منتدى معمري للعلوم

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى معمري للعلوم

منتدى يهتم بالعلوم الحديثة والمعاصرة، خاصة منها العلاقة بين الطب الأصلي والطب المازي او كما يسمى الطب البديل - ولا أرام بديلا -،كما يختص منتداي في كل ما يختص بتحليل الخطاب: الأدبي والعلمي، ونظرية المحاكاة: سواء في الطب أو علم التغذية او في الفن.


    نســـــق المثالــــيــة المتعــــاليــــة عند شيلنج ... إمكان المعرفة النسقية

    avatar


    تاريخ التسجيل : 31/12/1969

    نســـــق المثالــــيــة المتعــــاليــــة عند شيلنج ... إمكان المعرفة النسقية Empty نســـــق المثالــــيــة المتعــــاليــــة عند شيلنج ... إمكان المعرفة النسقية

    مُساهمة   الجمعة ديسمبر 17, 2010 2:08 pm

    <table width="100%"><tr><td>نســـــق المثالــــيــة المتعــــاليــــة عند شيلنج ... إمكان المعرفة النسقية



    سرحان ذويب



    تقــــــديم :


    يبدو الاهتمام بفلسفة شيلنج(1775-1854) في مستوى الدراسات العربية محدودا جدّا، فباستثناء
    الأثر الذي خصّه به الدكتور عبد الرحمان بدوي(1) لم نعثر إلى حدّ الآن على
    أي كتاب يهتم إهتماما مباشرا بمؤلفات هذا المفكّر وأعماله ، بل يمكننا
    القول بأن فلسفة شيلنج كثيرا ما اختزلت في مجرد لحظة فكرية تربط بين
    "المثالية الذاتية" لفيشته و"المثالية المطلقة" لهيغل. إن الدراسات
    العربية، تبدو في هذا السياق مقصرة في دراسة الإشكالات والقضايا والرهانات
    التي حددت تفكير صاحب كتاب "روح العالم" « Weltseele » برغم الاهتمام
    المتزايد به في الدراسات الغربية عموما، فيكفى القارئ مثلا أن يطلع على
    البحث البيبليوغرافي الوارد في كتاب الأستاذ "سندكولار" الموسوم "شلنغ"(2)
    حتى يلاحظ بكل وضوح، الراهنية الكبرى للقضايا التي بحث فيها هذا الفيلسوف
    كفلسفة الطبيعة والفن والهوية وغيرها من القضايا التي درسها في أعماله
    والتي نذكر من بينها "برونو أو في المبدأ الإلهي والطبيعي للأشياء"

    Bruno, oder üder das natür. u. göttl. Prinzip der Dinge، "حول
    إمكان صورة للفلسفة بصفة عامة" Über die Möglichkeit
    einer Form der Philosophie، "في الأنا كمبدأ للفلسفة أو حول اللامشروط في
    المعرفة الإنسانية"... Vom Ich als Prinzip der Philosophie oder über das
    Unbedingte im menschlichen Wissen، "بحوث فلسفية حول ماهية الحرية
    الإنسانية"Philosophische Untersuchungen über das Wesen der menschlichen
    Freiheit.

    إن شيلنج الشاب الذي زرع صحبة هيغل وهلدرلين شجرة الحرية إحتفاءً
    بمبادئ الثورة الفرنسية وإن لم يحظ إلى حد الآن بنفس الاهتمام الذي حظي به
    مؤلف "فنمنولوجيا الروح" فإنه يظل من الفلاسفة الذين حددوا بعمق خصوصيات
    التفكير النسقي وذلك خاصّة من خلال أثره "نسق المثالية المتعالية" System
    des transzendentalen Idealismus(3). فهذا الأثر يكتسي أهمية متميزة وخاصة
    ضمن آثار الشباب فهو بمعنى من المعاني يشهد على جهد فكري أصيل غايته تقديم
    حجة واقعية قصد إثراء مجال تطبيقات "مذهب العلم" لفيشته(4)، وهو يكشف كذلك
    عن إرادة شيلنج البحث عن طبيعة العلاقة بين الفلسفة المتعالية وفلسفة
    الطبيعة(5) وهو من جهة ثالثة يعبر عن تجذر شيلنج في تاريخ الفلسفة الحديثة
    باعتباره محاورا أصيلا لسبينوزا، ليبنتز، كانط وخاصة لفيشته(6)، وهو
    بالإضافة إلى ما سبق يطرح إشكالية المعرفة النسقية التي وجهت أبحاث فلسفات
    المثالية الألمانية من فيشته إلى حدود هيغل(7).

    يتضح لنا إذن أن هذه الأسباب المباشرة ترتبط - رغم تعددها وتنوعها -
    إرتباطا وثيقا بالبحث في الشروط التي تحدد قيام المعرفة النسقية التي لم
    تكن ممكنة إلا بعد التحول الجذري الذي أحدثه كانط في مجال التفلسف منهجا
    ومضمونا، فكانط، وإن لم يفكر في إشكاليات المعرفة النسقية، وانشغل أساسا
    بمسألة النقد، يمثل لحظة حاسمة في توجيه التفكير في موضوع النسق، بل
    بإمكاننا أن نجازف بالقول إنه دون النقدية الكانطية، تظل قضية التفكير
    النسقي ممتنعة عن الفهم والتمثل الدقيق.

    وانطلاقا من هذا الأفق النظري المستند إلى جملة الأسباب التي ذكرنا،
    سنحاول أن نبحث في هذا المقال عن الأسباب والشروط التي تجعل المعرفة
    النسقية ممكنة، وذلك بالاستناد إلى أثر شيلنج الموسوم "نسق المثالية
    المتعالية"، وقد آثرنا لتحقيق هذا الغرض أن ننظر في طبيعة العلاقة
    الإشكالية التي ما انفك يقيمها شيلنج مع كل من كانط وسينوزا، والتي مثلت
    لحظة جوهرية في تحديد خصوصيات التفكير النسقي. كما سنسعى إلى الكشف عن
    خصوصيات الأساس المطلق أو المبدأ الذي تقوم عليه المعرفة النسقية وهو ما
    سيسمح لنا بأن نستنبط مختلف الجهات المكونة للمعرفة النسقية في "نسق
    المثالية المتعالية".


    1) شيلنج قارئا لكانط و سبينوزا :


    يستدعي النظر في نسقية المعرفة لدى شيلنج الكشف عن دلالة النسق قصد
    تحديد شروط إمكانه وضبط معناه الدقيق، فبدون تحديد دلالة هذا المفهوم
    المركزي لا يمكننا النفاذ إلى فلسفات المثالية الألمانية كما يلاحظ ذلك
    هيدغر(Cool. على أن هذا الضبط المفهومي يجب أن يأخذ بعين الاعتبار العلاقة
    الإشكالية التي ما انفك يقيمها شيلنج مع "النقدية" الكانطية و"الدوغمائية"
    السبينوزية(9).

