" (13). [/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
تشترك الغزالة مع أسوف في موتيفات كثيرة تسمح بأن يجسّدا معا شخصية قابيل،
فكلاهما يتّسم بالطيبة وروح التضحية والعجز والغزالة، فقد كان أسوف رجلا
منعزلا، لم يجاور أنيساً، ولا يعرف معنى النقود، ولم يعاشر امرأة، ولا يحمل
سلاحا، يعيش في الخلاء، معتزلا الناس، وقد عافت نفسه لحم الحيوان فلا
يأكله، بعبارة أخرى لقد كان نمط حياته أقرب إلى معيشة الحيوانات العشبية،
وهذا ما يعطي تفسيراً آخر للصراع بين قابيل وهابيل في الرواية، إنّه
(الصراع) تجسيد للصراع بين الطبيعة/ هابيل والحضارة/ قابيل، ولا أدل على
ذلك من الصلة الوثيقة بين قابيل والكابتن الأمريكي جون باركر الذي زوّده
بآلات تنعت مراراً في تضاعيف السرد بأنّها آلات شيطانية وهي "البندقية،
وسيارة الاّندروفير، الجنادب الطائرة والخرطوش". [/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] الصحراء: الفضاء الأسطوري: [/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
لم يكتف إبراهيم الكوني بالتعامل بالرموز الأسطورية بل ارتقى إلى التعامل
بمنطق الأسطورة أي صار يصوغ لنفسه أساطير خاصة به مقتنعاً بمقولة الناقد
الفرنسي بيير برونيل "الأساطير هي كل ما حوّله الأدب إلى أساطير" (14)،
فالأدب هو الذي ارتقى بالبندقية والإلدورادو وباريس وإرم ذات العماد من
فضائها الجغرافي إلى فضاء أسطوري حتى لا يكاد يتبيّن الخيط الواقعي من
الخيط الأسطوري لذا فكما يستعين الأدب بالأسطورة فإنّ هذه الأخيرة تدين له
كثيراً بديمومتها وبقائها وتجددها عبر العصور، انطلاقاً من كلّ هذا اختار
إبراهيم الكوني فضاء طبيعياً يبدو في ظاهره قحلاً، جافاً بل متقشفاً وهو
"الصحراء، لكنه استطاع بقدرته الفنية العالية أن يجعله فضاء أسطورياً ثرياً
برموزه، وطبقاته الدلالية العميقة محوّلاً قحطها إلى جنّة أسطورية في عامه
النصي المتخيل مستنطقاً أحجارها وكهوفها ورمالها وشمسها وحرّها..
"فالصحراء تظلّ متماهية في أساطيرها وأسرارها المغلقة بحيث لا تمكّن المبدع
من الولوج إلى عالمها، والكوني لا يحفز طاقاته لاختراق الصحراء، الصحراء
هي التي تنفذ إليه وتسيطر على إيقاع قلمه" (15)، لذا يزخر نص "نزيف الحجر"
بمقاطع وصفية للصحراء تت
متع بدفقات شعرية راقية، تشوبها مسحة من الغموض والإبهام الممزوجين بشيء من
الخوف من المجهول ومن الفراغ الموحش في الصحراء، وقد ساعد هذا الفضاء
المترامي للروائي بأن يجعل عدد شخصياته قليلا مما يوسّع هامش التحليل
والتأمل في كهوف الذات البشرية، حيث "تفصح الصحراء عن محدودية مادية مذهلة،
وتقشف يضطر معه أسوف بطل الرواية لمحاورة الذاكرة وإفساح ذاكرته عن آخرها
للتخييل، والتأمل لقلة الشخوص بالطبع" (16)، فهذا الفضاء الرحب يضع الإنسان
في مواجهة صريحة مع ذاته، إذ يسقط ورقة التين التي تداري عورته الأخلاقية
لممارسة جدلية البقاء بين فكي العطش والتيه في عالم كل أبجديته شظف العيش
والصراع من أجل البقاء. [/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] تقنيات توظيف الأسطورة: [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
تختلف استراتيجيات الروائيين في معالجة الأسطورة، فهناك من يعيد صياغتها
حرفياً، فيظل مشدوداً إلى منطق الأسطورة، أسيراً في شرنقتها، مما يجعله
عبئاً على منجز حكائي جاهز يتعامل معه بشكل سكوني، وهناك من يوظف الأسطورة
توظيفاً جزئياً أو توظي
