الفيزياء ونظرية المعرفة (الابستمولوجيا) 1/2 | ||
.sub_title a{color:#063e67; } .sub_title a:hover{color:#063e67} القسم: كتاب و كاتبات | الكاتب: د.محمد البغدادي | التاريخ: 2009-10-26 تكتسب المفاهيم التي تجلت فائدتها في ترتيب الأمورـ بفضلنا وبسهولة سلطة تنسينا منشأها الدنيوي وتجعلنا نقبلها كمعطيات ثابتة، وتصنف حينئذ كـ «ضرورة منطقية»، «معطاة قبليا» إلخ، ولطالما وقفت هذه الأخطاء حجر عثرة ولأمد طويل في طريق التقدم العلمي، وليست ممارسة تحليل المفاهيم المقبولة منذ زمن طويل وكذا تبيان الظروف التي تبررها وتتيح استعمالها وكيف نشأت من المعطيات التجريبية أموراً لاطائل منها، لأننا نقضي بذلك على سلطانها الهائل فنلغيها إذا لم يعد من الممكن تبريرها ونقومها إذا ماتضاءل تطابقها مع الواقع كثيراً ونستعيض عنها بأخرى إذا أمكن إقامة أنظمة جديدة تبدو لنا مفضلة لسبب أو لآخر. انشتاين، المجلة الفيزيائية ـ 17 ـ 1916 ص101. - المفاهيم القبلية في الفيزياء التقليدية نود والعالم كله يحتفل هذا العام بالذكرى المئوية لنظرية النسبية الخاصة، جاعلاً هذه السنة العالمية للفيزياء، أن نلقي نظرة على تطور الأفكار والمفاهيم وبالتالي النظريات خلال القرنين الماضيين لنستخلص منها بعض الدروس، يمكننا القول أن الفيزياء ومعها كل العلوم التجربية ا لأخرى هي الإجابة عن السؤالين التاليين: أين؟ ومتى وقع حدث ما يمكن رصده، أي أنها تبني على معرفة المكان والزمان والمادة، يقول نيوتن: «إن الفضاء، المكان، ومعه الزمان معروفان من الجميع ولهذا فإنه لن يعرفهم. هذا يعني أن الفضاء بالنسبة له هو الفضاء المحسوس، إنه يقين يسبق الفكر، إنه حدس يعتبره الفيلسوف كانت إحدى مقولات العقل أي إحدى التصورات الكلية الأساسية الإثني عشر التي يتضمنها العقل المحض والتي هي صور قبلية للمعرفة، هذا يعني إذن أن تعطى الكلمة في كل تأمل علمي للحدس، للحدس المشترك، أولاً ومن بعده إلى الاستدلال المنطقي الذي يبني الهندسة على النحو الذي فعله إقليدس، إن الهندسة من وجهة النظر هذه ليست سوى ا لحدس المراقب، كما يقول الرياضي الفرنسي جاك هادامار. وهكذا فإن الفضاء بالنسبة لنيوتن هو الفضاء الإقليدي ذو الأبعاد الثلاثة الذي نعيش فيهز تعرف فيه النقطة و المستقيم والمستوي إلخ، ثم تطرح المتطلبات (المصادرات postulats) والموضوعات أي طروحات تقبل دون برهان. وتأتي بعد ذلك المبرهنات التي نعرفها منذ بدء دراسة سنوية. لنلاحظ أن الفرق بين المصادرات والموضوعات غير واضح ولهذا تسمى مصادرة إقليدس الخامسة المتعلقة بالمتوازيات: لايمر من نقطة مافي المستوي سوى مستقيم واحد لايلتقي بمستقيم معين، مصادرة تارة وموضوعة تارة أخرى. ثم إن الفضاء الإقليدي فضاء متري، بمعنى أنه يمكن قياس المسافة الفاصلة بين نقطتين منه وهو فضاء متصل بمعنى أنه مهما يكن العدد الحقيقي a صغيراً فإنه من الممكن أن نجد مقطعاً طوله يساوي a . أما الزمان فيمكن تمثله بالمستقيم إقليدي متصل أيضاً. ويتصور نيوتن المادة على النحو التالي و «بالنظر إلى كل هذه الأمور فإنه يبدو لي من المحتمل أن الإله في البداية كون المادة على صورة جزيئات صلبة، ذات كتلة، قاسية بحيث يستحيل اختراقها ومتحركة. ولهذه الجزيئات أبعاد وأشكال وخواص فضائية أخرى تجعلها الأكثر ملائمة بالنظر إلى الغاية التي صورت من أجل تحقيقها. إنها صلبة