    لا ينكر فيشته وكذلك شيلنج الشاب أهمية "الدفعة"(10) Trieb التي
    أحدثها فيلسوف كونسبارغ في مجال تأسيس المعرفة المتعالية ففي "دروس مونيخ"
    يذهب شيلنج إلى القول بأن كانط هو الذي أعاد للفلسفة "جديتها العلمية، وفي
    نفس الآن، شرفها الضائع"(11)، فهو من جهة أولى قد وجه التفكير الفلسفي نحو
    "الذاتية" ورفع التفكير فيها إلى مستوى الكونية، ثم إنّه حاول من جهة
    ثانية التأسيس لمسألة المعرفة تأسيسا علميا ومنهجيا. فكانط بفضل ثورته
    النقدية، أيقظ الميتافيزيقا من سباتها الدوغمائي الذي ظلت سجينته إلى حدود
    ليبنتز وولف، و لذلك فان الكانطية حسب شلنغ، هي ثورة منهجية أولا وأساسا،
    ليس فقط لأنها أسست لمعمارية العقل، بل لأنها أسست أيضا نظرية في المعرفة.


    ولكن برغم أهمية "المنعطف" Umkherung الكانطي فإن السؤال النقدي :
    "كيف تكون الأحكام التأليفية القبلية ممكنة ؟" عاجز عن تصور معرفة نسقية
    تكون معرفة كلية ومطلقة وذلك لسببين على الأقل: أما الأول فهو أن النقدية
    الكانطية ليست مذهبا أو نسقا للعقل المحض بل هي مجرد "تهيئة" و"عمل
    تحضيري"(12) Propädeutik وهذا ما يستتبع الفصل الإجرائي بين
    النقد المؤسس للمعرفة النسقية والمهيئ لها وبين المعرفة النسقية ذاتها.
    يقول فيشته منبها إلى هذا الفصل الأساسي : "إن كانط لم يضع نسقا بل وضع
    كتبا نقدية أي مباحث أوليّة حول الفلسفة"(13). وأما الثاني فهو أن
    الكانطية رغم انشغالها بمسألة الذاتية المتعالية فإنها تظل سجينة ثنائيات
    عنيدة لا يمكن تجاوزها على غرار النفس والجسد، الحساسية والفاهمة، عالم
    الظواهر وعالم الأشياء في ذاتها. إن هذه الثنائيات تمنع الكانطية من إدراك
    "القضية الأساسية" Grundsatz للمعرفة الكلية والنسقية و هو الأمر الذي
    نبّه إليه رينهولد قبل فيشته وشلنغ(14).

    يتبين لنا إذن أن فشل الكانطية في بناء تصور نسقي للعقل وفي وضع مبدإ
    مطلق للمعرفة يمثل الأسباب الرئيسية التي كانت وراء قيام فلسفات المثالية
    الألمانية وبخاصة "مذهب العلم" Die Wissenchaftslehre لفيشته و"نسق
    المثالية المتعالية" لشلنغ(15) : فالنقدية الكانطية، وبرغم أنها لا تطرح
    على نفسها الإشكاليات المحددة لفلسفات المثالية الألمانية، إلا أنها تحدد
    منحاها العام، فأصالة كانط الحقيقية تتمثل في التفطن إلى أن التأسيس
    العلمي للمعرفة المتعالية يرتبط أشد الارتباط بمسألة "الذاتية" أو ما
    يسميه فيشته"بالأنا المحض" و شيلنج"بالأنا المطلق" و هذا الأمر نجده
    مغيّبا لدى سبينوزا كما نجده مغيّبا لدى ليبنتز ذاته.

    إن علاقة شيلنج بسبينوزا تبدو قائمة على مفارقة، فشيلنج الشاب الذي
    ما انفك يقدّم نفسه على أنه "سبينوزي"(16) ، هو ذاته الذي ما فتئ ينقد
    صاحب كتاب "الأخلاق" نقدا جذريا. لنوضح حدود هذه المفارقة : يعتقد شيلنج
    شأنه في ذلك شأن سينوزا أن العالم محكوم بمبدإ محايث له، أي أنه علّة
    ذاته، لكنّه ينبّه إلى أن سبينوزا باضفائه على الجوهر بعدا ألوهيا يناهض
    كل تفكير ممكن في الذاتية، و هوالمبدأ المؤسس للمعرفة النسقية. إن
    السبينوزية وإن بدت فلسفة للمحايثة فإنها تتعالى على كل ذاتية ممكنة،
    وبهذا المعنى تثبت امتناع قيام معرفة متعالية أو معرفة نسقية، لأنها
    باعتبارها الجوهر مسألة ألوهية، تقصي كل تفكير حقيقي في مسألة الوعي
    الذاتي. استنادا إلى هذا "الفهم" الشلنغي الذي نجده واضحا وخاصة في
    الرسالة السابعة من "رسائل فلسفية حول الدوغمائية والنقدية"(17) يمكننا
    الجزم بأن تأسيس المبدإ القطعي للمعرفة يجب أن ينقد كل "تعال"
    Transzendenz وهو ما يحتم "تأويل" الجوهر السبينوزي وإعادة تملكه في سياق
    فلسفة تعتبر أن الجوهر الوحيد هو "الأنا". بهذا المعنى يمكننا أن نثبت أن
    الجوهر ليس موضوعا خارجيا تسعى إليه الذات، بل هو الذات عينها حين تحدد
    بذاتها وجودها بوصفه وجودا محضا وفاعلا للفكر أي لنشاط الوعي بالذات.

    انطلاقا من هذه الملاحظات، يمكننا إذن القول بأن فرادة سبينوزا تكمن
    في أنه فكّر في المطلق لكن عيبه – حسب فيشته وشيلنج– يتمثل في أنه لم
    يتفطن إلى أن المطلق لا يمكن تصوره خارج الذات العارفة، أي خارج حركة
    الوعي بالذات. يقول فيشته في هذا السياق : "سألاحظ، أنه كلما تجاوزنا أنا
    موجود، فإننا سننتهي بالضرورة إلى السبينوزية (...) وأنه لا يوجد حقا سوى
    نسقين منتجين : النقدية التي تعترف بهذا الحد ( أنا موجود) والسبينوزية
    التي تتجاوزه"(18).