فاً ديناميكياً متسلحاً بحيل لغوية وفنية متنوعة، فماذا فعل إبراهيم الكوني
في روايته "نزيف الحجر"؟ لقد راوغ الكوني كثيراً في مراودة الأسطورة
محاولاً أن يستفيد منها قدر ما يستطيع حتى لا يشعرنا بأنه يدين لها بشيء،
ومن ذلك استعماله التقنيات التالية: [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
1 ـ الرمز الأسطوري: إذ استعار شخصية أسطورية معروفة وهي قابيل، وأضاف
إليها من عندياته ما جعلها فرداً من ممتلكاته الروائية وجزءاً لا يتجزّأ من
عالمه التخييلي، بعد أن أفرغ موتيف "القربان" من ظلاله الماورائية/
القدسية، فلم يكن للسماء أي دخل في سير الأحداث، وكان القربان متعلقاً
بشؤون الأرض فحسب. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
2 ـ التفتيت/ defomation: لم يسرد إبراهيم الكوني قصة قابيل وهابيل / قصة
الإخوة الأعداء دفعة واحدة بل اعتمد تقنية التفتيت وهو "زحزحة التطابق بين
النظام التتابعي للأحداث الموصوفة وبين نظام تواليها في الرواية" (17) لذا
جاءت القصة الأسطورية متشظية/ مبعثرة في فصول كثيرة من الرواية مخلفة بين
كل فصل وآخر ثغرات
ملأها الروائي بخلق بمسارات سردية جديدة ستتقاطع في وسط الرواية أو في
نهايتها بمسار القصة الأسطورية، أي أنّ الروائي تعمّد كسر النمط التتابعي
للأسطورة والرواية في آن واحد ليحافظ على تشوّق القارئ للنهاية أو حتّى لا
يبدو متطفلا على الأسطورة "التي لا تشكّل متنا روائيا لكنها في الوقت نفسه
تبدو مندغمة بهذا المتن" 018) [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
3 ـ التناوب/ Alternative: الذي "يعني رواية حدث ثمّ تعليقه للانتقال إلى
حدث آخر ثمّ العودة إلى الحدث المعلّق" (19) فلم يشأ الكوني أن يخلق خطّاً
سردياً تتابعياً بل جعل أسطورته مبعثرة في أكثر من موقع، فلا تلتئم أشتاتها
إلا بنهاية الرواية أي أن الأسطورة لا تنتهي إلا بنهاية الرواية مما
يجعلها عنصراً متأصلاً في جسد الرواية وليست زائدة نصية يمكن استئصالها. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
4 ـ تعدد الساردين: لم يشأ الكوني أن يكون مستبداً بنصه ولا متحكماً في
أعناق شخصياته يحرّكها كما يشاء، ويقول عنها ما يريد، بل جعلها شخصيات
راشدة، مسؤولة عن أقوالها وأفعالها لذا لم ي
تعامل مع الشخصية البطلة/ قابيل بمنطق الراوي العالم بكل شيء عن شخصياته
المطلع على أفئدتها، المترصد لكل حركاتها، بل قدم بطله من خلال رواة كثيرين
مثل صديق مسعود، والكابتن جون باركر والدرويش والعراف الزنجي ساعدت هذه
الشخصيات في رسم صورة قابيل من زوايا مختلفة، فالكوني يقدم قابيل من خلال
عدد من الشخصيات الثانوية التي تبدو شاهدة عليه حتى لا يستبد بمهمة إنجاز
عالمه الروائي وحده. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
5 ـ الديباجة/ Epigraphe: استثمر الكوني تقنية الديباجة ليفتتح بها فصوله
الروائية، والديباجة هي نص استهلالي أو علامة دالة تتقدم النص وتعلن عنه،
وتتصل به لحظة ميلاده عبر حبل سري لمنحه سمات جمالية خاصة، لقد تفنن الكوني
في توظيف هذه التقنية إذ مهد لنصوصه بمقتطفات نصية مقتلعة من قصص أسطورية
أو من طقوس أسطورية في الغالب مثل افتتاحه فصل "ثمن الغزالة" بالمقطع
التالي "ويتشاءم أهل تاسيلي من صيد الموفلون (الودّان)، فيتمتم الصيّاد
بالتعاويذ السحرية، ويضع حجراً على رأسه، ويتقافز على أربع قبل أن ينطلق في
رحلة الصيد" (20) أي أن الروائي قد استنزف الأسطورة موضوعاتياً و