إلى حد يستطيع معه تآكلها أو تكسيرها إلى أجزاء، ذلك أنه مامن قوة تستطيع تقسيم مافعله الرب بالذات في الخليقة الأولى.... وهكذا يمكن للطبيعة أن تستديم ولايقع التغيير في الأشياء المجسدة إلا في تفرقها وتجمعها من جديد وفي حركة هذه الجزيئات الدائمة». يتبين من ذلك أن مفاهيم نيوتن للمكان والزمان مفاهيم قبلية، ولاتختلف مفاهيمه الميتافيزيقية عن المادة عن مفاهيمه للمكان والزمان، ثم وضع نيوتن بعض الموضوعات الفيزيائية، ولنسمها مبادئ، تعبر عن الخواص التي يعطيها للمكان والزمان، فكل منهما متجانس أي أن اختيار نقطة بداية في الفضاء أو لحظة الصفر في ا لزمان أمر لايؤثر في أي حال على الواقع التجربي وكذلك فإن الفضاء متناحي بمعنى أن الواقع التجربي لايتغير بتغير الاتجاه. وهناك أيضاً مبدأ السوية، مبدأ عدم التفريق بين اليمين واليسار: يمكن توصيف كل حوادث الطبيعة اعتماداً على ثلاثة محاور الطول والعرض والارتفاع تمثلها أصابع اليد اليمنى الثلاثة ويدور فيها الإبهام من اليمين نحو اليسار حول الإصبع الوسطى لينطبق على السبابة، أو اعتماداً على أصابع اليد اليسرى التي يدور فيها الإبهام من اليسار نحو اليمين حول الإصبع الوسطى لينطبق على السبابة، تجدر الإشارة أن مبدأ السوية الذي يؤيده الحس السليم بقي ساري المفعول حتى عام 1957 حيث نقضته التفاعلات الضعيفة (إصدار النوترون الإلكتروني مثلاً). إن الطابع القبلي لكل هذه المبادئ أي أن كونها ابتداعا ًفكرياً صرفاً واضحاً للعيان ولكن نيوتن يعترف في نقاشه مع لايبتنز وهويغنز بهذا الطابع القبلي. - الميكانيك والأثير إن صفات التجانس للمكان والزمان وتناحي المكان تشكل من وجهة نظر الرياضيات زمراً نطلق عليها اسم زمر التناظر وينتج عنها انحفاظ النظمات المعزولة كانحفاظ طاقة الكون مثلاً الناتج عن تجانس الزمان. إذا ما أضفنا إلى هذه المبادئ مبدأ آخر يعرف باسم مبدأ النسبية لغاليله ـ القائل بعدم تغير قوانين الميكانيك بالانتقال من نظمة رصد ما ـ ثلاثة محاور متعامدة ـ إلى نظمة أخرى تسير بحركة مستقيمة منتظمة بالنسبة للنظمة الأولى كحركة القطار مثلاُ بالنسبة إلى الراصد الواقف على رصيف المحطة ـ فقد أصبح بإمكاننا دراسة الميكانيك، انطلاقاً مما يعرف باسم قانون نيوتن الثاني القائل: بتناسب تسارع الجسم مع القوة المطبقة عليه، ولنشر هنا إلى أن «قانون نيوتن» هذا ليس قانوناً، بمعنى أنه لايبرهن وأنه بالتالي موضوعة أو مبدأ، والقائل كذلك ان الزمن هو زمن مطلق بمعنى أن الزمن هو نفسه كل نقاط الفضاء، إنه لايتغير عندما ننتقل من نظمة غاليليه إلى أخرى. وهذا مانعبر عنه بقولنا أن الزمن وسيط يتيح لنا معرفة وضع المتحرك بفضل قانون نيوتن الثاني. إن معادلات الحركة معادلات تفاضلية عادية من الدرجة الثانية بحيث تتيح معرفة وضع وسرعة المتحرك في لحظة ما ـ لحظة البداية ـ معرفة وضعه وسرعته في كل لحظة لاحقة أي تتبع مساره المتصل. وهكذا على سبيل المثال تدور الأرض حول الشمس وترسم قطعاً ناقصاً تحتل الشمس إحدى بؤرتيه. تلخص جملة لابلاس الشهيرة: «أعطوني الشروط البدائية (الوضع والسرعة في لحظة ما) وسأتنبأ لكم بمستقبل الكون» ثقة فيزياء القرن التاسع عشر بصحة القوانين المطلقة ـ بتعيينها بل وبحتميتها إذا شئنا التركيز على المفهوم الفلسفي للتعيين. إنها تلخص من وجهة النظر العقائدية انتصار الميكانياتية