    لقد قادنا التحليل السابق إلى الوقوف على العلاقة المحددة لشيلنج مع
    النقدية الكانطية من جهة، والدوغمائية السبينوزية من جهة ثانية : فإذا كان
    فضل الأولى هو التأسيس للمعرفة المتعالية القائمة على إثبات حرية الذات
    وفعاليتها، فإن عيبها هو عدم إدراكها أن المعرفة النسقية مشروطة بمبدإ
    مؤسس وليس فقط بـ "نقد العقل". وإذا كان فضل الثانية هو التفكير في مسألة
    المطلق والجوهر فإن عيبها هو نفي حرية الذات التي تمثل في حقيقة الأمر
    مبدأ كل معرفة نسقية ممكنة. و من كل ذلك يمكن القول أن التأسيس للمعرفة
    النسقية قائم على إثبات أن النقدية الكانطية بحاجة إلى الدوغمائية
    السبينوزية ذلك أن المبدأ المطلق الملتحف بخصائص الجوهر السبينوزي والمؤسس
    للمعرفة النسقية يجب أن يكون ملازما لـ"الأنا المحض" ومحايثا له أي للنشاط
    الداخلي للفكر وللحركة المميزة للوعي بالذات. إن إعادة تملك شيلنج للجوهر
    السبينوزي وتصوره له على أنه "ذات فاعلة" يجب أن ننزله في سياق إرادة بناء
    المعرفة النسقية وهذا ما يقتــرن بدوره، بضرورة الأخذ بعيــــن الاعتبار
    طموح الكانطية في تأسيس المعرفة المتعالية تأسيسا علميا(19).

    و إنه من الوجاهة أن نلاحظ في هذا المستوى من البحث أن الفلسفة بما هي بحث
    في الأسس والمبادئ الناظمة للمعرفة، تعد علما، فهذه العبارة الأخيرة لا
    يجب أن تفهم في سياق ابستيمولوجي معاصر كما لا يجب أن تختزل في قراءة
    وضعية، لأن مفهوم العلم كما يفهمه شيلنج له دلالة فلسفية محضة تعنى
    بالأساس نظرية نسقية في المعرفة ولعل الكتابات الأساسية لفلاسفة المثالية
    الألمانية تشهد على هذا المعنى، فـ"مذهب العلم" لفيشته أو "نسق العلم"
    لهيغل الذي يمثل كتاب "فنمنولوجيا الروح" جزؤه الأول يعمّق هذا الفهم
    الفلسفي للعلم. يقول هيدغر مثبّتا هذا المعنى : "يعني مفهوم العلم، في عصر
    المثالية الألمانية، للوهلة الأولى وبحصر المعنى، نفس ما تعنيه عبارة
    فلسفة تدقيقا : هذه المعرفة التي تعرف الأسس الأولى والأخيرة، والتي تعرض،
    وفق هذه المعرفة المبدئية، ماهية ما يمكن أن نعرفه بصفة عامة وحسب تنظيم
    محكم"(20).

    يتضح لنا أنه إذا كان النسق ليس شيئا آخر غير المعرفة الكلية والشمولية
    التي تكون علة ذاتها والتي تتأسس على مبدأ مطلق يكون بمثابة النقطة
    الأرخميدية، فإنه يجدر بنا قبل النظر في أجزاء هذه المعرفة تحديد دلالة
    المبدإ لما له من أهمية خاصة في قراءة "نسق المثالية المتعالية".


    2) خصوصيات مبدإ المعرفة النسـقية :


    تكشف لنا القراءة المعمارية لــ "نسق المثالية المتعالية " عن
    الأهمية البالغة التي يضطلع بها "المبدأ" Prinzip أو"القضية الأساسية"
    Grundsatz في بناء مختلف جهات المعرفة النسقية، فليس من الصدفة في شيء أن
    يبحث الفصل الأول من الكتاب "في مبدأ المثالية المتعالية"(21)، إذ بدون
    هذا الفصل الذي يقوم على بيان ضرورة وجود مبدأ يكون بمثابة المنطلق
    الضروري لبناء عملية المعرفة تنحسر الأسس النظرية التي يصدر عنها "نسق
    المثالية المتعالية". فالغاية الأساسية إذن من بيان أهمية "المبدأ" في
    عملية المعرفة هو التسويغ لاستنباط المثالية المتعالية سواء كان على نحو
    عام كما يتجلى ذلك في الفصل الثاني من الأثر أو على نحو خاص كما ينكشف
    الأمر من خلال بقية الفصول. وتبين لنا القراءة المعمارية أن "نسق المثالية
    المتعالية" ينقسم إلى ستة فصول أساسية يسبقها تصدير ومقدمة وتنتهي بــ
    "ملاحظة عامة تتعلق بمجموع النسق"، أما الفصل الأول فيبحث في "مبدأ
    المثالية المتعالية "وقد قسمه شيلنج إلى قسمين يبحث الأول" في ضرورة
    المبدأ الأسمى للمعرفة و طبيعته"(22) في حين يقوم الثاني بـ"استنباط
    المبدإ ذاته"(23).

    ويتعلق الفصل الثاني "باستنباط عام للمثالية المتعالية"(24) نكتشف من
    خلاله التناقض المؤسس لنسق الفلسفة النظرية ونسق الفلسفة العملية وجدير
    بالملاحظة في هذا السياق أن فهم الأثر بأكمله لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار
    "الديناميكية" أو "الجدلية" التي يفكر بها شيلنج والتي يطلق عليها اسم
    "المنهج التأليفي"، فنسق المعرفة محكوم بتناقضات بين "نسق الفلسفة
    النظرية"(25) الذي يمثل الفصل الثالث من الأثر و"نسق الفلسفة العملية"(26)
    الذي يمثل الفصل الرابع منه. إن التناقض بين الفلسفة النظرية والفلسفة
    العملية لا يمكن أن يرفع إلا بفضل" القضايا الأساسية للغائية"(27) في
    مرحلة أولى و"القضايا الأساسية لفلسفة الفن"(28) في مرحلة ثانية وختامية.

    وتجدر الملاحظة أن القراءة المعمارية للأثر ليست قراءة عامة ولا حتى قراءة
    خارجية بل هي قــــراءة وظيفية تعـــــــــتبر أن البناء (tectonique)
    لنسق المعرفة يــــصدر عـــن "أسس" (arché) صلـــــبة(29)، وبناء على هذا
    الأمر، يمكننا القول، بأن القراءة المعمارية لا تنشدّ إلى عناوين الفصول
    والفقرات المكونة للأثر إلا لتنشغل بالأسس المحددة والمبادئ الضابطة لنسق
    المعرفة، فلا يمكننا بأي شكل من الأشكال أن نتمعن في فهم الجهات المكونة
    للمعرفة النسقية خارج إطار هذه المعرفة المكتفية بذاتها ولذاتها، فالمعرفة
    النسقية لا تفهم إذن خارج التجلى الداخلي والمتدرج للتفكير النشيط القائم
    على وحدة الشكل والمضمون(30).