جمالياً بما يمكنه من خلق نص أدبي فوق العادة. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
ختاماً يمكن القول أن الكوني نجح في خلق رواية يتضافر فيها الواقعي
بالأسطوري والحقيقي بالخيالي ليخرجنا من قوقعة المعاني المألوفة للأشياء
والصيغ النمطية في التأليف بعبارة أخرى لقد خلق الكوني رواية "لا يمكن أن
تترك القارئ الذي تعرّف عليها لا مبالياً" (21). [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] الهوامش: [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 1 ـ د/ نضال الصالح: النزوع الأسطوري في الرواية العربية (دراسة) ط1. اتحاد الكتاب العرب، دمشق 2001. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 2 ـ مديحة عتيق: الشيطان في أدب توفيق الحكيم دراسة موضوعاتية (رسالة ماجستير) ـ مخطوط ـ جامعة عنابة ـ الجزائر 2002، ص 54. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 3 ـ د/ نضال الصالح: النزوع الأسطوري في الرواية العربية.
[/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
4 ـ إبراهيم الكوني: روائي ليبي معاصر من مواليد 07 أغسطس 1948 بالحمادة
الحمراء، زاول تعليمه الثانوي بالجنوب الليبي وأكمل الماجستير قسم العلوم
الأدبية بمعهد غوركي للأدب العالمي بموسكو عام 1977 وهو أديب غزير الإنتاج،
من أشهر أعماله: رواية التبر ـ فتنة الزؤان ـ شجرة الرتم ـ نداء الوقواق ـ
المجوس ـ الصلاة خارج نطاق الأوقات الخمسة... الخ وقد ترجمت رواياته إلى
لغات كثيرة مثل الألمانية والروسية... [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 5 ـ الكتاب المقدس العهد القديم، سفر التكوين، دار الكتاب المقدس، القاهرة، 1995، ص 05. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 6ـ غنيمي هلال: الموقف الأدبي، دار العودة، بيروت، 1977، ص 84. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 7 ـ إبراهيم الكوني: نزيف الحجر، دار التنوير للطباعة والنشر، ط3، لبنان، 1992، ص 113. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 8 ـ إبراهيم الكوني: نزيف الحجر، ص 117. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 9 ـ R. Trousson/ Themes et mythes: Universite Bruxelle, 1979; P18. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 10 ـ مقبول موسى العلوي: إبراهيم الكوني/ الصحراء والطوارق والأساطير. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 11 ـ نزيف الحجر: ص 127. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 12 ـ نزيف الحجر: ص 130. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 13 ـ مقبول موسى العلوي: المرجع السابق. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 14 ـ حنا عبود: النظرية الأدبية الحديثة والنقد الأسطوري [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 15 ـ خالد عويس: إبراهيم الكوني، الصحراوي المتقشف.
[/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 16 ـ خالد عويس: إبراهيم الكوني، الصحراوي المتقشف مرجع سابق. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12] 17 ـ د/ نضال الصالح: النزوع الأسطوري في الرواية العربية (دراسة) مرجع سابق. [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
[size=12][size=12][font:8036=Simpli