والعلمياتية في القرن التاسع عشر. هناك خاصة إضافية كانت الفيزياء منذ ديكارت وإلى أوائل القرن العشرين تضفيها على الفضاء هي امتلاؤه بوسط مرن يسمح بانتشار الاهتزازات على النحو الذي يسمح فيه الهواء بانتشار الاهتزازات الصوتية، يتغلغل هذا الوسط في مسام الأجسام المادية ويتسبب في تماسكها كما أن له صفات أخرى لاتعنينا هنا وتختلف من منظر إلى آخر. إن مايهمنا هو أن افتراض هذا الوسط غير المرئي والذي أطلق عليه اسم الأثير ناشئ عن تصور الفيزيائيين أنه لابد من حامل ينقل التفاعل بين الأجسام المتفاعلة ويعبر عن ذلك بالقول أن كل فعل هو فعل بالتماس. لنستمع إلى نيوتن في هذا السياق: «أن نفترض أنه لجسم ما أن يؤثر على جسم آخر عن بعد، عبر الفضاء ودون أي وسيط.. إحالة كبيرة بالنسبة لي بحيث يبدو لي أنه مامن امرئ قادر على التأمل الفلسفي يستطيع قبولها». لابد من التذكير هنا أن منشأ هذا المفهوم هو تعرف الإنسان على مايحيط به بالحواس الخمسة وخاصة باللمس. وهل ننسى أن ابن الهيثم كان أول من أو ضح أن الجسم المرئي هو الذي يصدر الضوء نحو العين وليس العكس: لاتمد العين يدها ـ أشعتها للمس الجسم؟! - النسبية الخاصة نشأت نظرية الكهرطيسية لماكسويل في مطلع الثلث الثالث للقرن التاسع عشر وهي نظرية وحدت ـ وفي اربع معادلات لاغير ـ الظواهر الكهربائية والمغناطيسية والضوئية في إطار نظري واحد: ينتج التيار الكهربائي حقلاً مغناطيسياً، كما يحدث كل تغير في الحقل المغناطيسي حقلاً كهربائياً، وتتألف كل موجة ضوئية من حقلين متعامدين الأول كهربائي و الثاني مغناطيسي ينتشران في الأثير بسرعة ثابتة هي سرعة الضوء (300000 كيلو متراً في الثانية). إن معادلات ماكسويل ـ قوانين انتشار الضوء ـ تتغير، خلافاً لما هو عليه الأمر في قانون نيوتن الثاني، عندما ننتقل من نظمة غاليليه، وهكذا بنيت الآمال على الكهرطيسية، على التجارب الضوئية، لمعرفة حركة نظمة غاليلية بالنسبة إلى نظمة غاليلية أخرى، حركة الأرض على سبيل المثال ـ التي يمكن اعتبارها غاليلية خلال فترة وجيزة من الزمن ـ بالنسبة إلى الشمس، لقد باءت هذه التجارب بالفشل ـ التجربة الضوئية الشهيرة المعروفة باسم تجربة مايكلسون ـ مورللي. وكان لابد من استخلاص نتائج هذا الفشل: فإما القول أن معادلات ماكسويل خاطئة وإما إعادة النظر في المفاهيم القبلية والقائمة على الحدس، على الحدس السليم المشترك ـ التي بنيت عليها الفيزياء. لم يكن من الممكن دحض نظرية ماكسويل لأن كل فيزياء أواخر القرن التاسع عشر وكل تكنولوجيا حضارة الكهرباء دعمتها وعززتها ـ الهاتف والتلغراف والراديو والتلفزيون والإضاءة والتصوير بالأشعة....إلخ. لم يبق إذن إلا إعادة النظر في المفاهيم. فقد تبين أن التحولات التي تبقى معادلات ماكسويل دون تغيير عندما ننتقل من نظمة غاليلية إلى أخرى لاتحول المسافات فحسب وإنما تحول كذلك الزمن من نظمة إلى أخرى (تحولات لورانتس). وهكذا لم يعد الزمن وسيطاً يحتفظ بنفس القيمة في كل النظم الغاليلية، أو بتعبير آخر، لم يعد مطلقاً لكنه زمن يرتبط بكل متحرك، خاص به: إنه زمن نسبي، إنه متحول مثله مثل الإحداثيات المكانية. وأصبح الفضاء بالتالي فضاء ذا أربعة أبعاد: إنه المكان ـ الزمان، يعرف هذا الفضاء باسم فضاء مينكوفسكي وهو شبه إقليدي بمعنى أن الهندسة الإقليدية (بما ف يذلك موضوعات المتوازيات) تنطبق عليه