    هكذا تمكننا القراءة المعمارية من تأصيل البحث في دلالة المبدإ نظرا لأن
    هذا البحث يصدر عن وعي بالأهمية العلمية والتأسيسية للفصل الأول الذي
    بدونه يصعب علينا النفاذ إلى مضامين كل من نسق الفلسفة النظرية والفلسفة
    العملية والغائية وفلسفة الفن وتحديد العلاقات بينها. ولننظر الآن في
    دلالة الاستنباط وخصوصيات المبدإ المؤسس للمعرفة.

    إن المقصود باستنباط المبدأ هو تبرير Rechtfertigen أولويته وإثبات "شرفه"
    Dignität(31) العلمي بوصفه المبدأ الأول للفلسفة المتعالية،
    فالمهمة الجوهرية لاستنباط المبدإ ليست مهمة منطقية صورية بل هي مهمة
    علمية تسعى إلى تحديد "المعنى الحقيقى للمبدأ"(32) باعتباره حجر الأساس في
    بناء النسق. فما يطلق عليه شيلنج"شرف" المبدأ لا يجب أن يفهم في معنى
    أخلاقي بل في معنى فلسفي محض أي بوصفه "أفضل نقطة انطلاق"(33). وبعد هذا
    الضبط لمعنى الاستنباط نقترح أن نصرف دلالة المبدإ على أنحاء أربعة يتكامل
    بعضها مع بعض. فهو في معنى أول المطلق أو "اللامشروط" Unbedingt، وهو في
    معنى ثان إنتاج، وهو في معنى ثالث تموضع ذاتي Selbstobjektwerden ، وهو في
    معنى رابع وأخير وحدة الشكل والمضمون. لكن فلنحدد بدقّة أكثر هذه التعاريف
    بالنظر في خصوصيات كل واحد منها :

    يجب أن يعود بنا البحث الدقيق عن معنى "اللامشروط" إلى الأصل الألماني
    للعبارة الذي ما انفك شيلنج منذ كتابه "حول الأنا"(34) يؤكد على فرادته
    وأصالته فالعبارة « Unbedingt » المتكونة من السابقة « un » تعنى "ما لا
    يمكن أن يكون" وهي تحيل بالتالي على معنى "الإمتناع" و"عدم الإمكان"، ومن
    الجذر « bedingen » الذي يحيل على معنى التشريط conditionner والتحديد،
    وكذلك على الفعل الذي بفضله يتحول شيء ما إلى "شيء" Ding. و لذلك يتضح
    لنا، أن "الأنا" وقد فهم على هذا النحو لا يمكن أن يكون "شيئا" Ding ولا
    "موضوعا" Sache بل لا مشروطا، أي لا يتحدد بشرط نظرا لأنه مكتف بذاته، فهو
    الذي يصدر عنه التحديد رغم أنه لا يتحدد، وعلى هذا النحو يمكن اعتباره
    الأساس المطلق لكل معرفة. يقول شيلنج مدققا هذا المعنى : "يعني اللامشروط
    ما لا يمكن أن يكون شيئا أو موضوعا على الاطلاق. ويمكننا إذن أن نعبّر عن
    المبدإ الأول للفلسفة على هذا النحو : العثور على ما لا يمكن أن يفكر فيه
    أبدا كشيء. غير أن هذا الأمر لا يمكن أن يكون إلا الأنا، والعكس، فالأنا
    هو الذي يوجد في ذاته وجودا غير موضوعي"(35).

    إذا كان الأنا ليس موضوعا (Sache) ولا شيئا (Ding) ولا شيئا في ذاته (Ding an sich) ولا ظاهرة (Erscheinung)، فما هو حده إذن ؟

    يؤكد شيلنج أن الأنا نشاط محض « actus purus » وهو يستعمل العبارات
    فعلHandeln ونشاط Tätigkeit ليدلل على هذا المعنى ويثبته،
    وليبرهن على أن الوعي بالذات هو قدرة لا متناهية مكتفية بذاتها، وهو أيضا
    المطلق الذي يكون سبب ذاته وغايتها (36) . هكذا يبدو جليا أن المبدأ بما
    هو نشاط محض للوعي بالذات أي بما هو تموضع ذاتي دائم للوعي يعد إنتاجا
    Produzieren ، لكن هذا الفعل الفكري لا يمكن فهمه بدون التنبيه إلى علاقته
    الدقيقة بما يسميه شيلنج "الحدس العقلي" Intellektuelle Anschaung.

    إن القول بأن مبدأ المعرفة هو مبدأ منتج يؤكد على أن فعل التموضع
    الذاتي بما هو فعل تفكر لا يمكن إدراكه إلا انطلاقا من "الحدس العقلي"
    الذي يمثل "أورغانون" نسق المثالية المتعالية(37) باعتباره يمكن الأنا من
    معرفة نفسه بنفسه داخل عملية التفكير، فالأنا ذاته "حدس عقلي متواصل"(38)
    على حد عبارة شلنغ. والحدس العقلي في هذا السياق هو نشاط فكري حر متواصل
    ومنتج يكون فيه من ينتج وما يقع إنتاجه في اتصال دائم، فهو المسار
    المتواصل والحركة اللامنقطعة التي تتجلى في الوحدة الأصلية بين الذات
    والموضوع(39).

    وتبين مجمل التحاليل السابقة أن المبدأ المؤسس للمعرفة لا يمكن أن
    يكون إلا مطلقا Absolu أي كلا مكتفيا بذاته ونشاطا عقليا مستديما فما يمنح
    المبدأ أصالته العلمية هو قدرته الفاعلة التي تتجلى في نشاط الوعي بالذات
    وقدرته على التفكر المتواصل، فالعملية التي بمقتضاها تصبح الذات قادرة على
    التفكر يمكن أن نصطلح على تسميتها "بالتموضع الذاتي"(40)
    Selbstobjektwerden. لكن، لنؤكد أنه إذا كانت للذات القدرة على التموضع،
    فهذا لا يعنى أن هذا الفعل خارجي يرتبط بموضوع ممتد خارج وعينا بل إن
    التموضع هو نتاج فعل فكري داخلي تقوم به الذات بذاتها حينما تعود على
    ذاتها. ويثبت شيلنج هذه الفكرة بقوله : "إن الأنا لا يوجد أبدا قبل هذا
    الفعل الذي يصير الفكر بواسطته موضوعا بالنسبة إلى ذاته، وتبعا لذلك لا
    يمكن أن يكون إطلاقا شيئا خارج الفكر"(41).

    يتضح لنا أن شيلنج لا ينظر إلى المبدأ نظرة سكونية، بل يؤكد على
    خصوصياته الحركية والديناميكية، فالأنا أو الوعي بالذات Selbstbewutsein
    نشاط فكري خالص يتجاوز الفردية المتعينة وكذلك الوعي الإمبيريقي ليكون
    فعلا فكريا خالصا. ويتعين علينا في هذا السياق تدقيق دلالة الوعي بالذات
    بالنظر في مضمون الوحدة المكونة لها أي في العلاقة بين القضية التحليلية
    والقضية التأليفية قصد تثبيت وحدة الشكل بالمضمون وبيان أهيمتها في تأسيس
    نسقية المعرفة :

    القضية التحليلية حسب تعريف شيلنج هي قضية مشروطة بالفكر فقط، وهي
    بهذا المعنى لا مشروطة، فما يتحدد بالفكر وحده، أي ما يعد الفكر شرطه
    يعتبر لا مشروطا(40). أما القضية التأليفية فهي تلك التي لا تكون يقينية
    بذاتها، أي أن يقينها يتحدد بالوقائع الخارجية(41). بإمكاننا أن نلاحظ
    بيسر من خلال التعاريف المقدمة أن القضية التحليلية تناقض القضية
    التأليفية، فإذا كانت الأولى تعبر عن علاقة الذات بذاتها داخل حركة الفكر
    ذاته، فإن الثانية تتحدد انطلاقا من علاقة الفكر بالعالم الخارجي. الأولى
    تعبر عن علاقة المفهوم بنفسه والثانية تعبر عن علاقة المفهوم بالموضوع.
    لكن على الرغم من تعارض هذه القضايا مع بعضها البعض فإنها تمثل الحدود
    المكونة للمبدإ أي للأنا Das Ich، الذي يعبر عن الوحدة الديناميكية للقضية
    التحليلية والقضية التأليفية، وهي وحدة تعبر بدورها عن العلاقة الجدلية
    بين شكل المعرفة ومضمونها كما سبق وأن لاحظ ذلك فيشته في "مذهب العلم".

    بإمكاننا أن نستنتج بعد هذا التدقيق المفهومي أنه رغم اختلاف المعاني
    التي يقال عليها المبدأ، فإنها تعمل في تزامن مطلق بعضها مع بعض لتشكل أسا
    واحدا، عليه تقوم المعرفة النسقية وبه تتحدد. لكن، ألا يمكننا القول بأن
    المعاني التي تأولناها للمبدإ ليست إلا تجليات مختلفة للجوهر السبينوزي ؟
    بمعنى آخر، ألا يجوز لنا أن نعتبر أن "الأنا" بوصفه الجوهر الوحيد لدى
    شيلنج الشاب المتأثر بفشته، ليس شيئا آخر سوى الجوهر السبينوزي وقد أفرغ
    من كل مضمون ألوهي ولاهوتي ؟

    إن مقصدنا من هذه الأسئلة ليس تقديم إجابة قاطعة، وإنما التنبيه إلى
    أن شيلنج حينما يحدد دلالة الأنا بوصفه المبدأ الوحيد والشرط الأوحد
    للمعرفة إنما هو "يتأول"، بمعنى ما، "الجوهر" كما بينه سبينوزا في كتاب
    "الأخلاق". ألم يكن مقصد شيلنج الشاب هو إعادة كتابة أثر سبينوزا المعنون
    "بالأخلاق" ؟(44).

    إذن يحدد شيلنج المبدأ بوصفه "المطلق" و "اللامشروط" الذي لا يتحدد
    بأي شيء آخر عدا نفسه، وكل شيء آخر لا يكون إلا به، فهو إنتاج متواصل
    بالنسبة إلى ذاته، إنه واحد ولا نهائي، علة نفسه وعلة كل ما يوجد، وهو
    يفعل بفعل الضرورة المحايثة له، وبهذا المعنى يكون في نفس الآن حرا
    ومستقلا لأنه يثبت ذاته في الفعل المتواصل للحدس العقلي.

    لقد مكنتنا القراءة المعمارية من الوقوف على أهمية استنباط المبدأ
    الأساسي للمعرفة النسقية، فبانعدام هذا المبدأ، لا يمكن أن يكون لنسق
    المثالية المتعالية معنى دقيق، لكن ما يجب تأكيده هو أن المبدأ ليس أساسا
    صوريا تقوم عليه المعرفة، بل هو المحدد الجوهري الذي يهب لوحدة المعرفة
    جدليتها ومنطقها الداخلي الذي به تقوّم وعلى أساسه تقوم، لذلك يمكننا
    اعتبار "الأنا" شرطا ضروريا لقيام المعرفة النسقية. على أن هذا الشرط
    المقوّم للمعرفة لم يكن هو ذاته ممكنا إلا بتوفير شرطين آخرين على الأقل :
    أولهما إعادة تملك الجوهر السبينوزي في سياق تفكير يعتبر أن النسق لا يقوم
    إلا بالأنا المحض، الجوهر الوحيد والأساس المطلق لكل معرفة نسقية،
    وثانيهما إعادة تقويم النقدية الكانطية وتجذيرها بالتأكيد على أن الذاتية
    المتعالية هي شرط كل معرفة علمية ممكنة.

    إنّ ما حاولنا أن نقوم به في مستوى العنصر الأول والثاني من هذه
    الدراسة إنما يتعلق إجمالا بتحديد أساس المعرفة وتعيين شروطها ولعل القيام
    بمثل هذه المهمة هو ما يسمح لنا الآن باستنباط الأنحاء المختلفة للنسق كما
    يتصوره شلنغ.

    3) استنباط أقسام المعرفة النسقية :

    لا يمكننا استنباط الأجزاء المحددة للمعرفة النسقية في "نسق المثالية
    المتعالية" دون توضيح العلاقة المباشرة و الفعلية لهذا الأثر بـ"مذهب
    العلم" لفيشته ، فشيلنج الشاب لا ينكر أنه يفكر بالإشكاليات المحددة
    لـ"مذهب العلم"، ولذلك يعتبر في مقدمة "نسق المثالية المتعالية" أن
    القراءة العلمية لهذا الأثر يجب أن تكون امتدادا لأطروحات "مذهب العلم"
    وتأصيلا لها، بل هو يقر بأن فيشته هو من وضع الأسس الناظمة لنسقه والمبادئ
    الموجهة له. يقول شيلنج في هذا السياق : "تتمثل غاية هذا الأثر بالتحديد
    في أن يعطي للمثالية المتعالية ما تستحقه من ثراء، متمثل في نسق لمجموع
    المعرفة، إن غايته إذن ستكون إثبات هذا النسق، على نحو واقعي لا تعميمي ،
    أي عن طريق الامتداد الفعلي لمبادئه إلى جميع المشاكل الممكنة المتعلقة
    بالموضوعات الأساسية للمعرفة"(45).