ولايختلف عن الفضاء الإقليدي إلا من حيث تعريف المسافة بين نقطتين (حدثين) فيه. فهناك مسافات مربعها سالب ومسافات مربعها يساوي الصفر ومسافات مربعها موجب. تقوم نظرية النسبية الخاصة التي أسس لها رياضيون وفيزيائيون عديدون وعلى رأسهم بوانكاريه ولورانتس والتي اشتهرت باسم نظرية النسبية الخاصة لأنشتاين على مبدأين اثنين أولهما مبدأ النسبية الخاصة لأنشتاين الذي يقول باستحالة القيام بتجربة فيزيائية تعين حركة نظمة غاليلية بالنسبة لنظمة غاليليلة أخرى: لايمكننا فيزيائياً القول أن القطار يمر أمام الواقف على رصيف المحطة في اتجاه ما أو أن الرصيف ومعه الواقفين عليه يتحرك أمام القطار في اتجاه معاكس. يعمم هذا المبدأ مبدأ غاليلية بوضعه كلمة فيزيائي (ميكانيكي أو ضوئي) عوضاً عن ميكانيكي. يقول المبدأ الثاني بوجود سرعة حدية لسرعة انتشار التفاعل هي سرعة الضوء. إنها سرعة كبيرة ولكنها منتهية، وقضى هذا المبدأ على الفرضية التي تتقبل التفاعل الآني والتي احتوتها، ولو ضمنياً النظريات السابقة. يبين هذا المبدأ أن فضاء مينكوفسكي ليس فيزيائياً كله ـ خلافاً لفضاء إقليدس في الميكانيك التقليدي ـ بمعنى أنه يستحيل وجود علاقة سببية بين حدثين (نقطتين من هذا الفضاء) تفصلها مسافة مربعها سالب لأن هذا المربع السالب يعني انتشار التفاعل بسرعة تفوق سرعة الضوء. ينحصر الحيز الفيزيائي داخل مخروط ينتشر التفاعل في داخله بسرعة أقل من سرعة الضوء ـ مربع المسافة موجب ـ أو على المخروط حيث ينتشر التفاعل بسرعة الضوء ـ مربع المسافة يساوي الصفر. - الفيزياء الموضوعاتية والرياضيات لنطرح على أنفسنا السؤال التالي: هل يمكننا أن نتجاوز الفضاء الإقليدي ذا المنشأ الحدسي؟ هل يمكن بالتالي إنشاء أساس موضوعاتي للفيزياء لاينبع من التجربة؟ يجيب أنشتاين على هذا السؤال بنعم ويقول: «يتضح لنا بجلاء اليوم كم كان خطأ النظريين الذين يظنون أن النظرية ناشئة عن التجربة كبيراً.... وحتى نيوتن، ذلك الرجل العظيم، لم يستطع أن يعصم نفسه من هذا الخطأ، لايمكن للتأمل المنطقي وحده أن يؤدي إلى إدراك للعالم التجريبي، أياً كان نوعه، إن كل معرفة للواقع تبدأ بالتجربة وتنتهي بها، فالتجربة وحدها هي التي تقرر الحقيقة إلا أن الأساس الموضوعاتي للفيزياء لايستخلص من التجربة، يجب أن يكون إبداعاً حراً... يمكن استيحاء المفاهيم الرياضية من التجربة إلا أنها لاتستنبط من التجربة في أي حال», وخلاصة القول: إن التجربة هي محك العلم، تفند النظرية أو تعززها ولكن النظرية ابتداع فكري. لقد عارض الرياضيون في القرن التاسع عشر ا لمذهب القائم على الحدس، على الوعي البات الذي لايقبل الجدل، فجادلوا مثلاً في مصادر المتوازيات في الهندسة الإقليدية فكتب لوباتشيفسكي في كتابه «العناصر الجديدة في الهندسة 1835»: من المعروف أن نظرية المتوازيات في الهندسة مازالت إلى الآن ناقصة، ولقد دفعتني الجهود غير المجدية المبذولة منذ ألفي عام، منذ عصر إقليدس، إلى الشك أن المفاهيم نفسها لاتتضمن الحقيقة التي نريد إثباتها، وأنه يمكن التحقق من صحة هذه الحقيقة كغيرها من قوانين الفيزياء بتجارب كالأرصاد الفلكية ولما اقتنعت في النهاية بصحة تخميني ونظرت إلى المسألة وكأنها قد حلت تماماً أعلنت حججي عام 1826». |
الفيزياء ونظرية المعرفة (الابستمولوجيا)
- تاريخ التسجيل : 31/12/1969
- مساهمة رقم 1