    لكن رغم تأثر شيلنج بفيشته، فإن هذا لا يعني أن تفكير شيلنج الشاب هو
    تكرار حرفي لأطروحات "مذهب العلم"، فعلى خلاف هذا الموقف الاختزالي يمكننا
    القول بأن مرحلة الشباب (1974-1801) تعبر عن قدرة شيلنج على تملك القضايا
    الفلسفية تملكا إبداعيا قائما أساسا على حوار نقدي مع تاريخ الفلسفة وخاصة
    مع التصورات السبينوزية والكانطية والفيشتيه.وبناء عليه بإمكاننا أن ننبه
    إلى بعض الاختلافات الأساسية بين "مذهب العلم" و "نسق المثالية المتعالية"
    التي ستتعمق لاحقا في فلسفة الهوية :

    - إذا نظرنا مليا في أجزاء العنوان المحدد لـ"مذهب العلم" Grundlage der gesamten

    Wissenchaftslehre فإننا نلاحظ أنه يهتم بمسألة المبادئ أي بتأسيس
    النسق ووضع مبادئ العلم في كليته. وعلى هذا النحو، يمكننا أن نلاحظ مع
    الأب تيليات Tilliette أن الأمر بالنسبة إلى فيشته يتعلق "بعرض للأسس"(46)
    وليس بتحديد شامل لمضامين المعرفة النسقية كما يتجلى ذلك بوضوح في "نسق
    المثالية المتعالية"، فوضع الأسس وإن كان الطريق المؤدي للنسق إلا أنه لا
    يمكن أن يكون النسق في كليته(47).

    - لا يبدأ "مذهب العلم" بعرض نظرية المعرفة كما يقوم بذلك كانط في
    "التحليلية المتعالية" من "نقد العقل المحض" بل يقوم أولا بضبط الأخطاء
    المعيقة للمعرفة و يقوم ثانيا بوضع المبادئ المؤسسة لها. إن بحثا جدليا،
    أو فلنقل بلغة فيشته سنة 1804 إن فنمنولوجيا للحقيقة تقوم بالأساس على
    تمرين جدلي أمر ضروري إذا ما أردنا بناء نسق المعرفة بناء علميا صارما :
    إذا كان "نسق المثالية المتعالية" هو تعيين أطروحات "مذهب العلم" في جميع
    تفصيلاتها وتفريعاتها، فإن هذا الأثر لا يحتاج – لا من جهة الإجراء
    المنهجي ولا من جهة الاقتضاء المضموني – إلى "جدلية متعالية" أو إلى تفكير
    ينزع الأوهام نظرا لأنه استنباط للمعرفة النسقية في جميع مضامينها.

    - لا يقترح "مذهب العلم" حسب شيلنج إلا "الفكرة الكونية للمعرفة"(46)
    Der allgemeinen Idealität des Wissens لذلك يمكنا عد "نسق
    المثالية المتعالية" توسيعا للمعرفة وإثراء لها في مجموعها. فهذا الأثر
    برمته، كما يلح على ذلك شلنغ، برهان "واقعي"(49) على "مذهب العلم". يترابط
    التفكير النسقي لشيلنج إذن مع "مذهب العلم" باعتباره، أولا حجته الواقعية،
    وباعتباره، ثانيا تجذيرا لأطروحاته تجذيرا عميقا وعينيا. ويمكننا الإقرار،
    بإيجاز، بأن المثالية المتعالية تختلف عن "مذهب العلم" لأنها لا تكتفى
    باستنباط المبادئ والأسس المكونة لها، بل هي تقدمها في جميع تطبيقاتها
    الممكنة.

    ونستخلص مما تقدم أن "نسق المثالية المتعالية" يرتبط بـ "مذهب العلم في ثلاثة مستويات على الأقل يمكننا ضبطها كالآتي :

    - أولا : يمكننا اعتبار النسق بمثابة الحجة الواقعية لـ "مذهب العلم" لأنه
    الامتداد الفعلي والتعين الواقعي لجميع أطروحاته وقضاياه.

    - ثانيا : بإمكاننا قراءة النسق كحجّة بيداغوجية لـ "مذهب العلم" لأنه يسعى إلى تقديم عرض دقيق وواضح لجميع أجزائه.

    - ثالثا : لا نستطيع أن ننكر أن "نسق المثالية المتعالية" هو بمعنى مّا
    الحجة العلمية "لمذهب العلم" نظرا لأنه يقترح تنظيما صارما لجميع اللحظات
    المكونة لتاريخ الوعي بالذات. وإن هذه الحجة الأخيرة توجب استحضار الحجتين
    الأولى والثانية، لأن وضع النسق يستلزم أولا أساسا صلبا تقام عليه
    المبادئ، كما يستدعي ثانيا تمشيا علميا متناغما، يقتضي هو الآخر احترام
    "الوضوح والتميز".

    يتبين إذن أنه إذا كان استنباط المبدإ المؤسّس لنسق المعرفة يعنى إثبات
    أولوية المبدأ وتبرير رفعته بوصفه المبدأ الأول للمعرفة المتعالية، فإن
    استنباط الجهات المكونة للنسق يعنى بالأساس تفسير التعارض بين الفلسفة
    النظرية ونظيرتها العلمية والكشف عن إمكانية التأليف بينهما. لذلك يجب أن
    تثبت الفلسفة المتعالية هذه الوحدة التأليفية أو الجدلية بالكشف عن
    الآليات المكوّنة للتمثلات وذلك بالعودة إلى المبدإ الداخلي للنشاط الروحي
    الذي يسميه شيلنج"الأنا"(50).

    ولكن لما كانت المعرفة النسقية هي الوحدة الديناميكية للشكل والمضمون
    المطردة التطور لأنها تقوم على مبدإ منتج، فإن ما يسمح ببلورة هذه المعرفة
    هو قيامها على ما يسميه شيلنج"المنهج التأليفي". لنلاحظ أن مسألة المنهج
    التي ترتبط بها مسألة الاستنباط ارتباطا وثيقا ليست أمرا لاحقا بأجزاء
    المثالية المتعالية، وهي كذلك ليست أمرا ثانويا ينضاف إلى نشاط الوعي
    بالذات بل هي المبدأ المحدد والموجه لعلاقة الفلسفة النظرية بالفلسفة
    العملية وكذلك بفلسفة الفن، فالتعارض بين نسق الفلسفة النظرية وبين نسق
    الفلسفة العملية ليس إلا التطبيق الفعلي والتعين الجوهري للمعرفة
    المتعالية القائمة بالأساس على المنهج التأليفي : إن هذا المنهج المؤسس
    للمعرفة المتعالية، والذي يمثل تبعا روح المثالية المتعالية، يقوم على
    الإقرار بأن التعارض هو المبدأ الذي يجعل من المعرفة أمرا ممكنا ويقول
    شيلنج محددا بصيغة تخطيطية خصوصية المنهج الجدلي : "متقابلان أ و ب (ذات
    وموضوع) مجتمعان بفعل س ولكن يوجد في س تقابلا جديدا ج و د (...) والفعل س
    يصبح هو بدوره إذن موضوعا ولا يمكن أن يفسر إلا بفعل جديد = ز يتضمن من
    جديد تقابلا آخر"(51).

    لا يمكننا أن ننكر في هذا السياق، أن التعارض الذي يحكم نشاط الأنا
    هو تعارض مبدع وخلاق يمكننا على ضوئه فهم التعارض القائم بين الفلسفة
    النظرية من ناحية والفلسفة العملية من ناحية ثانية وكيفية تجاوزه في لحظة
    تأليفية ثالثة عبر فلسفة الفن. ذلك أن استنباط الأجزاء المكونة للمعرفة
    المتعالية ينبع إذن من الوعي بأن المعرفة النسقية تنشد ماهويا إلى تعارض
    مؤسس ومنتج.

    وهكذا ، يمكننا القول أنه إذا كان "مذهب العلم" لفيشته يبرهن على
    المبدإ الأساسي "أنا موجود" Ich bin برهنة أولية، فإن "نسق المثالية
    المتعالية" يقدم برهانا واقعيا على هذه القضية أي أنه لا يكتفى بالمبادئ
    بل يستخلص جميع النتائج الممكنة : ليس نسق المعرفة نظريا صرفا ولا عمليا
    خالصا بل هو يجمع بينهما أي أنه نسق نظري وعملي في الآن نفسه، فنسق
    الفلسفة النظرية يشترط نسق الفلسفة العملية اشتراطا تاما والعكس بالعكس،
    نظرا لأن المعرفة النسقية تقوم على التعارض الضروري والمنتج بين الفلسفة
    النظرية والعملية وهي الأقسام المتفرعة عن المبدإ المؤسس : الأنا.

    وجود الأنا محكوم إذن بنشاطين، نشاط محدود وآخر لا محدود وتواجد هذين
    النشاطين داخل نفس الأنا، نشاط حر ومحدود من ناحية ونشاط لا محدود لكنه
    ضروري من ناحية أخرى، إنما هو أمر لا تستطيع الكشف عنه إلا "فلسفة
    عليا"(52) تكون نظرية وعملية في نفس الوقت، فالفعاليات المتضادة التي تحكم
    الأنا، فعالية محدودة رغم أنها حرة، وفعالية لا محدودة رغم أنها ضرورية،
    هي فعاليات تستلزم بعضها بعضا استلزاما ماهويا، وعلى أساسها يقع التمييز
    بين فلسفة نظرية وأخرى عملية، يقول شيلنج مشددا على هذا التلازم الضروري
    بين هذه الفعاليات : "هذا التماعي الضروري داخل نفس الذات، لنشاط حر لكن
    محدود وآخر لا محدود، يجب ما إن يوجد، حتى يكون ضروريا، ويعود الأمر إلى
    فلسفة عليا، هي في الآن نفسه نظرية وعملية، باستنباط هذه الضــرورة"(53).

    إن البحث الفلسفي يسعى إلى استنباط أقسام المعرفة النسقية وذلك
    بالتفكير في الإشكال التالي : كيف للأنا بوصفه فعالية لا محدودة ونشاطا
    متواصلا أن يكون في نفس الآن محدودا ؟ وكيف بإمكان الأنا بوصفه محدودا أن
    يكون لا محدودا ؟

    يقرّ شيلنج بأن الأنا بوصفه لا محدودا يتموضع بذاته ولذاته وهو بوصفه
    فعّالية لا محدودة، لا يستطيع أن يكون محدودا إلا "بالتعين –الذاتي"
    Selbst-Gesetz – وهي عملية تمكنه من أن يعارض نفسه بنفسه، فسلب الأنا
    لفعاليته اللانهائية هو ما ينتج عنه الحد، وهو ما يسمح له بالتالي بأن
    يصبح محدودا. يقول شيلنج موضحا أساس هذه العلمية : "يعني القول بأن الأنا
    ينتج هو ذاته التحديد، أن الأنا يلغى نفسه بنفسه كنشاط مطلق، أي يلغى نفسه
    إلغاء مطلقا"(52).

    و بهذا يمكننا التأكيد أن الأنا باعتباره نشاطا محضا، هو فعالية لا
    نهائية، لكن بفضل قدرته على التموضع يصبح محدودا ومتناهيا ولكي يصبح
    فعالية لا نهائية ومحدودة في نفس الآن، علينا أن نخضع الحد لعملية رفع
    متواصلة Einer unendlichen Erweiterung der Schranke. وهو ما يستلزم أن
    نجعل من عملية التموضع الذاتي عملية دائمة. ذلك أن نقلة الحد إلى ما لا
    نهاية له هو ما يحافظ على الفعل اللانهائي للأنا، والاحتفاظ بهذا الحد، هو
    ما يحد الأنا، لأنه يجعله دائما في علاقة مباشرة معه. لنعمق النظر في معنى
    الحد : إن الحد، هو في نفس الآن واقعي reelle وفكري ideelle، إنه واقعي
    لأنّه فعالية مستقلة عن الأنا، وهو فكري لأنه فعالية ذاتية خاضعة للأنا
    وهذا ما يعنى أن نسق المثالية المتعالية محكوم بجدلية الفكري والواقعي أو
    بجدلية الفلسفة النظرية والفلسفة العملية : يجب أن تفسر الفلسفة النظرية
    البعد الفكري للحد، كما يجب أن تفسر الفلسفة العملية البعد الواقعي للحد.
    الفلسفة الأولى، التي تعتبر مثالية، تكون مع الثانية التي تعد واقعية،
    "نسق المثالية المتعالية"، الذي لا يكتفى بالكشف عن التعارض المؤسّس بين
    الفلسفة النظرية ونظيرتها العملية بل يسعى إلى التأليف بينهما. بهذا
    المعنى يمكننا القول بأن "نسق المثالية المتعالية هو نسق "فكري-واقعي"(55)

    ويمكننا الآن أن نوضح أكثر ما انتهت إليه عملية الاستنباط بالنظر في
    الخصوصيات المحددة لأجزاء المثالية المتعالية : تنظر الفلسفة النظرية
    Theoretische Philosophie في إمكان التجربة وذلك بالبحث في السؤال التالي
    : كيف للتمثلات أن تتوافق توافقا مطلقا مع موضوعات توجد بمعزل عنها؟(56)
    إن مهمة الفلسفة النظرية هو أن تفسر، حسب شيلنج طريقة الانتقال من العالم
    الواقعي إلى عالم التمثل، فهي إذن تنطلق من معطيات موضوعية (الواقع،
    الطبيعة) لتنحو نحو الذاتية (التمثل) ومن هذا المنظور يمكننا القول بأنها
    مثالية لأنها تفسر ما هو موضوعي بالاستناد إلى ما هو ذاتي. أما الفلسفة
    العملية Praktische Philosophie فتبحث في طريقة الانتقال من عالم التمثل
    إلى العالم الواقعي، فهي تنشغل بالسؤال التالي : كيف يمكن لشيء موضوعي أن
    يتغير ليتطابق مع ما هو فكري؟(57) إن الفلسفة العملية القائمة على النظر
    في الفلسفة الأخلاقية، بالاستناد إلى تعاليم المثالية المتعالية، لا يمكن
    أن تكون إلا فلسفة واقعية قائمة على تحديد إمكان كل فعل حر.

    وإذا كانت الغاية من استنباط نسق المثالية المتعالية هي الكشف عن
    التعارض بين الفلسفة النظرية ونظيرتها العملية – وهو شرط ضروري لقيام
    المعرفة النسقية – فإن هذه العملية تنتهي بنا إلى الإقرار بأهمية وجود
    "انسجام أزلي" بين الفلسفتين، على ضوئه يمكننا التوحيد بين النظر والعمل،
    ذلك أن النشاط المنتج بوعي القائم على الإرادة، والنشاط المنتج للعالم
    بدون وعي، لا يكونان في نهاية المطاف، إلا فعالية واحدة تتجلى في منتجات
    الطبيعة التي تخضع لغائية، على أساسها نستطيع أن نوحّد بين النظر والعمل
    وبفضل "الحدس الجمالي" يمكننا أن نكشف عن الهوية بين الوعي واللاوعي أي
    بين الذكاء والطبيعة. وانطلاقا من هذه الملاحظات، نستطيع أن نفهم لماذا
    ينتهى "نسق المثالية المتعالية" - على خلاف "مذهب العلم" لفيشته - بــ
    "فلسفة في الفن" أو بــ "فنمنولوجيا للعبقرية"(58) بعبارة "ماركاي" :
    فلسفة الفن توحّد بين النشاطين اللاواعي والواعي. ويقول شيلنج"إن التقاء
    كل من الفعاليتين، ينتج بدون وعي العالم الواقعي وبوعي العالم
    الجمالي"(59).


    خـــــــــــاتمـــــة


    لم تكن غايتنا من هذا المقال تحديد خصوصيات كل من الفلسفة النظرية
    والفلسفة العملية والغائية وفلسفة الفن - وهي الأجزاء المكونة لنسق
    المثالية المتعالية - وإنما البحث فقط في بعض الشروط المحددة لقيام مثل
    هذه المعرفة وهو ما استلزم منا توضيح خصوصية قراءة شيلنج لسبنوزا وكانط.
    فالمشروع النقدي، حسب شلنغ، غير كاف لتأسيس معرفة نسقية لأنه لم يكتشف
    "القضية الأساسية" لهذه المعرفة. على أن هذه "القضية الأساسية"، ليست إلا
    الأنا، الجوهر الوحيد، والمبدأ الذي لا محيد عنه في بناء عملية المعرفة.
    يستند تأول الأنا باعتباره جوهرا فاعلا ونشيطا، إلى قراءة خاصة للجوهر
    السبينوزي وكذلك "للمنادة" الليبنتزية، في ضوء مبادئ "مذهب العلم" لفيشته.
    هذه القراءة المتشعبة والمحرجة وإن لم تكن صريحة في "نسق المثالية
    المتعالية" فدونها يتعذّر فهم دلالة المبدإ وخصوصياته. فـ"الذاتية
    المتعالية" أو "الأنا المطلق" يمثل القضية الأساسية في بناء المعرفة
    النسقية وهذا ما يجعل من الأنا ليس مجرد أولية رياضية بل هو جوهر حي
    ومنتج، مكتف بذاته، يقوم على إثبات حريته بفعل قدرته على التعين الذاتي.

    إذا كانت القراءة المعمارية للأثر تمكننا من إبراز أهمية المبدإ،
    بوصفه الشرط الضروري في تأسيس المعرفة النسقية، فإن هذه القراءة لا يتأصل
    معناها إلا بمحاولة توضيح العلاقة الإشكالية بين شيلنج و"النقدية"
    الكانطية من جهة أولى و "الدغمائية" السينوزية من جهة ثانية، و هوالأمر
    الذي حاولنا أن نبينه في القسم الأول والثاني من هذا البحث.

    لنلاحظ أخيرا أن هذه الشروط تبقى محدودة إذا لم نكشف دلالة الاستنباط
    ودوره في التأسيس لقيام النسق. فليس الاستنباط عملية ثانوية بل هو أساس
    قيام النسق بأكمله كما يتضح ذلك في الفصل الثاني من "نسق المثالية
    المتعالية". لكن تجدر الإشارة إلى أن الاستنباط لا يتضح مقصده بدون
    الانتباه إلى أن ما يحدد جوهرية الأنا هي الحركة والنشاط، فبدون الكشف عن
    الفعاليات المتضادة التي تحكم الأنا (نشاط حر ومحدود، ونشاط لا محدود
    وضروري) لا يمكن أن نستنبط الجهات المحددة لنسق المثالية المتعالية. وإنّ
    استنباط النسق يكشف عن الفعاليات المحددة للأنا ويبين أهمية التعارض بينها
    في بناء المعرفة النظرية والعملية في لحظة أولى وطريقة التأليف بينها في
    لحظة ثانية ونهائية.










    الجهل يدعو إلى التجربة . الجهل هو يقظة حالمة ، واليقظة الحالمة المتميزة بالفضول هي قوة .

    فيكتور هيجو ................ رواية " عمال البحر "



    (آخر تعديل لهذه المشاركة : 03-11-2008 02:48 AM بواسطة لايبنتز.)






    </td></tr>
    </table>
    03-11-2008 02:36 AM <table width="100%" border="0" cellpadding="0" cellspacing="0">
    <tr valign="bottom">
    <td align="left">
    نســـــق المثالــــيــة المتعــــاليــــة عند شيلنج ... إمكان المعرفة النسقية Postbit_find
    </td></tr></table>

      الوقت/التاريخ الآن هو الخميس نوفمبر 07, 2024 10:41 pm